نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

ووجّهه (١) بعض المحققين (٢) لمرامه ، والشارحين لكلامه : بأخذ الجنس لا بشرط ، فأعراض أنواعه أعراضه حقيقة ، وبشرط لا فأعراض أنواعه غريبة عنه.

وهو منه غريب ؛ إذ كون التعجب والضحك ، عرضا غريبا للحيوان مبني على اللابشرطية ، وإلا فيكون الحيوان مباينا لمعروضهما ، ولا يكونان عارضين له أصلا ؛ إذ المباينة تعاند العروض.

بل الوجه فيه ما أفاده المجيب في مواضع عديدة من كتبه (٣) ، وهو : أنّ ميزان العرض الذاتي أن لا يتوقف لحوقه لموضوع العلم على صيرورة الموضوع نوعا متهيّئ الاستعداد لقبوله ، لا أن لا يتوقف لحوقه له على سبق اتصافه بوصف

__________________

(١) قولنا : ( ووجّهه ... الخ ).

قال (قدس سره) : في حاشية الشواهد الربوبيّة : ( كون ذاتي النوع الجنس أو غريب الجنس باعتبار أخذ الجنس بالنسبة إلى النوع لا بشرط وبشرط لا ). ( منه عفي عنه ).

(٢) هو الحكيم السبزواري (رحمه الله) في حاشية الشواهد الربوبية : ٤١٠.

وهو الشيخ هادي بن المهدي السبزواري.

ولد سنة ١٢١٢ ه‍ وتوفّي ٢٨ جمادى الأولى سنة ١٢٨٩ ه‍ ودفن خارج سبزوار جنب الطريق الذاهب إلى مشهد الرضا عليه‌السلام وبني على قبره قبّة.

وهو الحكيم الفيلسوف العارف الورع الفقيه الزاهد الشاعر بالعربية والفارسية.

حضر درس الكلباسي والشيخ محمد تقي صاحب الحاشية وحضر على الآخوند ملا اسماعيل وعلى المولى النوري وأحمد الأحسائي.

له مؤلفات كثيرة منها منظومته المشهورة في الحكمة والمنطق ، وقد شرحها وكشف عن غوامضها وحلّ ألغازها هو نفسه (رحمه الله) ، وقد قام كثير من العلماء بمجاراتها منهم المحقق الشيخ محمد حسين الأصفهاني النجفي (رحمه الله) ـ صاحب كتابنا هذا ـ.

( أعيان الشيعة ١٠ : ٢٣٤ ) بتصرف.

(٣) الأسفار ١ : ٣٣.

٢١

مطلقا ، ولو كان سبقا ذاتيا رتبيا.

توضيحه : أن الموضوع في علم المعقول ـ مثلا ـ هو الموجود أو الوجود ، وهو ينقسم أولا : إلى الواجب ، والممكن.

ثم الممكن : إلى الجوهر ، والمقولات العرضية.

ثم الجوهر : إلى عقل ، ونفس ، وجسم.

ثم العرض كل مقولة منه إلى أنواع.

والكل من مطالب ذلك العلم ومن لواحقه الذاتية ، مع أن ما عدا التقسيم الأول يتوقف على تخصص الموضوع بخصوصية أو خصوصيات ، إلاّ أنّ جميع تلك الخصوصيات مجعولة بجعل واحد ، وموجودة بوجود فارد ، فليس هناك سبق في الوجود لواحد بالإضافة إلى الآخر ؛ كي يتوقف لحوق الآخر على سبق استعداد وتهيّؤ للموضوع بلحوق ذلك الواحد المفروض تقدمه رتبة ، فإنّ الموجود لا يكون ممكنا أوّلا ، ثم يوجد له وصف الجوهرية أو العرضية ، بل إمكانه بعين جوهريته وعرضيته ، كما أن جوهريته بعين العقلية أو النفسية أو الجسمية ، ففي الحقيقة لا واسطة في العروض ، والحمل الذي هو الاتحاد في الوجود ـ بل الامكان ـ يتحد مع الوجود بعين اتحاد الجوهر العقلي أو النفسي أو الجسماني في الوجود ، فليس هناك عروضان حتى يكون أحدهما بالذات ، والآخر بالعرض ، بخلاف لحوق الكتابة والضحك للحيوان ، فانه يتوقف على صيرورة الحيوان متخصّصا بالنفس الإنسانية تخصّصا وجوديا حتى يعرضه الضحك والكتابة ، وليس الضحك والكتابة بالإضافة إلى الإنسان كالعقلية والنفسية بالإضافة إلى الجوهر ؛ بداهة أنّ إنسانية الإنسان ليست بضاحكيته وكاتبيّته.

نعم تجرّد النفس وما يماثله ـ مما يكون تحققه بتحقق النفس الانسانية ـ من الأعراض الذاتية للحيوان كالنفس.

٢٢

فإن قلت : ليس مناط العروض هو العروض بحسب الوجود حتى يقال بأنه : لا تعدد للعوارض في الوجود ليلزم توسط بعضها لبعض ، بل مفاد الكون الرابط ، المتعدد بتعدّد العوارض التحليلية ، وحيث إنها مترتبة ـ والمفروض عدم ترتبها بما هي ؛ حيث إنه لا ترتب في الطبائع بما هي ، وعدم الترتب العلّي والمعلولي ـ فلا محالة يكون الترتب بلحاظ العروض على الموضوع ، فلا يمكن فرض جوهرية الموجود ، إلاّ بعد فرض كونه ممكنا ، وإلا فلا ينقسم الموجود ـ بما هو ـ إلى الجوهر والعرض ، وإنما هو تقسيم للموجود الإمكاني.

