نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

فدعوى النقل أو التجوّز في العالم وأشباهه من الأسماء الحسنى والصفات العليا الجارية عليه تعالى ـ تارة من جهة عدم المغايرة بين المبدأ وذيه ، واخرى من جهة عدم قيام مباديها بذاته المقدّسة لعينيتها له تعالى ـ كما عن صاحب الفصول ـ وصدقها عليه تعالى بمعنى آخر ـ دعوى بلا شاهد ، وإحالة إلى المجهول ، بل كما قيل ـ ونعم ما قيل ـ : يؤدي إلى الالحاد أو التعطيل ، كما اشير (١) إليه في المتن (٢).

وأوهن منه دعوى مرادفة الصفات ، كما نسب إلى بعض أهل المعقول (٣).

فان قلت : فكيف ينتزع مفاهيم متعددة عن مصداق واحد بلا جهة كثرة ، مع أنه كانتزاع مفهوم واحد عن المتعدد بلا جهة وحدة في الاستحالة ، بل ادّعي أنه من الفطريات ، ولا يعقل تكثّر الجهات والحيثيات في ذاته الأحدية ـ جلّت ذاته ـ فإنّ واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات ، فكما أنه تعالى صرف الوجود ، كذلك صرف العلم وصرف القدرة وهكذا ، ولذا قال أساطين

__________________

(١) قولنا : ( كما اشير إليه في المتن .. الخ ).

لا يخفى عليك أنّ ما أفاده في المتن ـ من لزوم الاتحاد أو التعطيل ، بناء على عدم الصدق عليه تعالى بما له من المفهوم العام ـ إنما يرد على صاحب الفصول إذا التزم بالنقل أو التجوّز من حيث مفهوم المادّة كما هو المبحوث عنه في مسألة اشتراك الوجود معنى أو لفظا ، وأما إذا أراد النقل والتجوّز من حيث مدلول الهيئة والمشتق ـ بما هو مشتقّ ـ فلا يرد محذور الإلحاد والتعطيل ، ومن الواضح أنّ محلّ الكلام هنا هو الثاني ، فمراده (قدس سره) أنّ العالم في غيره تعالى بمعنى من يقوم به العلم ، وفيه تعالى من يكون عينه العلم ، مع انحفاظ مفهوم واحد من حيث المادة ، ولا بد من ذلك ، وإلاّ لورد عليه المحذور الذي يفرّ منه صاحب الفصول ، فإنّ ذلك المفهوم المجهول : إن كان مبدؤه عين الذات عاد محذور عدم القيام المنافي لصدق المشتق ، وإن كان غير الذات وقائما بها لزم القول بعدم عينية العلم لذاته المقدسة. فتدبّر ، فإنه حقيق به.

( منه عفي عنه ).

(٢) الكفاية : ٥٨ / ٦.

(٣) الأسفار ٦ : ١٤٥ أول الفصل الخامس من الموقف الثاني من السفر الثالث.

٢٤١

الحكمة : ( وجود كلّه ، وجوب كله ، علم كله ، قدرة كله ) (١) ، لا أن منه ما هو علم ، ومنه ما هو قدرة.

قلت : المفاهيم وإن كانت مثار الكثرة والمغايرة ، إلا أنها قسمان :

منها ـ ما هي متباينة لا يعقل أن يكون مطابقها واحدا ، كالعلة والمعلول مثلا.

ومنها ـ ما لا يأبى أن يكون مطابقها واحدا بالوجود ، كالعلم والقدرة ، فإنّ مفهومهما لا يقتضيان تغاير ما تصدقان عليه ، بل المغايرة إنما تثبت من الخارج ، ففيما كان ذات الشيء بذاته مطابقا ومصداقا للعلم والقدرة ، ـ لا في مرتبة متأخّرة عن ذاته ـ فلا محالة تكون موجودة بوجود واحد ، بلا جهة وحيثية زائدة على حيثية الذات. وفيما إذا كان الذات مصداقا لها في المرتبة المتأخّرة عن ذاتها ، فلا محالة يكون مطابق المبدأ ـ الذي هو من المفاهيم الثبوتية ـ موجودا آخر غير الذات.

وأما تصور مطابقة ذات واحدة (٢) لمفاهيم متعددة ، ورجوع حقائق صفاته ـ تعالى ـ الى حيثية ذاته المقدّسة ، فهو وان كان له مقام آخر ، لكنه لا بأس بالإشارة الإجمالية إليه تحقيقا لما حققناه ، وتثبيتا لما ذكرناه ، فنقول :

__________________

(١) الأسفار ٦ : ١٢١ ونقله عن أبي نصر الفارابي ، وكذا نقله الدواني (رحمه الله) في تعليقاته على شرح القوشجي : ٣٠ عن الفارابي في تعليقاته.

(٢) قولنا : ( وأما تصوّر مطابقة ذات واحدة ... الخ ).

توضيحه على وجه الاختصار : أن ما يعرض الموجودات على ثلاثة أقسام :

أحدها ـ ما يعرض الوجود الواجبي ـ جلّ ذكره ـ كوجوب الوجود ، والوحدة الصرفة ، والبساطة المحضة ، والاستقلال في الوجود ، والجاعلية بالذات ، واشباهها.

ثانيها ـ ما يعرض الوجود الإمكاني كالإمكان ـ بمعنى الافتقار الوجودي ، وكونه ذا ماهية مقولية ـ والكثرة ، والمعلولية ، وأشباهها.

ثالثها ـ ما يعرض الوجود من دون اختصاص بموجود دون موجود كالتشخّص ، والتعيّن ،

٢٤٢

.........................

__________________

والنوريّة ، والخيريّة ، وأشباهها.

