نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

الطلب والارادة

١٤٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الحق كما عليه أهله وفاقا للمعتزلة ، وخلافا للأشاعرة هو اتحاد الطلب والإرادة ... الخ ) (١).

ينبغي أوّلا ـ تحقيق أن المسألة على أيّ وجه عقلية ، وعلى أيّ وجه اصولية ، وعلى أيّ وجه لغوية؟

فنقول : إن كان النزاع في ثبوت صفة نفسانية أو فعل نفساني ـ في قبال الإرادة عند الأمر بشيء ـ كانت المسألة عقلية ، وسنبين (٢) ـ إن شاء الله تعالى ـ ما عندنا امتناعا وإمكانا.

وإن كان النزاع في أنّ مدلول الأمر هل هو الإرادة ، والطلب متحد معها ، أو منطبق على الكاشف عنها ، أولا ـ كي تكون الصيغة كاشفة عن الإرادة عند الإمامية والمعتزلة ، وكاشفة عن الطلب المغاير لها ، فلا يترتب عليها ما يترتب على إحراز إرادة المولى ـ كانت المسألة اصولية ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله

__________________

(١) الكفاية : ٦٤ / ٢٠.

(٢) في نفس هذه التعليقة وفي التعليقة : ١٤٩.

٢٦١

تعالى (١).

وإن كان النزاع في مجرّد مرادفة لفظ الطلب مع لفظ الإرادة ـ من دون نظر إلى ثبوت صفة نفسانية ، أو إلى مدلول الصيغة وشبهها ـ كانت المسألة لغوية ، فلا ربط لها بالاصول ولا بالكلام.

لا يقال : الكلام في مرادفتهما ليس من جهة تشخيص المفهوم بما هو مفهوم ، بل من جهة أنه لو ثبت وحدة المعنى كشف كشفا قطعيا عن أن المصداق واحد ؛ بداهة استحالة انتزاع الواحد عن المتعدّد ، فيبطل الكلام النفسي ، ولو ثبت تعدّد المفهوم كشف عن تعدّد المصداق ، فيصحّ دعوى الكلام النفسي.

لأنا نقول : ليس لازم الالتزام بعدم المرادفة تعدّد المصداق في مرتبة النفس لاحتمال أن يكون مفهوم الطلب ـ كما سيجيء ان شاء الله تعالى (٢) ـ أمرا منتزعا عن قول أو فعل مظهر للإرادة.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الظاهر ـ كما يستفاد من تتبع كلمات الباحثين عن المسألة في بدو الأمر ـ أن النزاع في هذه المسألة نشأ من النزاع في الكلام النفسي ؛ حيث استدل الأشاعرة بأنّ الأمر الامتحاني ونظائره مدلولها الطلب دون الارادة ، فيعلم أن ما عدا الارادة والكراهة في الأمر والنهي معقول.

والسرّ في دعواهم ذلك والالتزام بالكلام النفسي تصحيح متكلّميّته تعالى (٣) ـ فى قبال سائر الصفات مع التحفظ على قدم الكلام ؛ إذ الالتزام بقدم

__________________

(١) وذلك في نفس هذه التعليقة عند قوله : ( وإن كان النزاع في مدلول الصيغة ....

(٢) وذلك في أواخر نفس هذه التعليقة عند قوله : ( إلا أنّ المظنون قويا .. ).

(٣) قولنا : ( تصحيح متكلّميته تعالى ... الخ ).

قد مر منا أن الكلام الذي هو من صفات الأفعال ـ كما ورد في روايتها ـ هو عين الإحداث والإيجاد ، وأما جعله من صفات الذات ، كما في كلمات اهل المعرفة ، فهو باعتبار أن وجوده تعالى معرب عن مقام ذاته المقدسة ، وأن صفاته وأسماءه معربة عن كمالاته المندمجة في مقام ذاته ،

٢٦٢

الكلام اللفظي ـ مع كونه مؤلفا من أجزاء متدرجة متقضّية متصرّمة في الوجود ـ غير معقول ، ومن هنا تعرف أن الالتزام بمغايرة الطلب والإرادة ، أو الالتزام بأنّ مدلول الصيغة غير الإرادة ـ إذا لم يلزم منه ثبوت صفة اخرى في النفس ـ غير ضائر. وإن التفرد في أحد الأمرين لا يوجب الاستيحاش ولا موافقة الأشاعرة فيما دعاهم إلى دعوى المغايرة.

فنقول : إن كان النزاع في إمكان صفة اخرى أو فعل آخر في مرتبة النفس في قبال الإرادة فالحقّ إمكانه ، لكنه لا يكون كلاما نفسيا مدلولا عليه بالكلام اللفظي ، فالدعوى مركبة من أمرين : أحدهما ـ مجرد إمكان أمر آخر غير الإرادة وسائر الصفات المشهورة. ثانيهما ـ امتناع مدلوليته للكلام اللفظي.

أما الأول ـ فتحقيقه يتوقف على بيان وجه الامتناع على الاجمال : وهو أن الأجناس العالية للماهيّات الإمكانية ـ كما برهن عليه في محله ـ منحصرة في المقولات العشر ـ أعني مقولة الجوهر ، والمقولات العرضية التسع ـ والوجود الحقيقي ـ الذي حيثية ذاته حيثية طرد العدم ـ منحصر في العيني والذهني ، غاية الأمر أن طرد العدم في كل منهما بحسب حظه ونصيبه قوة وضعفا.

ومن الواضح أن ما يقبل كلا الوجودين هي الماهيات ؛ حيث إنها في حدود ذواتها لا تأبى عن الوجود والعدم. وأما الوجود الحقيقي فحيثية ذاته حيثية الإباء عن العدم ، فلا يقبل وجودا آخر ـ لا من سنخه ، ولا من غير سنخه ـ وهو بمكان من الوضوح.

فالقائل بالكلام النفسي إن كان يدعي : أن سنخه ـ إجمالا ـ سنخ

__________________

كما أن للموجودات التي هي مظاهر اسمائه وصفاته كلمات وجودية معربة عن حقائق أسمائه وصفاته تعالى. [ منه عفي عنه ].

