نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-43-4
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٢٦

الملازمة المستفادة من إطلاق المقام ، لا إلى تخصيص موضوع الحكم ؛ لأن السبب الشرعي باق على نفوذه ـ بما هو سبب شرعي ـ من دون خصوصية اخرى ، ولا إلى تخصيص الحكم ؛ لأن النفوذ لم يرتفع عن السبب الشرعي في مورد أصلا ، ولا إلى التخطئة لنظر العرف ؛ إذ لم يكن هناك واقع محفوظ جعل نظرهم طريقا إليه ، فأفهم واغتنم.

٨٧ ـ قوله [ قدس سره ] : ( دخل شيء وجودي أو عدمي في المأمور به ... الخ ) (١).

قد عرفت في ذيل الدليل الرابع من أدلة الصحيحي (٢) تفصيل القول في حقيقة الجزء والشرط ، وأن الشرط ليس مطلق ما يوجب خصوصية في ذات الجزء ، بل خصوصية خاصة ، وهي ما له دخل في فعلية تأثير الأجزاء بالأسر. وأما الخصوصية المقوّمة للجزء ، فليست هي من عوارض الجزء ، بل الجزء أمر خاص ، وتسمية مطلق الخصوصية شرطا ـ مع كون بعضها مقوّما للجزء ـ جزاف ، فراجع.

إنما الكلام هنا في تحقيق الفرق بين جزء الطبيعة وجزء الفرد ، والفرق بينهما في غير المركبات الاعتبارية : أنّ ما كان من علل قوام الطبيعة ، وكان أصل الماهية ـ مع قطع النظر عن الوجود ـ مؤتلفة منه ، فهو جزء الطبيعة. وما لم يكن من علل القوام وما يأتلف منه الطبيعة ـ بل كان من لوازم وجود الطبيعة في الخارج بوجود فردها ـ فهو عند الجمهور من مشخصات الطبيعة في الخارج ، وعند المحققين من لوازم التشخص ؛ حيث إن التشخّص بالوجود يسمّى جزء الفرد ؛ لأن الفرد ـ بحسب التحليل العقلي الموافق للواقع ـ مركب من الطبيعة

__________________

(١) الكفاية : ٣٣ / ١٨.

(٢) راجع التعليقة : ٧١ من هذا الجزء عند قوله (رحمه الله) : ( ثم إن هذه الامور .. ) وحتى قوله (رحمه الله) : ( من ذي بصيرة ).

١٤١

ومشخصاتها.

وأما المركبات الاعتبارية فإجراء هذا البيان فيها لا يخلو عن شيء ، ومجرّد ملاحظة الطبيعة الواجبة ( لا بشرط ) لا يستدعي اعتبار مشخصية الزائد على أصل الطبيعة ، فإنّ الطبيعة ـ بالإضافة إلى الخارج عنها ـ لا بشرط ، ومع ذلك فليس كل خارج من مشخصاتها ، بل المشخّصية من أوصاف لوازم وجودها في الخارج ، وهذا المعنى غير قابل لاعتبار صحيح ، إلا أن يقال :

فضيلة الطبيعة وكمالها من شئونها وأطوارها ، لا أنها شيء بحيالها ، فيكون كالمشخصات التي لا تلاحظ في قبالها. فالقنوت ليس بعض ما يفي بالغرض الأوفى ، بل القائم به نفس طبيعة الصلاة ، لا مطلقا ، بل عند تحقق القنوت فيها ؛ حيث إن القنوت كمال للصلاة ، وقد عرفت : أن كمال الشيء لا يحسب في قباله ، بل كالمشخص له ومن شئونه وأطواره.

فاتضح أن اعتبار المشخصية على أي وجه ، وهو أن الشارع لم يأخذه في حيّز الطلب الوجوبي ، ولم يكن مما يفي بالغرض ، بل إنما ندب إليه لكونه كمالا للصلاة ـ مثلا ـ فالصلاة المشتملة عليه أفضل ؛ حيث إنها أكمل.

ثم لا يخفى أن مثل هذا الجزء ـ المعبر عنه بجزء الفرد ـ خارج عن حقيقة المسمى ؛ لصدق الصلاة على فاقده وإن صدقت على واجده ، كما هو شأن المشخّص ، فإنّ مشخّصات زيد خارجة عن حقيقة الإنسان وعن مسمّاه ، ومع ذلك فزيد ـ بما هو زيد ـ إنسان ، لا إنه إنسان وزيادة ، كما أشرنا إليه والى وجهه في بعض الحواشي المتقدمة (١).

