نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

الاشتراك اللفظي كان قولنا : ( زيد يضرب حالا وغدا ) استعمالا في أكثر من معنى ، وهو غير معقول ، وعلى المشهور غير صحيح ، مع أن المثال المزبور لا شبهة في صحته.

وإن اريد الاشتراك المعنوي ، فلا جامع بين الحال والاستقبال ، إلا غير الماضي ، وادراج هذا المفهوم في المضارع سخيف جدا ، مضافا إلى لزوم غلطية ( كان زيد بالامس بضرب عمرا ) للتناقض ، ولا مدفع لكلّ ذلك إلاّ الالتزام بعدم اشتمال الفعل على الزمان بنحو من الانحاء ، مع الالتزام باشتماله على خصوصية تناسب المضيّ في الماضي ، وتناسب الحال والاستقبال في المضارع.

قلت : قد سمعت الكلام في الخصوصية آنفا ، وأما كيفية اشتمال الماضي والمضارع على الزمان ، فمجمل القول فيها : ان هيئة الماضي موضوعة للنسبة المتقيدة بالسبق الزماني على ما اضيفت إليه ـ بالمعنى المتقدّم من السبق ـ بنحو يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا ، وهيئة المضارع موضوعة للنسبة المتقيدة بعدم السبق الزماني على ما اضيفت إليه على الوجه المذكور ، لا أن الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال أو غير الماضي ـ بهذه العناوين الاسمية ـ مأخوذ في الهيئة ؛ كي يقال : إن الزمان عموما وخصوصا من المعاني المستقلّة بالمفهومية ، فلا يعقل أخذها في النسبة التي هي من المفاهيم الأدويّة والمعاني الحرفية ، ولا يعقل لحاظها بنحو الحرفية كي يجعل من جهات النسبة ، وقد عرفت الجواب عن الأول.

وأما عدم معقولية لحاظها حرفيا ففيه : أن النسبة الواقعة في الزمان مقيّدة به قطعا ، فتلاحظ على هذا النهج من دون عناية اخرى ، وهو معنى لحاظ الزمان بنحو المعنى الحرفي.

وأما حديث التناقض في مثل ( كان زيد يضرب عمرا بالأمس ) فتوضيح الحال فيه وفي أمثاله : أن السبق واللحوق قد يلحظان بالإضافة إلى زمان النطق ، كما إذا قيل من دون تقييد : ( ضرب زيد ، أو يضرب ) ، وقد يلحظان بالإضافة إلى

١٨١

أمر آخر كما يقال : ( رأيته يصلي ، أو أراك خدعتني ) ، فان الغرض في الأول حينئذ الإخبار عن الصلاة حال الرؤية ، والرؤية في زمان سابق على زمان النطق ، والغرض في الثاني الإخبار عن سبق الخدعة بالإضافة إلى زمان الرؤية ، والرؤية في الحال ، وليس الغرض الإخبار عن الرؤية والصلاة ، والرؤية والخدعة في عرض واحد ، وإلا لناسب أن يقال : رأيته وصلى ، وأراك وخدعتني ، وعليك بإرجاع ما يرد عليك من الأمثلة الموهمة للتناقض إلى ما ذكرنا.

١٠٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( كما أن الجملة الاسمية كـ « زيد ضارب » ... الخ ) (١).

نعم ، انطباقه على الحال والاستقبال يمكن أن يكون على حد انطباق الجملة الاسمية لعدم الاشتمال على خصوص زمان إلاّ أنّ الإشكال ـ الباعث على الالتزام باشتماله على الزمان ـ غلطية ( زيد يضرب أمس ، وضرب غدا ) ، فلولا خصوصية السبق الزماني وعدمه في الماضي والمضارع ، لما كان الاطلاق المزبور غلطا ، كما في الجمل الاسمية القابلة للتقييد بأي نحو كان ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ تحقيق حال الأوصاف (٢).

١١٠ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وربما يؤيد ذلك أن الزمان ... الخ ) (٣).

قد عرفت وجه التأييد والجواب عنه ، فلا نعيد.

١١١ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فالمعنى في كليهما في نفسه كلّي طبيعي ... الخ ) (٤).

اعلم أن الكلي الطبيعي نفس معروض الكلية ، كالحيوان والانسان ،

__________________

(١) الكفاية : ٤١ / ١٢.

(٢) وذلك في التعليقة : ١١٣ من هذا الجزء.

(٣) الكفاية : ٤١ / ١٥.

(٤) الكفاية : ٤٢ / ١٠.

١٨٢

والكلي العقلي هو الحيوان بوصف الكلية ، وحيث إن الكلية من الاعتبارات العقلية ، فلا محالة لا موطن للموصوف بها بما هو كذلك إلا في العقل ، ولذا وصف بالكلي العقلي ، لا أن كليته العقلية بلحاظ تقيده باللحاظ الاستقلالي أو الآلي ـ كما في المتن ـ كيف؟ واللحاظ ـ الذي هو وجوده الذهني ـ مصحّح جزئيته في الذهن ، مع أن صيرورته جزئيا ذهنيا بملاحظة تقيّده بالوجود الذهني مسامحة واضحة ؛ إذ الجزئية والكلية من اعتبارات المعاني والمفاهيم ؛ لأن الإباء عن الصدق وعدمه ، إنما يعقل في المفهوم ، لا في الموجود فالموجود مطلقا خارج عن المقسم ، ولذا لو قيد به شيء خرج عن قابلية الصدق ، لا لأنه كلي عقلي أو جزئي عقلي ، فإنّ الكلّي العقلي قابل للحمل على نفسه بالحمل الذاتي الأوّلي ، بخلاف الوجود الحقيقي والمتقيّد به ، فإنهما غير قابلين للصدق رأسا.

١١٢ ـ قوله [ قدس سره ] : ( اختلاف المشتقات في المبادئ وكون المبدأ في بعضها ... الخ ) (١).

