نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

وتفاوت الأوصاف العنوانية مع سائر المشتقات في هذه الجهة ، لا دليل على عدمه ، بل الوجدان والبرهان على ثبوته. ولا ينافي تعدد الوضع أيضا ؛ إذ المادّة موضوعة لنفس المبدأ ، والهيئة ـ بمرآتية الجامع الانتزاعي ـ موضوعة لذلك المعنى الوحداني المناسب لمادّتها.

وحاصل الوضعين : أن الضارب مثلا وجود لفظي لمعنى وحداني ، مطابقة المتلبس بالضرب خارجا على نحو الجمع والوحدة ، لا للذات والحدث والربط. فتدبّر في المقام ، فإنه من مزالّ الأقدام.

١٣١ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الفرق بين المشتقّ ومبدئه مفهوما أنه بمفهومه ... الخ ) (١).

المحكيّ عن العلاّمة الدواني : أنه لا فرق بين المشتقّ ومبدئه الحقيقي دون مبدئه المشهوري ـ وهو المصدر ـ إلاّ بالاعتبار ، وقد صرّح بخروج الذات والنسبة معا عن مداليل المشتقّات ، فإنه قال ـ في تعليقاته على شرح التجريد للقوشجي (٢) في مقام الردّ على من زعم أن الأجزاء المحمولة لا تكون مفهومات المشتقّات لاشتمالها على النسبة ما لفظه ـ :

( التحقيق : أنّ معنى المشتقّ لا يشتمل على النسبة بالحقيقة ، فإن معنى الأبيض والأسود ونظائرهما ما يعبر عنه في الفارسية بـ ( سفيد وسياه ) وأمثالهما ، ولا مدخل في مفهومهما للموصوف (٣) لا عامّا ولا خاصا ؛ إذ لو دخل في مفهوم

__________________

(١) الكفاية : ٥٥ / ٥.

(٢) شرح التجريد : ٨٥.

(٣) قوله : ( ولا مدخل للموصوف .. الخ ).

استدلّ لخروج النسبة بخروج طرفها ؛ لأنها متقوّمة بالمنتسبين ، وفيه أنّ تقوّمها في ظرف ثبوتها ـ

٢٢١

الأبيض الشيء كان معنى قولنا : ( الثوب الأبيض ) ( الثوب الشيء الأبيض ) ، ولو دخل فيه الثوب بخصوصه كان معناه ( الثوب الثوب الأبيض ) ، وكلاهما معلوما (١) الانتفاء ، بل معنى المشتقّ هو المعنى الناعت وحده ، ثم العقل يحكم ـ بديهة أو بالبرهان ـ أن بعضا من تلك المعاني لا يوجد إلا بأن يكون ناعتا لحقيقة اخرى مقارنا لها شائعا فيها ـ لا كجزئها ـ وتسميتها بالعرض ، وبعضها ليس كذلك ، ولو لا تلك الخصوصية لم يلزم أن يكون هناك شيء هو أبيض أو أسود ، ـ إلى أن قال ـ : ومن هنا يظهر أن الأعراض هي المشتقات وما في حكمها ، كما سبق التلويح إليه ، ولذا أمكن النزاع بعد تصور بعضها بالكنه في عرضيته ، كما وقع لهم في الألوان ، فإنّ كنهها عندهم بديهي ، ومع ذلك نازع العقلاء في عرضيتها ، ولو كان حقيقتها مبادي الاشتقاق لم يتصور النزاع ، فإن العاقل لا يشكّ في أن التكمّم (٢) والتلون ـ بالمعنى الذي أخذوه ـ ليسا جوهرين قائمين بذاتهما ... الخ ).

وهذا الكلام صريح في أن مبادئ الاشتقاق عندهم هي المعاني المصدرية ، وحيث لا واسطة بين المشتقّ ومبدئه ، فلذا قالوا : الأعراض هي المشتقّات ، فهو قائل باتحاد المشتقّات مع مبادئها الحقيقية ، دون مباديها المشهورية ـ أعني المعاني المصدرية ـ بمعنى اتحاد المشتقّات مع العلم بمعنى الصورة ـ مثلا ـ والضرب

__________________

بطرفها أمر ، والمقدار المدلول عليه بالكلام أمر آخر ، كما في الأفعال ، فإنه لا شكّ في اشتمالها على النسبة ، مع أنّ مادّتها لا تدلّ إلاّ على المبدأ ، وهيئتها لا تدلّ إلاّ على النسبة. ( منه عفي عنه ).

(١) في الأصل : معلوم ..

(٢) لم يرد هذا المصدر في اللغة بهذا المعنى ـ أي بمعنى التلبّس بعرض الكمّ ـ فلم يشتقّ مصدر في اللغة من ( كم ) الاستفهامية ، أو من الكم بمعنى المقدار ، بل جاء ( التكمّم ) في اللغة بمعنى الإغماء والتغطية ، وليسا بمقصودين هنا ، ولكن علماء المعقول ـ وكذا غيرهم ـ أجازوا لأنفسهم مثل هذا التصرّف والتوسّع في اللغة ، ونظيره كثير في العلوم.

٢٢٢

بمعنى الحركة الخاصة ، مع خلوهما عن جميع انحاء النسب حتى النسبة الناقصة المصدرية ، كيف؟ وهو بصدد إخراج النسبة عن مفهوم المشتق ، فنسبة اتحاد المشتقّ مع المصدر إليه ـ كما هو ظاهر الفصول وغيره ـ لا وجه لها.

ومنه يظهر ما في كلام المحقّق ـ الدواني ـ أيضا ـ حيث زعم عدم الواسطة بين المشتقات والمصادر ، فحكم بأن نزاع القوم في عرضية الألوان كاشف عن أن الأعراض هي المشتقات (١) ، مع أنك خبير بأن ملاحظة ذات العرض غير ملاحظته بما هو عرض ، فلا يكشف النزاع في العرضية عن كون الأعراض هي المشتقات.

نعم ، نقل عنه بعض المحققين (٢) وجهين آخرين :

أحدهما ـ أنا إذا رأينا شيئا أبيض ، فالمرئيّ بالذات هو البياض ، ونحن نعلم بالضرورة أنّا ـ قبل ملاحظة أن البياض عرض ، والعرض لا يوجد قائما بنفسه ـ نحكم بأنه بياض وأبيض ، ولو لا الاتحاد بالذات بين الأبيض والبياض لما حكم العقل بذلك في هذه المرتبة ، ولم يجوّز قبل (٣) ملاحظة هذه المقدّمات كونه أبيض ، لكن الأمر خلاف ذلك.