وأولى منه بالخروج عن المسمّى ما يستحب نفسا في أثناء العبادة ـ بحيث

__________________

(١) كما في التعليقتين : ٣٨ و ٦٠ من هذا الجزء.

١٤٢

كانت العبادة ظرفا له ولو بنحو الظرفية المنحصرة ـ إذ المفروض أنه ليس مما يتقوّم به الطبيعة ، ولا من شئونها وأطوارها ، ومجرد استحباب عمل في عمل لا يقتضي بالجزئية ولا بالمشخصية ، وترشّح الاستحباب منه إلى العبادة إنما يكون إذا تمحضت العبادة ـ في المقدمية لوجوده ، ولم تكن مقدمة لوجوبه أيضا بأن كان مستحبّا في الصلاة مطلقا ـ لا مشروطا ـ وإلا فلا ترشح ؛ حيث لا استحباب قبل فعل الصلاة على الفرض.

ولغير واحد من الأعلام كلام في المقام ـ في الفرق بين الجزء المفرّد والمستحبّ في أثناء العبادة بما لا يخلو من شوب الإبهام ـ وهو :

سراية فساد الجزء المفرّد إلى العبادة ، دون الآخر ؛ نظرا إلى أنه جزء لأفضل الأفراد ، ومن جملة الأفعال الصلاتية دون الآخر.

وكذا يفرّق بينهما في التسليم ـ بناء على استحبابه ـ فإنه إذا كان جزء الفرد كان الشكّ في حاله شكّا قبل الفراغ عن الصلاة ، وإذا كان مستحبا بعد التشهد في نفسه ـ لا من حيث المشخّصية ـ كان الشك في تلك الحال شكا بعد الفراغ.

وفي كلا الفرقين نظر واضح ، فإنهما إنّما يتمّان إذا كان المسمّى بالمشخّص كالمشخّص الحقيقي الذي يوجب زواله وانعدامه زوال الطبيعة وانعدامها ؛ لوجودها بوجود شخصها وفردها ، فتزول بزواله ، وتنقطع بانقطاعه. وليس الأمر كذلك ؛ لما عرفت مفصّلا آنفا : أن اعتبار المشخصية باعتبار أن مثل هذا الجزء كمال للطبيعة ، وكمالها ليس أمرا في قبالها ، فيكون كالمشخّص الحقيقي الذي لا يعدّ موجودا مستقلا في قبال وجود الطبيعة ، بل هو من أطوار وجودها وشئونه ، وإلا فتحقّق نفس الطبيعة بتحقّق التكبيرة والقراءة إلى آخر الأجزاء الواجبة ، فالصلاة المشتملة على القنوت الفاسد ، كالتي لم تشتمل عليه من حيث تحققها

١٤٣

بتحقق ما هو من علل قوامها ، وكذلك تنقطع طبيعة الصلاة بالتشهّد ، والتسليم كمالها ، فإن وجد صحيحا كانت الصلاة كاملة به ، وإلا فلا ، وليس مشخّصا حقيقيا كي يتخيل أن الطبيعة لا توجد إلا بوجود شخصها ، فافهم جيدا.

* * *

١٤٤

الاشتراك

٨٨ ـ قوله [ قدس سره ] : ( الحق وقوع الاشتراك للنقل ... الخ ) (١).

المراد من الموادّ الثلاث ـ أعني الامكان وطرفيه ـ هو الوقوعي منها دون الذاتي ؛ ضرورة أنّ النظر إلى ذات الاشتراك لا يقتضي ضرورة الوجود أو العدم ، بل المدّعى لزوم المحال من فرض وقوعه أو لا وقوعه ، وعدمه. وكما أن إمكان الشيء ذاتا لا ينافي وجوبه أو امتناعه الوقوعي ، فيصير واجبا أو ممتنعا بالعرض ، كذلك لا منافاة بين إمكان الشيء وقوعيا ووجوبه بالغير ؛ ضرورة أن عدم الوجوب لعدم اللازم الممتنع لا وقوعه ، غير الوجوب لوجود العلة التامة.