قلت : نعم ، المراد من العروض مفاد الكون الرابط ، إلا أنه كما أن العوارض التحليلية ـ بحسب الوجود الخارجي ـ كونها النفسي واحد ، وكونها الرابط لموضوعها ومعروضها واحد ، كذلك بحسب الفرض ، فان فرض إمكان الموجود فرض جوهريته وجسميته مثلا ، كما أن فرض البياض لموضوع فرض ثبوت اللون والمفرقية للبصر بفرض واحد ، وإن كان بين الجزءين ـ بل بين كل جزء والكلّ ـ سبق ولحوق بالتجوهر في مرحلة الماهية ، وسبق ولحوق بالطبع في مرتبة الوجود ، ومنه علم أن فرض الجوهر يستلزم فرض الامكان بفرضه ، لا بفرض قبله ، فتأمّل جيّدا.

ومما ذكرنا تعرف : أن الأعمّ والأخصّ ـ سواء كانا داخليين أو خارجيين ـ على نهج واحد ، فلا بد من ملاحظة العارض وعارضه من حيث اتحادهما في الوجود ، لا العارض ومعروضه الأوّلي ، كما مال إليه بعض الأعلام ممن قارب عصرنا (ره) (١) ، فجعل ملاك الذاتية كون العارض والمعروض الأوّلي متحدين في

__________________

(١) المحقق الرشتي في بدائع الاصول : ٣١.

وهو الشيخ الميرزا حبيب الله بن الميرزا محمد علي خان القوجاني الرشتي ، أصل عائلته من ـ

٢٣

الوجود حتى يكون العارض الثاني عارضا لكليهما ، ولذا التجأ إلى الالتزام بكون الضاحك مثلا عرضا ذاتيّا للحيوان ؛ لأن معروضه ـ وهو الانسان ـ متحد الوجود مع الحيوان ، ولم يبال بتسالم القوم على كونه عرضا غريبا للحيوان قائلا : إن الاشتباه من غير المعصوم غير عزيز ، وهو كما ترى.

وهذا الجواب وإن كان أجود ما في الباب ، إلا أنه وجيه بالنسبة إلى علم المعقول ، وتطبيقه على سائر الموضوعات للعلوم لا يخلو عن تكلّف ، فان موضوع علم الفقه هو فعل المكلف ، وموضوعات مسائله الصلاة والصوم والحج إلى غير ذلك ، وهذه العناوين نسبتها إلى موضوع العلم كنسبة الأنواع إلى الجنس ، وهي وإن كانت لواحق ذاتية له ، إلا أنه لا يبحث عن ثبوتها له ، والحكم

__________________

ـ قوجان ، ثمّ نزلت رشت ، وولد فيها عام ( ١٢٣٤ ه‍ ) ، ثم نزل قزوين للدراسة ، ثم النجف الأشرف.

حضر درس صاحب الجواهر يوما ، فعرضت له شبهة ، فعرضها ولم يسمع جوابا فقال له أحد الطلبة : كشف شبهاتك عند الشيخ المرتضى الأنصاري ، فقصده وعرضها عليه فأجابه الشيخ ، وأبان له الفرق بين الحكومة والورود ، فبهت واستغرب الاصطلاح ، فقال له الشيخ المرتضى :

إن إشكالك لا يرتفع إلا بالحضور عندي مدة أقلها شهرين ، فأخذ يغترف من بحار علومه.

ومما يؤثر عنه قوله : ( ما فاتني بحث من أبحاث الشيخ منذ حضرت بحثه إلى يوم تشييعه مع أني كنت مستغنيا عن الحضور قبل وفاته بسبع سنين ).

ولما توفي الشيخ الانصاري (رحمه الله) انتهى أمر التدريس الى الشيخ الرشتي (رحمه الله) ، لكنه لم يرض أن يقلده أحد لشدّة تورّعه في الفتوى ، فكانت المرجعية لمعاصره وشريكه في الدرس عند الشيخ الأنصاري ، وهو الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي (قدس سره) نزيل سامراء.

والشيخ الرشتي (رحمه الله) له تصانيف كثيرة منها ( بدائع الاصول ) و ( كشف الظلام في علم الكلام ) و ( شرح الشرائع ) وغيرها ، توفي ليلة الخميس ( ١٤ / ج ٢ / ١٣١٢ ) ، ودفن في النجف الأشرف.

( طبقات أعلام الشيعة ـ نقباء البشر ١ : ٣٥٧ رقم ٧١٩ ) بتصرف.

٢٤

الشرعي ليس بالاضافة إليها كالعقلية بالإضافة إلى الجوهرية ، بل هما موجودان متباينان ، وكذا الأمر في النحو والصرف.

ويمكن الجواب عن موضوعات سائر العلوم بما محصله : أن الموضوع لعلم الفقه ليس فعل المكلف بما هو ، بل من حيث الاقتضاء والتخيير ، وكذا موضوع علم النحو ليس الكلمة والكلام بما هما ، بل من حيث الإعراب والبناء.

والحيثيات المذكورة لا يمكن أن تكون عبارة عن الحيثيات اللاحقة لموضوعات المسائل ؛ لما سيجيء (١) ـ إن شاء الله ـ : أنّ مبدأ محمول المسألة لا يمكن أن يكون قيدا لموضوع العلم ، وإلاّ لزم عروض الشيء لنفسه ، بل المراد استعداد ذات الموضوع لورود المحمول ، وهذه حيثية سابقة لا لاحقة ، فالكلمة من حيث الفاعلية ـ مثلا ـ مستعدة للحوق المرفوعية ، ومن حيث المفعولية للمنصوبية ، وهكذا ، وفعل المكلف من حيث الصلاتية والصومية ـ مثلا ـ مستعد للحوق التكليف الاقتضائي أو التخييري ، وإلا فنفس الاقتضائية والتخييرية لا يمكن أن تكون قيدا لموضوع العلم ، ولا لموضوع المسألة ، كما عرفت.

