نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

١٩٠ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وأما إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض ... الخ ) (١).

التحقيق : أن إتيان المأمور به ـ بحدوده وقيوده ـ علّة تامّة للغرض الباعث على البعث إليه ، والغرض القائم بإحضار الماء تمكّن المولى من رفع عطشه به مثلا لا نفس رفع العطش كما هو واضح. نعم ، هو غرض مقدّمي لا أصيل ، وهو غير فارق ؛ إذ مدار امتثال كلّ أمر على إسقاط نفس الغرض الباعث عليه لا شيء آخر ، ولا يتوقّف الامتثال ولا اتصاف المقدّمة بالمقدمية على تعقّبها بذيها عنده ( قده ) وعند المشهور كما سيجيء (٢) إن شاء الله تعالى.

وما يرى من وجوب إتيان الماء ثانيا ـ لو اريق الماء ـ لا دلالة له على شيء ؛ لأن الغرض تمكّن المولى من شربه ، وقد انقلب إلى نقيضه ، فيجب عليه إحضاره ثانيا لعين ما أوجبه أوّلا ؛ لا لأن ملاك الامتثال استيفاء المولى غرضه منه. نعم ، هو ملازم له أحيانا ، وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ تتمّة الكلام في مبحث الإجزاء (٣).

__________________

المراد مطلوبية العمل المكرّر.

وثانيهما ـ ما يكون نتيجته نتيجة تبديل الامتثال بامتثال آخر يراد مرة من وجود الطبيعة إذا اقتصر عليها ، وإلاّ فالمرة الثانية ، وعليه فالمرة الثانية هي المطلوبة ، لا أنها بضميمة الاولى مطلوب واحد. وكلاهما محلّ الاشكال :

أما الأول ـ فبعد الغضّ عن المحذور في مقام ثبوته لا يفي به مقام الإثبات هنا ؛ إذ مقتضى الإطلاق رفع قيدية المرة والمرات ، ومقتضى التخيير بين الأقلّ والأكثر ملاحظة الأقل بشرط لا ، فلا بد هنا [ من ] حفظ المرة وتقييد المطلوب بها ، وهو خلف.

وأما الثاني فأصل مقام ثبوته ـ كما نبهنا عليه هنا وفيما بعد ـ غير معقول ، فلا يعقل الإطلاق المفيد فائدة تبديل الامتثال بالامتثال. [ منه قدس سره ].

(١) الكفاية : ٧٩ / ٢٢.

(٢) التعليقة : ٢٠١ ج ١ و ٧١ ج ٢.

(٣) التعليقة : ٢٠١ من هذا الجزء.

٣٦١

١٩١ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( ضرورة أن تركهما لو كان مستتبعا للغضب والشرّ ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ الوقوع (٢) في ما يقابل المغفرة والخير ـ أعني الغضب والشر ـ لازم ترك تحصيل المغفرة والخير رأسا ، لا ترك المسارعة والاستباق إليهما ولو بناء على وجوبهما ، كما هو قضية المقابلة بين الغضب والمغفرة وبين الخيرات والشرور. فدلالة الآيتين على وجوب المسارعة والاستباق غير موقوفة على اقتضاء تركهما للغضب والشر المقابلين للمغفرة والخير حتى يقال : بأن الأنسب حينئذ البعث بالتحذير عنهما.

والأولى أن يقال : إن ترك المغفرة أعمّ مما يستلزم الغضب ، وكذا ترك الخير أعمّ مما يستلزم الشرّ ، فالأمر بالمسارعة والاستباق إلى مثل هذين الأمرين أولى بعدم الدلالة على الوجوب ، ولعلّه (قدس سره) أشار إليه بقوله : ( فافهم ) (٣).

__________________

(١) الكفاية : ٨٠ / ٨.

(٢) قولنا : ( لا يخفى عليك أن الوقوع .. الخ ).

توضيحه : أن الاستباق والمسارعة : تارة يكون قيدا مقوما لمصلحة المغفرة والخير ، واخرى يكون واجدا لمصلحة اخرى ، كما أنّ الوقت بالإضافة إلى الموقّت كذلك ، فان كان من قبيل الأوّل فترك المسارعة والاستباق يوجب الوقوع في الغضب والشر ، وإن كان من قبيل الثاني فلا ، والوجه فيهما واضح ، ومبنى إيراد المصنّف ـ قدس سره ـ على الأول ، ومبنى الاعتراض عليه هو الثاني. والغرض أنه مع إمكان أن يكون المسارعة والاستباق على النحو الثاني ، فلا يلازم تركهما الوقوع في الغضب والشر ولو مع وجوبهما ، بل الظاهر أنه من قبيل الثاني ، فإنّ المسارعة والاستباق نسبا إلى المغفرة والخير ، فهما غير المغفرة والخير ، لا أنهما مقوّمان له ، وأما أصل الاستدلال فمندفع بما في الحاشية في قولنا : ( والأولى أن يقال .. الخ ) فتدبّر. ( منه عفي عنه ).

(٣) الكفاية : ص ٨٠ / س ١٠.

٣٦٢

١٩٢ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( كالآيات والروايات الواردة في البعث (١) ... الخ ) (٢).

نعم ، بينهما فرق : وهو عدم إمكان غير الإرشادية فيها دون ما نحن فيه لإمكان الأمر المولوي بالفعل فورا ، فبعد الإمكان والظهور الذاتي في المولوية لا مجال لحمل ما ورد في هذا الباب على الإرشاد قياسا بما ورد في أصل الإطاعة ، ولعله أشار (قدس سره) إليه بقوله : ( فافهم ) (٣).

١٩٣ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( ولا يخفى أنه لو قيل بدلالتها على الفورية ... الخ ) (٤).

بل الممكن بحسب مرحلة الدلالة هو وحدة المطلوب وتعدده من حيث المطلوبية لا بقيد الفورية كما في نظائره.

فيقال : إن الفعل في أوّل أزمنة الإمكان مطلوب ، وفي حدّ ذاته أيضا مطلوب ، كما يقال : إن الفعل في الوقت مطلوب ، ولا بقيد الوقت أيضا مطلوب ، فيكون قيد الفورية أو الوقتية قيدا في المرتبة الاولى من المطلوب دون غيرها ، بخلاف القيدية في جميع المراتب مع تعدّد المطلوب ، وهو معنى ( فورا ففورا ) ، فإنه لا يتحمّله مرحلة (٥) الصيغة والدلالة كما لا يخفى.