ثم إنّ أدلّ دليل على إمكان الاشتراك وقوعه في اللغة ، كالقرء للحيض والطهر ، والجون للسواد والبياض ، وغير ذلك.

ومن غريب الكلام ما عن بعض المدققين من المعاصرين (٢) حيث زعم : أن اللفظ في المثالين غير موضوع للمعنيين ، بل للجامع الرابط بينهما ؛ نظرا إلى استحالة التقابل بين معنيين لا جامع بينهما ، مستشهدا بعدم التقابل بين الظلمة والحمار ، ولا بين العلم والحجر ، فالقرء موضوع للحالة الجامعة بين حالتي المرأة من الطهر والحيض ، والجون لحال اللون من حيث السواد والبياض ، وظن أن خفاء الجامع أوهم الاشتراك. ولعمري إنه من بعض الظن ، أما لزوم الجامع في المتقابلين : فإن أراد المتقابلين بحسب الاصطلاح ـ وهما الأمران اللذان يمتنع

__________________

(١) الكفاية : ٣٥ / ٢.

(٢) صاحب المحجّة ـ كما في هامش الأصل

١٤٥

اجتماعهما في موضوع واحد أو محلّ واحد بجهة واحدة ـ فمن الواضح عدم لزوم الجامع مطلقا ؛ إذ من أقسام التقابل تقابل الايجاب والسلب ، وعدم الجامع بينهما بديهي.

وإن أراد المتقابلين بتقابل التضادّ ، فلزوم اندراجهما تحت الجامع قول به في فن الحكمة ، ولذا اعتبر امتناع اجتماعهما في المتعاقبين على موضوع واحد لا محلّ واحد. إلا أن المتقابلين غير منحصرين في المتضادّين ، فإن العلم والجهل ـ عند هذا القائل ـ من المتقابلين ، مع أنهما غير متقابلين بتقابل التضاد ، بل بتقابل العدم والملكة ، ولا جامع بينهما ، ولم يذكر أحد من أرباب الفن لزومه في تقابلهما. وحيث إن اللازم في تقابل العدم والملكة إضافة العدم الى ما يقبل الوجود كالعمى ، فإنه يوصف به من يقبل البصر ، فلذا لا يطلق على الحجر : أنه جاهل أو أعمى.

وأما عدم التقابل بين الظلمة والحمار والعلم والحجر ، فإن أراد عدم التقابل اصطلاحا ـ وان كان بينهما التعاند والغيرية ـ فلو سلم لا يدلّ على لزوم الجامع بين المتقابلين بقول مطلق ، مع أنه لو كان المتضادان ـ اصطلاحا ـ الوجوديين اللذين يمتنع اجتماعهما في محل واحد ، يكون المثالان من المتقابلين بتقابل التضاد. نعم ، بناء على عدم تضادّ الجواهر بعضها مع بعض ومع العرض ، لا تضادّ بينهم وإن كان متعاندين.

ثم لو أغمضنا النظر عن كل ذلك ، فأيّ دليل دلّ على أن الامرين المندرجين تحت الجامع ، كالسواد والبياض ، يجب الوضع للجامع بينهما دونهما ، وهل هو إلا تحكم بلا وجه.

هذا ، مع أن الجامع بين السواد والبياض ليس إلا اللون ، ولازمه صحة

١٤٦

إطلاق الجون على كل لون ، وإلا فخصوصية السواد والبياض المفرّقة بينهما لا يعقل (١) أن يكون لها جامع. فتدبّر جيّدا.

٨٩ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وإن أحاله بعض لإخلاله ... الخ ) (٢).

ذكر بعض أجلّة العصر (٣) برهانا على الاستحالة ـ إذا كان الوضع عبارة عن جعل الملازمة الدهنية بين اللفظ والمعنى ، أو عما يستلزمها ـ ملخّصه بتوضيح مني :

أن الوضع لكل من المعنيين ـ بحيث لم يكن هناك إلاّ معنى واحد ووضع واحد ـ وليس أحد الوضعين متمّما للآخر ، ولا ناظرا إليه ، فعليه : إن كان اللفظ ملازما للمعنيين ـ دفعة واحدة بانتقال واحد ـ لزم الخلف إذ المفروض جعل ملازمتين بالإضافة إلى معنيين ، وعدم كون أحد الوضعين متمّما للآخر ولا ناظرا إليه.

وإن كان ملازما لأحد المعنيين على الترديد ، فهو أيضا كذلك ، وهو واضح.