تحقيق القول فيه : أن عدم رجوع الاختلاف إلى الجهة المبحوث عنها بأحد وجهين : إما بإشراب الجهات المذكورة في المتن ـ من الفعلية والقوة والملكة والاستعداد ونحوها ـ في ناحية المبادي ، فالتلبّس في كل واحد بحسبه ، كما هو ظاهر غير واحد من الأصحاب في مقام الجواب. وإما بعدم الالتزام بالتصرف في ناحية المبادي أيضا ، بل بوجه آخر كما يساعده دقيق النظر ، فنقول :

أما في مثل : النار محرقة ، والشمس مشرقة ، والسم قاتل ، والسنا مسهل ـ إلى غير ذلك مما يكون مسوقا لبيان المقتضيات ـ فالجواب عنه : أن النظر فيها إلى مجرّد اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود ، لا إلى اتحادهما في حال ؛ ليقال : بأنه إطلاق على غير المتلبّس ، فالقاتل في قضيتي ( زيد قاتل ) ، و ( السم قاتل ) على

__________________

(١) الكفاية : ٤٣ / ١١.

١٨٣

نهج واحد من حيث الاستعمال في معنى مطابقة الذات المتلبسة حقيقة بالقتل ، لا أن التلبس والنسبة أعم من الاقتضاء والفعلية ، فإنه لا معنى محصل له ؛ إذ الخروج من العدم إلى الوجود ـ الذي هو جامع جميع انحاء النسب والتلبسات ـ عين الفعلية فلا يجامع الاقتضاء.

نعم التلبس بالاقتضاء أمر معقول ، فيرجع إلى إشراب الاقتضاء في ناحية المبدأ.

ومما ذكرنا : يظهر الفرق بين تعميم القيام في مثل : ( زيد ضارب ) إذا أمر بالضرب ، والتعميم في الاقتضاء ؛ إذ القيام : تارة بنحو قيام العرض بموضوعه ، كما في صورة المباشرة ، فان الحركة الخاصة من أعراضه القائمة به ، واخرى بنحو قيام المعلول بالعلة ، كقيام الضرب بالآمر ، فإنه بأمره وتحريكه أوجده ، وهذا بخلاف المقتضي ، فانه وإن كان قائما بالمقتضي عند اجتماع الشرائط ، لكن عند عدمها لا ثبوت حقيقي له أصلا ، فلا معنى لقيامه به بأيّ معنى كان.

والتحقيق : أنه للمقتضى ثبوت في مرتبة ذات مقتضيه عرضا ، فوجود المقتضي وجوده بالذات ، ووجود مقتضاه بالعرض ، فهو باعتبار ثبوت فعلي عرضي ، وباعتبار ثبوت اقتضائي في قبال الثبوت المناسب للمقتضي في نظام الوجود.

فمن يقول : بأعمية النسبة من الاقتضاء والفعلية ، إن أراد ما ذكرنا ، فهو المطلوب ، وإلاّ فلا معنى محصّل له.

وأما في مثل : ( الانسان كاتب بالقوة ) فمن الواضح أن الكاتب مستعمل في معناه لا فيما له الكتابة بالقوة ، وإلا لم يصحّ أن يوجّه بالقوة ؛ إذ القوة بالفعل لا بالقوة.

١٨٤

وبالجملة : الكاتب مستعمل في معنى ثبوتي مطابقه حيثية ذاته حيثية طرد العدم ، لكن الغرض بيان اقتضاء الانسان لهذا المعنى بالقوة لا بالفعل.

وكذا الكلام في أسماء الأمكنة والأزمنة والآلات : كـ ( هذا مذبح ، أو مسلخ أو مفتاح ) ، فإن الجري فيها بلحاظ القابلية والاستعداد ، وإلا فالمفهوم مطابقه ما ذكرنا ؛ ضرورة أن التصرف في المادة أو الهيئة غير ممكن فيها.

أما في المادة : فلأن الآلة مثلا فاعل ما به الفتح في المفتاح ، وفاعل ما به الكنس في المكنسة (١) ، ولا معنى لكون الشيء فاعلا لقابلية الفتح أو الكنس أو لاستعدادهما ، فلا معنى لإشراب القابلية والاعداد والاستعداد في المادة.

وأما في الهيئة : فلان مفاد الهيئة نسبة الفاعلية في اسم الآلة ، ونسبة الظرفية الزمانية والمكانية في اسمي الزمان والمكان ، ولا معنى لا شراب الجهات المزبورة في النسب المذكورة ، إذ ليست تلك الجهات جهات النسب ـ بحيث تلحظ النسبة مع احدى تلك الجهات ـ بطور المعنى الحرفي والمفهوم الأدويّ.

فأما أن يلاحظ الفاعل والأثر والظرف والمظروف على الوجه المصحح لانتزاع نسبة الفاعلية والظرفية فقد لوحظت النسبة على وجه الفعلية ، وإلاّ فلا. فتدبّر جيدا.

وأما في مثل الخياط والتمار والعطار ونحوها ـ من الأوصاف الدالّة على الصنعة والحرفة ـ فتوضيح الحال فيها : أن ما كان مبدؤه قابلا للانتساب إلى الذات بذاته ـ كالخياط والنساج والكاتب إذا كانت الكتابة حرفة ـ فسرّ

__________________

(١) في الأصل : ( المكنس ) ، والصحيح ما أثبتناه ؛ حيث لا يوجد في اللغة ( مكنس ) بمعنى آلة الكنس ، بل هو موضع اختباء الوحش.

١٨٥

الإطلاق [ فيه ] مع عدم التلبس بنفس المبدأ : أنه باتخاذه تلك المبادي حرفة فكأنه ملازم للمبدا دائما ، وإلا فالوجدان أصدق شاهد على أن المتبادر من الكاتب في ( زيد كاتب ) وفي ( زيد كاتب السلطان ) معنى واحد ومفهوم فارد ، ومطابق كلّ واحد حيثية ذاته حيثية طرد العدم ، لكن العناية المصحّحة للإطلاق ـ مع عدم المطابق له في ظرف الاتصاف ـ كون المورد ـ باتخاذه المبدأ حرفة وشغلا ـ كالمطابق له.