وحاصل الوجه الآخر : أن المعلّم الأوّل (٤) ومترجمي كلامه عبروا عن

__________________

(١) وذلك في تعليقاته على شرح التجريد للقوشجي ، ٨٥.

(٢) هو الحكيم السبزواري في تعليقاته على الاسفار. [ منه قدس سره ]. الأسفار ١ : ٤٢.

(٣) قوله : ( ولم يجوز قبل .. الخ ).

هذا يجدي لخروج النسبة عن الموضوع ، لا لعدم كون المعنى نسبيا بنحو : تارة يطابق النسبة الخارجية إلى الموضوع ، واخرى النسبة التحليلية المعبر [ عنها ] بثبوت الشيء لنفسه ووجدانه لنفسه ، فاعتبار قيام البياض بذاته المصحّح لعنوان الأبيض هو عين اعتبار النسبة التحليلية.

فتدبره ، فانه حقيق به. ( منه عفي عنه ).

(٤) وهو أفلاطون المعروف بالمعلّم الأوّل ، ولد بأثينا سنة ( ٤٢٧ ق. م ) من اسرة عريقة. ـ

٢٢٣

المقولات بالمشتقّات ، ومثلوا لها بها ، فعبّروا عن الكيف بالمتكيف ، ومثلوا له بالحارّ والبارد ، ولو لا الاتحاد لم يصحّ ذلك.

هذا ، وهذان الوجهان ـ أيضا ـ ظاهران في دعوى الاتحاد بين مفاهيم المشتقّات ومبادئها الحقيقية ـ دون المشهورية ـ بل حاصلهما : دعوى الاتحاد بين خصوص العرض والعرضي ، لا كل مشتقّ ومبدئه الحقيقي ، وإن كان ظاهر كلامه المتقدم هو الإطلاق ، كما يشهد له كونه هناك في مقام الردّ على من زعم أن مفاهيم المشتقات ـ لاشتمالها على النسبة ـ لا تكون أجزاء محمولة.

وبالجملة : غرض المحقق المزبور خروج النسبة إلى الموضوع عن مفهوم المشتقّ ؛ بملاحظة أنّا إذا لاحظنا حقيقة البياض ، فهذا الملحوظ ـ بما هو بياض ، وبما هو قائم بذاته ـ أبيض.

ولذا قال بهمنيار (١) ـ تلميذ الشيخ الرئيس ـ : إن الحرارة لو كانت قائمة بذاتها ، لكانت حرارة وحارة ، وبهذا الاعتبار تكون الحقيقة العينية ـ التي حيثيّة ذاتها حيثيّة طرد العدم ـ وجودا وموجودا.

__________________

قرأ أول حياته الشعر ونظمه ، وفي العشرين تعرف على سقراط ، ثم درس عند أقليدس في ميغارى ، ورحل إلى مصر وغيرها ، وتعرف على فيثاغورس ، ورجع إلى أثينا في سنة ( ٣٨٧ ق. م ) ، فدرّس فيها أربعين سنة على بستان أكاديموس ، فسميت مدرسته بالأكاديمية ، درّس فيها كثيرا من العلوم ، وله نظريات فلسفية كثيرة منها في توحيد الإله وعدالته حتى سمّاه بعضهم بأفلاطون الإلهي ، وبعضهم عده من الأنبياء. وله نظريات تفرد بها كنظرية المثل ونظرية الحبّ الالهي وغيرها من النظريات في الفلسفة والأخلاق والسياسة وغيرها التي انتفع بها فلاسفة المسلمين كثيرا ، عدّ له ستة وثلاثون مؤلفا منها : الجمهورية والقوانين والمقالات والوصية وغيرها.

توفي في الثمانين من عمره في أثينا. ( دائرة المعارف الاسلامية ٢ : ٤٢٥ ) بتصرف.

(١) كتاب التحصيل ـ انتشارات جامعة طهران كلية الالهيات والمعارف الاسلامية ـ ص : ٤٧٥.

وهو للحكيم الحاذق أبو الحسن بهمنيار بن مرزبان الأعجمي الاذربيجاني كان من أعيان

٢٢٤

فاذا كانت حقيقة البياض ـ الملحوظة بما هي قائمة بذاتها ـ أبيض ـ مع قطع النظر عن موضوعها ـ فلا محالة لا دخل للنسبة في مفهوم الأبيض ، وإلاّ كان موقوفا على ملاحظة موضوعها وقيامها به ، وهذا معنى بساطة المشتقّ بساطة حقيقية ، وكون الفرق بينه وبين مبدئه الحقيقي باعتباري بشرط لا ولا بشرط ، فإن المراد من ملاحظته ( بشرط لا ) ملاحظته باستقلاله ، وبما هو شيء على حياله ، ومن ملاحظته ( لا بشرط ) إلغاء كونه كذلك ، وهو عين ملاحظته بما هو قائم بذاته.

ولكن لا يخفى عليك أن غاية ما أفاده المحقق المزبور : اتحاد الأبيض الحقيقي والبياض ـ دون الأبيض المشهوري ـ إذ من الواضح أن الابيض بالمعنى الذي تصوره المحقق لا يصدق على العاج ، فإنهما موجودان متباينان ، فلم يثبت اتحاد المشتقّ ومبدئه مطلقا ، ولا العرض والعرضي مطلقا.

نعم ، هنا وجه آخر لتتميم الأمر وتسريته إلى الأبيض المشهوري ـ أيضا ـ وهو ما أفاده بعض المحققين (١) ، وملخصه : أن نفس حقيقة البياض وغيرها من الأعراض تارة تلاحظ بما هي ، وأنها موجودة في قبال موضوعها ، فهي بهذا

__________________

تلامذة الشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا ، وكاشفا عن مشكلات علومه وموضحا لسائر غوامضه.