وان كان ملازما للمعنيين بملازمتين مستقلتين وانتقالين حقيقيين ـ كما هو المفروض ـ فحيث لا ترتّب بينهما ، فلا بد من تحقق انتقالين دفعة واحدة ـ من غير ترتب ـ بمجرّد سماع اللفظ ، وهو محال.

وفيه : أن الوضع ليس جعل اللفظ علة تامة للانتقال ؛ كي يلزم هذا

__________________

(١) إذ لا جامع للفصول ، ومنه ظهر أن الجامع بهذا المعنى لا يفيد الخصم ؛ لتوهّمه أنّ الخصوصيّات المميّزة الموجبة للتقابل لها جامع رابط ، مع أنّ التقابل بهذه الأنحاء الأربعة المعروفة ذاتي فيها. [ منه قدس سره ].

(٢) الكفاية : ٣٥ / ٣.

(٣) الملاّ علي النهاوندي (رحمه الله) في تشريح الاصول : ٤٧.

١٤٧

المحال ، بل جعله مقتضيا له ، فإن كان هناك اقتضاء واحد لمكان وحدة اللفظ والمعنى ، ولم يكن هناك مانع ـ كقرينة المجاز ـ تحققت الملازمة الذهنية ، وخرجت من حد الاقتضاء إلى الفعلية.

وإن كان هناك اقتضاءات متعددة متساوية الأقدام ، أو كانت هناك قرينة المجاز ، فلا يتحقق المقتضي ، وهو معنى الإجمال إلى أن تقوم قرينة معينة ، وهي في الحقيقة من قبيل رفع المانع عن تأثير المقتضي في المقتضى.

ومما ذكرنا تعرف : أن الوضع الثاني غير ناقض ولا مناقض للوضع الأول ، فإنه إنما يكون كذلك إذا كان جعل الوضع اللفظ علة تامة ، وإلا فاللفظ باق على اقتضائه ، حتى مع القرينة المعينة لمعنى آخر. هذا بالاضافة إلى الانتقال التصديقي.

وأما بالإضافة إلى الانتقال التصوري ، أو الانتقال التصديقي بالإضافة إلى لفظين مقرونين بالقرينة المعينة لمعنيين ، فنمنع استحالة انتقالين في آن واحد دفعة واحدة ؛ لمكان بساطة النفس وتجرّدها ، فلا مانع من حصول صورتين في النفس في آن واحد ، والشاهد عليه لزوم حضور المحمول والمحمول عليه عند النفس الحاكمة بثبوت أحدهما للآخر في آن الحكم والاذعان ، كما هو واضح.

٩٠ ـ قوله [ قدس سره ] : ( بأن يراد منه كل واحد كما إذا ... الخ ) (١).

وعليه ينبغي تنزيل ما قيل : من كون كل واحد مناطا للاثبات والنفي ومتعلقا للحكم ، وإلاّ فلا وجه له لعدم الملازمة بين الاستقلال في الإرادة الاستعمالية ، والاستقلال في الحكم والنفي والاثبات ، وإن أصرّ عليها بعض

__________________

(١) الكفاية : ٣٦ / ٣.

١٤٨

الأعلام (١) ممّن قارب عصرنا (رحمه الله).

توضيحه : أن مفاد لفظ العشرة ـ مثلا وإن كان وحدانيا ملحوظا بلحاظ واحد ، ومرادا استعماليا بإرادة واحدة ـ لكنه مع ذلك : ربما يكون الحكم المرتّب عليه ـ بلحاظ كل واحد ـ على نهج العموم الأفرادي ، كما إذا قيل : ( هؤلاء العشرة علماء ، أو واجبو الاكرام ) ، وربما يكون الحكم المرتب عليه ـ بلحاظ المجموع ـ على حد العموم المجموعي ، كما إذا قيل : ( هؤلاء العشرة يحملون هذا الحجر العظيم ، أو واجبو الاكرام ) ، بنحو لو لم يكرم أحدهم لم يتحقق الامتثال من رأس ، وكذلك العام الاستغراقي ـ كالعلماء ـ فإن الحكم المرتب عليه معقول على الوجهين.