إذا عرفت ذلك تعرف : من الصلاة والصوم وغيرهما ، لا أنه كلّي يتخصص في مراتب تنزّله بخصوصيات تكون واسطة في عروض لواحقه له. ومن الواضح أن المحمولات الطلبية والاباحية تحمل على معنون هذا العنوان الانتزاعي بلا توسط شيء في اللحوق والصدق.

ومما ذكرنا تعرف : أن الأمر في موضوعات سائر العلوم أهون من موضوع علم الحكمة ؛ حيث لا تخصص لموضوعاتها من قبل موضوعات مسائلها أصلا ،

__________________

(١) التعليقة : ٤ من هذا الجزء.

٢٥

بخلاف موضوع علم الحكمة ، فلذا لا يتوقّف دفع الإشكال عنها على مئونة إثبات اتحاد العارض لموضوع العلم مع العارض لموضوع المسألة ، على نحو ما عرفته في موضوع علم الحكمة.

هذا ، والتحقيق : أنّ الالتزام بعدم الواسطة في العروض من رأس من باب لزوم ما لا يلزم ، والسر فيه : أن حقيقة كل علم عبارة عن مجموع قضايا متفرقة يجمعها الاشتراك في ترتب غرض خاص ، ونفس تلك القضايا مسائل العلم ، ومن الواضح أن محمولات هذه المسائل أعراض ذاتية لموضوعاتها ، وبهذا يتم أمر العلم ، ولا يبحث عن ثبوت شيء للموضوع الجامع دائما في نفس العلم ، فلا ملزم بما ذكروا : من كون محمولات القضايا أعراضا ذاتية للموضوع الجامع.

نعم ، ربما يبحث عن ثبوت شيء للموضوع الجامع أحيانا ، ولذا قالوا : إن موضوع المسألة : تارة يكون عين موضوع العلم ، واخرى نوعا منه. إلا أنه في مثله يكون المبحوث عنه عرضا ذاتيا له كسائر المسائل ، لكنه لمّا أرادوا أن يكون الطالب للعلم على بصيرة من أمره من أوّل أمره ، انتزعوا جامعا قريبا من موضوعات مسائله ، كالكلمة والكلام في النحو مثلا ؛ ليكون مميّزا له عن غيره من العلوم ، وإلاّ فما يترتب عليه غرض مخترع العلم ومدوّنه نفس مجموع القضايا المشتركة في ترتّب الغرض المهم ، فاللازم ان تصدق محمولات القضايا على موضوع العلم صدقا حقيقيا بلا مجاز ، لا أن تكون الأعراض أعراضا ذاتية بالمعنى المصطلح ، بل بحيث لا يرى اللاحق لا حقا لغيره ، وإن كان بالنظر الدقيق ذا واسطة في العروض.

وبعبارة اخرى : يكون الوصف وصفا له بحال نفسه ـ لا بحال متعلّقه ـ بالنظر العرفي المسامحي. فافهم واغتنم.

ثم اعلم : أنّ جعل الموضوع ـ بحيث تكون أعراض موضوعات المسائل أعراضا له ـ لا يتوقف على جعل الكلي بنحو الماهية المهملة عن حيثية

٢٦

الاطلاق واللابشرطية ؛ نظرا إلى أنه لو لوحظ بنحو الاطلاق لا يكون ـ بما هو مطلق ـ معروضا لحكم من الأحكام ، بخلاف الماهية المهملة ، فإنها متحدة مع الفرد ، فيعرضها ما يعرضه. وأنت خبير بأن اللابشرط القسمي وإن كان ـ بحسب التعيّن في ظرف اللحاظ ـ مغايرا للبشرط شيء ، إلا أن ملاحظة الماهية مطلقة ليس لأجل دخل الاطلاق في موضوعيته ، بل لتسرية حكم الماهية إلى أفرادها ، كما هو كذلك في ( اعتق رقبة ) ، وإلا لم تصدق الرقبة المطلقة ـ بما هي ـ على فرد من الرقبة ، مضافا إلى أنه لا بدّ من ذلك ، وإلا فالمهملة في قوة الجزئية ، فلا موجب لاندراج جميع موضوعات المسائل تحتها ، ولا ملزم بعروض أعراضها عليها.

وأما ما ربما يقال أيضا : من أن ملاحظة الكلي بنحو السريان توجب أن تكون نسبته إلى موضوعات المسائل نسبة الكل إلى أجزائه ، وأعراض أجزائه أعراضه ، كما في علم الطب ، فانه يبحث فيه عن أعراض أجزاء البدن.

فمدفوع : بأنّ الكلّي الساري واحد وجودا وماهية ، لا أنه عبارة عن مجموع وجودات الكلي بما هي متكثرة ، وإلا فلا سريان ؛ فانه فرع الوحدة ، غاية الأمر أن قطع النظر عن الكثرات ، ولحاظ نفس الطبيعة التي هي واحدة ذاتا ، وإضافة وجود واحد إليها يوجب أن يكون كل واحد من الكثرات متشعبا منه تشعب الفرد من الكلي ، لا الجزء من الكل ؛ ولذا لم يتوهم أحد : أن الحصة جزء الكلي بأيّ لحاظ كان ، بل مما يصدق عليها الكلي ، وملاحظة الطبيعة سارية مساوقة لملاحظتها لا بشرط قسميا لا مقسميا ، وإن كان اعتبار السريان اعتبار بشرط شيء ، فإنّه لا منافاة بينه وبين كل لا بشرط. فتدبّر.

٢ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فلذا قد يتداخل بعض العلوم ... الخ ) (١).

__________________

(١) الكفاية : ٧ / ٧.

٢٧

وجه الترتّب : أن امتياز مسائل علم عن مسائل علم آخر لو كان بنفسها لما صح التداخل ؛ حيث لا اثنينية ، بخلاف ما لو كان الامتياز بالغرض الذي لأجله دوّن العلم ، فإن الاثنينية محفوظة ، والامتياز ثابت ، ويصح التداخل.