وله كتاب ( التحصيل ) في المنطق والطبيعي والإلهي بترتيب طريقة المشّائين كان قد ألّفه لخاله أبي منصور بهرام بن خورشيد ، وكان هو وخاله على المجوسية ثم أسلما كما هو المشهور ، واستدل على إسلامه من كتابه المذكور ، كما له كتاب ( البهجة ) فيه تقرير لطيف في عينية علم الواجب تعالى مع ذاته المقدسة ، وله كتابا ( السعادة ) و ( التعليقات ).

توفّي سنة ( ٤٥٨ ه‍ ) ، وذلك بعد موت استاذه الأول بإحدى وثلاثين سنة.

( روضات الجنات ٢ : ١٥٧ رقم ١٥٩ ) بتصرف.

(١) هو الحكيم السبزواري في تعليقاته على الأسفار ٦ / ٦٤ / الحاشية : ٣.

٢٢٥

اللحاظ بياض ، ولا يحمل على موضوعه. كيف؟ وقد لوحظ فيه المباينة مع موضوعه ، والحمل هو الاتحاد في الوجود ، واخرى تلاحظ بما هي ظهور موضوعها ، وكونها مرتبة من وجود موضوعها ، وطورا لوجوده ، وشأنا من شئونه ، وظهور الشيء ـ وطوره وشأنه ـ لا يباينه ، فيصحّ حملها عليه ؛ إذ المفروض أن هذه المرتبة مرتبة من وجود الموضوع ، والحمل هو الاتحاد في الوجود.

ولا يذهب عليك (١) أن هذه الاعتبارات مصحّحة للحمل ، لا أنها جزء المحمول ليقال : إن المفهوم ـ حينئذ ـ مركب لا بسيط ، وهل هي إلا كاعتبار الإجمال والتفصيل في حمل الحد على المحدود ، فإنه مصحّح التغاير المعتبر في الحمل لا جزء مفهوم المحمول ، وما نحن فيه مصحح الاتحاد المعتبر في الحمل ، وبهذا الوجه الذي صححنا به الحمل يمكن الجواب عما في الفصول (٢) : من أن العلم والحركة يمتنع حملهما على الذات ، وإن اعتبرا لا بشرط ، حيث عرفت أن ملاحظتهما من أطوار الذات يصحح الحمل ؛ لأن طور الشيء بما هو طوره لا يباينه ؛ لأنه نحو من أنحاء وجوده.

وأما ما أفاده استاذنا العلامة ـ أدام الله أيامه ـ في المتن (٣) ـ من أن الفرق بين المشتقّ ومبدئه أنه بمفهومه لا يأبى عن الجري والحمل ، بخلاف المبدأ فإنه يأبى عنه ، وأنه إلى ذلك يرجع ما أفاده أهل المعقول من الفرق بينهما بلا شرط وبشرط لا ، لا حفظ مفهوم واحد ، وملاحظة الطوارئ ـ فهو ، وإن كان صحيحا

__________________

(١) قولنا : ( ولا يذهب عليك ... إلخ ).

هذا إذا اريد مجرد الحمل بالاعتبار اللابشرطي فقط ، وأما إذا اريد جعله مناطا لتباين مفهومي البياض والأبيض ، فلا محالة يكون جزء المدلول بدل المدلول عليه بهيئة المشتقّ نفس هذا الاعتبار ، فيكون مفهوم المشتق ـ مادة وهيئة ـ هو المبدأ الملحوظ هكذا ، كالافعال بعينها. ( منه عفي عنه ).

(٢) الفصول : ٦٢.

(٣) الكفاية : ٥٥.

٢٢٦

في نفسه إنهما كذلك ـ كما سيجيء (١) إن شاء الله تعالى ـ إلاّ أن إرجاع كلمات أهل المعقول إلى ذلك لعلّه لحسن ظنّه بهم ، وإلاّ فكلماتهم صريحة فيما ذكرنا ، ويكفيك شاهدا عليه ما ذكره بعض الأكابر في شواهده (٢) حيث قال : ( مفهوم المشتق عند جمهور علماء الكلام متحصل من الذات والصفة والنسبة ، وعند بعض المحققين (٣) هو عين الصفة لاتحاد العرض والعرضي عنده بالذات. والفرق بكون الصفة عرضا ـ غير محمول ـ إذا اخذ في العقل بشرط لا شيء ، وعرضيا محمولا إذا اخذ لا بشرط ... ) إلى آخره.

ومن الغريب ما عن بعض المدقّقين من المعاصرين (٤) حيث ذكر في بيان من جعل الفرق بينهما بالاعتبار ما محصله :

أن الحدث : قد يلاحظ بنفسه ـ مع قطع النظر عن النسبة الآتية من قبل الهيئات ـ وهو بهذا الاعتبار غير الذات وجودا ، فلا يحمل عليها. وقد يلاحظ في ضمن إحدى الهيئات من المشتقّات ، وحينئذ يمكن الحمل إذا انتزع من الحدث مع النسبة عنوان مساو للذات ، فالمراد من ( لا بشرط ) و ( بشرط لا ) ملاحظة النسبة وعدمها.

وهو غفلة عن حقيقة الأمر ، لما سمعت من أن العلاّمة الدّواني ينادي بخروج النسبة عن المشتقات ، مضافا إلى أن القوم يقولون : بأن نفس الاعتبار اللابشرطي يصحح الحمل ، لا أنه مورد لانتزاع عنوان مساو للذات يصحّ حمله عليها.

__________________

(١) في نفس هذه التعليقة وفي التعليقة : ١٣٢ من هذا الجزء.

(٢) صدر المحققين (رحمه الله) في الشواهد الربوبية : ٤٣.

(٣) وهو المحقق الدواني (رحمه الله) كما حكاه صدر المتألهين في شواهده : ٤٣.

(٤) صاحب المحجّة ـ كما في هامش الأصل.

٢٢٧

هذا ، والإنصاف أن هذا الوجه الذي صححنا به الحمل ـ مع أنه لا يجري في جميع المشتقات ـ لا يكاد يجدي في أنظار أهل النظر ، وإن كان كلاما مشهوريا ؛ إذ الاعتبار لا يجعل المتغايرين في الوجود متّحدين (١) فيه واقعا. والحمل هو الاتّحاد في الوجود بحيث ينسب ذلك الوجود إلى كلّ منهما إما بالذات أو بالعرض في الطرفين أو في طرف واحد.