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : في الحثّ.

(٢) الكفاية : ٨٠ / ١٥.

(٣) الكفاية : ص ٨٠ / س ١٧.

(٤) الكفاية : ٨٠ / ٢١.

(٥) قولنا : ( فإنه لا يتحمّله مرحلة .. إلخ ).

٣٦٣

.................................

__________________

هذا إذا استفيد الفورية من مرحلة الصيغة ، وأما إذا استفيد من مثل قوله تعالى : ( وَسارِعُوا ) (أ) ، وقوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا ) (ب) فيمكن استفادة الفورية بعد الفورية لبقاء الأمر بالمسارعة والاستباق في تمام الوقت. ( منه عفي عنه ).

__________________

(أ) ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) آل عمران ٣ : ١٣٣.

(ب) ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) البقرة ٢ : ١٤٨ ، والمائدة ٥ : ٤٨.

٣٦٤

الإجزاء

١٩٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء ... الخ ) (١).

إنما عدل (قدس سره) عمّا في عبارات الأكثرين (٢) ـ من ( أن الأمر بشيء إذا اتي به على وجهه يقتضي الإجزاء ) ـ لأنّ الإجزاء من مقتضيات إتيان المأمور به وشئونه ، لا من مقتضيات الأمر ولواحقه ؛ بداهة أن مصلحة المأمور به المقتضية للأمر إنما تقوم بالمأتيّ به ، فتوجب سقوط الأمر إما نفسا أو بدلا ، فاقتضاء سقوط الأمر قائم بالمأتيّ به لا بالأمر ، ومجرّد دخالة الأمر كي يكون المأتيّ به على طبق المأمور به لا يوجب جعل الأمر موضوعا للبحث ، بعد ما عرفت من أن الاقتضاء من شئون المأتيّ به لا الأمر ، فجعل الأمر موضوعا وإرجاع الاقتضاء إليه بلا وجه.

ومما ذكرنا تعرف : عدم كون البحث على هذا الوجه من المباحث اللفظية ، ولا من المبادي الأحكامية ؛ إذ لا يرجع البحث إلى إثبات شيء للأمر ، لا من

__________________

(١) الكفاية : ٨١ / ٣.

(٢) كالفصول : ١١٦.

٣٦٥

حيث إنه مدلول الكتاب والسنة ، ولا من حيث إنه حكم من الأحكام. ومنه علم أنه أسوأ حالا من مباحث مقدّمة الواجب ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، وغيرهما ؛ حيث إنّ إدراجها في المباحث اللفظية أو المبادي الأحكامية ببعض الملاحظات ممكن وإن كان خطأ ، إلاّ أنّ إدراج هذا البحث في أحد الأمرين غير معقول ، فلا مناص من إدراجه في المسائل الاصولية العقلية ؛ حيث إنه يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي من وجوب الإعادة والقضاء وعدمهما ، فهو من المسائل ، وحيث إنه بحكم العقل ـ كما سيأتي (١) إن شاء الله ـ فهو من الاصول العقلية.

نعم ، فيه إشكال ـ سيجيء تفصيله في مقدمة الواجب (٢) ـ مجمله : أن الحكم العقلي الذي هو موضوع علم الاصول مما يبحث عن ثبوته ـ هنا ـ لا عن لواحقه بعد ثبوته. ويمكن تخصيص المقام بما يزيل الإبهام ، وهو أن الحكم العقلي ـ الذي هو في المقام يتوصل به إلى الحكم الشرعي إثباتا ونفيا ـ لزوم الخلف من عدم الإجزاء المستلزم لإيجاب الإعادة والقضاء بعد حصول المأمور به بحدّه بالإضافة إلى أمره ، وبعد إطلاق دليل البدلية والحكم الظاهري على ما سيجيء (٣) ـ إن شاء الله تعالى ـ بالإضافة إلى الأمر الواقعي ، وما هو من الأحكام العقلية هو استحالة الخلف ، وهو مفروغ عنه في المقام ، وإنما الكلام ـ هنا ـ في تطبيقه على ما نحن فيه ، وهو من لواحقه وأحواله. فالبحث في الحقيقة راجع إلى أن الخلف المحال هل يلزم من عدم إجزاء المأتيّ به عن المأمور به ، أم لا؟ تحفّظا على جعل القضية العقلية المفروغ عن ثبوتها موضوعا للقضية ، بخلاف حكم العقل وجدانا بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فإنه مما يبحث عن

__________________

(١) كما في التعليقة : ١ ج ٢.

(٢) التعليقة : ١ ج ٢ عند قوله : ( والإشكال الصحيح الذي يتوجه ... ).

(٣) وذلك في التعليقة : ١٩٧ ، ٢٠٠ ، ٢٠٨ من هذا الجزء.

٣٦٦

ثبوته ونفيه في تلك المسألة. فتأمل (١).

١٩٥ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( الظاهر أن المراد من الاقتضاء ... الخ ) (٢).

ينبغي أن يراد من الاقتضاء ما هو المبحوث عنه في المقام ، لا ما هو المذكور في العنوان ، فإنّ الاقتضاء المنسوب إلى الإتيان لا يكاد يراد منه غير العلّية والتأثير ، كما أن المنسوب إلى الأمر في كلمات الأكثر لا يكاد يراد منه غير الكشف والدلالة ، فما ينبغي فيه التكلّم ـ هنا ـ هو أن الاقتضاء الذي يناسب البحث عنه في هذه المسألة هو الاقتضاء الثبوتي ـ دون الإثباتي ـ كما في العنوان ، ولذا نسب إلى الإتيان ، وعليه يحمل العبارة.

ثم إنّ التعبير (٣) بالاقتضاء وتفسيره بالعلية والتأثير ، مسامحة في التعبير والتفسير ؛ إذ سقوط الأمر (٤) بملاحظة عدم بقاء الغرض على غرضيته ودعوته ، والمعلول ينعدم بانعدام علته ، لا أنّ القائم به الغرض علة لسقوط الأمر ؛ لأنّ

__________________

(١) قولنا : ( فتأمّل ). إشارة إلى أنّ المهمّ للباحث (أ) ليس معرفة حال الخلف من حيث الانطباق وعدمه ، بل معرفة الاجزاء وعدمه ، وانطباق الخلف وعدمه حيثية تعليلية للحكم بالإجزاء وعدمه. ( منه عفي عنه ).