والكلام هنا في القسم الثالث ، والمدّعى : أنّ المطابق بالذات ـ والمصداق بلا واسطة أصلا ـ هو نفس الوجود ؛ إذ لو كان الوجود مطابقا لها بالعرض مع انتهاء كل ما بالعرض إلى ما بالذات ، فلا محالة يكون المطابق بالذات لها : إما الماهية ، أو العدم ، أو وجود آخر. وحيث إن هذه النعوت مما يوصف بها الوجود ، فلا بدّ من أن يكون تلك الامور التي لها الوساطة في العروض مما له نحو من الاتحاد بالموجود الموصوف بها بالعرض. فالأمر يدور بين أن يكون المطابق بالذات لهذه النعوت : إما نفس حقيقة الوجود ، أو حدّها الماهوي ، أو حدّها العدمي اللازم لحدّها الماهوي ، أو حيثية وجودية قائمة بها قيام العرض بموضوعه : إما قياما انضماميا ، أو قياما انتزاعيا.

وحينئذ فنقول : مع أن المفروض عروض هذه النعوت للواجب ـ الذي لا حدّ ماهويّ ولا حدّ عدميّ ولا حيثية عرضية له ـ يرد على توصيف الماهية بها : أنّ كلّ ماهية ـ بحسب وجدانها الماهوي ـ لا تكون إلاّ واجدة لذاتها وذاتياتها ، وليست هذه النعوت من ذاتياتها ، وإلاّ لزم الخلف.

ويرد على توصيف حدّها العدمي : أن العدم لا يكون مطابقا لهذه المفاهيم الثبوتية ، وإلا لزم كون حيثية النفي عين حيثية الثبوت ، وحيثية العدم عين حيثية الوجود ، وهو خلف.

ويرد على توصيف حيثية وجودية عرضية بها : أن الكلام فيها كالكلام في المتحيّث بتلك الحيثية من أن الموصوف بتلك الأوصاف بالذات : إمّا نفس وجودها ، أو ماهيتها ، أو العدم اللازم لها. والماهية والعدم قد علم حالهما ، فلا مطابق لها إلا وجودها.

وإذا كان الوجود ـ بما هو ـ مصداقا لها بالذات ، فالوجود المفروض أوّلا كذلك ؛ إذ المفروض أن هذه النعوت ليست من عوارض الوجود المحدود بما هو محدود ، وكلّ ما كان عين حقيقة وجود بما هو وجود ، كان عين سائر أفراد حقيقة الوجود ، وإلاّ لزم التخصّص بلا مخصّص.

وأما جعل هذه الأوصاف بأنفسها حيثيات وجودية قائمة بالموجودات ، فلا محالة تكون بطبائعها من المقولات العرضية في قبال سائر المقولات العرضية التسع المعروفة.

فمع أنه يرد عليه : أنه مناف لعروضها للوجود الواجبي ، وهو لا يكون محلاّ وموضوعا للمقولة العرضية لمنافاة العروض لوجوب الوجود.

٢٤٣

.............

__________________

نقول : إن مفهوم التشخّص والتعيّن لا يشخّص ولا يعيّن ؛ لأنّ ضمّ مفهوم إلى مفهوم أو إلى ما فرض أنه غير متشخّص بذاته ، يستحيل أن يحقّق تشخّصا وتعيّنا ، فإنّ مفهوم التشخّص تشخّص بالحمل الأوّلي ، لا بالحمل الشائع ، فكيف يعقل أن تكون إضافته إلى ما ليس متشخّصا توجب تشخّصا بالحمل الشائع؟! ووجود مفهوم التشخّص إذا لم يكن بذاته متشخّصا ليس إلا وجود ما لا يكون متشخّصا بالحمل الشائع ، وكذا مفهوم النور ومفهوم الخير نور وخير بالحمل الأولي ، لا بالحمل الشائع ، فحالهما في عدم إفادة النورية والخيرية بالحمل الشائع حال التشخّص المفهومي ، مع أنه كيف يعقل أن يكون العرض متشخصا بذاته وخيرا بذاته ونورا بذاته ، والوجود الجوهري لا متشخصا بذاته ولا نورا ولا خيرا بذاته؟!

فإن قلت : ما ذكرت أولا ـ أن هذه النعوت لا يوصف بها الماهية بالذات ؛ لأنّ الماهية غير واجدة لها بذاتها ـ إنما ينفي كونها ذاتية لها بالمعنى المتداول في كتاب الكليات ، وأما الذاتي في كتاب البرهان ـ بمعنى كفاية وضع الذات في صحة انتزاعه منها ـ فلا ، كما في لوازم الماهيات على المشهور ، فإنها وإن كانت عرضية في كتاب الكليات ، لكنها ذاتية في كتاب البرهان.

قلت : كما أن الماهية غير واجدة بذاتها لها ، كذلك غير واجدة بذاتها لاستلزامها واستتباعها واقتضائها ، وإلا لزم الخلف ، وكون الاستلزام : إما عين ذاتها ، أو جزء ذاتها ، فلا يكون اللازم منتزعا من مرتبة ذات الماهية ـ من حيث هي ـ بل لا بد من إضافة حيثية الوجود في انتزاعها.

وأما تحقيق حال لوازم الماهية ، فنقول :

هي إما معان ثبوتية كالزوجية والفردية اللازمتين لبعض مراتب العدد ، وإما معان سلبية كالإمكان الذي هو بمعنى سلب الضرورة وعدم كون الماهية بذاتها مصداقا للوجود أو العدم.

أما الأول : فالمعاني الثبوتية : إما من العوارض الذهنية كالكلية ، والجزئية ، والنوعية ، والجنسية ، والفصلية. وإما من الأعراض المقولية اللازمة لموضوعاتها. والاولى اعتبارات عقلية ، ومعروضها الماهية باعتبار ثبوتها في الذهن من باب القضية الحينية. والثانية مقولات عرضية ذات ماهية ووجود ، فبعضها كالزوجية والفردية من مقولة الكيف ، وموضوعها الكم المنفصل ، والمقولات متباينات بالذات ، وبعضها كالكبر والصّغر من مقولة الإضافة ، وموضوعها الكمّ المتّصل ، وهكذا غيرها من المفاهيم الثبوتية.