ومن الواضح أن طور الشيء ليس نفس الشيء ، فلا وجه لدعوى أنه الشيء ، فملاحظة العرض من أطوار موضوعه (٢) لا تصحّح دعوى أن وجوده وجود موضوعه ، وإن كان وجوده في نفسه وجوده لموضوعه.

ومن الواضح ـ أيضا ـ أن تعدّد العرض وموضوعه ليس بالاعتبار كي ينتفي بطروّ اعتبار آخر. فتدبّر جيدا.

فإن قلت : فما وجه حمل الجنس على الفصل ، والفصل على الجنس ، مع أن طبيعة الجنس في الخارج غير طبيعة الفصل؟ وهل المصحّح إلاّ الاعتبار اللابشرطي؟

قلت : التحقيق فيه كما عن بعض الأكابر (٣) أنّ التركيب بينهما في المركّبات الحقيقية اتّحادي لا انضمامي ، بيانه على وجه الاجمال :

أن المركبات الحقيقية لا بد لها من جهة وحدة حقيقية ؛ بداهة أنه لولاها لكان التركب اعتباريا ، والوحدة الحقيقية لا تكون إلا إذا كان أحد الجزءين بنحو

__________________

(١) في الأصل : متحدا ..

(٢) قولنا : ( لا يصحح دعوى ... إلخ ).

ولا يخفى أنّ مفاد القضيّة الحمليّة هو أنّ هذا ذاك ، وأما مجرّد ملاحظة العرض على ما هو عليه من الوجود الحلولي الناعتي في قبال ملاحظته بذاته ، فلا يصحّح قضية حملية ذات نسبة تامة إذ ليس المحمول إلا العرض الملحوظ على ما هو عليه ، ولا الموضوع إلا ذات ما هو طرف هذا العرض ، وهذا لا يحقّق نسبة تامّة يصحّ السكوت عليها. فتدبّر. ( منه عفي عنه ).

(٣) صدر المحقّقين في الأسفار ٥ : ٢٨٢ فما بعدها.

٢٢٨

القوة والإبهام ، والآخر بنحو الفعلية والتحصّل ؛ ضرورة أن كل فعلية ـ بما هي فعلية ـ فهي تأبى عن فعلية اخرى.

وإذا كان أحد الجزءين عين الفعلية ، والآخر عين القوة ، فلا محالة يكونان مجعولين بجعل واحد ، وإلاّ لزم الخلف ؛ إذ الاستقلال في الجعل ينافي الوحدة الحقيقية.

ومن الواضح أنّ كلّ مجعولين بجعل واحد لا بدّ من أن يكون أحدهما مجعولا بالذات والآخر بالعرض ؛ حتى يصح نسبة الجعل إليهما مع وحدة الجعل حقيقة ، وحينئذ لا بدّ من مرور فيض الوجود من الأصل إلى التابع ، كالصورة بالنسبة إلى المادة ، وكالفصل بالنسبة إلى الجنس ، فاذا لوحظ مبدأ الجنس الطبيعي ـ مثلا ـ بما له من الدرجة الخاصّة من الوجود الساري ، لم يحمل على الفصل ؛ لتباين الدرجتين بما هما درجتان ، وإذا الغي الخصوصية ، ولوحظ اتحادهما في الوجود الساري ، صحّ الحمل ، وهذا معنى اتحاد الجنس والمادة واتحاد الفصل والصورة بالذات واختلافهما بالاعتبار. فتبين الفرق بين الجنس والفصل ، وبين العرض وموضوعه ؛ حيث إن التركيب بين الأوّلين حقيقيّ اتحادي ، وبين الأخيرين اعتباري لعدم الافتقار من الطرفين ، ولعدم اتحادهما في الوجود ، ومع المغايرة الحقيقية بينهما ، لا يمكن حمل أحدهما على الآخر بأيّ اعتبار كان.

نعم بناء على اتحاد الأعراض مع موضوعاتها في الوجود كما عن بعض أهل التحقيق (١).

__________________

(١) هو الحكيم المؤسّس الآقا علي المدرّس (رحمه الله) ، كما في هامش الأصل.

وهو الشيخ آغا علي بن الآغا عبد الله الزنوزي الحكمي الطهراني فيلسوف كبير وعالم جليل.

ولد في طهران في سنة ١٢٣٤ ، ونشأ فيها ، ودرس على أبيه وغيره ، فأتقن المعقول والمنقول ، وتخصّص بالفلسفة ، واشتهر بها متفوّقا على علماء عصره ، ملك فيها أزمّة التحقيق ، ودارت عليه رحى التدريس في الحكمة بطهران في عصره ، فلم يكن أفضل منه.

٢٢٩

ـ بل يستفاد من بعض الأكابر (١) ـ في مسألة إثبات الحركة الجوهرية ـ من أنّ التبدّل في الأعراض تبدّل في موضوعاتها ، ولو لا الاتحاد لما صحّ ذلك ـ يصحّ حمل العرض على موضوعه.

والمراد من الاتحاد نظير اتحاد الجنس والفصل ، وهو أن إفاضة الوجود تتعلّق ـ أوّلا وبالذات ـ بالموضوع وبعرضه ثانيا ، كما أن الوجود أوّلا للصورة بما هي صورة ، وثانيا للمادة بما هي مادّة ، ولهذا الاتحاد في الوجود الساري في الموضعين يصحّ الحمل إذا اخذا لا بشرط ، لا إذا اخذا بحسب مرتبة من الوجود ودرجة من التحصّل ، ولا نعني بالحمل إلا الاتحاد في الوجود فقط ، وعلى هذا المعنى ـ من اللابشرط وبشرط لا ـ لا بدّ من أن يحمل ما يوجد في كلمات أهل النظر ، لا على الوجه المشتهر. فافهم وتدبّر.

تتمة :

كل ما ذكرنا إنما يصحّح حمل العرض على موضوعه واتحاد العرض والعرضي بحسب الواقع ، لا أنّ مفهوم الأبيض عرفا نفس حقيقة البياض المأخوذة لا بشرط ؛ إذ صحة الحمل لا ربط لها بالعينية والاتحاد من حيث المفهوم في الأبيض والبياض.

وغرض العلامة الدواني ـ كما هو صريح كلامه ـ والنافع للاصولي عينية

__________________

وكان ورعا عارفا ينظر بنور الله ويتعرّف على النوايا الخفية وما تكنه الضمائر عند الاستخارة بالقرآن الكريم.