والغرض (١) من هذا البيان دفع الاشكال على جعل علم الاصول علما برأسه بتوهم اشتراك مسائله مع مسائل سائر العلوم ، وسيجيء ـ إن شاء الله ـ تحقيقه (٢).

٣ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( مضافا إلى بعد ذلك مع (٣) امتناعه عادة ... الخ ) (٤).

كون العلمين مشتركين في تمام المسائل وان كان بعيدا ، إلا أن اشتراك علم واحد مع جملة من العلوم ـ كما في علم الاصول بالنسبة الى جملة من العلوم ـ غير بعيد ، بل لعل الأمر كذلك بالإضافة إلى جل مباحث علم الاصول ، ومع ترتب

__________________

(١) كتب المحشي هنا في الحاشية : العلمان إن كان موضوعهما متباينين بالذات كانا متباينين ، وان كان موضوع أحدهما أعم ـ كالطبيعي بالاضافة إلى الطب ـ كانا متداخلين ، وإن كان موضوعهما متشاركين في امر ذاتي أو عرضي كانا متناسبين ، وعليه فدخول مسألة واحدة في علمين إنما يكون من تداخل العلمين إذا كان موضوع أحدهما أعم ، وبحسبه كان موضوع المسألة مندرجا تحته ، كاندراج موضوع العلم الأخص ، بل حقيقة التداخل في المسائل اندراج موضوع المسألة تحت موضوع مسألة اخرى كما في تداخل العلمين من حيث الموضوع. وأما إذا كان باعتبار تشارك موضوع العلمين في ذاتي ينطبق على موضوع المسألة ، او عرضي كذلك كانطباقهما على موضوعي العلمين ، فليس من باب تداخل العلمين ، بل من باب التناسب ، هذا بحسب الاصطلاح ، ولعل المراد هنا غيره على غير الاصطلاح. مضافا الى أن الامتياز ثابت ، ولو لم يتعدد الغرض ، فان المتحد هي المسألة لا العلم ، والمركب الاعتباري في كل منهما مباين للمركب الاعتباري في الآخر ، والاعتبار في العلمية بالمجموع لا بالمسألة. فتدبر. ( منه عفي عنه ).

(٢) وذلك في التعليقة التالية : ٣.

(٣) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : بل امتناعه ..

(٤) الكفاية : ٧ / ١٣.

٢٨

الغرض على تدوينها قهرا ـ وإن لم يكن المدوّن بصدده ـ لا يبقى مجال لتدوين علم الاصول ، فإنه تحصيل للحاصل ، والالتزام بالاستطراد في جلّ المسائل باطل.

وقد ذكرنا وجه التفصّي عن الاشكال في أوائل مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فراجع (١).

وأما امتناعه ـ عادة ـ فلعل الوجه فيه : إما أن القضايا المتحدة موضوعا ومحمولا لا يترتب عليها غرضان متلازمان ؛ للزوم تأثير الواحد أثرين متباينين ، أو لأنّ العلوم المدوّنة متكفّلة لأيّة (٢) جهة كانت ، ولا شيء من العلوم بحيث يترتب عليه غرضان ، فالبحث عن جهة اخرى مجرد فرض يمتنع وقوعه عادة ؛ حيث إنّه لا مجال لجهة غير تلك الجهات المبحوث عنها ، إلاّ أنّ الوجه الأوّل غير تام ـ كما سيجيء (٣) إن شاء الله ـ ، وعلى فرض التمامية فهو امتناع عقلي.

والوجه الثاني يناسب الامتناع العادي إلا أنّ عهدته على مدّعيه ، فإن الجهات المبحوث عنها وان كانت مستوفاة ، فلا جهة اخرى ، إلا أن فروعها غير مستوفاة ، فلعله يمكن فرض جهة اخرى تكون من جزئيات إحدى تلك الجهات. فتدبر.

٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وقد انقدح بما ذكرنا : أن تمايز العلوم إنما هو باختلاف الاغراض ... الخ ) (٤).

المشهور : أن تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ولو بالحيثيات ؛ بمعنى أن موضوعي العلمين قد يتغايران بالذات ، وقد يتغايران بالاعتبار.

__________________

(١) التعليقة : ١٥٣ من الجزء الثاني.

(٢) تكرّر من المصنف (رحمه الله) تعدية ( التكفّل ) إلى معموله باللام ، مع أنه يتعدّى بالباء ، فتقول : ( أنا متكفّل بالأمر ). نعم قد تقول : أنا متكفّل بكذا لك ، لكن ما في المتن من الأوّل كما لا يخفى.

(٣) التعليقة : ٦ من هذا الجزء.

(٤) الكفاية : ٨ / ١.

٢٩

وليس الغرض من تحيّث الموضوع ـ كالكلمة والكلام بحيثية الاعراب والبناء في النحو ، وبحيثية الصحة والاعتلال في الصرف ـ أن تكون الحيثيات المزبورة حيثية تقييدية لموضوع العلم ؛ إذ مبدأ محمول المسألة لا يعقل أن يكون حيثية تقييدية لموضوعها ، ولا لموضوع العلم ، وإلا لزم عروض الشيء لنفسه ، ولا يجدي جعل التحيث داخلا والحيثية خارجة ؛ لوضوح أن التحيث والتقيد لا يكونان إلا بملاحظة الحيثية والقيد ، فيعود المحذور.

بل الغرض من أخذ الحيثيات ـ كما عن جملة من المحققين من أهل المعقول ـ هو حيثية استعداد ذات الموضوع لورود المحمول عليه ؛ مثلا الموضوع في الطبيعيات هو الجسم الطبيعي لا من حيث الحركة والسكون. كيف؟ ويبحث عنهما فيها ، بل من حيث استعداده لورودهما عليه ؛ لمكان اعتبار الهيولى فيه ، وفي النحو والصرف الموضوع هي الكلمة ـ مثلا ـ من حيث الفاعلية المصححة لورود الرفع عليها ، ومن حيث المفعولية المعدة لورود النصب عليها ، أو من حيث هيئة كذا المصححة لورود الصحة أو الاعتلال عليها ، وجميع هذه الحيثيات سابقة ـ لا لاحقة ـ بالإضافة إلى الحركات الاعرابية والبنائية ونحوهما.