٢٤٤

...........

__________________

وأما الثاني : فمفهوم الإمكان ـ الذي هو مفهوم سلبي ـ ليس مطابقه إلاّ كسائر المفاهيم العدمية ، فإن مطابقها هو العدم بالحمل الشائع ـ أي ما يفرضه العقل محض البطلان وعين الهلاك في متن الواقع ـ لا أن مطابقه الموجودات الخارجيّة بما هي موجودة ، ولا ذوات الماهية المقولية ؛ لأن العدم لا يكون عين الوجود ، ولا النفي عين الثبوت ، والنعوت ـ التي هي محل الكلام ـ أوصاف الموجود بما هو موجود ، فليست أمرا اعتباريا عقليا ، ولا مفهوما عدميا ، ولا ذات ماهية مقولية ، كما عرفت الوجه في كل ذلك.

فان قلت : فما الفرق بين قاعدة عدم انتزاع مفهوم واحد من حقائق متباينة ، وصحّة انتزاع متعدّدة عن مطابق واحد؟ فان محذور الأول إن كان وحدة الكثير فمحذور الثاني كثرة الواحد.

قلت : المفهوم المنتزع عن مصداقه : إما مفهوم مقولي ماهوي ، أو لا. فإن كان مفهوما مقوليا ماهويا ، فكما لا يصح انتزاع مقولي عن مقولات متعددة ، كذلك لا يصح انتزاع مفاهيم مقولية ماهوية عن حقيقة واحدة ؛ إذ لا فرق بين الحقيقة والماهية إلا بلحاظ الوجود الخارجي مع الماهية وعدمه ، فلا يعقل أن تكون ماهية واحدة ماهيات متباينة خارجا ، ولا يعقل أن تكون ماهيات متعددة ماهية واحدة خارجا.

وإن كان المفهوم غير مقولي ولا ماهوي فهو على قسمين :

فتارة : يكون نسبة إلى مطابقة نسبة الذاتي إلى الذات ، كمفهوم الوجود الحاكي عن مقام ( ذات حقيقة الوجود من حيث كونها في قبال العدم بذاتها ، فإن حقيقة الوجود وإن كانت لا ماهية لها ـ كيف؟ وهي سنخ في قبال سنخ الماهية ـ إلا أنّ مفهوم الوجود باعتبار فنائه في نفس حقيقة الوجود كأنه ذات الوجود وماهيته ، ولذا لا يعقل أن يحكي عن حقائق متباينة.

واخرى لا يكون للمفهوم بالإضافة إلى مطابقة هذه النسبة ، بل يحكي عن شئون الوجود كمفهوم التشخّص ، والخيرية ، والنورية ، فإن هذه الحيثيات ليست حيثية ذات الوجود ـ بما هي ـ في قبال العدم ، بل حيثيات شئونه ونعوته ، فلذا يصح أن يكون مطابقها عين مطابق مفهوم الوجود ، وكثرة الواحد إنما تلاحظ بالإضافة إلى الواحد بالحقيقة ، لا بالنسبة إلى الواحد من حيث الوجود ، بمعنى أن حقيقة واحدة ـ بما هي حقيقة واحدة ـ لا يعقل أن تكون عين الكثير من حيث الحقيقة أو ما يشبهها ، لا أن وجودا واحدا لا يكون مطابق مفاهيم حاكية عن غير الذات ، بل عن شئونها المتحدة معه وجودا.

٢٤٥

العلم ـ حقيقة (١) ـ حضور شيء لشيء ، حتى في العلم الحصولي ، فإنّ حقيقته حضور الشيء بصورته المجردة عند النفس.

ومن الواضح البديهي أن ذاته ـ تعالى ـ حاضرة لذاته غير غائبة عن ذاته ، كما في علم غيره ـ تعالى ـ بذاته ، والفرق أن علمه ـ تعالى ـ بذاته مناط علمه بمصنوعاته لأنه مبدؤها ، ومبدأ الكل ينال الكل من ذاته ، لا بصور زائدة على ذاته ، كما في غيره ، ومن البديهي أن حضور ذاته لذاته ـ الذي هو ملاك حضور مصنوعاته ـ ليس بأمر زائد على ذاته ، فهو المعلوم بالذات ، وغيره معلوم بالعرض. وإلى هذه المرتبة اشير في قولهم ـ عليهم‌السلام ـ : « عالم إذ لا معلوم » (٢).

وهكذا الإرادة ، فإنّ معناها العامّ هو الابتهاج والرضا ، وصرف الوجود صرف الخير ، والخير هو الملائم والموجب للابتهاج ، فذاته ـ تعالى ـ بذاته صرف الوجود ، فهو صرف الخير ، فيكون صرف الرضا وصرف الابتهاج. وكذا في سائر

__________________

ومما ذكرنا يتضح الحال في الامكان الموصوف به جميع الماهيات مع تباينها ، فإن مفهوم الإمكان وإن كان معروضه تلك الماهيات ، إلا أن مفهومه لا يحكي عن مقام ذواتها ؛ بحيث يكون نسبته إليها نسبة الانسانية إلى أفراد الانسان ، ولا نسبة مفهوم الوجود بالإضافة إلى ذات الوجود وحقيقته ، بل يحكي عن حيثية عدمية يعرض لها ، وهي عدم كونها بحيث يكون مطابقها مفهوم الوجود أو العدم بذاتها ، فمطابق هذا العنوان السلبي نفس تلك الحيثية العدمية المفروضة واقعا كسائر الأعدام ، لا نفس تلك الماهيات ، فالنقض بالإمكان الموصوف بين الماهيات المتباينة ، واحد عن حقائق متباينة ـ كما عن بعض من عاصرنا من أهل فن المعقول ـ غير وارد كما عرفت ) (أ) [ منه قدّس سرّه ].

(١) كذا في الأصل ، والأجود : العلم حقيقته ...