وأما ما لم يكن مبدؤه قابلا للانتساب بذاته ـ كالتامر واللاّبن والبقّال لان مباديها أسماء الأعيان ـ فلا بدّ من الالتزام [ فيه ] بأن الربط الملحوظ بينها وبين الذات ربط تبعي لا بالذات ، بمعنى أنّ حقيقة الربط ـ أوّلا وبالذات ـ بين الذات واتخاذ بيع التمر واللبن والبقل حرفة وشغلا ، إلا أن التمر واللبن والبقل صارت مربوطة بالذات بالتبع ، لا بالذات. وكذا الحدّاد ، فإن الحديد مربوط ـ بالذات ـ باتخاذ صنعة الحديد حرفة ، لا بالذات ، فهذه الهيئة كسائر الهيئات ـ في أصل المفهوم والمعنى ـ غاية الأمر أن الربط فيها ربط مخصوص من شأنه صدق الوصف على الذات ما دام الربط الذاتي المصحّح لهذا الربط باقيا ، لا أن المبدأ اتخاذ الحرفة ، ولا أن الهيئة موضوعة للأعمّ.

وأما ما عن المحقّق الدواني (١) : من عدم لزوم قيام المبدأ في صدق المشتقّ مستشهدا بمثل المقام ، ولذا جعل الموجود بمعنى المنتسب إلى حقيقة الوجود ، لا ما له الوجود.

ففيه : أن الأوصاف الاشتقاقية من وجوه الذات وعناوينها ، والمبدأ بلا

__________________

(١) حكاه في الأسفار ٦ : ٦٤ عند قوله : ( وثانيتهما ... ).

١٨٦

لحاظ القيام ، ليس وجها ولا عنوانا لشيء بلا كلام ، وسيجيء (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ تحقيقه.

كما انّ ما ذكرنا ـ في تحقيق حال الحدّاد ونحوه ـ أولى مما ذكره بعض (٢) أكابر فن المعقول في جواب المحقّق الدواني حيث قال ـ ما ملخصه ـ :

إن المبدأ في الحدّاد والمشمّس هو التحدّد (٣) أو الحديدية ، والتشمّس او الشمسية ، بدعوى : أن للحديد حصولا في صانعه باعتبار مزاولته لصنعة الحديد ، فكأنه صار ذا قطعة منه ، خصوصا بملاحظة قيام الحديد بذهنه من جهة كثرة المزاولة لا مجرد الملاحظة ، وكذا في المشمّس ، فإنه لكثرة وقوع شعاع الشمس عليه ، كأنه صار ذا قطعة منها ، لكن ما ذكرناه أقرب إلى الاعتبار العرفي ، كما هو غير خفي. فتدبّر في أطراف ما ذكرناه في المقام.

١١٣ ـ قوله [ قدس سره ] : ( المراد بالحال في عنوان المسألة ، حال التلبس ، لا حال النطق ... الخ ) (٤).

تحقيق المقام : أن المراد من الوضع للمتلبّس في الحال أو للأعمّ هو أن مفهوم المشتقّ نحو مفهوم لا ينطبق إلا على المتلبس بالمبدإ ـ في مرحلة الحمل والتطبيق ـ أو ينطبق عليه وعلى المنقضي عنه المبدأ.

فزمان الحال ـ سواء اضيف إلى النطق أو إلى النسبة الحكمية أو التلبس ـ أجنبي عن مفاد المشتقّ ومفهومه ، وعن مرحلة حمله وتطبيقه :

__________________

(١) وذلك في أواخر التعليقة : ١٣٠ من هذا الجزء.

(٢) صدر المحققين في الأسفار ٦ : ٦٩ ـ ٧٠.

(٣) لا وجود لهذا المصدر في اللغة ، والصحيح هو : الحدادة.

(٤) الكفاية : ٤٣ / ١٨.

١٨٧

أما عدم أخذه في مفهومه ؛ فلما تسالموا عليه من خروج الزمان مطلقا عن مداليل الأسماء ـ ومنها الأوصاف ـ مضافا إلى ما سيجيء إن شاء الله تعالى (١).

وأما عدم أخذ أحد الأزمنة في مرحلة الحمل والصدق ـ وإن لم يؤخذ في المدلول ـ فتوضيحه : أما عدم وضع الوصف لمعنى ينطبق على المتلبس ـ في زمان النطق ـ فللزوم التجوّز في ( زيد ضارب أمس ) إذا كان ظرف تلبّسه أمس ، وكذا في ( زيد كان ضاربا بالأمس ) ، مع أنه لا منشأ صحيح للتجوز.

ودعوى العضدي (٢) ـ الاتفاق على المجازية في ( زيد ضارب غدا ) ـ اشتباه منه في تطبيق مورد الاتفاق على المجازية بتخيل أن المراد من الحال حال النطق.

__________________

(١) وذلك في نفس هذه التعليقة.

(٢) في شرحه لمختصر المنتهى لابن الحاجب : ٥٨ ـ ٥٩.

وشرح المختصر للعضدي وهو :

عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الإيجي الشيرازي أبو الفضل.

ولد سنة ( ٧٠٨ ه‍ ) في ( إيج ) من بلاد فارس.

درس على والده حتى أتقن فن المعقول والمنقول. له مصنفات منها : ( المواقف ) في علم الكلام ، و ( الفوائد الغياثية ) في المعاني والبيان ، و ( شرح مختصر الحاجب ) في اصول الفقه. ومن تلاميذه السعد التفتازاني والشمس الكرماني.

جرت له محنة مع صاحب كرمان فحبسه في قلعة قرب ( إيج ) إلى أن مات فيها سنة ( ٧٥٣ هجرية ).

( من أعلام الزركلي : ٣ / ٢٩٥ ، وشذرات الذهب : ٦ / ١٧٥ )

أما المختصر فهو :

لعثمان بن عمر أبو عمرو بن الحاجب الفقيه المالكي.