توفّي (رحمه الله) ليلة السبت (١٧) من ذي القعدة سنة ( ١٣٠٧ ه‍ ) ، ودفن قرب مرقد السيد عبد العظيم الحسني ( رضي الله عنه ).

من آثاره : طرائق الحقائق ، وبدائع الحكم ، وسبيل الرشاد ، وتعليقات على الأسفار الأربعة.

( طبقات أعلام الشيعة في القرن الرابع عشر : ١٤٧٣ / ٤ رقم ١٩٩٠ ).

(١) صدر المحققين في الأسفار ٣ : ١٠٤.

٢٣٠

المفهومين ذاتا ، ولا دليل عليها.

ومما يرشد إلى ما ذكرنا ما عن بعض المحققين (١) : أن المشتقّ عند الإلهيّين كلّ ما يحمل على غيره بالتواطؤ من دون اشتقاق لغوي ولا إضافة كلمة ذي ، والمبدأ ما ثبت به مفهوم المحمول للموضوع.

ولا يخفى أن مثل هذا المشتق يصدق على حقيقة البياض المأخوذ لا بشرط ، فلا مانع من دعوى الاتحاد بين هذا المشتق ومبدئه ، لا المشتقّات اللغوية والعرفية ومباديها الحقيقية. فتدبّر في أطراف ما ذكرنا في المقام ، فإنه حقيق بالتدبّر التام.

١٣٢ ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما يظهر منه (٢) من بيان الفرق بين الجنس والفصل ، وبين المادّة والصورة ... الخ ) (٣).

لعل نظره السامي ـ دام ظلّه ـ إلى ما تكرّر في كلماتهم : من أن الأجزاء الخارجية في المركّبات الحقيقية إذا لوحظت بشرط لا ـ وبما هي أجزاء متغايرة ـ يعبر عنها بالبدن والنفس ـ مثلا ـ ، ومثلهما لا يحملان على الإنسان ، ولا يقعان في حده ، وإذا لوحظت لا بشرط ـ وبما هي موجودة بوجود واحد ـ يعبّر عنها بالحيوان والناطق ، وهما يحملان على الانسان ، ويقعان في حده. فالاولى أجزاء غير محمولة ، بخلاف الثانية ، فمرجع الاعتبار اللابشرطي والبشرطلائي إلى ملاحظة حقيقة واحدة ؛ بحيث ينتزع عنها مفهومان غير قابلين للحمل ، أو مفهومان قابلان للحمل ، فكذا الأمر في العرض والعرضي.

لكنك بعد الإحاطة بما تلوناه عليك في الحاشية السابقة لا تكاد تشك في أن غرض المحقّق الدواني ـ المنسوب إليه عدم الفرق بين المشتقّ ومبدئه إلاّ

__________________

(١) هو الحكيم المؤسس الآقا علي المدرس (رحمه الله) ، كما في هامش الأصل.

(٢) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : كما يظهر منهم ..

(٣) الكفاية : ٥٥ / ١٥.

٢٣١

بالاعتبار ـ ما ذكرناه وما فهمه صاحب الفصول (١).

مع أن غرض القوم من الاعتبارين ـ أيضا ـ هو الاعتبار الوارد على أمر واحد ، لكن لا نظر لهم إلى اتحاد الجنس والمادة والفصل والصورة مفهوما ـ كما يراه الدواني في العرض والعرضي ـ بل إلى وحدة المطابق ذاتا ، واختلافهما بالاعتبار المصحّح للمادّيّة والجنسية أو الصورية والفصلية ، كما أشرنا إليه في آخر الحاشية السابقة.

١٣٣ ـ قوله [ قدّس سره ] : ( ملاك الحمل كما أشرنا إليه هو الهوهوية والاتحاد ... الخ ) (٢).

ملاك الحمل الذاتي هو الهوهوية بالذات والحقيقة ، والمغايرة بالاعتبار الموافق للواقع ـ لا بالفرض ـ كما سمعت غير مرة ، وملاك الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود والمغايرة بالمفهوم ، فلا بد فيه من وجود واحد ينسب إلى صورتين معقولتين ـ بالذات أو بالعرض ـ في الطرفين أو في طرف واحد. وعليه فلا يعقل حمل أحد المتغايرين في الوجود على الآخر بنحو من أنحاء الحمل.

وزعم في الفصول (٣) إمكان حمل أحد المتغايرين في الوجود على الآخر بما محصله :

ملاحظة كل من الجزءين لا بشرط حتى لا يتأبّيا عن اعتبار الوحدة

__________________

(١) قولنا : ( ما فهمه صاحب الفصول ... إلخ ).

فهو ـ قدّس سرّه ـ وإن أصاب في فهم الاعتبار اللابشرطي ـ وأنه اعتبار يرد على مفهوم واحد ، لا أنه بمعنى آخر ـ لكنه أخطأ في جعله كسائر الاعتبارات في سائر المقامات بلحاظ الطواري ، بل هو اعتبار وارد على حقيقة المبدأ بلحاظ اتحاده مع موضوعه في الوجود الساري ، وحيث إن الاتحاد واقعي ، فلذا عبّر عنه القوم بالاعتبار اللابشرطي ، دون بشرط شيء. فافهم جيدا. ( منه عفي عنه ).

(٢) الكفاية : ٥٥ / ١٧.

(٣) الفصول : ٦٢ التنبيه الثاني.

٢٣٢

بينهما ، وملاحظتهما من حيث المجموع واحدا كي يتحقق هناك وحدة مصحّحة للحمل ، وملاحظة الحمل بالإضافة إلى المجموع من حيث الهيئة الاجتماعية ، حتى يكون الحمل بالإضافة إلى المتحدين في الوجود بنحو من الاعتبار.

وفيه : كما أن اللابشرطية لا تصحّح حمل أحد المتغايرين في الوجود على الآخر ، كذلك ملاحظتهما من حيث المجموع واحدا واعتبار الحمل بالنسبة إليه ؛ إذ بناء على هذا لا اتحاد لأحد الجزءين مع الآخر في الوجود ، كما لا اتحاد لأحدهما مع الكلّ ، بل الوحدة في الحقيقة وصف اللحاظ والاعتبار ، فلا يصحّ أن يقال : هذا ذاك ، بل هذا ذاك في اللحاظ والاعتبار الذي مرجعه إلى أنه يجمعهما لحاظ واحد لا وجود واحد ، والحمل هو اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود ، لا الجمع في لحاظ واحد.