(٢) نهج البلاغة ـ شرح الاستاذ صبحي صالح ـ دار الكتاب اللبناني ـ خطبة : ١٥٢ ص : ٢١٢.

__________________

(أ) ما بين القوسين سقط من هامش الأصل ، فأثبتناه من نسخة ( ط ).

٢٤٦

صفاته ، فإنها راجعة إلى حيثية وجوده الواجبي ـ جلّ ذكره ـ وتمام الكلام في محلّه.

فما أشد سخافة ووهنا قول من ينفي الصفات بحقائقها ، ويثبت له ـ تعالى ـ آثارها ، ولم يتفطن بأن لازمه خلوه ـ تعالى ـ في مرتبة ذاته عن الصفات الكمالية والنعوت الجلالية والجمالية ، مع أنه ـ بنفس ذاته المقدّسة ـ مبدأ كلّ وجود ، وكلّ كمال وجود ، ومنبع كلّ فيض وجود.

وأما ما عن أمير المؤمنين وسيد الموحدين ـ عليه وعلى أولاده المعصومين أفضل صلاة المصلين ـ حيث قال ـ عليه السلام ـ : « وكمال الاخلاص [ له ](١) نفي الصفات عنه » (٢) :

فقد يوجّه : بأن المراد نفي مفاهيمها ، وهذا لا اختصاص له بالواجب ـ جلّ ذكره ـ إذ كل وجود حيثية ذاته حيثية الإباء عن العدم ، والماهية ـ من حيث هي ـ لا تأبى عن الوجود والعدم ، فلا يتطرق ما سنخه هكذا إلى ما سنخه كذلك ، وإلا لزم الخلف والانقلاب.

وقد يوجه : بأن المراد نفي حقائقها على وجه المباينة مع الذات ، كما في غيره تعالى ، إلا أنه يبعده أنّ نفي تعدّد الواجب ، وإثبات وحدته أوّل مراتب التوحيد والإخلاص ، فلا يناسب جعله من كمال الإخلاص.

ولذا ربّما يقوى في النظر أن المراد هو الإلغاء في مقام المشاهدة ـ لا نفيها حقيقة عن الذات ـ فإنّ أقصى مراتب شهود السالك المشاهد شهود الذات على وجه التجرّد ، والتنزّه عن شهود تعيّنات الصفات ، وإن كانت الصفات مشهودة في مقام شهود الذات ، ودون هذه المرتبة شهود الذات في مقام مشاهدة الصفات.

إلا أن بعد تلك الفقرة الشريفة ما يعين الوجه الثاني ؛ حيث قال ـ عليه

__________________

(١) لم ترد في الأصل ، وأثبتناها لورودها في المصدر.

(٢) المصدر السابق : الخطبة الاولى : ٣٩.

٢٤٧

السلام ـ : « لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف » ، فالمراد بكمال الإخلاص هو الكمال الأوّل الذي ينتفي ذو الكمال بانتفائه ، كما يقال : النفس كمال أول ، ويشهد له قوله ـ عليه السلام ـ في أوّل الخطبة : « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به » (١).

__________________

(١) نفس المصدر السابق : ١ / ١٤.

٢٤٨

المقصد الأوّل : في الأوامر

في معاني لفظ الأمر :

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه وسيّد رسله محمد وعترته الطاهرين.

١٣٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( إنّ عدّ بعضها من معانيه من اشتباه المصداق بالمفهوم ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك : أنّ عدّ بعضها من معانيه إنما يدخل تحت عنوان اشتباه المصداق بالمفهوم ، إذا كان اللفظ (٢) موضوعا للمصداق من حيث أنه مصداق للمعنى الذي عدّ من معانيه ، مثلا : اللفظ : تارة يوضع للغرض بالحمل الأولي ، واخرى للغرض بالحمل الشائع.

وأما إذا كان معنى من المعاني مصداقا لمعنى آخر ، ولم يلاحظ مصداقيته له في وضع لفظ له أصلا ، فليس من الخلط بين المفهوم والمصداق ، كما هو كذلك في هذه المعاني المنقولة في المتن ؛ حيث لم تلاحظ مصداقية الموضوع له لها قطعا.

مضافا إلى أنّ الفعل الذي يتعلق به الغرض ـ لما فيه من الفائدة الملاءمة للطبع ـ ليس مصداقا للغرض ، بل مصداقه تلك الفائدة ، فليس مدخول اللام دائما مصداقا للغرض.

ولعله ـ دام ظله ـ أشار إليه بقوله : ( فافهم ).

__________________

(١) الكفاية : ٦١ / ١١.

(٢) قولنا : ( إذا كان اللفظ ... إلخ ).

هذا إذا كانت المعاني حقيقية للأمر ، فإنه لا بدّ من ملاحظة مصداقية المعنى للغرض وأما إذا كانت أعم والغرض من شأنه تعداد موارد استعمال الأمر ، فالمستعمل فيه مصداق للغرض ، وإن لم يكن ـ بما هو مصداق له ـ مستعملا فيه. ( منه عفي عنه ).

٢٤٩

بل ذكر بعضها في عداد معانيه غفلة واضحة ، كما في جعل الأمر في قوله تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) تارة بمعنى الفعل ، واخرى بمعنى الشأن ؛ حيث إنّ الآية هكذا : (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ * وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) ، ولا شك أن الأمر هنا بمعناه المعروف.

وكما في جعل الأمر في قوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا)(٢) بمعنى الفعل العجيب ، فإنه لا موهم لمصداقيّته للفعل العجيب ـ بما هو عجيب ـ فضلا عن الوضع لمفهومه أو لمصداقه ، بل الأمر هنا بمعناه المعروف ، حيث إن العذاب لمكان تعلق الارادة التكوينية به ، وكونه قضاء حتميا يطلق عليه الأمر ، كما أنه في جميع موارد انزال العذاب عبر عنه به ، لهذه النكتة ، ولو مثل لمصداق العجيب بقوله تعال : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (٣) لكان أولى ، مع أنّ الأمر هنا أيضا بمعناه المعروف لمكان تعلّق الأمر التكويني به ، فهو مصدر بمعنى المفعول.