(٢) الكفاية : ٨١ / ١٦.

(٣) قولنا : ( ثم انّ التعبير .. الخ ).

هذا إذا اريد من الإجزاء إسقاط التعبّد به رأسا ثانيا أو إسقاط الإعادة والقضاء ، وأما إذا اريد من الإجزاء كفاية المأتيّ به عن المأمور به ، فالإجزاء بهذا المعنى لازم اشتمال المأتيّ به على المأمور به بحدوده وقيوده ، وعلى مصلحة الواقع عينا أو بدلا ، فاقتضاء المأتيّ به للإجزاء بهذا الوجه من باب اقتضاء الملزوم للازمه العقلي (ب) ، فلا مسامحة لا في التعبير ولا في التفسير. ( منه عفي عنه ).

(٤) ( اي سقوط الأمر يكون بملاحظة .. ) جار ومجرور متعلّق بالكون العامّ الذي هو خبر المبتدأ ( سقوط ) وتقدير الجملة هكذا ( سقوط الأمر كائن بملاحظة .. ).

__________________

(أ) في الأصل للمباحث ..

(ب) هذا هو الاقرب ويمكن قراءتها : الفعلي.

٣٦٧

الأمر علة لوجود الفعل في الخارج ، فلو كان الفعل علّة لسقوط الأمر لزم علّية الشيء لعدم نفسه ، بل سقوط الأمر لتمامية اقتضائه وانتهاء أمده. فافهم جيدا.

كما أن عدم الأمر بالقضاء (١) بملاحظة أن التدارك لا يعقل إلاّ مع خلل في المتدارك ، والمفروض حصول المأمور به بحدّه أو بملاكه ، فلا مجال للتدارك ، وإلا لزم الخلف ، فحيث لا خلل في المأتيّ به لا مجال لعنوان القضاء كي يؤمر به ، لا أن إتيان المأمور به علة لعدم الأمر بالقضاء. فتدبر جيدا.

١٩٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك : أن نتيجة المسألة الاصولية لا بدّ من أن تكون كلّية ، فكما لا يكاد يمكن أن تكون نتيجة البحث جزئية ، كذلك لا يكاد يمكن أن يكون مبنى البحث كذلك ؛ لأول الأمر إلى ذلك ، فابتناء النزاع ـ في اقتضاء إتيان المأمور به بالأمر الاضطراري مثلا للإجزاء بنحو الكلية ـ على دلالة قوله ـ عليه السلام ـ : « التراب أحد الطهورين » (٣) من حيث الإطلاق الملازم للإجزاء وعدمه ، لا يناسب المباحث الاصولية.

__________________

(١) أي عدم الأمر بالقضاء كائن أو حاصل بملاحظة ...

(٢) الكفاية : ٨٢ / ٢.

(٣) الموجود في مصادرنا « التيمم أحد الطهورين » كما في :

الكافي : ٣ / ٦٤ كتاب : ٩ باب : ٤١ ذيل الحديث : ٤.

الفقيه : ١ / ٥٧ ب : ٢١ ذيل ح : ٣.

التهذيب : ١ / ٢٠٠ ب : ٨ ذيل ح : ٥٤.

والوسائل ج ٣ : ٣٨١ ب ٢١ من أبواب التيمم ح : ١.

ولعله (رحمه الله) خلط بين حديث التيمم والحديث : « ان الله تعالى جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا » المذكور بصيغ مختلفة في التهذيب : ١ / ٤٠٤ ب : ٢٠ ذيل ح : ٢.

الكافي : ٣ / ٦٦ ك : ٩ ب : ٤٢ ذيل ح : ٣.

٣٦٨

نعم القول بالإجزاء (١) مع الإطلاق ، وعدمه مع عدمه بنحو الكلية ، يناسب المسألة الاصولية كما هو واضح. وعليه فليس مبنى النزاع صغرويا ، بل النزاع الصغروي من المبادئ التصديقية للإطلاق وعدمه المبني عليهما الإجزاء وعدمه.

مضافا إلى أن منشأ الخلاف لو كان الاختلاف في دلالة دليل الأمر الاضطراري والظاهري لكان الأنسب تحرير النزاع في المنشأ ، وتفريع الإجزاء وعدمه على كيفية دلالة دليلهما. خصوصا لو لم يكن نزاع حقيقة في إجزاء المأتيّ به بالإضافة إلى أمره. ولعله أشار (قدس سره) إلى بعض ما ذكرنا بقوله (قدس سره) : ( فافهم ) (٢).

١٩٧ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وإن كان يختلف ما يكفي ... الخ ) (٣).

لا ريب في أن الكفاية بنفسها لا تقتضي البدلية والقيام مقام شيء آخر ، إلا أن الكفاية عن شيء مما لا شبهة في أنها تستدعي شيئين : أحدهما ما يكفي ، والآخر ما يكفى عنه (٤).

__________________

الاستبصار : ١ / ٤٢٥ ب : ٥٩ ذيل ح : ٥.

(١) قولنا : ( نعم القول بالإجزاء .. الخ ).

لا يخفى أن إجزاء المأمور به الظاهري وعدمه مبنيان على السببية والطريقية ، فيمكن تحرير النزاع في الإجزاء وعدمه للسببية على الأوّل وللطريقية على الآخر ، ويمكن تحرير النزاع في السببية والطريقية وتفريع الإجزاء وعدمه عليهما. وأمّا المأمور به الاضطراري فليس له دليل كلّي ليعمّ كلّ بدل اضطراري ؛ حتى يمكن النزاع تارة في الإجزاء وعدمه ، واخرى في الاطلاق وعدمه ، فالصحيح تحرير النزاع في الإجزاء وعدمه كلّيا ؛ حتى يعمّ جميع الأقسام حتى المأتيّ به بالإضافة إلى أمره. فتدبر. ( منه عفي عنه ).

(٢) الكفاية : ٨٢ / ٦.

(٣) الكفاية : ٨٢ / ٧.

(٤) قولنا : ( ومن الواضح عدم تحقّقها .. الخ ).

لا يقال : يكفي عن التعبّد به ثانيا.