٢٦٣

الماهيات فالبرهان قائم (١) على انحصارها في المقولات العشر ، فحاله حالها من حيث قبول الوجودين.

فحينئذ يقال : إن قيامه بالنفس إن كان بنفسه ـ كالصفات النفسانية من العلم والارادة وغيرهما ـ فهو من الكيفيات النفسانية ، والبرهان قائم ـ في محلّه ـ على ضبطها وحصرها ، ومدلولية أحدها للكلام اللفظي ـ كقولك : ( أعلم واريد ) على ثبوت العلم والإرادة ـ لا تجعلها كلاما نفسيا. وإن كان قيامه بالنفس قيامه بصورته قياما علميا ، فهو أمر مسلم بين الطرفين ، فهو من هذه الجهة داخل في مقولة العلم ، والمفروض غيره.

ومنه يظهر : أن قيام الكلام اللفظي بالنفس ـ قياما علميا ـ لا دخل له بالكلام النفسي ؛ لأن ماهية الكيف المسموع كماهية الكيف المبصر ـ في أن لها نحوين من الوجود ـ هذا إذا كان القائل بالكلام النفسي يدّعي أن سنخه سنخ الماهيات.

وإن كان يدعي أن سنخه سنخ الوجود ، فهو ـ على التحقيق المحقق عند أهله في محله ـ معقول ـ وإن لم يتفطّن له الأشعري ـ إلا أن مدلوليته للكلام اللفظي غير معقولة :

أما أصل معقوليته فالوجدان الصحيح شاهد على ذلك ، كما في إيقاع

__________________

(١) قولنا : ( فالبرهان قائم ... الخ ).

مع أن المقسم للنفس واللفظي حيث إنه طبيعة الكلام ـ وهو من الكيف المسموع ـ فلا قيام له بالنفس بنفسه ، بل قيامه علمي ، وإذا اريد من المقسم مدلول الكلام حيث إنه : تارة يوجد في النفس ، واخرى بوجود اللفظ ، فمن الواضح أن المداليل مختلفة : فتارة تكون من الامور التي توجد في افق النفس ، كالكيفيات النفسانية ، واخرى في خارج النفس كغيرها ، وعلى الأوّل ـ هو إحدى الكيفيات النفسانية التي لا كلام فيها ، وعلى الثاني ـ لا قيام له بالنفس إلا بقيام علمي. ( منه عفي عنه ).

٢٦٤

النسبة الملازم للتصديق المقابل للتصور ، فإن صورة ( أن هذا ذاك ) ـ مطابقا لما في الخارج وناظرا إليه ـ تصديق داخل في العلوم الانفعالية لانفعال النفس وتكيّفها بالصورة المنتزعة من الخارج. ونفس ( هذا ذاك ) ـ من دون نظر إلى صورة مطابقة له في الخارج ـ من موجودات عالم النفس ، ونسبة النفس إليه بالتأثير والإيجاد ، لا بالتكيّف والانفعال ، وحقيقته وجود نوري قائم بالنفس قياما صدوريا ، وهو المراد بالعلم الفعلي في قبال الانفعالي ، ومنه الأحاديث النفسانية ، فإن الوجدان أصدق شاهد على أن نسبة النفس إليها بالايجاد والتأثير ، ونفس وجودها الحقيقي عين حضورها للنفس ، بل هذا حال كل معلول بالنسبة إلى علته ؛ حيث إن وجوده عين ارتباطه به ، وهو أفضل ضروب العلم ؛ إذ ليس العلم إلا حضور الشيء ، وأيّ حضور أقوى من هذا الحضور؟! فتوهم انحصار موجودات عالم النفس في الكيفيات النفسانية بلا وجه.

بل التحقيق : أن نسبة النفس إلى علومها مطلقا نسبة الخلق والإيجاد. قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ : « كلّ ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه ، فهو مخلوق لكم مردود إليكم » (١).

وإلى ما ذكرنا في تحقيق هذا الوجود النوري ـ الخارج من الكيفيات النفسانية ؛ حيث إنها ماهيات موجودة ، وهذا حقيقة الوجود ـ أشار بعض أكابر فن المعقول في غالب كتبه ، وصرح به في رسالته المعمولة في التصور والتصديق (٢).

وأما استحالة مدلوليته للكلام اللفظي ، فلأن المدلولية للكلام ليس إلا كون اللفظ واسطة للانتقال من سماعه إليه ، وهذا شأن الماهية ، والوجود الحقيقي ـ عينيا كان أو نوريا إدراكيا ـ غير قابل للحصول في المدارك الإدراكية ؛ لما

__________________

(١) الروايات الواردة بهذا المضمون كثيرة ، فراجع بحار الأنوار ٣ : ٢٨٧ / باب : ١٣.

(٢) صدر المحققين (رحمه الله) في رسالته المومى إليها في المتن ـ المطبوعة في ذيل الجوهر النضيد للعلاّمة (رحمه الله) ـ ص : ٣١٢ فما بعدها.

٢٦٥

عرفت سابقا ، فلا يعقل الوضع له ، ولا الانتقال باللفظ إليه ، إلا بالوجه والعنوان ، ومفروض الأشعري مدلوليته بنفسه للكلام اللفظيّ ، لا بوجهه وعنوانه. هذا كله إذا كان الكلام على وجه يناسب علم الكلام.

وإن كان النزاع في مدلول الصيغة ـ كما هو المناسب لعلم الاصول ـ فالتحقيق :

أن مدلول صيغة ( افعل ) وأشباهها ليس الطلب الانشائي ، ولا الإرادة الانشائية ، بل البعث المأخوذ على نحو المعنى الحرفي ، والمفهوم الأدويّ ، كما أشرنا إليه في أوائل التعليقة ، وسيجيء ـ ان شاء الله تعالى ـ عما قريب.