ولد سنة ( ٥٧٠ ه‍ ) في صعيد مصر ، وهو كردي الأصل ، نشأ في القاهرة ، وسكن دمشق ، ومات في مصر ( بالاسكندرية ) سنة ( ٦٤٦ ه‍ ). من تصانيفه : ( الكافية ) في النحو ، و ( الشافية ) في الصرف ، و ( مختصر الفقه ) في الفقه المالكي ، ( مختصر منتهى السئول والأمل ) في اصول الفقه.

( أعلام الزركلي : ٤ / ٢١١ ) بتصرف.

١٨٨

وأما عدم الوضع للمتلبس في زمان النسبة فلأن الوصف ربما لا يكون لنسبته زمان ، كما في الخارج عن افق الزمان ، فاللازم أن لا يصدق العالم بما له من المعنى عليه ـ تعالى ـ ؛ حيث إن النسبة الاتحادية ـ بين ذاته المقدسة والوصف المزبور ـ غير واقعة في الزمان.

لا يقال : ما لم يقع في الزمان نفس التلبس بالمبدإ ، وأما النسبة الحكمية فلا.

لأنا نقول : الفرق بين التلبّس والنسبة الاتحادية مطلقا ، أن قيام المبدأ بالذات تلبّسها به ، وهو منشأ لانتزاع وصف عن الذات المتلبسة بالمبدإ ، فمطابقة الذات ـ خارجا ـ لهذا الوصف العنواني ، هو معنى اتحادهما في الوجود ، والحمل ليس إلا الحكم بهذا الاتحاد الوجودي بين العنوان والمعنون والوصف والموصوف.

ومن الواضح : أن مطابقة ذاته المقدّسة لوصف العالم غير واقعة في الزمان. هذا ، ولو كان الوصف والموصوف زمانيين ، لكن ربما لا يكون النظر في إجراء الوصف عليه إلى الزمان ، كما في حمل الذاتي على ذي الذاتي ، كما في ( الانسان حيوان أو ناطق ) ، أو حمل لوازم الطبيعة عليها ، كما في ( النار حارة ) ، فان النظر فيهما إلى مجرد اتحاد الموضوع والمحمول في الوجود من دون نظر إلى زمان ، لا أن مطلقه ملحوظ دون خصوص زمان ، كما يساعده الوجدان.

وأما عدم الوضع بلحاظ زمان التلبس ، فلما سمعت في نظيره آنفا من أن الوصف ربما لا يكون لمبدئه وتلبس الذات به زمان ، كما في الخارج عن أفق الزمان ، ولو كان التلبس في الزمان ، لكن ربما لا يكون النظر إليه كما عرفت.

ومما ذكرنا تبين وجه عدم أخذ أحد الأزمنة في مفهوم الوصف ، مضافا إلى أنّ النسبة الحكمية الاتحادية متأخّرة عن مفهوم الوصف المحمول على موصوفه ، فلا يعقل تقيّد مفهوم الوصف بزمان النسبة المتأخّرة عنه ، كما أن التلبس بالمبدإ إذا كان زمانيّا لا يعقل تخلّفه عن زمانه ، فأخذ التلبس متقيدا بزمانه لغو ، لا يفيد

١٨٩

فائدة.

فالصحيح : أن الوصف موضوع لنحو مفهوم مطابقة المتلبّس بالمبدإ ، دون غيره ، فلا يصدق إلا عليه من دون ملاحظة أحد الأزمنة ، كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله (١).

ثم لو أغمضنا عما ذكرنا ، فالأنسب هو الثالث ، وهو الوضع للمتلبّس بلحاظ حال تلبّسه بالمبدإ ؛ بمعنى الوضع لمعنى وصفيّ عنواني مطابقة الذات في زمان تلبّسها بالمبدإ ، لا مطابقه المتلبّس بالمبدإ في زمان تلبّسه بالمبدإ. فإنه لغو محض ، دون الثاني ؛ لأن اتحاد زماني النسبة والتلبس ـ كما هو مقتضى الوجه الثاني ـ ليس مستندا إلى ظهور الوصف في معناه ، بل إلى ظهور قضية الحمل ؛ لأن مفاد الحمل الشائع هو الاتحاد في الوجود. فظهور الحمل دالّ على اتحاد زماني النسبة وتلبس الموضوع بمبدإ المحمول ، وإلاّ لم يكن اتحاد بينهما في الوجود ، ولذا ربما يتخلّف هذا الظهور فيما إذا كان الوصف معرفا لا عنوانا ، فإنّ الوصف في حالتي العنوانية والمعرفية مستعمل في معنى مطابقة المتلبّس بالمبدإ حقيقة ، إلا أن الغرض من الحمل عند المعرفية ليس إفادة اتحاد الموضوع مع مفهوم المحمول في الوجود ، بل الغرض الإشارة إلى حقيقة الموضوع بمعرّفية الوصف وطريقيّته ، كما في ( هذه زوجة زيد ) إذا كانت بائنة منه ، فزمان النسبة الحملية غير زمان التلبّس ، مع أن الوصف على ما هو عليه من المعنى.

وأوضح منه : ما إذا نسب إلى الوصف شيء ، فان الظهور في الاتحاد بين الزمانين أضعف ؛ لاستناده إلى مجرّد عدم التقييد ، وكونه في مقام البيان ، كما في ( جاءني الضارب ) ، فإنّ ظهور الضارب في المتلبس بالضرب ـ حال إسناد المجيء إليه ـ مستند إلى ما ذكرنا ، لا إلى ظهور الوصف في معناه ، ولذا يصح ( جاءني اليوم

__________________

(١) التعليقة : ١١٧ عند قوله : ( والتحقيق عدم خلوص ... ).

١٩٠

الضارب بالأمس ) من دون تصرّف في الوصف ، ويؤيّده عدم ظهور الكلام في شيء إذا كان المتكلّم في مقام الإهمال. فافهم جيّدا.