وكما أن الجمع في اللحاظ لا يقتضي وحدة الحكم ، كذلك التفريق في اللحاظ لا يستدعي تعدد الحكم بالنسبة إلى كل ملحوظ ، كما إذا رتب حكما واحدا على زيد وعمرو معا ـ كما عرفت في العام الاستغراقي ـ واستعمال اللفظ في المعنيين لا يزيد على استعماله فيهما مرتين.

ومما ذكرنا يظهر : أن استعمال اللفظ في معنيين بإرادتين ولحاظين مستقلّين وإن كان مغايرا لاستعماله في مجموع المعنيين من حيث الإمكان والجواز ، لكنه يترتّب على الأخير ما يترتّب على الأول من الفائدة والثمرة ، فاذا أردت الحكم على السواد والبياض بأنهما من عوارض الاجسام صح لك ان تقول : الجون من عوارض الاجسام مريدا به السواد والبياض على وجه الجمع في اللحاظ. وقد عرفت : أن الجمع في اللحاظ لا يستدعي الجمع في الحكم ؛ كي يكون خلاف الفرض.

فإن قلت : وعليه فلا ثمرة عملية للنزاع.

__________________

(١) المحقق الرشتي (رحمه الله) في بدائع الأفكار : ١٦٢.

١٤٩

قلت : أما على القول بصحة استعماله فيهما حقيقة فواضح ؛ لأنّ الاستعمال في مجموع المعنيين بنحو الجمع في اللحاظ مجاز ، لا يصار إليه بلا قرينة. وأما على القول بصحته مجازا ، فهما وإن تساويا في المجازية ، إلا أن ظاهر الحكم المرتّب على مفهوم وحداني ـ وإن كان بنحو الجمع في اللحاظ ـ كون المعنى موضوعا تامّا للحكم ، كما إذا حكم على الدار بشيء فإنّ أجزاء معناها ليس كل واحد منها موضوعا له ، بخلاف ظاهر الحكم المرتب على مفهومين ـ سواء كان بلفظين او بلفظ واحد ـ فان مقتضاه كون كل منهما موضوعا للحكم ، فإثبات الإمكان مقدمة لأحد الأمرين بضميمة ما بيناه من الظهور ، فتدبر جيدا.

٩١ ـ قوله [ قدس سره ] : ( إن حقيقة الاستعمال ليس مجرد جعل اللفظ علامة على إرادة (١) المعنى ... الخ ) (٢).

وإلا كان الاستعمال في معنيين بمكان من الامكان ؛ إذ غاية ما يتخيّل في امتناعه على هذا الوجه ما عن بعض المدقّقين من المعاصرين (٣) : من أن ذكر اللفظ لتفهيم المعنى ، أو لكونه علامة عليه ـ بمعنى كونه مقتضيا للعلم به والانتقال إليه ؛ لمكان الملازمة الحاصلة بالوضع ـ نفس تفهيم المعنى ، ونفس المقتضي للعلم به وكونه إعلاما تحصلا وتحقّقا ـ كما في سائر الامور التوليدية والتسبيبية ـ والوجود الواحد يمتنع أن يكون إيجادين ، فيمتنع تحقق تفهيمين وإعلامين بوجود لفظ واحد لوحدة الوجود والايجاد ذاتا ، وإن اختلفا اعتبارا.

ويندفع أوّلا : بأنّ وحدة الوجود والإيجاد تقتضي وحدة ما يضاف إلى شيء واحد ، وأي مساس لوجود اللفظ بايجاد المعنى في ذهن المخاطب ، ولو اتحدا لما

__________________

(١) في الكفاية ـ تحقيق مؤسستنا ـ : علامة لإرادة المعنى.

(٢) الكفاية : ٣٦ / ٦.

(٣) صاحب المحجّة ـ كما في هامش الأصل ـ.

١٥٠

كان اتحادهما مستندا الى اقتضاء وحدة الوجود لوحدة الايجاد فايجاد اللفظ عين وجوده لا ايجاد شيء آخر.

وثانيا : بأن حضور المعنى في الذهن مباين ـ تحقّقا وتحصّلا ـ لحضور اللفظ فيه ، ومقتضى وحدة الوجود والإيجاد ذاتا كون إحضار المعنى مباينا ـ تحقّقا وتحصلا ـ لإحضار اللفظ ، وليس معنى التفهيم والإعلام إلاّ إحضار المعنى في الذهن بإحضار اللفظ فيه بذكر اللفظ الذي يدخل من طريق السمع فيه ، وحيث إن المعاني صارت ملازمة بالوضع للألفاظ ، فأيّ مانع من إحضارها في الذهن برمّتها بسبب إحضار اللفظ فيه بذكره خارجا ، فهناك بعدد المعاني حضورات وإحضارات وإرادات ، وحيث إنها غير متحدة مع وجود اللفظ خارجا ، وحضوره وإحضاره ذهنا بل ملازمة له ، فلا يلزم اثنينية الواحد وتعدّده.