٣٦٩

ومن الواضح عدم تحقّقها بهذا المعنى في إتيان المأمور به بالإضافة إلى أمره مطلقا ، حيث إن المأتيّ به نفس وجود المأمور به ، وليس بينهما المغايرة ؛ حتى يقال : إن المأتيّ به يكفي عن المأمور به ، وإنما يتحقّق هذا المعنى بالإضافة إلى أمر آخر ، كما في الاضطراري والظاهري بالإضافة إلى الواقعي.

فالأولى أن يقال : إن الإجزاء ـ بمعنى الكفاية وما تضاف إليه ـ مختلف ، فتختلف آثاره ، ومعنى الكفاية وفاء الشيء بما يقتضي المضاف إليه ، فالمأتيّ به واف بحدّه بما يقتضيه أمره ، فيسقط ، وواف بملاكه بما يقتضيه الأمر الواقعي فيسقط ، ولا مجال للإعادة والقضاء حينئذ ، وليس في البين عنوان كفاية شيء عن شيء ؛ حتى لا يكون هناك جامع بين أنحاء الإجزاء. فافهم وتدبّر.

١٩٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار ... الخ ) (١).

اعلم أنّ دعوى عدم الفرق بين المسألة والمسألتين ، بلحاظ إسقاط التعبد به ثانيا ، وعدمه بالنسبة إلى المرة والتكرار ، وبلحاظ إسقاط القضاء وعدمه بالنسبة إلى تبعية القضاء للأداء ، وإلاّ فعدم الملاءمة بين المسألة والمسألتين أوضح من أن يخفى.

ثم إنه ليس الغرض مما أفاده (قدس سره) في الفرق : أن البحث هنا عقلي ، وهناك لفظي ، فإنّ مجرّد ذلك لا يقتضي عقد مسألتين مع اتحاد المقصود ، بل يبحث عن الاقتضاء وعدمه عقلا ولفظا في مسألة واحدة ، بل المراد اختلاف الجهة المبحوث عنها هنا وهناك :

__________________

(١) الكفاية : ٨٢ / ١١.

٣٧٠

أمّا في المرّة والتكرار : فلأنّ المراد بالمرّة أنّ وجودا واحدا من الطبيعة ـ أو دفعة واحدة منها ـ مطلوب ، ولازمه عقلا أنّ غيره من الوجودات أو الدفعات غير مطلوب بهذا الطلب ، والمراد بالإجزاء أنّ المأتيّ به في الخارج ـ واحدا كان أو دفعة واحدة ـ يفي بما اقتضاه الأمر ، وأين أحد الأمرين من الآخر؟! لترتّب الثاني على الأوّل ، لا أنه عينه. كما إن المراد بالتكرار مطلوبية وجودات أو دفعات بنفس الأمر ، والمراد من عدم الإجزاء عدم وفاء المأتيّ به بالمأمور به بحيث يسقطه ، فمطلوبية الإتيان ثانيا بنفس بقاء الأمر ، لا أنه مدلول الأمر. وعلى ما ذكرنا فلو كان ما يدّعيه القائل بالإجزاء وبعدمه من مداليل الأمر اللفظي أيضا ، لم يكن عين ما يقول به القائل بالمرة والتكرار.

وأما في تبعية القضاء للأداء : فلأن القائل بالتبعية يدّعي أنّ الفعل في وقته مطلوب ، وفي خارجه ـ أيضا ـ مطلوب بنحو التعدّد في المطلوب ، والأمر حينئذ يقتضي فعل ذات المأمور به في خارج الوقت على حدّ اقتضائه له فيه ، غاية الأمر أنّ فعله في الخارج مرتّب على عدمه في وقته ، والقائل بعدم الإجزاء يقول : بأن إتيان المأمور به لا يسقط القضاء ، وأين هذا من القول بمطلوبية القضاء بنفس الأمر؟!

بل لو قال القائل بعدم الإجزاء : بأن مقتضى الأمر بشيء عدم سقوط القضاء ـ أيضا ـ كان أجنبيا عن القول بالتبعية ؛ لأن غايته دلالة الأمر على عدم سقوط القضاء ، لا على مطلوبية القضاء على حدّ مطلوبية الأداء.

وهذا كلّه بناء على فرض الكلام في دلالة الأمر الاضطراري والظاهري على عدم سقوط القضاء بالإضافة إلى الأمر الواقعي ، وإلا فعدم العلاقة بين المسألتين أوضح من أن يخفى على ذي مسكة.

١٩٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( لكنه لا بملاكه ... الخ ) (١).

__________________

(١) الكفاية : ٨٢ / ١٥.

٣٧١

بل لأن وجوده ثانيا وثالثا مطلوب لا لبقاء الأمر وعدم ما يسقطه ، بل القائل بالتكرار لا يمكنه القول بعدم الإجزاء ـ بمعنى لازمه التدارك ـ إذ القائل بالتكرار يقول به ما دام الامكان ، ومعه لا مجال للتدارك.

[ في إجزاء امتثال المأمور به عن التعبد به ثانيا ]

٢٠٠ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( إن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ... الخ ) (١).

سواء كان الإجزاء بمعنى الكفاية عن التعبّد به ثانيا ، أو عن تدارك المأتي به إعادة أو قضاء :

أما بالنسبة إلى التعبد به ثانيا : فلأن المفروض وحدة المطلوب ، وإتيان المأمور به على الوجه المرغوب ، فلو لم يسقط الأمر مع حصول الغرض عند الاقتصار عليه ، وعدم تبديله بامتثال آخر ـ كما مرّ ـ للزم الخلف ، وهو بديهي الاستحالة ، أو بقاء المعلول بلا علة ؛ لأنّ بقاء الأمر : إما لأنّ مقتضاه تعدّد المطلوب ، فهو خلف ؛ لأن المفروض وحدة المطلوب ، وإما لأن المأتيّ به ليس على نحو يؤثّر في حصول الغرض ، فهو خلف أيضا ، وإما لا لشيء من ذلك ، بل الأمر باق ، ولازمه عدم الإجزاء ، فيلزم بقاء المعلول بلا علة. وأما شبهة طلب الحاصل من بقاء الامر (٢) ، فقد عرفت سابقا دفعها (٣) ؛ فان المحال طلب الموجود بما هو

__________________

(١) الكفاية : ٨٣ / ٥.

(٢) قولنا : ( وأمّا شبهة طلب الحاصل .. الخ ).

لا يقال : هذه الشبهة بلحاظ المصلحة ، فالأمر بايجاد العمل لأجل المصلحة طلب الحاصل.