تنبيه

ربما يتوهم (١) : أن الوضع للمتلبّس بالمبدإ ينافي عدم التلبّس به في الخارج ، بل امتناع التلبّس به ـ كما في المعدوم والممتنع ـ للزوم انقلاب العدم إلى الوجود ، والامتناع إلى الإمكان ، ولذا يصحّح ذلك بإرادة الكون الرابطي من التلبّس ؛ نظرا إلى ما عن أساطين فن الحكمة : من أنّ الوجود الرابط لا ينافي الامتناع الخارجي للمحمول.

وهو غفلة عما اصطلحوا عليه في الكون الرابط (٢) ، وأنه غير متحقّق إلا في الهليّات المركّبة الإيجابية دون غيرها. فليراجع.

بل التحقيق : أن صدق المشتقّ على شيء بالحمل الشائع ـ الذي مفاده الاتحاد في الوجود ـ على أنحاء ، فإن الوجود : خارجي ، وذهني. وكلّ منهما : بتي ، وتقديري ، ففي قولنا : ( زيد كاتب ) يكون الاتحاد في الخارج بتا ، وفي قولنا :

__________________

(١) صاحب المحجة ـ كما في هامش الأصل ـ.

(٢) لا يخفى أن النسبة الحكمية الاتحادية غير الوجود الرابط : لوجودها في كل القضايا ـ دون الوجود الرابط ـ غاية الامر أنّ منشأ النسبة الحكمية ـ وهي أنّ هذا ذاك ـ تارة ثبوت المبدأ للموضوع ، كما في القضايا المركبة الايجابية ، واخرى اتحاد المبدأ مع الموضوع ، كما في ( الانسان موجود ) ، وثالثة عينية المبدأ للموضوع ، كما في ( الوجود موجود ). كما أن الوجود الرابط غير الوجود الرابطي ؛ إذ لا وجود رابطي في ( زيد أعمى ) حيث لا ثبوت للعمى في الخارج ـ بمعنى كونه ذا صورة في العين ـ ، مع ان الكون الرابط في زيد أعمى موجود ، فلا وجود رابطي إلا في مثل ثبوت الأعراض لموضوعاتها. [ منه قدس سرّه ].

١٩١

( الإنسان نوع ) يكون الاتحاد في الذهن بتا ؛ حيث إن النوعية من الاعتبارات الذهنية ، وفي قولنا : ( كذا معدوم ) يكون الاتحاد في الخارج تقديرا إن كان النظر إلى الخارج ، وإلا ففي الذهن تقديرا. وإنما كان هذا القسم بالتقدير دون البت ؛ لأن المعدوم المطلق ـ من جميع الجهات ، وبتمام أنحاء الوجود ـ لا يعقل أن يحكم به وعليه ؛ إذ لا بدّ في وقوعه طرفا للنسبة من تمثّله في الذهن ، وحضوره عند العقل ليحكم به وعليه.

وحيث إن الحكم به وعليه ، ليس باعتبار المفهوم والعنوان ، لكونه موجودا بالحمل الشائع ، لا معدوما ، والمفروض عدم وجود المطابق له في الخارج ، للزوم الخلف ، فلا محالة لا مناص من أن يقال ـ كما عن بعض الأكابر (١) ، ونعم ما قال ـ : إن العقل ـ بتعمّله واقتداره ـ يقدّر ويفرض لعنوان المعدوم والممتنع وأشباههما فردا ما بحيث تكون ذاته محض الهلاك وعين البطلان ، فيحكم عليه وبه بمرآتية العنوان ، فظهر أن المنافاة إنما هي بين الوجود البتي والعدم والامتناع ، لا بينهما والتقديري الذي لا بد منه ، فالتلبس في كل مورد بحسبه.

ومما ذكرنا يظهر : أن النزاع المعروف ـ بين المعلم الثاني (٢) والشيخ الرئيس

__________________

(١) صدر المحققين في الأسفار ١ : ٣٤٧ والذي في المتن هو مضمون عبارة الأسفار.

(٢) المعلم الثاني هو :

أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الحكيم المشهور المعروف بالفارابي ، وبالمعلم الثاني بعد افلاطون الذي يعتبر المعلم الأوّل.

ولد في فاراب من مدن الترك في أطراف بلاد فارس ، قصد بغداد ، وأقام بها برهة ، ثم ارتحل الى مدينة حران ، ثم رجع إلى بغداد ، ثم سافر إلى دمشق ثم إلى مصر ، ثم عاد الى دمشق ، وأقام بها وسلطانها يومئذ سيف الدولة بن حمدان. له تصانيف في الفلسفة والمنطق والموسيقى.

كان ينفرد بنفسه عند مجتمع الماء ومشتبك الرياض ، وكان زاهدا في الدنيا قانعا فيها.

توفي عام ( ٣٣٩ ه‍ ) بدمشق وقد ناهز ثمانين سنة ، وصلّى عليه سيف الدولة ، ودفن بظاهر دمشق.

( وفيات الأعيان : ٥ / ١٥٣ رقم ٧٠٦ ) بتصرف.

١٩٢

في الأوصاف العنوانية المجعولة موضوعات في القضايا ؛ حيث اكتفى الأول بإمكان التلبّس ، وزاد الثاني قيد الفعلية ـ لا ينافي كون الموضوع معدوما تارة ، وممتنعا اخرى ، وليس من الخرافات ، كما زعمه المتوهم المتقدم.

١١٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإنّ الظاهر أنه فيما إذا كان الجري في الحال كما هو ... الخ ) (١).

لا يذهب عليك أن تلبّس الذات بالمبدإ قيام المبدأ بها بنحو من أنحاء القيام ، وهو يصحّح انتزاع الوصف العنواني الاشتقاقي عن الذات ومطابقتها له.

والنسبة الحكمية الاتحادية عبارة عن مطابقة الموضوع لمفهوم المحمول في الوجود ، ومن البيّن : أنّ مفاد القضيّة الحمليّة ـ بالأصالة ـ ثبوت مفهوم المحمول للموضوع ، ومطابقة الموضوع لمفهوم المحمول في الوجود ، وتلبّس الذات بمبدإ المحمول ملزوم النسبة الحكمية مطلقا (٢) ، أو في الجملة.