والعجب أنه (رحمه الله) زعم أن حمل الناطق على الحيوان أو الانسان بهذه الملاحظة ، مع أن بعض الأكابر (١) جعل صحة الحمل فيه دليلا على التركيب الاتحادي.

لا يقال : إذا كان الناطق عبارة عن النفس الناطقة ، صح القول بأن الاعتبار اللابشرطي غير مصحّح للحمل ، وأن صحّة الحمل دليل على التركيب الاتحادي. وأما إذا كان عنوانا منتزعا عن الذات ـ ولو بمعنى ما له نفس ناطقة ـ فلا ، فإنّ هذا المعنى ينتزع من الإنسان لكونه واجدا للنفس ، كما ينتزع عنوان الضارب لكونه متلبسا بالضرب.

لأنا نقول : المنتزع عنه لو لم يكن له جهة وحدة ، لم يصحّ الانتزاع عن مرتبة الذات والذاتيات ؛ إذ مجموع النفس والبدن غير واجد للنفس.

وأما حمل أحد الجزءين على الآخر بملاحظة العنوان المنتزع من كلّ منهما

__________________

(١) صدر المحققين في الاسفار ٥ : ٢٨٣ عند قوله : ( والحجة على هذا الاتحاد كثيرة إحداها صحة الحمل ... ).

٢٣٣

بسبب قيام كل منهما بالآخر ، لا بلحاظ اتحاد كل منهما مع الآخر ، فهو أيضا غير صحيح ؛ لأن قيام النفس الناطقة بالبدن يصحح انتزاع الناطق من البدن ، وقيام البدن بالنفس الناطقة يصحح انتزاع عنوان الحيوان من النفس الناطقة ، وكما أن المبدأين متغايران وجودا ، كذلك المنشئان متغايران وجودا ، فلا يصح حمل الناطق على الحيوان (١) لعدم اتحاد مطابقهما في الوجود ، مع أنه لا شبهة في صحة الحمل ، وليس الوجه فيها إلا انتزاع كلّ من العنوانين من هويّة واحدة تسمّى بالانسان.

وأما عدم صحة حمل الناطق على البدن ـ مع قيام الصورة بالمادة وبالعكس ـ فالوجه فيه : أنه ـ بعد عدم الالتزام باتّحادهما في الوجود ـ ليس الناطق عنوان الفصل الطبيعي ؛ ليكون حمله على البدن من باب حمل الفصل على الجنس ، وكذا العكس ، مع أنه لا قيام للمادّة والجنس بالصورة والفصل إلا من باب قيام المعلول بالعلة ، وليس وجود المعلول نعتا للعلة ، ولا وجود العلة ناعتا للمعلول ، فلا يحمل المعلول على علته ، وكذا العلة على معلولها ، كما لا يحمل العنوان الذي كان مبدؤه ذات المعلول أو ذات العلة ، فتدبّره ، فإنه دقيق.

فلا بدّ من جهة وحدة حقيقية بين مبادي الذاتيات ؛ حتى يصحّ حمل أحدها على الآخر ، أو على ذيها ، والاعتبار اللابشرطي والبشرطلائي بعد الالتزام بالوحدة الحقيقية ؛ لما أشرنا إليه في الحواشي المتقدّمة. فراجع (٢).

وأعجب منه أنه (قدس سره) (٣) زعم أن التغاير بين الناطق والحساس

__________________

(١) قولنا : ( فلا يصحّ الحمل .. إلخ ).

وأمّا حمل الحيوان بالعرض على الناطق بالذات ، وحمل الناطق بالعرض على الحيوان بالذات ، فهو صحيح ، إلا أنه ليس من حمل أحد الذاتيين على الآخر ، والكلام فيه ، ( منه عفي عنه ).

(٢) التعليقة : ١٣١.

(٣) الفصول : ٦٢ / أول التنبيه الثاني.

٢٣٤

اعتباري ، كما في ( هذا زيد ) ، مع أن التغاير في المثالين مفهومي ، وهو المعتبر في مرحلة الحمل الشائع.

١٣٤ ـ قوله [ قدّس سره ] : ( لاستلزامه المغايرة بالجزئية ... الخ ) (١).

هذا لو اريد حمل أحد الجزءين على الآخر الملحوظ معه غيره ، وأما إذا كان الموضوع نفس الجزء ، والغرض دعوى اتحادهما في الكلّ الملحوظ شيئا واحدا ـ نظير ما يقال : ( زيد وعمر وواحد في الإنسانية ) ـ فلا مغايرة بالجزئية والكلية ، بل الكلّ ما به الاتحاد وملاكه ، لا أنه المحمول عليه دائما ، وهو المراد من لحاظ الحمل بالقياس إلى المجموع ، وإلا قال : على المجموع ، بل الأمر كذلك إذا حمل الجزء على المجموع أيضا ـ كما صرح بصحته صاحب الفصول (٢) ـ وذلك لأن حمل الجزء على الكلّ إنّما لا يصحّ بلحاظ الوعاء الذي يكون كل جزء [ منه ](٣) مغايرا للآخر وجودا ، وأما بلحاظ الوعاء الذي فرض اتحادهما في ذلك النحو من الوجود الاعتباري ، فلا مانع من صحّة الحمل لمكان الاتحاد في الوجود الاعتباري ، فلا يرد عليه إلاّ ما أوردناه سابقا ، ومحصّله :

أن الاتحاد بلحاظ وعاء والحمل بلحاظ وعاء آخر غير مفيد ؛ بداهة أنّ مفاد قولنا : ( الانسان حيوان ، أو ناطق ) أن هذا ذاك في الخارج ، مع أنه لا اتحاد بينهما فيه ، بل في غير موطن الحمل.

١٣٥ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( مع وضوح عدم لحاظ ذلك في التحديدات وسائر القضايا ... الخ ) (٤).

__________________

(١) الكفاية : ٥٦ / ٣.

(٢) الفصول : ٦٢.

(٣) أضفناها لاقتضاء السياق.

(٤) الكفاية : ٥٦ / ٥.