١٣٩ ـ قوله [ قدّس سره ] : ( ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء ... الخ ) (٤).

كونه حقيقة في هذين الأمرين ، وإن كان مختار جملة من المحقّقين ، على ما حكي ، إلا أنّ استعمال الأمر في الشيء مطلقا لا يخلو عن شيء ؛ إذ الشيء يطلق على الأعيان والأفعال ، مع أن الأمر لا يحسن إطلاقه على العين الخارجية ، فلا يقال : رأيت أمرا عجيبا إذا رأى فرسا عجيبا ، ولكن يحسن ذلك إذا رأى فعلا عجيبا من الأفعال ، ولم أقف على مورد يتعين فيه إرادة الشيء ، حتى مثل قوله

__________________

(١) هود ١١ : ٩٦ ، ٩٧.

(٢) هود ١١ : ٥٨.

(٣) هود ١١ : ٧٢ ، ٧٣.

(٤) الكفاية : ٦٢ / ٤.

٢٥٠

تعالى : ( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ )(١) لإمكان إرادة المصنوعات ، فإن الموجودات كلها ـ باعتبار ـ صنعه وفعله تعالى ، وكذلك قوله تعالى : ( بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ )(٢) ، فإنه لا يتعين فيه إرادة كلّ شيء ، بل كلّ ما تعلقت به إرادته التكوينية والتشريعية.

وبالجملة : النازل على ولّى الأمر ـ في ليلة القدر ـ دفتر قضاء الله التكويني والتشريعي ، وأوضح من ذلك قوله تعالى : ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي )(٣) وقوله تعالى : ( لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )(٤) ، فإنّ المراد من الأمر معناه المعروف ؛ لأنّ عالم الأمر هو العالم الموجود بلا مادّة ولا مدّة ، بل بمجرّد توجّه الإرادة التكوينية المعبّر عنها بكلمة كن ، مع أنه لا يستقيم إرادة الشيء في مثل : أمر فلان مستقيم.

نعم لو كان الشيء منحصرا مفهوما في المعنى المصدري لـ ( شاء يشاء ) ـ وكان إطلاقه على الأعيان الخارجية باعتبار أنها مشيئات وجوداتها ، فالمصدر مبني للمفعول ـ لما كان إشكال في مساوقته مفهوما لمفهوم الأمر ، كما ربما يراه أهل المعقول ، لكن الشيء ـ بهذا المعنى ـ لم يكن في قبال الطلب حينئذ.

وأما جعل الأمر بمعنى الفعل ؛ حتى يستقيم في جميع موارد إطلاقه الذي لا يتعين فيه إرادة الطلب ، حتى في مثل : أمر فلان مستقيم :

فتوضيح الحال فيه : أن الموضوع له : إما مفهوم الفعل ـ أي ما هو بالحمل الأولي فعل ـ أو مصداقه وما هو بالحمل الشائع فعل. لا شبهة في عدم الوضع

__________________

(١) الشورى ٤٢ : ٥٣.

(٢) القدر ٩٧ : ٤.

(٣) الإسراء ١٧ : ٨٥.

(٤) الأعراف ٧ : ٥٤.

٢٥١

بإزاء مفهومه ، وإلا لزم مرادفته واشتقاقه بهذا المعنى ؛ حتى يكون معنى ( أمر يأمر ) و ( فعل يفعل ) سواء.

والوضع بإزاء مصاديقه ـ من الأكل والشرب والقيام والقعود وغيرها ـ بلا جهة جامعة تكون هي الموضوع لها حقيقة سخيف جدّا ، والجهة الجامعة بين مصاديق الفعل ـ بما هو فعل ـ ليس إلا حيثية الفعلية ، فإن المعاني القابلة لورود النسب عليها : تارة من قبيل الصفات القائمة بشيء ، واخرى من قبيل الأفعال ، ولا فرق بينها من حيث القيام ، وكونها أعراضا لما قامت به ، وإنما الفرق : أنّ ما كان من قبيل الأفعال قابل لتعلّق الإرادة به ، دون ما كان من قبيل الصفات ، كالسواد والبياض في الأجسام ، وكالملكات والأحوال في النفوس ، فيرجع الأمر في الأمر بالأخرة إلى معنى واحد ، وأن إطلاقها على خصوص الأفعال ـ في قبال الصفات والأعيان ـ باعتبار مورديتها لتعلّق الإرادة بها ، بخلاف الأعيان والصفات ، فانها لا تكون معرضا لذلك ، فالأمر يطلق ـ بمعناه المصدري المبني للمفعول ـ على الأفعال ، كالطلاق المطلب والمطالب على الأفعال الواقعة في معرض الطلب ، كما يقال : رأيت اليوم مطلبا عجيبا ، ويراد منه فعل عجيب ، كذلك في ( رأيت اليوم أمرا عجيبا ) ، والغرض أن نفس موردية الفعل ـ ومعرضيّته لتعلّق الطلب والإرادة به ـ تصحّح إطلاق المطلب والمقصد والأمر [ عليه ] وإن لم يكن هناك قصد ولا طلب متعلّق به.

وأما إشكال اختلاف الجمع ، حيث إنّ الأمر ـ بمعنى الطلب المخصوص ـ يجمع على الأوامر ، وبمعنى آخر على الامور.

فيمكن دفعه : بأن الأمر ـ حيث يطلق على الأفعال ـ لا يلاحظ فيه تعلّق الطلب تكوينا أو تشريعا فعلا ، بل من حيث قبول المحلّ له ، فكأنّ المستعمل فيه متمحّض في معناه الأصلي الطبيعي الجامد ، والأصل فيه حينئذ أن يجمع الأمر على امور ، كما هو الغالب فيما هو على هذه الزنة. وحيث إنه ليس في البحث

٢٥٢

والفحص عن تحقيق حال الأمر من هذه الجهة كثير فائدة ، فالأولى الاقتصار على هذا المقدار.