والظاهر من القيود المأخوذة في القضية رجوعها إلى ما هو مفاد القضية بالأصالة ، وهي النسبة الحكمية ، لا رجوعها الى ملزومها أو لازمها ، فإرجاع ( الغد ) إلى التلبّس المستفاد من القضية بنحو التبعية للنسبة الحكمية ، دون مفادها بالأصالة ـ أعني النسبة الحكمية ـ خلاف الظاهر جدّا.

ومنه يظهر أيضا : أن ظهور القضية في كون الجري في الحال إنما هو بالإطلاق ومع القرينة الصالحة لا وجه لاستظهار الجري في الحال ، مع أن هذه الحال حال النطق ، واتحادها مع حال الجري والنسبة يقتضي اتحادها مع حال

__________________

(١) الكفاية : ٤٤ / ٥.

(٢) قولنا : مطلقا ... الخ ).

فالأول على القول بالوضع للمتلبس ، والثاني على القول بالوضع للأعم. ( منه عفي عنه ).

١٩٣

التلبّس ، وهو إنّما يصحّ مع عدم المعيّن لحال التلبّس ، فمع فرض المعيّن لحال التلبّس لا وجه لدعوى ظهور الجري في حال النطق فافهم جيّدا.

والعجب من بعض الأعلام (١) من مقاربي عصرنا (رحمه الله) حيث أفاد : أن ( الغد والأمس ) ليسا من الروابط الزمانية ، بل اسم (٢) لنفس الزمان ، فلا يدلاّن على وقوع النسبة في الزمان.

وأنت خبير بأن عدم كون شيء من الروابط الزمانية لا ينافي قيديته للنسبة المستفادة من القضية بما لها من الربط الزماني أو غيره ، فكما أنّ القيد المكاني صالح لتقييد النسبة ، فيقال : زيد ضارب في الدار ، كذلك القيد الزماني ، من دون فارق أصلا.

١١٥ ـ قوله [ قدس سره ] : ( مع معارضتها باصالة عدم ملاحظة العموم ... الخ ) (٣).

توضيحه : أن المفاهيم ـ في حدّ مفهوميتها ـ متباينات ، فالعموم والخصوص في مرحلة الصدق ، ومع دوران الأمر بين الوضع لمفهوم أو لمفهوم آخر ليس أحدهما متيقنا بالنسبة إلى الآخر ، فإنّ التيقّن في مرحلة الصدق ـ لمكان العموم والخصوص ـ لا دخل له بمرحلة المفهوم الذي هو الموضوع له. فتدبّر جيدا.

١١٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( ويدلّ عليه تبادر خصوص المتلبس ... الخ ) (٤).

تحقيق المقام : أن مفهوم الوصف ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى (٥) ـ

__________________

(١) هو المحقق الرشتي في بدائع الأفكار : ١٧٩.

(٢) كذا في الأصل ، والصحيح : بل اسمين ..

(٣) الكفاية : ٤٥ / ٢.

(٤) الكفاية : ٤٥ / ١٥.

(٥) وذلك في التعليقة : ١٣٠.

١٩٤

بسيط ، سواء كانت البساطة على ما يراه العلاّمة الدواني (١) تبعا لبعض عبارات القدماء ـ من اتحاد المبدأ والمشتقّ ذاتا واختلافهما اعتبارا ـ أو كانت البساطة على ما يساعده النظر من كون مفهوم المشتق صورة مبهمة متلبّسة بالقيام على نهج الوحدانية كما هو كذلك في الخارج ، وسيجيء تفصيل كل من النحوين إن شاء الله تعالى (٢). ومع البساطة ـ بأحد الوجهين ـ لا يعقل الوضع للأعمّ ، كما نقل الميل إليه عن شيخنا العلامة الأنصاري قدس‌سره في كلام بعض أعلام تلامذته (رحمه الله) (٣).

والوجه فيه : أما على البساطة التي ذهب اليها المحقق الدواني : فلما سيجيء (٤) ـ إن شاء الله ـ أنّ ـ الوجه ـ الوجيه ـ في تصحيح كلامه وتنقيح مرامه : هو دعوى ملاحظة المبدأ من أطوار موضوعه وشئونه وكونه مرتبة منه ، فالوصف نفس المبدأ ذاتا ، وغيره بهذه الملاحظة. ومن الواضح : أنه مع زوال المبدأ وانقضاء التلبس به لا شيء هناك حتى يعقل لحاظه من أطوار موضوعه وشئونه ؛ فكيف يعقل الحكم باتحاد المبدأ مع الذات في مرحلة الحمل مع عدم قيامه به؟

وأما على البساطة التي ساعدها النظر القاصر : فلأن مطابق هذا المعنى الوحداني ليس إلا الشخص على ما هو عليه من القيام ـ مثلا ـ ولا يعقل معنى بسيط يكون له الانتساب حقيقة إلى الصورة المبهمة المقوّمة لعنوانيّة العنوان ، ومع ذلك يصدق على فاقد التلبّس.

بل التحقيق : أنّ الأمر قريب من ذلك في وضوح الفساد بناء على تركّب مفهوم المشتقّ حقيقة ، سواء كان مفهوم المشتقّ من حصل منه الضرب ـ مثلا ـ

__________________

(١) ونسبه صدر المتألهين (رحمه الله) إلى بعض المحققين في شواهده : ٤٣.

(٢) وذلك في التعليقة : ١٣٠ من هذا الجزء.

(٣) لم نعثر عليه بمقدار فحصنا.

(٤) انظر التعليقة : ١٣١ من هذا الجزء.