وأما ما عن بعض المدققين من المعاصرين (١) ـ من أن الموضوع في النحو هو المعرب والمبني ، وفي الصرف هو الصحيح والمعتل ـ فقد عرفت ما فيه فإن

__________________

(١) صاحب محجة العلماء في كتابه المذكور ، كما في هامش الأصل ، وانظر : ١٨ منه.

وهو الشيخ هادي بن الحاج ملا محمد أمين الواعظ الطهراني النجفي المعروف بالشيخ هادي الطهراني.

ولد في ٢٠ من شهر رمضان سنة ١٢٥٣ ه‍ ، وهو الاستاذ المحقق صاحب الآثار المشهورة والمطالب المأثورة أحد المؤسسين في الفنون الشرعية وخصوصا الاصول ، خرج إلى أصفهان فأخذ عن السيد حسن المدرس والسيد محمد الشاهشهاني والفيلسوف الملا علي النوري ، ثم هاجر الى العراق ، فأخذ عن الشيخ عبد الحسين الطهراني في كربلاء والشيخ مرتضى الأنصاري ثم الميرزا الشيرازي في النجف.

٣٠

المعرب ـ بما هو معرب ـ لا يعقل أن تعرض عليه الحركات الاعرابية ، وهكذا.

هذا هو المشهور في تمايز العلوم ، وقد يشكل ـ كما في المتن ـ بلزوم كون كل باب من أبواب علم واحد ـ بل كل مسألة منه ـ علما برأسه لتمايز موضوعاتها.

ولا يندفع بما في الفصول (١) : من جعل الحيثية قيدا للبحث ( وهي عند

__________________

وتصدّى للتدريس ، فتهافت عليه الطلاب غير أنه كان معتدّا ببنات أفكاره ، جريئا في نقد آراء غيره من العلماء المتقدّمين والمتأخّرين ؛ لذا تعرّض له الكثير من أهل زمانه بالنقد الشديد ، وكان من جرّاء ذلك أن لم يحضر درسه إلا نزر قليل.

وتوفّي بالنجف ، ودفن في حجرة صاحب مفتاح الكرامة من جهة القبلة. وأرخ بعضهم عام وفاته بقوله :

جاور في الخلد إمام الهدى

وهادي الامّة للحسنين

واستوطن الخلد فأرّخته :

طابت جنان الخلد للهاديين

( ومجموع حروف عجز البيت الثاني ١٣٢١ وهو عام وفاته ).

( أعيان الشيعة ١٠ : ٢٣٣ ) بتصرف.

(١) الفصول : ١١ حيث قال (رحمه الله) : ( ... فهم وإن أصابوا في اعتبار الحيثية للتمايز بين العلوم ، لكنهم أخطئوا في أخذها قيدا للموضوع ، والصواب أخذها قيدا للبحث ، وهي عند التحقيق ... ).

وهو الشيخ محمد حسين بن محمد رحيم الطهراني الحائري ، ولد في ( ايوان كيف ) ، أخذ مقدمات العلوم في طهران ، ثم اكتسب من شقيقه الحجة الشيخ محمد تقي الأصفهاني صاحب ( هداية المسترشدين ) في أصفهان ، ثم هاجر الى العراق ، فسكن كربلاء ، وكان يقيم الجماعة في الحرم المطهّر من جهة الرأس الشريف ، فيأتمّ به خيار الطلبة والصلحاء وعامّة الناس.

وكان في كربلاء يومذاك فريق من الشيخية ، وكان المرحوم كثير التشنيع عليهم حتى ضعّف نفوذهم وكسر شوكتهم ؛ إذ كان مرجعا عامّا في التدريس والتقليد ، وقد تخرّج من معهده جمع من كبار العلماء ، وله آثار أشهرها ( الفصول الغروية ).

أجاب داعي ربه سنة ( ١٢٥٤ ه‍ ) ، ودفن في الصحن الصغير في الحجرة الواقعة على يمين الداخل ، سبقه فيها صاحب الرياض (رحمه الله).

( طبقات أعلام الشيعة الكرام البررة في القرن الثالث بعد العشرة ١ : ٣٩٠ رقم ٩٧٥ ) بتصرف.

٣١

التحقيق عنوان إجمالي للمسائل التي تقرر في العلم ) ـ انتهى ـ إذ مراده من البحث معناه المفعولي ، لا المصدري ، ومن المسائل محمولات قضايا العلم ، لا نفس القضايا ، وإلا فلا معنى محصل له ، فيرجع الأمر إلى أن تمايز العلوم : إما بتمايز الموضوعات ، أو بتمايز المحمولات الجامعة لمحمولات العلم.

فيرد عليه عين ما أورد على جعل التمايز بتمايز الموضوعات : من لزوم كون كل باب ـ بل كل مسألة ـ علما على حدة لتغاير محمولاتها ، ولذا جعل ـ دام ظله ـ ملاك التعدد والوحدة تعدد الغرض ووحدته ، مع أنك قد عرفت الإشكال عليه في الحاشية السابقة بالنسبة إلى فن الاصول.

والتحقيق : أن العلم عبارة عن مركّب اعتباري من قضايا متعددة يجمعها غرض واحد ، وتمايز كل مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر بالموضوع الجامع في مقام المعرفية ـ كما عرفت سابقا ـ فلا ينافي كون معرفة باب وامتيازه عن باب آخر كذلك ، كما أن كون وحدة الموضوع الجامع موجبة لوحدة القضايا ذاتا ـ في قبال الوحدة العرضية الناشئة من وحدة الغرض ؛ حيث إنه خارج عن ذات القضية ـ لا ينافي كون وحدة الموضوع في الأبواب موجبة لوحدة قضايا الباب ذاتا ، لكن تسمية بعض المركبات الاعتبارية علما دون مركب اعتباري آخر ـ كباب من علم واحد ـ بملاحظة تعدد الغرض ووحدته.