لأنا نقول : إن كانت المصلحة قابلة لتعدّد الموجود فحالها حال الفعل ، وإن لم تكن قابلة للتعدّد فيستحيل الأمر من حيث طلب الممتنع ، لا من حيث طلب الموجود الراجع إلى طلب الواجب ، وبينهما فرق لمن تدبّر. ( منه عفي عنه ).

(٣) وذلك في التعليقة : ١٧٣ عند قوله : ( وأما توهم انه يسقط ... ).

٣٧٢

موجود ؛ لأن إيجاد الموجود محال ، فطلبه محال ، وأما طلب الفعل ثانيا ، فليس من طلب الحاصل.

وأما بالنسبة إلى التدارك : فلأن التدارك لا يعقل إلاّ مع خلل في المتدارك ، وهو خلف ؛ إذ المفروض إتيان المأمور به على وجهه.

٢٠١ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( نعم لا يبعد أن يقال بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال ... الخ ) (١).

قد أشرنا (٢) ـ في آخر مبحث المرّة والتكرار (٣) ـ إلى أن إتيان المأمور به بحدوده وقيوده علّة تامة لحصول الغرض ، فيسقط الأمر قهرا. والمثال المذكور في

__________________

(١) الكفاية : ٨٣ / ٨.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٩٠.

(٣) قولنا : ( قد أشرنا في آخر مبحث .. الخ ).

توضيحه : إنّ مدار الامتثال عقلا : إما على موافقة المأتيّ به للمأمور به أو على حصول الغرض من المأمور به ، فإن كان المدار على الاول فلا ريب في الموافقة هنا ، فيسقط الأمر ، وحيث لا أمر فلا يعقل الامتثال ، وأما رفع اليد عما اتي به ، حتى يعود الأمر فغير معقول ؛ إذ الشيء بعد تحققه لا ينقلب عما هو عليه ، فرفع اليد عنه بمعنى البناء على عدمه لا معنى له ، وبمعنى إعدامه كإراقة الماء في المثال معقول ، فيعود الأمر لعود الغرض ، وهو التمكّن من الماء إلاّ أنه غير مفروض هنا ، إذ لا معنى لإعدام الصلاة بعد تحقّقها. وإن كان المدار على الثاني فنقول : إن اريد من الغرض هي (أ) الفائدة القائمة بالفعل الباعثة على الأمر به تحصيلا لتلك الفائدة ، فهي حاصلة سواء لوحظت بنحو الحيثية التعليلية أو التقييدية ، وإن اريد من الغرض الفائدة القائمة بفعل المولى كرفع العطش القائم بشر به ، فهي لا يعقل أن تكون حيثية تعليلية للأمر بإحضار الماء مع عدم قيامها بفعل المكلف ، مع أنه لا ينبعث الأمر بشيء إلاّ عن الإرادة المتعلقة به ، وهي لا تنبعث إلاّ عن الفائدة القائمة به ، وأما صيرورتها حيثية تقييدية للمأمور به بحيث يريد إحضار الماء الذي يترتّب عليه رفع عطش المولى ، فان كانت بنحو يكون مصبّا للبعث وموردا للطلب ، ففيه محذور الخروج عن قدرة المكلف ؛ نظرا إلى قيامه بشرب المولى اختيارا ، وهو ليس من أفعال المكلّف ،

__________________

(أ) الظاهر زيادة كلمة ( هي ).

٣٧٣

المتن كذلك ؛ لأن الغرض الذي يعقل أن يكون باعثا على الأمر بإحضار الماء هو تمكّن المولى من رفع عطشه به ، لا نفس رفع العطش ، خصوصا مع أن مصالح العبادات فوائد تقوم بها ، وتعود إلى فاعليها ، لا أنها عائدة إلى الآمر بها ؛ حتى يتصوّر عدم استيفاء غرضه منها ، بل من الأوفى (١) ، كما لا يخفى.

وأما ما ورد من الأمر بالإعادة (٢) في باب المعادة ، وأنه يجعلها الفريضة ، ويختار الله ـ تعالى ـ أحبّهما إليه ، وأنه يحسب له أفضلهما وأتمّهما ، فلا دلالة له على أنّ ذلك من باب تبديل الامتثال بالامتثال وكون سقوط الأمر مراعى بعدم تعقّب الأفضل.

__________________

وإن كانت بنحو الإشارة إلى حصّة خاصّة من إحضار الماء الملازم لشرب المولى منه ، فمجرّد إحضار الماء لا يكون مصداقا لتلك الحصّة ، فله مع عدم اتصاف المأتي به بالحصّة المأمور بها إحضار ماء آخر يشرب منه المولى ، وهو في الحقيقة راجع إلى عدم موافقة المأتيّ به للمأمور به فعلا ، وإن كان قابلا للموافقة بصيرورته حصّة ملازمة لشرب المولى ، ومن الواضح أن كون المأمور به هكذا يحتاج إلى دليل بالخصوص ، ولا يفي به ظواهر الأدلّة العامّة المتعلّقة بنفس الأفعال من دون تقييد ، نعم إذا قام الدليل على بقاء الأمر كان كاشفا عن أنّ مقام ثبوته على الوجه المزبور ، وجعله حصّة ملازمة لقدرة المولى يرجع إلى أنّ الغرض إحضار الماء فقط ، فإنّه مصحّح لقدرة المولى ، ومع حصوله يسقط الغرض.

ودعوى أنّه مقدّمة لتحصيل الغرض ـ وهو شرب الماء ـ فما لم يحصل لا يتّصف المقدّمة بالمقدّمية للبناء على المقدّمة الموصلة.

مدفوعة : بأنّه إنّما يصحّ إذا كان تحصيل الغرض الأصلي لازما ، ومثل هذا الغرض غير قابل للتكليف ، فلا يتّصف الفعل بالوجوب المقدّمي ، حتى يقتصر على الموصلة من المقدّمة. [ منه عفي عنه ].

(١) أي بل استيفاء غرضه من العبادات الأكثر وفاء بغرضه ، فلو أعاد المكلّف صلاته جماعة فالمولى يستوفي غرضه من الأخيرة وإن كانت الاولى تفي بغرضه أيضا ، هذا بناء على عود مصالح العبادات على المولى تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

(٢) قولنا : ( وأمّا ما ورد من الأمر بالإعادة .. الخ ).