١٩٥

كما هو المتراءى في بادي النظر عن العلامة (رحمه الله) في التهذيب (١) وغيره في غيره ، أو كان من له الضرب ، كما عن آخرين ، فإن الصدق ـ على الأعم ـ في الأوّل بملاحظة أنّ من زال عنه الضرب يصدق عليه أنه من حصل منه الضرب ، وفي الثاني بلحاظ إهمال النسبة عن الفعلية والانقضاء ، كما إذا وقع التصريح به ، وقيل : ( زيد من له سابقا الضرب فعلا ) بجعل الفعلية قيدا للنسبة الاتحادية بين الموضوع ومحموله ، وهو الموصول بما له من المتعلقات. ووجه وضوح الفساد :

أما في الأوّل : فلأن لازمه تركّب الأوصاف عن فعل ماض وزيادة ، وهو بديهي فساده ، مع لزوم التجوز في ( زيد ضارب الآن ) ؛ لمنافاة القيد لما اخذ في الوصف ، وكذا في ( ضارب غدا ) إلا بالتجريد ، وهو بعيد.

وأما في الثاني : فلأن إهمال النسبة لو كان منشأ للصدق على من زال عنه التلبّس ، فاللازم صدق الوصف على من لم يتلبّس لمكان الإهمال ، فلا وجه للاتفاق على المجازية في الاستقبال. مضافا إلى ما عرفت سابقا : أن النسبة حقيقتها الجامعة لجميع أنحائها ، هو الخروج من العدم إلى الوجود ، وهو عين الفعلية ، فلا معنى لإهمالها ، ولا لكونها أعمّ من الوجود والعدم.

وبالجملة : الربط المأخوذ في الأوصاف والأفعال ما هو ربط بالحمل الشائع ، لا بالحمل الأوّلي ، فتصوّر مفاهيم المشتقات وان لم يتوقف على ذات وتلبس ومبدأ ، إلا أن صدقها على شيء يتوقّف على أن يكون مطابقها على ما وصفناه.

فاتضح من جميع ما ذكرناه : أن المدّعي للوضع للأعمّ ـ من المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس ـ لا يدّعي أمرا معقولا أو قابلا لوجه وجيه ؛ كي يحتاج في

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول ـ مخطوط ـ : ٨.

١٩٦

دفعه إلى إعمال علائم الحقيقة والمجاز ، وأما تحقيق بساطة المشتق ، وتركبه ، فعلى عهدة ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ عما قريب فانتظر (١).

١١٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وفيه إن اريد تقييد المسلوب (٢) الذي يكون سلبه أعم ... الخ ) (٣).

توضيح المقام على وجه الاستيفاء لتمام الأقسام :

أن السلب : إن اعتبر بالحمل الأوّلي الذاتي فاللازم سلب ما ارتكز في الأذهان أو تعارف في عرف أهل اللسان من المعنى الجامع ، لا من خصوص ما انقضى عنه المبدأ ، فإن سلبه لا يستدعي السلب عن الجامع ـ بخلاف السلب عن الجامع ـ لأن عدم تعدّد الوضع لعلّه مما لا ريب فيه ، وحيث إن السلب بلحاظ المفهومين ، فلا حاجة إلى التقييد بالزمان كي يورد عليه بما حكي في المتن.

وإن اعتبر السلب بالحمل الشائع : فتارة يلاحظ الزمان قيدا للسلب ، وهو علامة عدم الوضع للجامع ، وإلا لما صحّ سلبه عن مصداقه في حين من الأحيان ، واخرى يلاحظ المسلوب عنه في حال الانقضاء ، ويسلب عنه مطلقا مطلق الوصف ، وثالثة يلاحظ المسلوب في حال الانقضاء ، فيسلب عن الذات مطلقا ، فإنّ ما لا أمارية لصحة سلبه هي المادة المقيّدة ، فإنّ عدم كونه ضاربا بضرب اليوم لا ينافي كونه فعلا ضاربا بضرب الأمس ، بخلاف الهيئة المقيّدة ، فإنّ عدم كونه ضارب اليوم (٤) ـ ولو بضرب الأمس ـ ينافي الوضع للأعمّ من المتلبّس.

فاتضح بما ذكرنا : صحة أمارية صحة السلب مقيدا للمجازية ، سواء كان القيد قيدا للسلب ، أو المسلوب أو المسلوب عنه.

__________________

(١) التعليقة : ١٣٠ من هذا الجزء.

(٢) في الكفاية ـ تحقيق مؤسّستنا ـ : وفيه أنه إن اريد بالتقييد تقييد المسلوب.

(٣) الكفاية : ٤٧ / ١٩.

(٤) الإضافة لفظية بنية الانفصال بتقدير : ( ضاربا اليوم ).

١٩٧

وأما ما يقال : ـ من أنّ سلب المقيّد لا يستلزم سلب المطلق ـ فإنما يسلّم فيما إذا كان للوصف بلحاظ حال الانقضاء فردان ، فإنّ سلب أحد الفردين لا يستلزم [ سلب ](١) المطلق ؛ لإمكان وجوده في الفرد الآخر ، مع أنّ المدّعى كون الوصف في حال الانقضاء فردا في قبال حال التلبّس ، فإذا صحّ سلبه في حال الانقضاء فقد صح سلبه بقول مطلق لانحصاره فيه.

والتحقيق : عدم خلوص كلّ ذلك عن شوب الإشكال ، وذلك لأنّ زيدا ـ المسلوب عنه ـ غير قابل (٢) لتقيّده بالزمان ؛ لعدم معنى لتقيّد الثابت وتحدّده بالزمان ، فإنه مقدّر الحركات والمتحرّكات ، ولحاظه موصوفا بزوال المبدأ عنه لا يصحّح سلب الوصف عنه مطلقا لصحة توصيفه به معه ، فيقال : زيد ـ الذي زال عنه الضرب ـ ضارب بالأمس ، فمجرد لحاظ الموضوع في حال الانقضاء لا يصحح السلب مطلقا.

وأما تقييد السلب فقط فغير سديد ؛ لأن العدم غير واقع في الزمان ولو كان مضافا إلى شيء. كيف؟ وقد عرفت : أن التقيّد والتحدّد به ليس شأن كلّ

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) لا يقال : هذا بناء على عدم الحركة الجوهرية ، وإلا فتبدّله الطبيعي الجوهري متقدر بالزمان.