والبعث الموجود بوجوده الإنشائي ليس من الطلب والإرادة في شيء ، ولا يوجب القول به إثبات صفة نفسانية أو فعل نفساني يكون مدلولا للكلام اللفظي ، إلا بتوهم : أن الانشاء إيجاد أمر في النفس ، وسيجيء تحقيق نحو وجود الأمر الإنشائي إن شاء الله تعالى (١).

وأما أنّ مدلول الصيغة هو البعث تقريبا ، دون الإرادة الانشائية ، فيشهد له الوجدان (٢) ، فإنّ المريد لفعل الغير ، كما أنه قد يحرّكه ويحمله عليه تحريكا حقيقيا وحملا واقعيا ، فيكون المراد ملحوظا بالاستقلال ، والتحريك ـ الذي هو آلة إيجاده خارجا ـ ملحوظا بالتبع. كذلك قد ينزل هيئة ( اضرب ) منزلة التحريك

__________________

(١) في التعليقة : ١٥٠ من هذا الجزء.

(٢) قولنا : ( فيشهد له الوجدان ... الخ ).

فإن الانسان بعد اشتياقه لفعل الغير الذي هو تحت اختياره يقوم بصدد تحصيله منه : إما بالبعث إليه ، أو بايجاد الداعي له ، ونحوهما ، فيناسبه وضع الهيئة لمثل هذه الامور حتى تكون الهيئة بعثا تنزيليا أو جعلا للداعي تنزيلا ، وأما إنشاء الإرادة مع تحقّق نفس الارادة ، فهو أجنبي عن ذلك ؛ لأنّ وجودها الواقعي حاصل ، ومع ذلك يحتاج إلى توسّط أمر آخر ، فكيف يتوسّط بينها وبين المراد إنشاء مفهوم الارادة؟ فتدبر ، فإنه حقيق به ( منه عفي عنه ).

٢٦٦

الملحوظ بالتبع ، فيكون تحريكا تنزيليا يقصد باللفظ ثبوته ، ولذا لو لم يكن هناك لفظ لحرّكه خارجا بيده نحو مراده ، لا أنه يظهر إرادته القلبية.

مع أن تحقيق هذا الأمر ليس فيه فائدة اصولية ؛ إذ مدلول الصيغة على أي حال أمر إنشائي لا إرادة نفسية ، بل اللازم والنافع هو البحث عن أن الصيغة ـ ولو عند الاطلاق ـ هل تكشف عن إرادة قلبية باعثة للبعث الانشائي أو الإرادة الإنشائية أو الطلب الانشائي ، أم لا؟ وهذا المعنى لا يتوقف ـ إثباتا ونفيا ـ على كون مدلول الصيغة أيّ شيء.

نعم البحث الكلامي على الوجه المتقدّم ينفع للطرفين إثباتا ونفيا.

وإن كان النزاع في مجرّد اتحاد الإرادة مع الطلب مفهوما ومصداقا وانشاء ، فمن الواضح أن البحث حينئذ لغوي.

وتحقيق الحال فيه : أن الظاهر من أهل اللغة تقاربهما معنى ، ولا يختصّ الطلب بالإرادة من الغير ، كما يشهد له قولهم : فلان طالب الدنيا ، أو طالب المال.

إلا أن المظنون قويا : أن الطلب عنوان لمظهر الإرادة قولا أو فعلا ، فلا يقال لمن أراد قلبا : طلبه ، إلا إذا أظهر الارادة بقول أو فعل ، كما يظهر من قولهم : طلبت زيدا فما وجدته ، فانه هنا عنوان لفعله الخارجي ، وليس المراد منه أنه أراده قلبا.

بل التحقيق ذلك ـ وان لم يكن له ارادة نفسانية ـ كما يتضح من قولهم : اطلب لي من فلان شيئا ، وكذلك قولهم : طالبته بكذا ، فإنّ الأول ليس أمرا بالإرادة من الغير ، بل هو أمر بما يعنون بعنوان الطلب من قول أو فعل. والثاني ليس إخبارا بالإرادة منه ، بل بما يعنون بعنوان المطالبة في الخارج ، فالمادّة من المثالين نفس حقيقة الطالب لا الانشائي منه حتى يقال : بأنه من جهة الانصراف إليه.

والعجب أنه ذهب بعض الاعلام من مقاربي عصرنا (١) إلى أن الطلب

__________________

(١) المحقق الرشتي قدس‌سره في بدائع الأفكار : ٢٠٧.

٢٦٧

عنوان للكاشف عن الإرادة ، ومع ذلك جعل هذا قولا باتحاد الطلب والإرادة ؛ حيث لم يلزم منه إثبات صفة في النفس ، وهو وإن كان وجيها من حيث إنه التزام بالمغايرة ، مع عدم لزوم ما التزمت به الأشاعرة ، إلا أن ذلك أجنبي عن القول بالعينية والاتحاد. كيف؟ وصريح العلامة (رحمه الله) في جملة من كتبه (١) وغيره في غيرها : أن الطلب ـ الذي هو مدلول صيغة الأمر ـ هي الإرادة ، ولذا التزموا بأن الأمر في ما لا إرادة فيه صوري ، وهذا دليل على أن مرادهم من العينية هي العينية مفهوما ومصداقا وإنشاء ، لا أن مدلول الأمر نفس الإرادة الخارجية ، وأنها عين الطلب حتى يقال : بأنه غير معقول ، وأن مرادهم مجرد عدم ثبوت صفة في النفس غير الإرادة ، من دون نظر إلى أنها عين الطلب في الخارج. وتتمة الكلام فيما بعد.

١٤٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فيرجع النزاع لفظيا ، فافهم ... الخ ) (٢).

قد عرفت (٣) : أن هذا البحث من تبعات البحث عن الكلام النفسي ، وأن الأشاعرة يدّعون ثبوت صفة اخرى في النفس في قبال الإرادة وسائر الصفات الأخر تصحيحا لكلامه تعالى ؛ حيث أرادوا إثبات قدمه وقيامه بذاته تعالى ، فكيف يعقل الاكتفاء في المغايرة بالمغايرة بين الحقيقي والانشائي؟!