١٤٠ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وأما بحسب الاصطلاح فقد ... الخ ) (١).

الظاهر ـ كما هو صريح جماعة من المصنفين ـ أن هذا المعنى من المعاني اللغوية والعرفية ـ دون الاصطلاحية ـ بمعنى أنّ من أثبته جعله منها ، ولو كان الكلام في مجرد ثبوت الاصطلاح لكفى فيه نقل بعض مهرة الفن في ثبوته ، ولم تكن حاجة إلى نقل الإجماع على أنه حقيقة فيه. نعم ، الظاهر أن ما هو أحد المعاني اللغوية : إما الطلب المخصوص ، أو الطلب القولي ، لا أنّ كليهما من معانيه ، وإن كان ذلك ظاهر بعضهم بل صريحه.

١٤١ ـ قوله [ قدس سره ] : ( ولا يخفى أنه ـ عليه ـ لا يمكن الاشتقاق منه ، فإنّ معناه حينئذ لا يكون معنى حدثيا ... الخ ) (٢).

فيكون ـ كما في الفصول وغيره ـ نظير الفعل والاسم والحرف في الدلالة على ألفاظ خاصة لها معان مخصوصة.

والتحقيق : أن الاشتقاق المعنوي ـ كما أشرنا إليه في أوائل مبحث المشتق ـ عبارة عن قبول المبدأ للنسبة ، وذلك لا يكون عقلا إلا في ماله نحو من أنحاء القيام بشيء قيام العرض بموضوعه ، أو غير ذلك.

والفرق بين المعنى الجامد والمعنى الاشتقاقي أن المعنى إذا كان قابلا للحاظ نسبته إلى شيء بذاته كان معنى اشتقاقيا ، وإلا كان جامدا. فحينئذ نقول :

إن وجه الإشكال : إن كان توهّم أن الموضوع له لفظ لا معنى ، فضلا من

__________________

(١) الكفاية : ٦٢ / ٦.

(٢) الكفاية : ٦٢ / ٧.

٢٥٣

أن يكون حدثيا ، ففيه : أن طبيعة الكيف المسموع بأنواعه وأصنافه ـ كسائر الطبائع ـ قابلة للحكاية عنها بلفظ ، كما في اللفظ والقول والكلام ، فإنّ مفاهيمها ومداليلها ليست إلا الألفاظ ، وكون اللفظ وجودا لفظيا لطبيعة الكيف المسموع بأنواعه وأصنافه في غاية المعقولية ، فان طبيعي الكيف المسموع ـ كغيره ـ له نحوان من الوجود العيني والذهني ، فلا يتوهم عدم تعقّل سببية لفظ في وجود لفظ آخر في الخارج.

وإن كان وجه الإشكال ما هو المعروف من عدم كونه معنى حدثيا ، ففيه :

أن لفظ ( اضرب ) صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع ، وهو من الأعراض القائمة بالمتلفّظ به : فقد يلاحظ نفسه ـ من دون لحاظ قيامه وصدوره عن الغير ـ فهو المبدأ الحقيقي الساري في جميع مراتب الاشتقاق ، وقد يلاحظ قيامه فقط فهو المعنى المصدري المشتمل على نسبة ناقصة. وقد يلاحظ قيامه وصدوره في الزمان الماضي ، فهو المعنى الماضوي ، وقد يلاحظ صدوره في الحال أو الاستقبال ، فهو المعنى المضارعي ، وهكذا. فليس هيئة ( اضرب ) مثلا كالأعيان الخارجية والامور الغير القائمة بشيء حتى لا يمكن لحاظ قيامه فقط ، أو في أحد الأزمنة.

وعليه فالأمر موضوع لنفس الصيغة الدالّة على الطلب مثلا ، أو للصيغة القائمة بالشخص ، و ( أمر ) موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في المضي ، و ( يأمر ) للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في الحال أو الاستقبال.

١٤٢ ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم القول المخصوص ـ أي صيغة الأمر ـ إذا أراد ... الخ ) (١).

ينبغي التكلم في أن الأمر هل هو مطلق الطلب أو الطلب المنشأ مطلقا ،

__________________

(١) الكفاية : ٦٢ / ١١.

٢٥٤

أو بخصوص القول؟ والظاهر من الإطلاقات العرفية أنه لا يقال لمن أراد قلبا : إنه أمر ، بل يقال : أراد ، ولم يأمر بالمراد ، بل سيجيء (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ ما لا يبقى معه مجال لصدق الأمر بلا دالّ.

كما أن الظاهر صدق الأمر على الطلب المدلول عليه بدالّ ، وإن لم يكن بخصوص القول ؛ لصدقه عرفا على البعث بالإشارة والكتابة عرفا.

ولا يتوهم : أن صدقه على البعث بهما من جهة الكشف عن الطلب القولي ، وذلك لأنّ الإشارة إنما هي إلى المعاني خصوصا ممن لا يعرف أن في دار الوجود ألفاظا ، والكتابة وإن كانت نقش الألفاظ إلا أن الطلب القولي هو الطلب المدلول عليه باللفظ لا بنقش اللفظ ، فتوسط نقش اللفظ للدلالة على الطلب لا يجعل الطلب قوليا.

والإجماعات المحكية على وضع الأمر للطلب القولي ـ مع مصادمتها بتعريف كثير من القدماء للأمر بصرف الطلب ـ لا حجية فيها بعد مساعدة العرف على خلافه ، مع أنه يمكن إرادتهم لأشيع أفراد ما ينشأ به البعث مثلا.

وأما قوله تعالى : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )(٢) فلا دلالة له على انحصار الدالّ في القول ، وإن كان قوله تعالى : ( أَنْ يَقُولَ ... ) إلى آخره بيانا لأمره تعالى.