فقولهم : ( تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ) (١) إنما هو في مقام امتياز مركب اعتباري عن مركب اعتباري آخر في مقام التعريف. كما أنّ تعدّد الغرض ووحدته إنّما هو في مقام إفراد مركب اعتباري عن غيره ، وجعله فنا وعلما برأسه ، دون مركب اعتباري آخر كباب واحد من علم واحد.

ومن الواضح أنّ فنّ الاصول بنفسه يمتاز عن سائر الفنون لامتياز كل

__________________

(١) كما جاء ذلك في عبارات علماء المنطق. راجع الشمسية : ٥.

٣٢

مركب عن مركب آخر بنفسه ، وبموضوعهما الجامع في مقام التعريف للجاهل ، لكن كون المجموع فنا واحدا ـ دون فنون متعددة ـ لوحدة الغرض.

ومنه ظهر أن تعدد الغرض إنما يوجب تعدد العلم في مورد قابل كمركبين اعتباريين لا مركب واحد.

بل يمكن أن يقال ـ بناء على مذاق القوم في كون محمولات القضايا أعراضا ذاتية للموضوع ـ ما محصله :

أن الموضوع الجامع ـ كما هو معرّف للعلم وموجب لوحدة القضايا ذاتا ـ كذلك موجب لكونها فنا واحدا منفردا عن غيره من الفنون ؛ إذ ليس مناط موضوعية الموضوع مجرد جامعيته لجملة من الموضوعات ، بل بحيث لا يندرج تحت جامع آخر تكون محمولات القضايا أعراضا ذاتية له ، فخرج بهذا القيد موضوعات الأبواب لاندراجها تحت جامع تكون المحمولات أعراضا ذاتية له ، ودخل به موضوعا العلمين لعدم اندراجهما تحت جامع كذلك ؛ وإن اندرجا تحت جامع مطلق كعلمي النحو والصرف ، فإنّ موضوعهما وإن اندرجا تحت الكيف المسموع ، لكن محمولات قضايا العلمين ليست أعراضا ذاتية للكيف المسموع ، بل للكلمة والكلام بما لهما من الحيثية المتقدّمة ، فافهم واستقم.

٥ ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد ... الخ ) (١).

كبابين من علمين إذا كانا متحدي الموضوع والمحمول ، فان هذه الوحدة لا تجعل البابين من علم واحد ؛ لتعدد الغرض الموجب لاندراجهما في علمين ، وإلاّ فالمركّب الاعتباري المترتب عليه غرضان لا يصح أن يدون علمين ، ويسمى باسمين كما صرح ـ مد ظله ـ به.

__________________

(١) الكفاية : ٨ / ٥.

٣٣

وفي قوله دام ظلّه : ( من الواحد ) إشارة إلى أن فرض الكلام ما ذكرنا ، فلا تغفل.

٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( ثم إنه ربما لا يكون لموضوع العلم ، وهو الكلي ... الخ ) (١).

قد عرفت سابقا : أن العلم عبارة عن مجموع قضايا متشتتة يجمعها الاشتراك في غرض خاص دوّن لأجله علم مخصوص ، فلا محالة ينتهي الأمر إلى جهة جامعة بين تلك القضايا موضوعا ومحمولا ، والموضوع الجامع لموضوعات القضايا موضوع العلم ، والمحمول الجامع لمحمولاتها محموله.

وقد عرفت سابقا أيضا : أن أمر العلم يتم بتدوين جملة من القضايا المتحدة في الغرض ، ولا يتوقف حقيقته على تعيين حقيقة الموضوع ، إلا أنه لا برهان على اقتضاء وحدة الغرض لوحدة القضايا موضوعا ومحمولا ، إلاّ أنّ الامور المتباينة لا تؤثر أثرا واحدا بالسنخ ، وأنّ وحدة الموضوع أو وحدة المحمول تقتضي وحدة الجزء الآخر.

مع أن البرهان المزبور لا يجري إلا في الواحد بالحقيقة ، لا الواحد بالعنوان ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، بداهة أن صون اللسان عن الخطأ في المقال ـ في علم النحو مثلا ـ ليس واحدا بالحقيقة والذات ، بل بالعنوان ، فلا يكشف عن جهة وحدة ذاتية حقيقية.

كما أن اقتضاء القضايا للغرض واقتضاء الموضوعات لمحمولاتها ، ليس على حد اقتضاء المقتضي لمقتضاه والسبب لمسببه ؛ حتى تكون وحدة أحدهما كاشفة عن وحدة الآخر ، بل في الاولى من قبيل اقتضاء الشرط لمشروطه ؛ حيث

__________________

(١) الكفاية : ٨ / ٦.

٣٤

إن المريد للتكلم على طبق القانون لا يتمكن منه إلا بمعرفته له ، فمعرفة القانون شرط في تأثير الإرادة في التكلم على طبق القانون.

وفي الثانية من قبيل اقتضاء الغاية الداعية لما تدعو إليه ، فاقتضاء الصلاة لوجوبها باعتبار ما فيها من الغاية الداعية اليه ، فلا يكون الوجوب أثرا للصلاة ؛ ليكشف وحدة الوجوب في الصوم والصلاة عن وحدتهما.

مضافا إلى : أن فائدة التعيين أن يكون الطالب على بصيرة من أمره من أول الأمر ، فعدم كون الجامع معلوم الاسم والعنوان (١) ، مع كونه محققا بالبرهان ، وإن لم يوجب كون العلم بلا موضوع ، أو عدم وحدة الفن ، إلا أن الفائدة المترقبة من الموضوع لا تكاد توجد إلا إذا كان معلوم الاسم والعنوان ، ولا يكفي العلم بوجوده بحسب البرهان.