إلا أن يقال : إن الأشاعرة يزعمون أن الإنشاء إيجاد أمر في النفس ، فيصح دعوى المغايرة ، وإثبات أمر آخر ـ غير الإرادة ـ قائم بالنفس ، غاية الأمر أنهم أخطئوا في حقيقة الإنشاء ، فلا نزاع واقعا إلا في حقيقة الوجود الانشائي ، وهو غير هذا النزاع.

١٤٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( لا يخفى أنه ليس غرض الأصحاب

__________________

(١) كما في تهذيب الوصول إلى علم الاصول ـ مخطوط ـ : ١٤.

(٢) الكفاية : ٦٦ / ١٢.

(٣) وذلك في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( إذا عرفت ذلك فاعلم ... ).

٢٦٨

والمعتزلة ... الخ ) (١).

قد مرّ غير مرة : أن الباعث على هذا البحث للأشاعرة تصحيح كلامه ـ تعالى ـ وجعله صفة قائمة بذاته قديما بقدمه في قبال العلم والإرادة والقدرة وسائر صفاته ، ولا بد من كون هذا القائم بذاته أمرا قابلا للمدلولية للكلام اللفظي ، وإلا لم ينقسم الكلام إلى لفظي ونفسي ، وكان الإتعاب في إثباته لغوا محضا.

لكن الأصحاب والمعتزلة لم يلزمهم في مقام الردّ على الأشاعرة إثبات أن الصفات الأخر مدلولات للكلام اللفظي ، بل يقولون : بأنا لا نجد فيما يتعلّق بمداليل الكلام من الصفات النفسية والامور القلبية إلا العلم والإرادة والكراهة في مجموع القضايا الخبرية والإنشائية المنحصر فيهما الكلام. وأما أن مدلول الكلام ما ذا؟ فهو أمر آخر ، ولو قال منهم قائل : بأن الإرادة مدلول الكلام ، فهو باعتبار أن الإرادة الطبيعية المنحفظة في الموطنين ـ من الذهن والعين ـ إذا لوحظت بنحو المعنى الحرفي والمفهوم الادوى ، كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ كان معنى إنشائيا يقصد ثبوته باللفظ لا بمعنى آخر. فتدبر.

١٤٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( أما الجمل الخبرية فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها ... الخ ) (٢).

لا يخفى عليك أن المنقول عن الأشاعرة في كلمات بعضهم : أنّ الكلام النفسي المدلول عليه بالكلام اللفظي الخبري عبارة عن النسبة الموجودة بين مفردين ، ولذا ذهب بعض الأعلام من مقاربي عصرنا (٣) إلى أن الالتزام بالنسبة

__________________

(١) الكفاية : ٦٦ / ١٣.

(٢) الكفاية : ٦٦ / ١٨.

(٣) وهو المحقق الرشتي قدس‌سره ـ كما في هامش الأصل ـ وذلك في بدائع الأفكار : ٢٥٣ عند قوله : ( ثم اعلم أن ما هو المعروف ... ).

٢٦٩

الحكمية التزام بالكلام النفسي ، وهو (قدس سره) وإن أصاب في فهم المراد من كلمات الأشاعرة ، وأنهم يجعلون النسبة كلاما نفسيا ، لكنه لم يصب في الالتزام بكونه كلاما نفسيا غير معقول ، بل كان يجب عليه كشف مغالطتهم ، وحل عقدتهم بما نتلوه عليك :

وهو أن المعنى ـ كما أشرنا إليه سابقا (١) ـ : تارة يقوم بالنفس بنفسه على حدّ قيام الكيفيات النفسانية بالنفس ، من العلم والإرادة وغيرهما. واخرى يقوم بالنفس بصورته المجردة قياما علميا. والنسبة المتصورة بين المحمول والموضوع ـ وهي كون هذا ذاك في الخارج ـ تقوم بالنفس لا بنفسها بل بصورتها ، فهي كالمعلومات الأخر من حيث إن قيامها قيام علمي لا كقيام العلم. والذي يجب على الأشعري إثباته قيام شيء بالنفس بنفسه على حد قيام العلم والارادة ، لا على حد قيام المعلوم والمراد ، فان هذا القيام لا يوجب ثبوت صفة اخرى بالنفس حتى ينفع في إثبات الكلام القائم بذاته ـ تعالى ـ وراء علمه وإرادته وسائر صفاته العليا.

نعم هنا أمر آخر له قيام بالنفس بنفسه ، وهو نحو من الوجود النوري القائم بالنفس قيام المعلول بعلته ، لا قيام العرض بموضوعه ، وقد أشرنا إليه سابقا (٢).

وهذا المعنى ـ وإن لم يبلغ إليه نظر الاشعري ـ إلا أنه مجد في تعقّل أمر غير العلم والارادة ، وارتباطه بالكلام أيضا ظاهر ـ كما عرفت سابقا (٣) ـ إلا أنه لا يجدي للأشعري ؛ لأنه يجعله مدلولا للكلام اللفظي ، وحقيقة الوجود ـ كما

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( فحينئذ يقال : إن قيامه بالنفس ... ).

(٢) وذلك في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( ونسبة النفس إليه بالتأثير والإيجاد ... ).

(٣) في نفس التعليقة والموضع المشار إليهما آنفا.

٢٧٠

عرفت (١) ـ لا يقبل المدلولية للكلام بنفسه ؛ لأن المدلولية ليست إلا بحصوله في المدارك الإدراكية ، والوجود لا يقبل وجودا آخر ، سواء كان العارض من سنخ المعروض ، أم لا. فتدبّر.