لأنا نقول : نعم ، إلا أن الجري لا يمكن إلا بلحاظ ذاك الأمر الثابت الذي لا بدّ منه في موضوع الحركة ؛ لما عرفت سابقا أن بقاء ما يصدق عليه المشتق لازم على كل حال ، ولذا أخرجنا اسم الزمان عن محل البحث ، فيعود المحذور إن كان الصدق بلحاظ ذلك الأمر الثابت الغير المتقدر بالزمان.

مضافا إلى أنّ زيدا بما له من التبدّل الطبيعي الجوهري لو كان موضوعا للقضيّة بنحو القيديّة والعنوانية ـ لا بنحو المعرّفية ـ لم يمكن إجراء الوصف عليه بلحاظ حال التلبّس أيضا ، فلا شهادة لعدم الصدق حينئذ ، وأما إذا اخذ بنحو الإشارة والمعرّفية إلى ذلك الأمر الثابت ، فعدم الصدق في حال الانقضاء أوّل الكلام ؛ لأن الموضوع حقيقة غير مقيّد بشيء يمنع عن الصدق. فافهم واستقم. ( منه عفي عنه ).

١٩٨

موجود كان (١) ، بل القابل للتقيّد والتحدّد بالزمان نفس التلبّس بالضرب ـ الذي هو نحو حركة من العدم إلى الوجود ـ فإنه واقع بنفسه في الزمان ، والنسبة الاتحادية بين الوصف والموصوف ، موصوفة بالوقوع في الزمان بالتبع ، وإلا فالوصف ـ بما هو ـ غير واقع فيه ؛ لأنه ـ بما هو ـ غير موجود إلا بتبع وجود زيد متلبّسا بالضرب.

ومنه ظهر : أن تقييد المسلوب ـ وهو الوصف بمعناه ـ بالزمان لا معنى له ، بل القابل هي النسبة الاتحادية بتبع مبدئها ، وهو التلبس الواقع في الزمان بالاصالة ، وحيث إن التحقيق الذي ينبغي ويليق ، كما عليه أهله : أن القضايا السلبية ليست ـ كالقضايا الايجابية ـ مشتملة على نسبة ، بل مفادها سلب النسبة الايجابية ؛ بمعنى أنّ العقل يرى زيدا ، ويرى الوصف ، فيرى عدم مصداقيته لمفهوم الوصف ، لا أنه يرى مصداقيته لعدم الوصف ؛ إذ الوجود لا يكون مصداقا للعدم ، ولا أنه يرى قيام العدم به ؛ إذ لا شيء حتى يقوم بشيء ، فنقول حينئذ : مفاد ( زيد ليس بضارب الآن ) سلب النسبة المتقيّدة بالآن ، ولو كان الوصف موضوعا للأعمّ كان زيد مصداقا له الآن ، ولم يصحّ سلب مصداقيته ومطابقته المزبورة ، كما لا يخفى.

فإن قلت : النسبة في السوالب نسبة سلبية بإزاء العدم الناعتي الرابطي ، كالنسبة في الموجبات بإزاء الوجود الناعتي الرابطي ، وإلاّ ـ لو ورد السلب على النسبة لزم انقلاب المعنى الحرفي اسميا ـ فلا يبتني التفصّي عن الإشكال على جعل السلب واردا على النسبة ، فإن العدم الناعتي إذا كان في حال الانقضاء ، فلا محالة يستحيل أن يكون الوجود الرابطي فيه ، ولو كان الوصف موضوعا للأعمّ لكان وجوده الناعتي الرابطي متحققا في حال التلبس والانقضاء معا.

__________________

(١) الظاهر أنّ الصحيح في العبارة هكذا : .. كل موجود مهما كان ..

١٩٩

قلت : نعم ، لا فرق بين جعل النسبة في السالبة سلبية ، وجعل السلب واردا عليها ، فيما هو المهم في المقام ، وإنما المهمّ عدم جعل الزمان قيدا للسلب.

وأما تفسير النسبة السلبية بالعدم الناعتي ، والنسبة الايجابية بالوجود الرابطي ، فقد مرّ سابقا : أن النسبة الحكمية أعمّ من الوجود الرابط ، وهو أيضا أعم من الوجود الرابطي.

وأما جعل العدم ناعتيا رابطيا ، فلا وجه له ؛ فإن الرابطية للوجود بلحاظ حلوله في الموضوع ، وأن كونه في نفسه كونه لموضوعه ، وهذا شأن الوجود ، فإنه الحالّ ، وله الناعتية والرابطية ، والعدم لا شيء حتى يحل في شيء ليكون ناعتيا رابطيا.

وأما لزوم انقلاب المعنى الحرفي اسميا بورود السلب على النسبة ، فمدفوع : بأن العقل إذا وجد كون هذا ذاك ، فقد وجد المطابقة وادركها بالعرض والتبع ، لا أنه وجد المطابقة ، وأدركها بما هي مطابقة. فكذلك إذا أدرك أن هذا ليس ذاك ، فقد أدرك عدم مطابقة الذات لعنوان الوصف بالتبع ، لا أن عدم المطابقة ـ بهذا العنوان ـ ملحوظ استقلالا.

هذا ، ويمكن إصلاح قيدية الزمان للمسلوب عنه بتقريب : أن الثابت الذي له وحدة مستمرة بلحاظ الوجود ، وإن لم يتقدر بالزمان ـ لأنه شأن الأمر الغير القارّ ـ لكنه مع كل جزء من أجزاء الزمان ، وبهذا الاعتبار يقال بمرور الزمان عليه ، فصح أن يلاحظ ( زيد ) مع جزء من الزمان الذي له المعية معه ، فيسلب عنه ـ مطلقا ـ مطلق الوصف.

وأما قيدية الزمان للعدم ، ولو بهذا المعنى ، فلا معنى لها ؛ إذ العدم لا شيء حتى يكون له المعية مع الزمان.

نعم مرجع معيّته مع الزمان إلى عدم معيّة الوجود ـ الذي هو بديله مع الزمان ـ فتكون النسبة متقيّدة بالزمان حقيقة ، لا السلب.

٢٠٠