وجه عدم الدلالة : أنّ المراد بالكلمة الوجودية بقوله : ( كُنْ ) ليس هذه الصيغة الإنشائية قطعا ، بل هذه هي المعبّر عنها في كلمات أهل المعرفة بالكلمة الوجودية ، وفي خطبة أمير المؤمنين وسيد الموحدين ـ عليه السلام ـ : « إنما يقول لما أراد كونه :

__________________

(١) وذلك في التعليقة : ١٤٦ عند قوله : ( وتحقيق الحال فيه ... ).

(٢) سورة يس ٣٦ : ٨٢.

٢٥٥

كن ، فيكون ، لا بصوت يقرع ، ولا بنداء يسمع ، وإنما كلامه فعله » (١) إلى آخره.

وسر التعبير عن أنحاء الوجودات بالكلمات : هو أن الكلام ما يعرب عن ما في الضمير ، وهذه الموجودات معربة عما في الغيب المكنون ، فظهر أن فعله ـ تعالى ـ أمره باعتبار دلالته على تعلّق إرادته به.

وكذا في جميع موارد إنزال العذاب ؛ حيث عبّر عنه بقوله تعالى : ( جاءَ أَمْرُنا ) (٢) في غير مورد ، فانه بلحاظ دلالته على تحتّمه وتعلّق الإرادة التكوينية به. فافهم.

١٤٣ ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما لا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأول ... الخ ) (٣).

مع أنه (قدس سره) لم يستعبد أوّلا كونه حقيقة في الطلب والشيء.

والتحقيق ـ بعد الاعتراف بالاستعمال في ما عدا الطلب ـ : أنه لا بدّ من الالتزام بالاشتراك اللفظي ، دون المعنوي أو الحقيقة والمجاز ؛ لأنّ القابل للوضع والاستعمال بلا اشتباه ـ مما عدا الطلب ـ هو الفعل والشيء ، دون بقية المعاني المبنية على ضرب من الاشتباه والاختلاط.

ومن الواضح أن اللفظ لو كان حقيقة في أحد المعنيين ـ من الطلب وغيره ـ وكان في الآخر مجازا ـ لما اختلف جمع الأمر بأحد المعنيين ـ مع جمعه بمعنى آخر ، كما هو المشاهد في سائر الحقائق والمجازات ، مع أن جمع الأمر ـ بمعنى الطلب ـ على الأوامر ، وجمعه بمعنى آخر على الامور ، وهكذا الأمر لو كان الأمر

__________________

(١) نهج البلاغة ـ شرح صبحي صالح ، ـ دار الكتاب اللبناني ـ : ٢٧٤ / خطبه : ١٨٦.

من خطبة لإمامنا علي ـ عليه السلام ـ في التوحيد ، ولكن في النهج هكذا : ( يقول لمن أراد ... وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ).

(٢) هود ١١ : ٤٠ ، ٥٨ ، ٦٦ ، ٨٢ ، ٩٤ ، المؤمنون ٢٣ : ٢٧.

(٣) الكفاية : ٦٣ / ١.

٢٥٦

موضوعا لجامع يجمع الطلب وغيره ، فان عدم اختلاف الجمع باختلاف المصاديق أوضح ؛ حيث إن المستعمل فيه مفهوم واحد أبدا ، فاختلاف الجمع ينفي الاشتراك المعنوي والحقيقة والمجاز.

مضافا إلى عدم العلاقة الصحيحة بين الطلب والفعل والشيء ، مع اختصاص الاشتراك المعنوي بين الطلب والشيء بإشكال آخر :

وهو أن الأمر مما لا إشكال ـ اجمالا ـ في اشتقاقه ، والجامع بين ما يقبل الاشتقاق وما لا يقبله غير معقول ؛ إذ الشيء ـ بما هو ـ غير قابل للقيام بشيء ؛ حتى يكون قابلا لطروّ النسب عليه بذاته أو في ضمن معنى جامع.

ولا يجري هذا الاشكال في الفعل ، فإنه قابل للقيام مفهوما ومصداقا كما سمعت نظيره سابقا.

كما لا يجري هذا الإشكال بناء على الحقيقة والمجاز ؛ لأن لفظ الأمر قابل للاشتقاق اللفظي قطعا ، ومعناه المستعمل فيه ـ أعني الطلب ـ قابل للاشتقاق المعنوي وطروّ أنحاء النسب عليه جزما ، وإن كان مجازيا.

نعم التحقيق : أن الجامع بين جميع المعاني : إن كان مفهوم الشيء ؛ إذ لا جامع بينها أعم منه ، فهو ـ مع أنه خلف ؛ لأن المفروض الوضع لما يعمّه لا لنفسه ـ لم يصح التصريف والاشتقاق ؛ لعدم قبول الشيء للقيام بشيء ، مع أن الأمر بمعناه الحقيقي قابل للاشتقاق ، لكنه لا دخل له بعدم معقولية الجامع بين المعنى الحدثي والجامد ، بل نفس المعنى الجامع لا يقبل الاشتقاق بنفسه.

وإن كان الجامع مفهوما آخر فعدم معقوليته بديهي ؛ إذ لا جامع أعم من مفهوم الشيء.

لكن عدم قابلية بعض المصاديق للاشتقاق لا يدل على عدم قبول الجامع ، كما أن عدم قبول الجامع لا يدل على عدم قبول بعض المصاديق ، كما في الوجود والشيء مثلا ، فإنّ الوجود جامع لجملة الماهيات الموجودة ، وهو قابل

٢٥٧

للاشتقاق ، ومصاديقه متفاوتة ، والشيء جامع لكل شيء ، وهو غير قابل للاشتقاق حيث لا قيام له بشيء ، بخلاف مصاديقه فإنها مختلفة. لكن الذي يسهل الخطب هو عدم القول بمعنى آخر غير هذه المعاني المذكورة في الأمر ، ولا أعم فيها من الشيء ، ولو بني على الوضع لجامع يجمع الطلب وغيره ، لكان هو المتعين ، وحينئذ يرد عليه ما عرفت. فافهم واستقم.