فان قلت : ثبوت القيام لزيد في الخارج وانكشافه في الذهن مما لا شكّ فيه ، ولا ينبغي إسناد الريب فيه إلى أحد من أهل العلم ، لكنه غير النسبة الحكمية ، بل المراد منها : هي النسبة التي حكم بها النفس ، فوجد في مرحلة النفس حكم وإذعان بها غير انكشافها انكشافا تامّا مستقرّا ، وهذا هو الذي جعله بعض الأعلام المتقدم ذكره (٢) كلاما نفسيا ونطقت الاشاعرة بكونه غير العلم والارادة ، ومثل هذه النسبة الحكمية لو جعلت مدلولا للقضية الخبرية كان التزاما بالكلام النفسي جزما.

قلت : التحقيق كما نص به بعض الأكابر في رسالته المعمولة في التصوّر والتصديق (٣) : أن التصديق ليس مجرد انكشاف ثبوت القيام لزيد ، فانه تصور محض بداهة أن ثبوت القيام لزيد قابل للتصور ، وليس هو إلاّ انكشافه ، بل التصديق هو الانكشاف الملزوم لحكم النفس وإقرارها بثبوت القيام لزيد ؛ لما عرفت سابقا (٤) ، أن صورة ( هذا ذاك ) ـ ناظرا إلى الخارج ومنتزعا لهذه الصورة عن ذيها فيه ـ علم انفعاليّ من مقولة الكيف لانفعال النفس وتكيفها بالصورة المنتزعة عن الخارج ، ولكن نفس ( هذا ذاك ) عند النفس إقرار وحكم وتصديق

__________________

(١) في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( وأمّا استحالة مدلوليته للكلام اللفظي ... ).

(٢) في اوائل هذه التعليقة بقوله : ( ولذا ذهب بعض الأعلام ... ) ، وهو المحقق الرشتي (رحمه الله) كما مرّ.

(٣) صدر المحققين (رحمه الله) ـ في رسالته المذكورة المطبوعة في ذيل الجوهر النضيد للعلاّمة الحلّي قدس‌سره : ٣١٥ فما بعدها.

(٤) وذلك في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( أما أصل معقوليته ... ).

٢٧١

واذعان من النفس ، وهذا علم فعلي ، وهو ضرب من الوجود النوري القائم بالنفس قياما صدوريا ، يكون نسبة النفس إليه بالتأثير والإيجاد ، ومنه مقولة الاعتقاد فإنّ عقد القلب على شيء غير اليقين ؛ قال تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )(١) ، فالإقرار والجحود النفسيان أمر معقول يشهد به الوجدان وإلاّ لزم الالتزام بإيمان الكفار الموقنين بالتوحيد والنبوة أو جعل الإيمان الذي هو أكمل كمالات النفس مجرد الإقرار باللسان.

وبالجملة فالنسبة الحكمية وإن كانت كما ذكر ، إلاّ أنّ مدلول الكلام مطلقا نفس الماهية والمعنى ، فكما أن مدلول القيام طبيعي القيام الموجود في الموطنين ، كذلك مدلول الجملة ـ بما هي جملة ـ ثبوت القيام لزيد ، وأن هذا ذاك.

وأما ان هذا المعنى المستفاد من الجملة هل هو مورد للتصور المحض ، أو للتصديق الملازم للاقرار به؟ فهو أمر آخر ، وعلى أيّ حال فلا ربط له بنفس الإقرار النفسي ، والكلام في النسبة المتعلق بها الإقرار ، لا في الإقرار الذي هو فعل من أفعال النفس. وما نقول بدلالة الجملة ـ عليه ـ بنفسها أو بضميمة أمر آخر ـ نفس النسبة ، وهي لها شئون : من كونها متصوّرة ، ومرادة ، ومتعلّقا لإقرار النفس بها. وما يجدي الأشعري ـ ويكون التزاما بالكلام النفسي ـ كون الحكم والإقرار المزبور مدلولا للجملة ، وقد عرفت استحالته (٢).

وأما توهم : أن النسبة المتصورة نسبة ناقصة لا يصح السكوت عليها ، وأن مدلول الجملة الخبرية هو الجزم بالنسبة ، أو التجزم بها فيما إذا كان المخبر شاكّا أو معتقدا لخلافها ، فتوجد النفس صفة علم وجزم بالنسبة ، ويخبر عنها.

فمدفوع : بأن ثبوت القيام لزيد ـ الذي هو مدلول الجملة ـ ليس هو هذا

__________________

(١) النمل ٢٧ : ١٤.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( وأما استحالة مدلوليته للكلام اللفظي ... ).

٢٧٢

المفهوم الاسمي ، فإنه عنوان النسبة لا نفسها ، بل النسبة الحرفية التي هي معنون هذا المفهوم ، وهو معنى يصحّ السكوت عليه في حد ذاته. وهذا المعنى الذي يصح السكوت عليه ربما يتصوّر بتصوّر طرفيه ، وربما يجزم به ، فتمامية النسبة ونقصها ـ وإن لم تكونا بلحاظ الخارج ـ لأنها نحو واحد ، بل بحسب مدلوليتها للكلام ، فقد تكون مدلولا بمقدار لا حالة منتظرة [ معه ] للسامع ، وقد لا تكون كذلك.

نعم إذا كان بمقدار لا يصح السكوت عليه ، لا يقبل التصديق ، لا أنّ ما يصحّ السكوت عليه يتقوّم بالتصديق.

ومنه تعلم : أنه لا حاجة إلى التجزّم الذي هو بظاهره غير معقول إلا بالحمل على البناء على وقوع النسبة ، وهو فعل قلبي مر الكلام فيه وفي أمثاله (١)

فتحقق من جميع ما ذكرنا : أنا لا نساعد الأصحاب والمعتزلة في عدم شيء آخر وراء العلم والارادة ونحوهما ، بل نقول : إن ما اقتضاه البرهان والفحص انحصار الكيفيات النفسية التي هي من مقولة الماهية في ما ذكر لا انحصار موجودات عالم النفس فيه.

كما لا نساعد الأشاعرة في كون مثل هذا الأمر المغاير للعلم والإرادة مدلولا للكلام اللفظي ؛ لاستحالة حصول الوجود الحقيقي في المدارك الإدراكية.