٢٣٥

يمكن الذبّ عنه : أما في التحديدات ، فلأن الإشكال والكلام في حمل أحد المتغايرين في الوجود على الآخر أو على المجموع بالحمل الشائع ، والحمل في التحديدات حمل أوّلي ذاتي يصحّ اعتباره في المركّب من أمرين ، فمرجع قضية ( الإنسان حيوان ناطق ) إلى أن معنى ذاك اللفظ وحقيقته عين معنى هذين اللفظين وحقيقتهما ، كما إذا صرح بذلك وقال : حقيقة الانسان مركبة من النفس والبدن مثلا.

وأما في سائر القضايا (١) ، فليس فيها حمل أحد المتغايرين في الوجود الخارجي على الآخر ؛ لما عرفت غير مرة أن الضارب ـ مثلا ـ عنوان منتزع عن زيد بلحاظ قيام الضرب به قيام الفعل بفاعله أو العرض بموضوعه ، وانطباقه على زيد ، وكون وجود زيد وجودا له بالعرض ، بملاحظة أن معنى الضارب هو الصورة المبهمة المتلبّسة بالضرب ، ومن الواضح انطباقها على زيد لانطباق الأمر المبهم على ذات زيد ، والربط المأخوذ في العنوان على تلبس زيد ، والمادة على الضرب القائم به ، بخلاف الناطق بالإضافة إلى الحيوان أو الى الإنسان ، كما

__________________

(١) قولنا : ( وأما فى سائر القضايا ... إلخ ).

لا يخفى عليك أن صاحب الفصول (أ) في مقام الإيراد على القائلين باتحاد العرضي والعرض ، وأن اللابشرط يصحّح الحمل ، فغرضه أن اللابشرط لا يجدي بنفسه ، بل بضميمة اعتبارين آخرين ، لا أن الحمل في القضايا بهذه الاعتبارات الثلاثة ليورد عليه بأنه خلاف الظاهر ، بل صرح ـ قدس سره ـ بذلك عند تحقيق مختاره ، فراجع.

وأما ما سلكناه في الحاشية من أن مورد كلامه القضايا الجارية في الذاتيات ؛ نظرا إلى أنها لا تصح إلا بلحاظ الاتحاد الذي ذكرناه أو بالاتحاد الذي يراه صاحب الفصول ، فمندفع بأن كلام صاحب الفصول يعم جميع موارد المتغايرين في الوجود ، ويصرح بالتعميم ، فلا يندفع عنه ما أورده في المتن إلا بالوجه الذي سلكناه هنا. ( منه عفي عنه ).

__________________

(أ) الفصول : ٦٢ / التنبيه الثاني.

٢٣٦

عرفت في الحاشية السابقة آنفا فلا نقض لا بالتحديدات ، ولا بسائر القضايا الجارية في غير الذاتيات. فافهم جيّدا.

١٣٦ ـ قوله [ قدّس سرّه ] : ( لا ريب في كفاية مغايرة المبدأ مع ما يجري المشتقّ عليه مفهوما ... الخ ) (١).

توضيحه : قد مر مرارا أن الحمل مطلقا لا بدّ فيه من مغايرة ما ، ومن اتحاد ما : فإن كان الحمل أوّليا ذاتيا ، فالمغايرة المعتبرة فيه بالاعتبار ، والاتحاد المعتبر فيه بالحقيقة والماهية ؛ إذ المفروض أن النظر فيه إلى الذات من حيث هي ، لا من حيث الوجود الخارجي ، ومع فرض الاتحاد بالذات والحقيقة ، لا يبقى مجال للمغايرة ، إلا المغايرة الاعتبارية الموافقة للواقع ، لا بفرض الفارض ، كحمل الحد على المحدود ؛ حيث إن المحدود ملحوظ بنحو الجمع والانطواء والإجمال ، والحدّ ملحوظ بنحو الفرق والكثرة والتفصيل ، وكحمل أحد المترادفين على الآخر ، فإنّ المفهوم الواحد بما هو مسمّى هذا اللفظ ، غيره بما هو مسمى ذلك اللفظ ، واعتبار المسمى ـ كاعتبار الاجمال والتفصيل ـ مصحّح للحمل ، لا مأخوذ في المحمول ، كما ربما يتوهم.

وإن كان الحمل حملا شائعا صناعيا ، فالاتحاد المعتبر فيه ـ كما عرفت غير مرة ـ هو الاتحاد في الوجود ؛ إذ المغايرة في الوجود مخلّة بالحمل الذي حقيقته الهوهوية في الوجود ، ولا يتصور الوحدة في الوجود مع تغاير الطرفين وجودا ؛ إذ الوحدة رفيق الوجود تدور معه حيثما دار ، ومع الاتحاد الحقيقي في الوجود لا يبقى مجال للمغايرة المعتبرة في صحّة الحمل إلا المغايرة المفهومية.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن المغايرة المعتبرة في المفهوم في الحمل الشائع إنما هي بين الموضوع والمحمول المحكومين بالاتحاد في الوجود ، والمبدأ ـ بما هو ـ

__________________

(١) الكفاية : ٥٦ / ١١.

٢٣٧

أجنبي عن الاتحاد والمغايرة ، فكما أن الاتحاد في الوجود لا يلاحظ بين المبدأ والذات ، كذلك المغايرة بين المفهومين لا تلاحظ بين المبدأ والذات ، فالبحث عن لزوم المغايرة بينهما ـ فضلا عن دعوى الاتفاق على لزوم المغايرة ـ أجنبي عن مقتضيات الحمل ، بل المغايرة بين المبدأ والموضوع ـ مفهوما ومصداقا ـ أمر اتفاقي ، لا تدور صحة الحمل مدارها ، فاذا كان الحمل بين الوجود والموجود ، والسواد والاسود ، ونحوهما فلا مغايرة مفهوما بين الموضوع ومبدأ المحمول مع ثبوت المغايرة المفهومية بين المحمول والموضوع.

وأما ما عن شيخنا الاستاذ في فوائده (١) : من أن الموجود : إن حمل على الوجود المفهومي ـ أي المعنى المصدري ـ فلا يصحّ الحمل ؛ لعدم المغايرة مفهوما بين الموضوع ومبدأ المحمول. وإن حمل على الوجود العيني الطارد للعدم ، فلا مفهوم في طرف الموضوع ليوافق مبدأ المحمول ليمنع عن الحمل ، بل المغايرة ثابتة بين العيني ومفهوم المبدأ بالحقيقة.