وجعل الموضوع لعلم الاصول خصوص الأدلّة الأربعة ، وإن لم يكن فيه محذور من حيث عدم وحدة الفن ؛ لانحفاظ وحدته بوحدة الغرض ، لكن إذا جعل الموضوع أعم منها ، كي يعم الظنّ الانسدادي على الكشف ـ بل على الحكومة ـ والشهرة ، والاصول العملية ـ من العقلية والشرعية ـ الى غير ذلك من دون جامع يعبر به عنها ، فانتفاء الفائدة واضح.

٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإنّ البحث عن ثبوت الموضوع ، وما هو مفاد كان التامة ... الخ ) (٢).

إرجاع البحث إلى ما ذكر وان كان غير صحيح ، كما سيتضح ـ إن شاء الله ـ إلا أنه يمكن دفع الايراد المزبور بدعوى : أنّ المراد وساطة الخبر ثبوتا أو إثباتا ، ضرورة أن الغرض ليس الحكم بثبوت السنة خارجا ، بل ثبوتها بالخبر ، ووساطة الخبر ـ إثباتا أو ثبوتا ـ لا تنافي الفراغ عن ثبوت السنة :

__________________

(١) العبارة في النسخ المتداولة هكذا : ( فعدم كون الجامع غير معلوم .. ) ، ولا يخفى خطوها.

(٢) الكفاية : ٨ / ١٨.

٣٥

أما وساطة الخبر إثباتا ، فمعنى ذلك انكشاف السنة بالخبر ، كما تنكشف بالمحفوف بالقرينة وبالتواتر ، وأين التصديق بانكشاف شيء بشيء من التصديق بثبوت الشيء ، وما هو اللازم في الهليّة المركبة هو الثاني دون الأول ؛ بداهة أن انكشاف شيء بشيء لا ينافي الفراغ عن ثبوته ، وانكشاف السنة ـ المفروغ عن ثبوتها ـ من لواحقها وعوارضها بعد ثبوتها.

وأما وساطة الخبر ثبوتا ، فمرجعها إلى معلولية السنة للخبر ، ومن البين أن الكلام في معلولية شيء لشيء وكونه ذا مبدأ لا ينافي الفراغ عن أصل تحققه وثبوته ؛ ألا ترى أنّ الموضوع في علم الحكمة هو الوجود أو الموجود ، مع أن البحث عن كونه ذا مبدأ من أهمّ مسائله وأعظم مقاصده ؛ فالبحث عن معلولية السنة لشيء ـ يكون ذلك الشيء واسطة في ثبوتها واقعا ـ بحث عن ثبوت شيء لها ، لا عن ثبوتها.

فاتضح : أن إرادة الثبوت الواقعي على أي تقدير لا تنافي كون البحث عنه من المسائل.

نعم أصل ثبوت السنة بالخبر ، وكون الخبر واسطة في ثبوتها أو إثباتها واقعا غير معقول ؛ إذ ليس الخبر واقعا في سلسلة علل السنة ، بل يستحيل وقوعه في سلسلة عللها ؛ لأن حكاية الشيء متفرعة عليه ، فلا يعقل أن تكون من مباديه ، فيستحيل وساطة الخبر ثبوتا. كما أن الخبر ـ بما هو خبر ـ يحتمل الصدق والكذب ، فلا يعقل انكشاف السنة به واقعا ، فيستحيل وساطة الخبر إثباتا. فإرادة الثبوت الواقعي بأيّ معنى كان غير معقولة ، لا أن البحث عن ثبوتها بشيء ليس من المسائل. فافهم جيّدا.

٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( نعم لكنه مما لا يعرض السنة بل الخبر الحاكي لها ... الخ ) (١).

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ٢.

٣٦

يمكن أن يقال : إن حجية الخبر ـ على المشهور ـ وان كان مرجعها إلى إنشاء الحكم على طبق الخبر ـ وهو من عوارضه ـ إلا أنه بعناية أنه وجود تنزيلي للسنة ، وهذا المعنى كما أن له مساسا بالخبر ، كذلك بالسنة.

فحاصل البحث : إثبات وجود تنزيلي للسنة ، وبهذا الاعتبار يقال بثبوت السنة تعبدا ، وإلا فالحكم على طبق المحكي له ثبوت تحقيقي لا تعبدي ، وكونه عين التعبّد لا يقتضي أن يكون تعبّديا ، بل هو كنفس المحكي له ثبوت تحقيقي فتأمل.

وربما يتخيل : إمكان جعل الموضوع نفس السنة الواقعية ، بالبحث عن تنجزها بالخبر ، لكنه كالثبوت التعبدي إشكالا وجوابا ، من حيث إن المنجزية ـ وهي صفة جعلية ـ قد اعتبرت في الخبر ، فهي من حيثيات الخبر ، لا من حيثيات السنة الواقعية ، ومن حيث أن المنجزية والمتنجزية متضايفتان ، فجعل الخبر منجزا يلازم جعل السنة متنجزة به ، فيصح البحث عن كل منهما ، بل الثبوت التعبدي أكثر مساسا بالسنة من التنجز ؛ حيث إن اعتبار الثبوت هو اعتبار كون الخبر وجود السنة ، فيكون بالاضافة إلى السنة كالوجود بالنسبة إلى الماهية ، بخلاف التنجز فإنه وصف زائد على السنة ، مجعول تبعا بجعل المنجزية للخبر استقلالا ، فهو أشد ارتباطا بالخبر من السنة. فتدبر جيدا.

٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( المراد من السنة ما يعمّ حكايتها ... الخ ) (١).

بأن يراد من السنة ـ الواقعة في كلماتهم ـ طبيعي السنة بوجودها العيني أو الحكائي ، فإن الشيء له انحاء من الوجود بالذات وبالعرض ، ومنها وجودها في الحكاية ، أو أن يراد الأعمّ بغير ذلك.