فتدبّره ، فإنه في كمال الغموض والدقة ، وإن أوضحناه على حسب الوسع والطاقة.

١٥٠ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وأما الصيغ الإنشائية فهي ـ على ما حققناه في بعض فوائدنا ـ موجدة لمعانيها في نفس الأمر ... الخ ) (٢).

بل التحقيق أن وجودها وجود معانيها في نفس الأمر.

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( أما أصل معقوليته ... ).

(٢) الكفاية : ٦٦ / ٢٠.

٢٧٣

بيانه : أن المراد من ثبوت المعنى باللفظ : إما أن يراد ثبوته (١) بعين ثبوت اللفظ ؛ بحيث ينسب الثبوت إلى اللفظ بالذات ، وإلى المعنى بالعرض. وإما أن يراد ثبوته (٢) منفصلا عن اللفظ بآلية اللفظ ؛ بحيث ينسب الثبوت إلى كلّ منهما بالذات.

لا مجال للثاني ؛ إذ الوجود المنسوب للماهيات بالذات منحصر في العيني والذهني. وسائر أنحاء الوجود ـ من اللفظي والكتبي ـ وجود بالذات للفظ والكتابة ، وبالجعل والمواضعة وبالعرض للمعنى.

ومن الواضح أن آلية وجود اللفظ وعليته لوجود المعنى بالذات ، لا بد من أن تكون في أحد الموطنين من الذهن والعين ، ووجود المعنى بالذات في الخارج يتوقف على حصول مطابقه في الخارج ، أو مطابق ما ينتزع عنه والواقع خلافه ؛ إذ لا يوجد باللفظ موجود آخر يكون مطابقا للمعنى أو مطابقا لمنشا انتزاعه ، ونسبة الوجود بالذات إلى نفس المعنى ـ مع عدم وجود مطابقه أو مطابق منشئه ـ غير معقول.

ووجوده في الذهن بتصوره لا بعلية اللفظ لوجوده الذهني ، والانتقال من سماع الالفاظ إلى المعاني لمكان الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى ، مع أن ذلك ثابت في كل لفظ ومعنى ، ولا يختص بالانشائي.

فالمعقول من وجود المعنى باللفظ هو الوجه الأول : وهو أن ينسب وجود واحد إلى اللفظ والمعنى بالذات في الأول ، وبالعرض في الثاني ، وهو المراد من قولهم : ( إن الانشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر ) ، وإنما قيدوه بنفس الأمر مع أن وجود اللفظ في الخارج وجود للمعنى فيه أيضا بالعرض ، تنبيها على أنّ اللفظ بواسطة العلقة الوضعية وجود المعنى تنزيلا في جميع النشآت ، فكأنّ

__________________

(١ و ٢) كذا في الأصل ، والصحيح : ( ان المراد من ثبوت المعنى باللفظ : إما ثبوته ... وإما ثبوته ... ).

٢٧٤

المعنى ثابت في مرتبة ذات اللفظ بحيث لا ينفك عنه في مرحلة من مراحل الوجود. والمراد بنفس الأمر حدّ ذات الشيء من باب وضع الظاهر موضع المضمر.

فان قلت : هذا المطلب جار في جميع الألفاظ بالنسبة إلى معانيها من دون اختصاص بالانشائيات.

قلت : الفرق أن المتكلّم قد يتعلق غرضه بالحكاية عن النسبة الواقعة في موطنها باللفظ المنزّل منزلتها ، وقد يتعلّق غرضه بإيجاد نفس هذه النسبة بإيجاد اللفظ المنزّل منزلتها ؛ مثلا : مفاد ( بعت ) إخبارا وإنشاء واحد ، وهي النسبة المتعلقة بالملكية وهيئة ( بعت ) وجود تنزيلي لهذه النسبة الإيجادية القائمة بالمتكلّم والمتعلّقة بالملكية ، فقد يقصد وجود تلك النسبة خارجا بوجودها التنزيلي الجعلي اللفظي ، فليس وراء قصد الايجاد بالعرض وبالذات أمر آخر ، وهو الانشاء ، وقد يقصد ـ زيادة على ثبوت المعنى تنزيلا ـ الحكاية عن ثبوته في موطنه أيضا ، وهو الاخبار.

وكذلك في صيغة ( افعل ) وأشباهها فإنه يقصد بقوله : ( اضرب ) ثبوت البعث الملحوظ نسبة بين المتكلم والمخاطب والمادة ، فيوجد البعث في الخارج بوجوده الجعلي التنزيلي اللفظي ، فيترتّب عليه ـ إذا كان من أهله وفي محلّه ـ ما يترتّب على البعث الحقيقي الخارجي مثلا.

وهذا الفرق بلحاظ المقابلة بين المعاني الخبرية والانشائية ، فلا ينتقض باستعمال الألفاظ المفردة في معانيها ، فإنها كالانشائيات من حيث عدم النظر فيها إلاّ إلى ثبوتها خارجا ثبوتا لفظيا ، غاية الأمر أنها لا يصح السكوت عليها بخلاف المعاني الانشائية المقابلة للمعاني الخبرية ، وهذا أحسن ما يتصوّر في شرح حقيقة الإنشاء ، وعليه يحمل ما أفاده استاذنا العلاّمة ، لا على أنه نحو وجود آخر في قبال جميع الأنحاء المتقدّمة ؛ فإنه غير متصوّر.