١٤٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الظاهر اعتبار العلوّ في معنى الأمر فلا يكون الطلب من السافل ... الخ ) (١).

توضيحه : أن الصيغة وما شابهها إذا سيقت لأجل البعث والتحريك ينتزع منها عناوين مختلفة كل منها باعتبار خاص ولحاظ مخصوص. فالبعث بلحاظ أنه يوجهه بقوله نحو المقصود ، والتحريك بلحاظ التسبيب بالصيغة ـ مثلا ـ إلى الحركة نحو المراد ، والإيجاب بلحاظ إثبات المقصود عليه ، والإلزام بلحاظ جعله لازما وقرينا بحيث لا ينفك عنه ، والتكليف بلحاظ إحداث الكلفة وإيقاعه فيها ، والحكم بلحاظ إتقان المطلوب ، والطلب بلحاظ إرادته القلبية أو الكشف عنها حقيقة أو إنشاء ، وعنوان الأمر بلحاظ كون البعث من العالي ، كما يشهد له مرادفه بالفارسية ، فإن معناه في الفارسية ما يعبر عنه بـ ( فرمودن ) ، ولذا لم يتكلم أحد من أهل العلم في اقتضاء سائر العناوين للصدور عن العالي.

فالتحقيق ـ كما يساعده العرف والاستعمالات الصحيحة الفصيحة ـ : أن صدور البعث عن العالي مقوم لعنوان الأمرية.

وليعلم أن هذا البحث لغوي لا اصولي ؛ إذ الكلام في البعث الصادر عن الشارع ، واما استحقاق العقاب على المخالفة فهو أثر الوجوب ، والتكلّم فيه صحيح في الاصول.

__________________

(١) الكفاية : ٦٣ / ٢.

٢٥٨

لا يقال : ليس مطلق الايجاب موجبا لاستحقاق العقاب ، بل إذا كان من العالي ، فهذا البحث مقدمة للبحث الآتي.

لأنا نقول : الأمر وإن كان كذلك ، إلا أن علوّ الباعث والطالب مفروغ عنه ، فاعتباره في مفهوم الأمر وعدمه لا يكاد يفيد فائدة اصولية ، ولعله لأجل هذا بنى المحقّق القمي (رحمه الله) (١) على أن الاستعلاء المعتبر في الأمر هو الايجاب زاعما أن الاستعلاء تغليظ القول في مقام البعث ؛ حيث لم يجد فائدة اصولية للبحث عن اعتبار العلوّ والاستعلاء.

__________________

(١) القوانين : ٨١ ـ ٨٢.

وهو للشيخ الميرزا أبو القاسم بن المولى محمد حسن الجيلاني الشفتي القمي من أركان الدين وكبار المؤسّسين ومن مشاهير محققي الإمامية.

ولد في ( جابلاق ) من أعمال ( رشت ) في ( ١١٥١ ه‍ ) ، واشتغل على أبيه في العلوم ، ثم انتقل إلى ( خوانسار ) ، فدرس بها الفقه والاصول على العلامة السيد حسين الخوانساري جد مؤلف ( الروضات ) ، وصاهره على شقيقته ، ثم هاجر إلى العراق فدرس على الشيخ الوحيد البهبهاني مدة طويلة فأجازه الرواية ، ثم عاد إلى ( جابلاق ) ، ثم إلى أصفهان فدرس في مدرسة ( كاسه كران ) ، ثم سافر إلى شيراز ، ثم إلى ( بابو ) ، ثم انتقل الى قم ، فعكف بها على التدريس والتصنيف ، فكان من كبار المحققين وأفاضل المؤسّسين ، ولقب بالمحقق القمي.

وتخرج عليه من العلماء الكلباسي مؤلف ( الاشارات ) ، والدزفولي مؤلف ( المقابيس ) ، والاصفهاني مؤلف ( مطالع الأنوار ) ، والمحدّث الكبير سيد عبد الله شبر ، والسيد محسن الأعرجي مؤلف ( المحصول ) ، والسيد جواد العاملي مؤلف ( مفتاح الكرامة ) وغيرهم من الأبدال ـ رحمهم الله ورضي عنهم ـ.

له آثار كثيرة ومهمة منها : كتاب ( القوانين ) في الاصول الذي كان عليه مدار التدريس قبل ( الكفاية ) ، وله في الفقه ( جامع الشتات ) و ( الغنائم ) و ( المناهج ) وغيرها ، وله شعر بالعربية والفارسية.

توفّي (رحمه الله) في سنة ( ١٢٣١ ه‍ ) ، ودفن في مقبرة قم. المشهورة بـ ( شيخان ).

( أعلام الشيعة في القرن الثالث بعد العشرة ١ : ٥٢ ) بتصرف.

٢٥٩

١٤٥ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( وتقبيح الطالب السافل من العالي ... الخ ) (١).

الأولى في تقريبه أن يقال : يصدق الأمر على طلبه في مقام توبيخه بقولهم : ( أتأمر الأمير؟ ) ـ مثلا ـ وإلاّ فنفس التوبيخ والتقبيح ـ في مرحلة تقوّم الأمر بالصدور عن العالي أو المستعلي ـ مستدرك جدا ، فيرجع حاصل التقريب إلى صدق الأمر ، وإطلاقه على طلب المستعلي من العالي.

والجواب حينئذ : أن الإطلاق بعناية جعل نفسه عاليا ادعاء فطلبه حينئذ أمر ادعائي ، لا أن إطلاق الأمر لمكان استعلائه ؛ إذ الاستعلاء هو إظهار العلوّ ، وهو حقيقي لا ادعائي ، ومقوم عنوان الأمر هو العلوّ لا الاستعلاء ، وأما بيان وجه التوبيخ فمستدرك كأصله. فتدبّر.

__________________

(١) الكفاية : ٦٣ / ٦.

٢٦٠