توضيحه : إن أخبار باب المعادة طائفتان :

الاولى ـ ما ورد في باب إعادة الصلاة مع المخالفين إماما ومأموما : وهذه الطائفة مختلفة ، ففي

٣٧٤

..........................................

__________________

بعضها : « أما تحبّ أن تحسب لك بأربع وعشرين صلاة » (أ) ، وفي بعضها : « إنه يجعلها تسبيحا » (ب) والمراد منه ـ كما في رواية اخرى ـ أنه ذكر محض ، لا نافلة وتطوّع قائلا : « لو قبل التطوّع لقبلت الفريضة » (ج) وهذه الطائفة أجنبية عن أصل مشروعية الإعادة فضلا عن احتسابها فريضة باستقرار الامتثال عليها ، والظاهر من المرسلة التي أرسلها في الفقيه بقوله : ( وروي أنه يحسب له أفضلهما وأتمهما ) (د) الأفضلية بالمعنى المذكور في رواية الصلاة مع المخالف تحبّبا وتقية ، فإن المرسلة المزبورة أرسلها بعد رواية رواها عن الصادق ـ عليه السلام ـ : « قال رجل للصادق ـ عليه السلام ـ : اصلي في أهلي ثم أخرج إلى المسجد فيقدّموني؟ فقال ـ عليه السلام ـ : تقدّم لا عليك ، وصل بهم » (هـ) وفي رواية اخرى : « صلّ بهم لا صلى الله عليهم » (و).

وبالجملة الظاهر من المرسلة كون المعادة أفضل الصلاتين باعتبار الغرض المترتّب على التقية ، لا أن المحسوب من الصلاة هي المعادة فقط ، وعليه فالمتعيّن كون ( أفضلهما وأتمّهما ) منصوبا لا مرفوعا.

وتوهّم : أن الحساب بمعنى العدّ لا يتعدّى إلى مفعولين ، وأن المتعدّي إليهما هو الحسبان الذي هو من أفعال القلوب.

__________________

(أ) الوسائل ٥ : ٣٨٣ / كتاب الصلاة / كتاب الجماعة / باب ٦ في استحباب إيقاع الفريضة قبل المخالف أو بعده وحضورها معه / الحديث : ٣.

(ب) المصدر السابق نفس الباب / الحديث : ٥.

(ج) المصدر السابق نفس الباب / الحديث : ٥.

(د) الوسائل ٥ : ٤٥٥ / كتاب الصلاة / صلاة الجماعة / باب : ٥٤ في استحباب إعادة المنفرد صلاته إذا وجدها جماعة / الحديث : ٤ ، الفقيه ١ : ٢٥١ / باب : ٥٦ في الجماعة وفضلها / الحديث : ٤٣.

(هـ) الوسائل ٥ : ٤٥٥ / الباب السابق / الحديث : ٣ ، والفقيه ١ : ٢٥١ / باب : ٥٦ في الجماعة وفضلها / الحديث ٤٣.

(و) الوسائل ٥ : ٤٥٥ / الباب السابق / الحديث : ٦ ، والكافي ٣ : ٣٨٠ / باب الرجل يصلي وحده ، ثم يعيدها جماعة / الحديث : ٤.

٣٧٥

__________________

مدفوع : ـ مع وضوح صحّة قولنا : أعدّه فاضلا ، وعن الشاعر : ( ولا تعدد المولى شريكك في الغنى ) (أ) ـ بأن الحساب والعدّ : تارة يتعلّق بما يقع في العدّ خارجا كعدّ الدراهم ، فهو يتعدّى إلى مفعول واحد ، واخرى يتعلّق بما يعدّ بحسب النظر والاعتبار ، كما في ( أعدّ زيدا فاضلا ) ، ( ولا تعدد المولى شريكك في الغنى ) وفيما نحن فيه من الاحتساب والعدّ المعنوي دون الحسي.

الطائفة الثانية ـ ما لا يختص بالاعادة مع المخالف : كما في رواية هشام بن سالم (ب) « الرجل يصلّي الصلاة وحده ، ثم يجد جماعة؟ قال : يصلّي معهم ، ويجعلها الفريضة إن شاء » (ج) ، ومثلها رواية حفص البختري (د) بإسقاط كلمة ( إن شاء ) (هـ) ، وبمعناهما روايات اخرى تتكفل مشروعية الإعادة ، وأن الإعادة أفضل. وما يجدي في مقامنا قوله ـ عليه السلام ـ : « ويجعلها الفريضة » وله احتمالات :

أحدها ـ أن يجعلها فريضة فعلية ، وهو مع حصول الامتثال وسقوط الأمر محال ، سواء كان بنحو التعليل أو بنحو التوصيف ؛ إذ لا أمر كي يجعل داعيا أو تكون الصلاة موصوفة به ليؤتى بها موصوفة بهذه الصفة ؛ فإذا تعيّن هذا الاحتمال كشف عن عدم سقوط الأمر ، فيمكن التعليل والتوصيف.

ثانيها ـ أن ينويها فريضة ، ويبني عليها كموارد العدول من العصرية إلى الظهرية ، إلا أن الفرق بين موارد العدول وما نحن فيه : هو أن عنوان الظهرية والعصرية عنوان اعتباري يتحقّق ـ

__________________

(أ) لم نعثر عليه فيما بين ايدينا من المصادر.

(ب) وهو هشام بن سالم الجواليقي مولى بشر بن مروان أبو الحكم ، كان من سبي الجوزجان ، روى عن أبي عبد الله وابي الحسن عليهما‌السلام ، ثقة ثقة ، له كتاب يرويه جماعة .. ) عن النجاشي.

( معجم رجال الحديث ١٩ : ٢٩٧ / رقم : ١٣٣٣٢ ).

(ج) الفقيه ١ : ٢٥١ / باب : ٥٦ في الجماعة وفضلها / الحديث : ٤٢.

(د) وهو ( حفص البختري ، مولى بغدادي ، أصله كوفي ، ثقة ، روى عن أبي عبد الله وابي الحسن عليهما‌السلام ) عن النجاشي.

( معجم رجال الحديث ٦ : ١٣١ / رقم : ٣٧٧١ ).

(هـ) الوسائل ٥ : ٤٥٧ / كتاب الصلاة / صلاة الجماعة / باب : ٥٤ الحديث ١١.