٢٧٥

ومما ذكرنا ـ في تحقيق حقيقة الإنشاء ـ تعلم : أن تقابل الإنشاء والإخبار ليس تقابل مفاد كان التامّة ومفاد كان الناقصة ؛ نظرا إلى أنّ الإنشاء إثبات المعنى في نفس الأمر ، والإخبار ثبوت شيء لشيء تقريرا وحكاية ؛ وذلك لأن طبع الإنشاء ـ كما عرفت ـ لا يزيد على وجود المعنى تنزيلا بوجوده اللفظي ، وهو قدر جامع بين جميع موارد الاستعمال ، فإن القائل : ( بعت ) إخبارا أيضا يوجد معنى اللفظ بوجوده العرضي اللفظي ، والحكاية غير متقوّمة بالمستعمل فيه ، بل خارجة عنه ، فهي من شئون الاستعمال ، بل الفرق أنهما متقابلان بتقابل العدم والملكة تارة ، وبتقابل السلب والإيجاب اخرى ، فمثل ( بعت ) وأشباهه ـ من الجمل المشتركة بين الإنشاء والإخبار ـ يتقابلان بتقابل العدم والملكة ؛ لأن المعنى الذي يوجد بوجوده التنزيلي اللفظي قابل لأن يحكى به عن ثبوته في موطنه ، فعدم الحكاية ـ والتمحض فيما يقتضيه طبع الاستعمال ـ عدم ملكة.

ومثل ( افعل ) وأشباهه ـ المختصّة بالإنشاء عرفا ـ يتقابلان تقابل الإيجاب والسلب ؛ إذ المفروض أن البعث الملحوظ نسبة بين أطرافها ـ نظير البعث الخارجي ـ غير البعث الملحوظ بعنوان المادّية في سائر الاستعمالات ـ كما سمعت منا في أوائل التعليقة ـ فمضمون صيغة ( اضرب ) ـ مثلا ـ غير قابل لأن يحكى به عن ثبوت شيء في موطنه ، بل متمحض في الإنشائية ، وعدم الحكاية حينئذ من باب السلب المقابل للايجاب.

ومما ذكرنا ظهر : أن إبداء الفرق بينهما بأن مفاد الإنشاء يوجد ويحدث بعد أن لم يكن ، ومفاد الإخبار يحكي عما كان أو يكون ، غير تام أيضا ؛ فإنّ وجود المعنى باللفظ ـ وحدوثه به ـ مشترك بين الإنشاء والإخبار ، وإنما يزيد الإخبار عليه في المورد القابل بجعله حاكيا ومرآة لثبوت المضمون في موطنه.

كما أنه اتضح من جميع ما ذكرنا : أن الإنشاء لا دخل له بإيجاد شيء في النفس حتى يكون كلاما نفسيا ، بل إيجاد خارجي بنحو التنزيل وبالعرض ، لا

٢٧٦

بالحقيقة وبالذات ؛ لأن إيجاده في النفس ، وإن كان معقولا ، لكن إيجاده باللفظ غير معقول ، فلا يكون معنى إنشائيا مدلولا عليه بالكلام اللفظي ، ومجرّد الحكاية باللفظ عن الفعل النفساني لا يجعله كلاما إنشائيا.

وأما تخيّل : أن الكلام الإنشائي موضوع لإظهار الإرادة : إما طبعا ، أو إيجادا ؛ نظرا إلى إمكان إيجاد القصد لفائدة فيه ، لا في المقصود ، كما في الإتمام المرتّب على قصد الإقامة ؛ حيث إنه أثر القصد ، لا الإقامة عشرا ولو لم تقصد ، ولا الإقامة بعد القصد ، فإنّه يتمّ ولو لم يقم بعده ، وحينئذ فإن كان هناك في النفس إرادة ، فقد أعطت الصيغة معناها ، وإلا فلا.

فمدفوع : بأنّ اللفظ وجود لفظي لمعناه ، فإن كان نفس الإرادة معنى اللفظ والإظهار باللفظ ـ كما في كل لفظ ومعنى ـ فليس هناك نسبة إنشائية ، وإن كان نفس إظهار الإرادة معناه ، فالهيئة حينئذ وجود لفظي لمفهوم إظهار الإرادة ـ ولو فانيا في معنونه ـ وهو ليس معنى يصحّ السكوت عليه ، إلا أن يرجع إلى الإرادة النسبية الإنشائية. وكون هذه الهيئة كاشفة عن إرادة جدّية حتمية ـ وضعا ، أو انصرافا ، أو اطلاقا ـ معنى آخر لا دخل له بمدلول اللفظ استعمالا.

وأما إيجاد القصد لفائدة فيه ، فهو وإن كان ببعض الوجوه ممكنا ، لكنه لا بهذا النحو ، والمثال المزبور لا يجدي في تصحيحه ؛ لأنّ الإقامة القصدية ـ أي المقوّمة للقصد في نحو وجوده ـ لها دخل في وجوب الإتمام ، فيقصدها لأجل أن يتمّ بسبب تحقّق وجودها القصدي ، فتعلق القصد إليها ـ أيضا ـ لفائدة فيما يتعلق بها بحيث لولاها لما وجب الإتمام ، وفناء المقصود في الإقامة الخارجية أيضا لازم ، وإلا أمكن إيجاد القصد مع العلم بعدم الإقامة خارجا.

١٥١ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وأما الدفع فهو أنّ استحالة التخلّف إنما تكون في الإرادة التكوينية ... الخ ) (١).

__________________

(١) الكفاية : ٦٧ / ١٦.

٢٧٧

توضيحه : أن حقيقة إرادته ـ تعالى ـ مطلقا هو العلم بالصلاح ، فإن كان المعلوم ما هو صلاح بحسب النظام الكلّي ، فنفس هذا العلم ـ من دون حالة منتظرة ـ علة للتكوين ، فإن المحلّ قابل يسأل بلسان استعداده الدخول في دار الوجود ، والمبدأ تامّ الإفاضة لا بخل في ساحته المقدسة ، والوجود ـ بما هو ـ خير محض ، فلا محالة يستحيل تخلّف المراد عن هذه الارادة ، وإن كان المعلوم ما هو صلاح بحسب بعض الأشخاص ـ لا بحسب النظام التامّ ـ فحيث إن مقتضى العناية الربانية سوق الأشياء إلى كمالاتها وإعلام المكلّفين بصلاحهم وفسادهم ، فهذا العلم يقتضي تحريكهم إلى ما فيه الصلاح والرشاد ، وزجرهم عما فيه الفساد ، فهذه الإرادة متعلّقة بالبعث والتشريع ـ دون الخلق والتكوين ـ فلذا تكون علة للتشريع دون التكوين ، فلم يلزم استحالة التخلّف ، ولا اجتماع الضدين أو المتناقضين. وتفسير الإرادة بالعلم بالصلاح نظير تفسير السمع والبصر فيه ـ تعالى ـ بالعلم بالمسموعات والمبصرات.