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ٧.

٣٧

١٠ ـ قوله [ قدس سره ] : ( إلاّ أنّ البحث في غير واحد من مسائلها كمباحث الألفاظ ... الخ ) (١).

إن كان الغرض ـ كما هو ظاهر سياق الكلام ـ أعمّية موضوعات المباحث المزبورة من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، فيمكن دفعه : بأن قرينة المقام شاهدة على إرادة خصوص ما ورد في الكتاب والسنة.

وإن كان الغرض : أنّ عوارض هذه الموضوعات الخاصة تلحقها بواسطة أمر أعمّ ـ وهو كون صيغة ( افعل ) مثلا من دون دخل لورودها في الكتاب والسنة ـ فالاشكال في محلّه.

ولا يندفع : بأنّ البحث ليس باعتبار نفس الأمر الأعم ، بل بلحاظ اندراج الأخصّ تحته. وذلك لأن هذا الاعتبار إن لم يكن دخيلا في عروض العارض ، لم يكن لحاظه مخرجا له عن كونه عرضا غريبا.

كما أن الالتزام بكون موضوع العلم أعم من الادلة بالمعنى الأعم مع قيام الغرض بخصوصها بلا وجه ، وهو من القضايا التي قياساتها معها.

كما لا يندفع الاشكال بما ذكرناه ـ في تصحيح العارض لأمر أخصّ أو أعمّ ـ من : أن مجرد الصدق ـ بلا تجوز عرفا ـ كاف في كون العرض ذاتيا ، ولا يتوقف على عدم الواسطة في العروض حقيقة ودقة. وذلك لأنا وإن قلنا بعدم اعتبار كون العرض ذاتيا لموضوع العلم حقيقة ، إلا أنه لا بد من كونه عرضا ذاتيا لموضوع المسألة عقلا.

ومع تخصيص موضوع المسألة بحيثية الورود في الكتاب والسنة ـ حتى لا يلزم إشكال اندراج الأعم تحت الأخص ـ يلزم كون العرض غريبا عن موضوع المسألة.

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ٨.

٣٨

ومنه تبين عدم المناص عن أحد المحاذير الثلاثة :

إما لزوم اندراج الأعم تحت الأخص لو أبقينا موضوع العلم على خصوصه وموضوع المسألة على عمومه ، وإما لزوم كون العرض غريبا إذا خصّصنا موضوع المسألة ، وإما لزوم أخصية الغرض إذا عمّمنا موضوع العلم ، بحيث يعم موضوعات مسائله العامة.

ولا يخفى أن عدم الالتزام بموضوع جامع يدفع المحذورين الأوّلين ـ دون الأخير ـ كما هو واضح.

١١ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وجملة من غيرها ... الخ ) (١).

كالمسائل الاصولية العقلية ، فإنّ الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ـ مثلا ـ لا اختصاص لها بالوجوب الشرعي ، ولا بما يقع في طريق الاستنباط.

والدليل العقلي ـ الواقع موضوعا للعلم ـ هي القضية العقلية التي يتوصل بها إلى الحكم الشرعي ـ دون الأعم ـ مع أنّ العقل يحكم بالملازمة لا من هذه الحيثية.

١٢ ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويؤيد ذلك تعريف الاصول ... الخ ) (٢).

وجه التأييد ظاهر ؛ حيث لم يقيد القواعد الممهدة بكونها باحثة عن الأدلّة ، وقولهم في تتمّة التعريف : ( عن أدلّتها ) غير مناف لذلك كما يتخيل ؛ إذ كون المستنبط منه هي الأدلّة ، لا ربط له بكون القواعد باحثة عن الأدلة.

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ٩.

(٢) الكفاية : ٩ / ١١.

٣٩

١٣ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإن كان الأولى تعريفه : تعريف علم الأصول بأنه صناعة يعرف بها القواعد ... الخ ) (١).

الأولويّة من وجوه :

منها : تبديل تخصيص القواعد بكونها واسطة في الاستنباط ـ كما عن القوم ـ بتعميمها لما لا تقع في طريق الاستنباط ، بل ينتهي إليه الأمر في مقام العمل.

وجه الأولوية : أنّ لازم التخصيص خروج جملة من المسائل المدوّنة في الاصول عن كونها كذلك ، ولزوم كونها استطرادية ؛ مثل الظن الانسدادي على الحكومة ؛ لأنه لا ينتهي إلى حكم شرعي ، بل ظن به أبدا ، وإنما يستحق العقاب على مخالفته عقلا كالقطع. ومثل الاصول العملية في الشبهات الحكمية ؛ فإنّ مضامينها بأنفسها أحكام شرعية ، لا أنها واسطة في استنباطها في الشرعية منها. وأما العقلية فلا تنتهي إلى حكم شرعي أبدا.

فهذه المسائل بين ما تكون مضامينها أحكاما شرعية ، وبين ما لا تنتهي إلى حكم شرعي ، وجامعها عدم إمكان وقوعها في طريق الاستنباط وما يرى من إعمال الاصول الشرعية في الموارد الخاصة ، إنما هو من باب التطبيق. لا التوسيط. بل يمكن الاشكال في جلّ مسائل الاصول ، فان الامارات الغير العلمية ـ سندا أو دلالة ـ يتطرق فيها هذا الاشكال ، وهو أن مرجع حجيتها : إمّا إلى الحكم الشرعي ، أو غير منته إليه أبدا ، وعلى أيّ تقدير ليس فيها توسيط للاستنباط.

توضيحه : أن مفاد دليل اعتبار الامارات الغير العملية سندا ـ كخبر الواحد ـ إما إنشاء أحكام مماثلة لما أخبر به العادل من ايجاب أو تحريم ، فنتيجة البحث عن حجيّتها حكم شرعي ، أو جعلها منجزة للواقع بحيث يستحق

__________________

(١) الكفاية : ٩ / ١٢.

٤٠