فما لا يصل إليه فكري القاصر ؛ لأنّ عدم صحة حمل الموجود على الوجود المفهومي ليس لأجل عدم المغايرة مفهوما ، بل لعدم الاتحاد مفهوما بين الموضوع ونفس المحمول إن كان الحمل ذاتيا ، ولعدم الاتحاد وجودا بينهما إن كان الحمل شائعا.

وأما صحة الحمل على الوجود العيني ، فليست من أجل كون الموضوع هو الوجود العيني ـ بما هو ـ ، وإلاّ لما انعقدت قضية حملية ، بل بتوسّط مفهوم الوجود الفاني في مطابقه ، فعاد عدم المغايرة المفهومية بين مفهوم الموضوع ومبدأ المحمول ، فالوجه في صحة الحمل ما ذكرنا.

وإذا كان الحمل بين الماهية والموجود ، والجسم والأسود ، كانت المغايرة المفهومية بين الموضوع ومبدأ المحمول ثابتة قهرا ، إلا أنّ المعتبر من المغايرة غير

__________________

(١) وهي ملحقة في ذيل حاشيته على رسائل الشيخ الأعظم (رحمه الله) : ٣١٣.

٢٣٨

هذه.

وكذلك الأمر في المغايرة مصداقا بين الموضوع ومبدأ المحمول ، فإنّ المحمول : إن كان منتزعا عن نفس مرتبة ذات الموضوع ، فلا محالة مبدؤه كذلك ؛ إذ المفروض أنّ وضع ذات الموضوع ـ من غير ملاحظة أمر خارج عن ذاته ـ كاف في صدق المحمول ، وهذا لا يعقل إلا مع تحقّق مبدئه في ذات الموضوع ، وإلا لزم توقّف صدق المحمول على قيام مبدئه به خارجا ، وهو خلف. وبهذا الاعتبار الباري ـ عزّ اسمه ـ عالم وعلم.

وإن كان المحمول منتزعا عن الموضوع بلحاظ أمر خارج عن مرتبة ذات الموضوع ، كما في ( زيد قائم ) و ( الجسم أبيض ) ، فالمبدأ لا محالة مغاير مع ذي المبدأ مصداقا. هكذا ينبغي تحقيق المقام.

١٣٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( التحقيق أنه لا ينبغي أن يرتاب من كان من اولي الألباب في أنه يعتبر في صدق المشتق ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أن منشأ صدق المشتقّ وحمله على شيء : إما قيام مبدئه به بقيام انضمامي ، كما في صدق الأسود على الجسم ، وكما في صدق الكاتب والضارب ، فإنّ مباديها أعراض قائمة بقيام انضمامي لها صورة في الأعيان بما تجري عليه. أو قيامه به بقيام انتزاعي ، كما في صدق الفوق على شيء ، فإنّ مبدأه وهي الفوقية لا صورة لها في الاعيان ؛ كي تقوم بشيء على نحو الانضمام ، بل هي من حيثيات وجود شيء في الخارج ، تنتزع عنه عند ملاحظته بما هو متحيث بها. أو تقرّر حصة من المبدأ في ذات الموضوع على نحو الجزئية ، كما في تقرّر حصّة من الإنسانية في ذات زيد المتشخّص بالوجود ولوازمه ؛ حيث إن نسبة الطبيعي إلى الأفراد كنسبة الآباء ـ لا أب واحد ـ إلى الأولاد. أو اتحاد المبدأ مع الموضوع في الوجود ، كما في

__________________

(١) الكفاية : ٥٧ / ٥.

٢٣٩

حمل الجنس على الفصل ، وبالعكس ؛ لاتّحاد مبادي الذاتيات في الوجود ، كما هو التحقيق. أو اتحاد المبدأ مع الموضوع بحيث يكون المبدأ هو نحو وجود الموضوع ، لا كالمثال السابق ، وهذا كما في ( الإنسان موجود ) ، فإنّ الماهية والوجود متحدان في الوجود ، لكن الوجود نفس كون الماهية في الخارج. أو عينية المبدأ لتمام ذات الموضوع عينا ، كما في صدق الأسود على السواد ، وصدق الموجود على الوجود ؛ إذ لو اتّصف الجسم بواسطة أمر خارج عن ذاته بالأسود ، فالسواد أولى بأن يصدق عليه الأسود ؛ لأنّ وجدان الشيء لنفسه ضروري ، وكذلك في الوجود والموجود.

ومن هذا الباب صدق الصفات الكمالية ، والنعوت الجلالية والجمالية على ذاته الأقدس (١) ـ تعالى وتقدس ـ فان مباديها عين ذاته المقدسة ، وهذا نحو من القيام ، بل هو أعلى مراتب القيام ، وان لم يصدق عليه القيام في العرف العام ، ولا بأس به لعدم انحصار مناط الصدق في ما هو قيام في العرف العام ، وتفاوت الموارد في وجه الصدق لا يوجب تفاوتا في المفهوم كي يقال : إن العرف لا يراعي مثل هذه الامور الدقيقة ، فإن العرف مرجع تشخيص المفاهيم ، والمفروض عدم اختلافها باختلاف وجه تطبيقها على مصاديقها ، مثلا : العالم من ينكشف لديه الشيء ، وما به الانكشاف : تارة عرض كما في علمنا بالامور الخارجة عن ذاتنا ، واخرى جوهر نفساني كما في علمنا بذاتنا ، فإن مرجعه إلى حضور ذاتنا لذاتنا ، وعدم غيبة ذاتنا عن ذاتنا ، وثالثة جوهر عقلي كما في علم العقل ، ورابعة وجود واجبي ـ لا جوهر ولا عرض ـ كما في علمه تعالى. وحقيقة العلم في جميع الموارد نحو من الحضور ، وان كان ما به الحضور في كل مورد غير ما به الحضور في مورد آخر.

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصحيح : القدسى ؛ لأن أصحاب المعاني استعملوا الذات مؤنثة ، واستعاروها لعين الشيء ـ جوهرا كان أو عرضا ـ واستعملوها مفردة ومضافة إلى المضمر وبالألف واللام ، وليس ذلك من كلام العرب. ( مفردات الراغب ـ مكتبة الانجلو المصرية ـ : ٢٦٣ ) بتصرف.

٢٤٠