وتحقيق هذا المرام يستدعي طورا آخر من الكلام ربما لا يسعه بعض الأفهام ، ولا بأس بالإشارة إلى نبذة مما يتعلّق بالمقام ، فنقول ـ وبالله الاعتصام ـ :

لا ريب عند أهل النظر أن مفاهيم الصفات ـ حسبما يقتضيه طبعها ـ متفاوتة متخالفة ، لا متوافقة مترادفة ، وإن كان مطابقها واحدا بالذات من جميع الجهات ، فكما أن مفهوم العلم غير مفهوم الذات وسائر الصفات ، وإن كان مطابق مفهوم العلم والعالم ذاته بذاته ؛ حيث إن حضور ذاته لذاته بوجدان ذاته لذاته وعدم غيبة ذاته عن ذاته ، كذلك ينبغي أن يكون مفهوم الإرادة بناء على كونها من صفات الذات ـ كمفهوم العلم ـ مبائنا مع الذات ومفهوم العلم ، لا أن لفظ الإرادة معناه العلم بالصلاح ، فان الرجوع الواجب هو الرجوع في

٢٧٨

المصداق ، لا رجوع مفهوم إلى مفهوم. ومن البين أن مفهوم الإرادة ـ كما هو مختار الاكابر من المحققين ـ هو الابتهاج والرضا ، وما يقاربهما مفهوما ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا.

والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا ، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى : أنا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامّين في الفاعلية ، وفاعليتنا لكل شيء بالقوة ، فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى امور زائدة على ذواتنا ـ من تصور الفعل والتصديق بفائدته والشوق الأكيد ـ المميلة جميعا للقوة الفاعلة المحرّكة للعضلات ، بخلاف الواجب تعالى فإنه ـ لتقدّسه عن شوائب الإمكان وجهات القوة والنقصان ـ فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنه صرف الوجود ، وصرف الوجود صرف الخير ، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج ، وذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا. وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي ـ وهي الإرادة الذاتية ـ ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإن من أحبّ شيئا أحبّ آثاره ، وهذه المحبّة الفعلية هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار ـ سلام الله عليهم ـ بحدوثها (١) ؛ لوضوح أن المراد هي الإرادة التي هي غير المراد ، دون الإرادة الأزلية التي هي عين المراد ؛ حيث لا مراد في مرتبة ذاته إلا ذاته ، كما لا معلوم في مرتبة ذاته إلاّ ذاته.

والوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتية بالعلم بنظام الخير وبالصلاح : أنهم بصدد ما به يكون الفعل اختياريا وهو ليس العلم بلا رضا ، وإلا كانت الرطوبة الحاصلة بمجرّد تصوّر الحموضة اختيارية ، والسقوط عن حائط

__________________

(١) اصول الكافي ـ نشر المكتبة الاسلامية ـ : ١ / ٨٥ ـ ٨٦ / باب الإرادة .. ، وتوحيد الصدوق (رحمه الله) ـ نشر جماعة المدرسين ـ باب صفات الذات والأفعال / الحديث ١٥ ـ ١٩ / ص : ١٤٦ ـ ١٤٨.

٢٧٩

دقيق العرض بمجرّد تصوره اختياريا ، وكذلك ليس الرضا بلا علم ، وإلا كانت جميع الآثار والمعاليل الموافقة لطبائع مؤثّراتها وعللها اختيارية. بل الاختياري هو الفعل الصادر عن شعور ورضا ، فمجرّد الملاءمة والرضا ـ المستفادين من نظام الخير والصلاح التامّ ـ لا يوجب الاختيارية ، بل يجب إضافة العلم إليهما.

فما به يكون الفعل اختياريا منه ـ تعالى ـ هو العلم بنظام الخير ، لا أن الإرادة فيه ـ تعالى ـ بمعنى العلم بنظام الخير.

وهذا الذي ذكرنا مع موافقته للبرهان مرموز [ اليه ] في كلمات الأعيان (١) ، بل مصرح به في كلمات جملة من الأركان.

وأما توهم : أن الإرادة بمعنى الجدّ ، وفيه ـ تعالى ـ جدّ يناسب مقام ذاته.

ففيه أن الجدّ لا معنى له هنا إلا ما يعبّر عنه : تارة بتصميم العزم ، واخرى بإجماع الرأي ، وهو لا يناسب مقام ذات الواجب ، بل يناسب الممكن الذي يحصل له التردّد ، ويتعقبه حينئذ تصميم العزم وإجماع الرأي.

ثم إن تقسيم الإرادة إلى التكوينيّة والتشريعية ؛ باعتبار تعلّق الاولى بفعل المريد بنفسه ، وتعلّق الثانية بفعل الغير ـ أعني المراد منه ـ.

توضيحه : أنّ فعل الغير إذا كان ذا فائدة عائدة إلى الشخص ، فينبعث ـ من الشوق إلى تلك الفائدة ـ شوق إلى فعل الغير بملاحظة ترتّب تلك الفائدة العائدة إليه ، وحيث إنّ فعل الغير ـ بما هو فعل اختياري له ـ ليس بلا واسطة مقدورا للشخص ، بل بتبع البعث والتحريك إليه ؛ لحصول الداعي للغير ، فلا محالة ينبعث للشخص شوق إلى ما يوجب حصول فعل الغير اختيارا ، وهو تحريكه إلى الفعل.

__________________

(١) القبسات للسيد الداماد (رحمه الله) ـ تحقيق الدكتور مهدي محقق ـ ص : ٣٢٢ ، والأسفار ٦ : ٣٣٣.

٢٨٠