التهذيب ٣ : ٥٠ / احكام الصلاة / باب : ٣ في احكام الجماعة وأقل الجماعة / الحديث : ٨٨.

٣٧٦

.....................................

__________________

بمجرّد البناء به فيمكن البناء على الظهرية بعد البناء على العصرية بخلاف كون الصلاة فريضة أو نافلة ، فإنه يتعلّق الأمر الوجوبي أو الندبي بها ، فمع سقوط الأمر الوجوبي بالامتثال لا معنى لعود الأمر الوجوبي بالبناء ، والمهم هنا تبديل الامتثال بالامتثال ، لا تبديل عنوان بعنوان ، ولا يقاس ما نحن فيه بمورد العدول من الفريضة إلى النافلة لمن اشتغل بالفريضة فرادى فانعقدت الجماعة ، فإنّ رفع اليد عن امتثال الأمر الوجوبي قبل تمامه معقول في حدّ نفسه ، فيندب حينئذ تتميم العمل بهذا الأمر الندبي ، ويبقى الأمر الوجوبي على حاله من عدم امتثاله ، بخلاف ما نحن فيه المفروض فيه تمامية الامتثال وسقوط الأمر الوجوبي.

ثالثها ـ ما احتمله شيخ الطائفة (أ) (قدس سره) في التهذيب (ب) وهذه عبارته : ( والمعنى في هذا

__________________

(أ) هو شيخ الطائفة الحقة ورئيس الفرقة المحقة ، أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي المعروف بشيخ الطائفة ، والشهير بالشيخ الطوسي.

ولد في طوس في شهر رمضان سنة ( ٣٨٥ ه‍ ) ، ودرس فيها ، ثم نزل بغداد سنة ( ٤٠٨ ه‍ ) ، فحضر درس الشيخ المفيد والشيخ حسين بن الغضائري ، وشارك الشيخ النجاشي في جملة من مشايخه ، ولازم بعد ذلك السيد المرتضى ، فكان محلّ عنايته ورعايته ، وبالغ بالإشارة إليه ، وصرف له اثني عشر دينار في الشهر ، ولما توفي المرتضى (ره) استقل شيخنا بالتدريس والرئاسة ، واستحقّ بجدارة كرسي بغداد للكلام والإفادة لتفوّقه على اقرانه.

هاجر (ره) إلى النجف سنة ( ٤٤٧ ه‍ ) بعد فتنة السلاجقة التي أحرقت مكتبته وكرسيّه وداره ، لائذا بأمير المؤمنين (ع) فأسّس الحوزة العلمية فيها.

له (ره) كتابا ( الاستبصار ) و ( التهذيب ) في الحديث وهما من الكتب الأربعة التي عليها مدار استنباط الأحكام عند الشيعة بعد كتابي ( الكافي ) للكليني (ره) ، و ( من لا يحضره الفقيه ) للصدوق (ره) ، كما عدّ صاحب اعيان الشيعة لشيخنا المعظم (٤٦) مؤلّفا منها تفسير التبيان ، والمبسوط في الفقه ، والخلاف في الفقه المقارن ، والفهرست ، ورجال الطوسي (ره) ... وكتب اخرى جليلة وعظيمة الفائدة.

توفي (ره) في النجف الأشرف ليلة الاثنين ٢٢ محرم ٤٦٠ ه‍ ، ودفن في بيته الذي تحوّل إلى مسجد معروف باسمه في محلّة المشراق ، وكما أن باب الصحن الشريف المطلّ على المسجد والشارع الذي يصل بينهما عرفا باسمه (ره) كذلك.

( أعيان الشيعة ٩ : ١٥٩ ) بتصرّف.

(ب) التهذيب ٣ : ٥٠ / الباب السابق.

٣٧٧

..........................................

__________________

الحديث أن من صلّى ، ولم يفرغ من صلاته ووجد جماعة ، فليجعلها نافلة ، ثم يصلّي في جماعة ، وليس ذلك لمن فرغ من صلاته بنيّة الفرض ؛ لأن من صلّى الفرض بنيّة الفرض ، فلا يمكن أن يجعلها غير فرض ). انتهت.

وأيّده الوحيد (أ) ـ قدس سره ـ بأنه ظاهر صيغة المضارع ، وأن هشام بن سالم ـ راوي هذا الخبر ـ روى هذا المعنى الذي ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ عن سليمان بن خالد (ب) عن الصادق ـ عليه السلام ـ ، وعليه فما في رواية هشام بن سالم : « ويجعلها الفريضة إن شاء » ـ من قيد المشيّة ـ راجع إلى المجموع ؛ أي إن شاء يصلي معهم فريضة ، وإن شاء أتمّ ما بيده فرضا لا نافلة.

رابعها ـ ما ذكرناه في الحاشية ، كما عن غير واحد أيضا ، وهو أن يجعلها ظهرا صلاها أو عصرا كذلك حيث لا جماعة في نافلة ذاتية ، فالإعادة مستحبّة لإدراك ثواب الجماعة الفائت فيما صلاها سابقا. وقد عرفت التكلّف الشديد في الاحتمالين الأوّلين حتى أن غير واحد من

__________________

(أ) وهو العالم الرباني مولانا محمد باقر بن محمد أكمل الاصبهاني البهبهاني ، المعروف بالوحيد البهبهاني.

ولد في سنة ( ١١١٨ ه‍ ) في أصفهان ، ثم سكن بهبهان ، ثم انتقل إلى كربلاء مع والده ، وكان طيلة هذه الفترة يأخذ منه ومن أكابر العلماء حتى صار مجتهدا مقدّما على علماء عصره ، وقال في حقه تلميذه صاحب منتهى المقال : ( استاذنا العلامة وشيخنا الفهامة ... ركن الطائفة وعمادها ومؤسس ملّة سيّد البشر في رأس المائة الثانية عشر .. ).

ولقد كان العراق ولا سيما المشهدين الشريفين ـ مملوءا قبل قدومه من الأخباريين ومن جهّالهم حتى أن الرجل منهم كان إذا أراد حمل كتاب من كتب فقهائنا ـ رضي الله عنهم ـ حمله بمنديل ، وقد أخلى الله البلاد منهم ببركة قدومه ، وهدى المتحيّرة في الأحكام بأنوار علومه ، وكل من عاصره من المجتهدين فإنّما يأخذ من فوائده واستفاد من فرائده.

عدّ له صاحب روضات الجنات (٦٠) مؤلّفا منها : حاشيته على المدارك ، والفوائد الحائرية وحاشية على المعالم وغيرها.

توفي (ره) في كربلاء سنة ( ١٢٠٨ ه‍ ) بعد أن جاوز التسعين من عمره (ره) ، ودفن في الرواق الشرقي في الحرم المطهر لسيّد الشهداء (ع) قريبا مما يلي أرجل الشهداء (ع).

( روضات الجنات ٢ : ٩٥ ) بتصرّف.

(ب) وهو سليمان بن خالد ، طلحي ، قمي ، كان شاعرا ، من أصحاب الباقر عليه السلام.

( معجم رجال الحديث ٨ : ١٨١ / رقم : ٥٣٠٩ )

٣٧٨

...................................

__________________

الأصحاب حكم بمقتضى سلامة فطرته وطبعه بعدم معقولية أوّلهما ، والثالث أيضا لا يخلو عن تكلف ، وإن كان معقولا ، فالأرجح هو الاحتمال الرابع. وعلى أي حال فمع تطرّق الاحتمال لا يجوز الاستدلال بهذه الرواية وغيرها على جواز تبديل الامتثال بالامتثال. منه قدّس سره.

قوله ـ عليه السلام ـ : « يجعلها الفريضة إن شاء » :

إمّا يرجع قيد المشيّة إلى مجموع ( إتمام ما بيده نافلة وإتيان الفريضة جماعة ) ، ومقابله إتمام ما بيده فريضة وعدم إتيان الصلاة جماعة.

وإمّا يرجع إلى نفس الصلاة جماعة ، فيراد منه : إن شاء صلّى جماعة ، وإن شاء لم يصلّ ، غاية الأمر إن صلّى بجماعة فلا بدّ من إتيانها بأحد وجهين : إما بعنوان الفريضة الفعلية ، وإمّا بعنوان الفريضة الذاتية.

ولعلّ من ينكر التعليل ويقول بإمكان التوصيف لا يريد التوصيف بنحو العنوانية ، فإنه مع سقوط الأمر الوجوبي كما لا يعقل التعليل ؛ حيث لا وجوب ، كذلك لا يمكن التوصيف ؛ حيث لا وصف ، بل يريد التوصيف بنحو المعرّفية ، فيرجع إلى الوجه الأخير ، وهو أن ينوي الظهر التي هي فريضة في هذا اليوم ، ولا محالة تقع الصلاة على وجه الندب ، لا على وجه الوجوب.

والعجب من شيخنا العلاّمة الأنصاري ـ قدّس سرّه ـ حيث اختار في كتاب الصلاة (أ) في معنى جعل الفريضة ، ومع ذلك اختار الاجتزاء به عن الفريضة لو انكشف بطلان الصلاة الاولى قائلا بحصول الامتثال بالفرد الأكمل.

فإنّه لا يصحّ إلاّ إذا قلنا بإمكان تبديل الامتثال بالامتثال وصحّة قصد الفريضة الفعلية بما يأتي به جماعة ، بل يتعيّن ـ حينئذ ـ أن تكون مطلوبية الصلاة جماعة لمجرّد إدراك فضيلة الجماعة ، وحيث إنّ الفضيلة في الصلاة اليومية ، فلذا يجب أن يأتي بها بعنوان الظهريّة والعصريّة. [ منه قدّس سرّه ].

__________________

(أ) كتاب الصلاة : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

٣٧٩

وذلك لأنّ كلّ ذلك لا ينافي حصول الغرض وسقوط الأمر بتقريب : أن سقوط الأمر بحصول الغرض الملزم أمر ، واختيار المعادة واحتسابها في مقام إعطاء الأجر والثواب أمر آخر. والسرّ في جعل المعادة ـ لمكان أفضليتها من الاولى ، كما دلّت عليه طائفة من الأخبار (١) ـ ميزانا للأجر والثواب ، دون الاولى ـ اشتراكها مع الاولى في ذات المصلحة القائمة بها مع زيادة ، فليس مدار الثواب على الاولى المقتضية لدرجة واحدة من القرب ، بل على الثانية المقتضية لدرجات من القرب ، والاولى وإن استوفت بمجرّد وجودها درجة من القرب ، لكن حيث إنّ المعادة تكرار ذلك العمل بنحو أكمل ، فلا يحتسب ما به الاشتراك مرتين ، فصح أن يقال باحتسابهما واختيارهما معا ، كما دلّ عليه قوله ـ عليه السلام ـ : « وإن كان قد صلّى كان له صلاة اخرى » (٢) ، ويصحّ أن يقال باختيار المعادة وجعلها مدار القرب ؛ لوجود ما يقتضيه الاولى فيها (٣) وزيادة. فتفطّن.

ويمكن أن يقال أيضا : إن الصلاة المأتيّ بها أوّلا توجب أثرا في النفس ، فكما أنه يزول بضدّ أقوى ، فلا يحسب عند الله وإن لم يوجب القضاء ، كذلك ينقلب إلى وجود أشدّ وآكد إذا تعقّب بمثل أقوى ، كما في الجماعة والفرادى ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٥١ باب ٥٦ في الجماعة وفضلها ، حديث : ٣٥ ـ ٣٧. والتهذيب ٣ : ٢٧٠ باب ٢٥ في فضل المساجد والصلاة فيها وفضل الجماعة واحكامها ، حديث : ٩٨.

والكافي ٣ : ٣٨٠ كتاب الصلاة باب : ٥٥ في الرجل يصلّي وحده ثم يعيد جماعة من أبواب صلاة الجماعة ، الحديث : ٦ ، ٧ ، ٨.

والوسائل ٥ : ٣٨٣ كتاب الصلاة ، صلاة الجماعة باب ٦ في استحباب إيقاع الفريضة قبل المخالف أو بعده وحضورها معه ، حديث : ١ ـ ٩.

(٢) الوسائل ٥ : ٤٥٥ كتاب الصلاة ، صلاة الجماعة باب ٦ في استحباب إعادة المنفرد صلاته إذا وجدها جماعة ، حديث : ٢.

(٣) أي لوجود القرب ـ الذي تقتضيه الصلاة ـ في الثانية ـ أي المعادة ـ مع زيادة قرب تختصّ به المعادة ؛ لأنها الفرد الأكمل.

٣٨٠