وأما الجواب عنه : بأن الإحراق مترتّب على الإلقاء بمقدار تخلّل الفاء ؛ نظرا إلى أنّ وجود الحرقة (١) مترتب على الملاقاة بمقدار تخلل الفاء.

فمندفع : بأن ترتب وجود الحرقة (٢) على الملاقاة من باب ترتب المشروط على شرطه ، وعلى وجود النار من باب ترتب المسبّب على سببه ، بخلاف إحراق النار ، فإنه معنى تأثيرها أثرها ، والتأثير ليس أثرا لمؤثّره ؛ كي يترتّب عليه ، بل التأثير والتأثّر متضايفان.

فالإحراق بالعرض المنسوب إلى الشخص بالأولوية ، وتأثير النار أثرها ، أو وجود الأثر وإن كان مشروطا ، لكنه بالملاقاة لا بحيثية صدورها من الشخص التي هي معنى الالقاء ، فلا ترتب للإحراق ولا لوجود الحرقة (٣) على الالقاء ، لا من باب ترتب المسبب على سببه ، ولا من باب ترتب المشروط على شرطه ، مع أن مجرّد الترتّب الناشئ من التقدم والتأخر بالطبع ، لا يقتضي التقدم في الوجود ،

__________________

(١ و ٢ و ٣) الحرقة والحرقة بمعنى الحرارة ، لكن المناسب للسياق هنا هو ( الاحتراق ).

١٥١

ولا عدم الاتحاد في الوجود ، كما في تقدّم الواحد على الاثنين ، أو تقدم الجنس والفصل على النوع.

كما أنّ توهّم : استحالة جعل اللفظ علامة ، كجعله فانيا ومرآة ؛ نظرا إلى امتناع لحاظين لمعنيين في آن واحد ، كامتناع لحاظين في لفظ واحد.

مدفوع : بما تقدّم من إمكان لحاظين في آن واحد ، بل الموجب للاستحالة ما سيجيء (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ فتدبّره ، فإنه دقيق ، وبه حقيق.

٩٢ ـ قوله [ قدس سره ] : ( بل جعله وجها وعنوانا له بل بوجه نفسه كأنه الملقى .. الخ ) (٢).

والشاهد عليه : عدم صحة الحكم على اللفظ ـ بما هو ـ في حال الاستعمال ، فيعلم منه أن النظر بالذات إلى المعنى ، وأن اللفظ آلة لحاظه ، ولا يعقل أن يكون آلة اللحاظ ـ في حال كونها كذلك ـ ملحوظة بلحاظ آخر لا آليّا ولا استقلاليّا ؛ لامتناع تقوّم الواحد بلحاظين حيث إنه من قبيل اجتماع المثلين ، أو لامتناع الجمع بين اللحاظين في لحاظ واحد للزوم تعدد الواحد ووحدة الاثنين.

والتحقيق : أن الأمر في الاستحالة أوضح من ذلك. بيانه : أنّ حقيقة الاستعمال إيجاد المعنى في الخارج باللفظ ؛ حيث إنّ وجود اللفظ في الخارج وجود لطبيعي اللفظ بالذات ، ووجود لطبيعي المعنى بالجعل والمواضعة والتنزيل لا بالذات ؛ إذ لا يعقل أن يكون وجود واحد وجودا لماهيتين بالذات ، كما هو واضح ، وحيث إن الموجود الخارجي بالذات واحد ، فلا مجال لأن يقال : بأن وجود اللفظ وجود لهذا المعنى خارجا ووجود آخر لمعنى آخر ؛ حيث لا وجود آخر كي ينسب إلى الآخر بالتنزيل ، وليس الاستعمال إلاّ إيجاد المعنى بنحو وجوده اللفظي

__________________

(١) وذلك في التعليقة التالية : ٩٢.

(٢) الكفاية : ٣٦ / ٧.

١٥٢

خارجا. وقد عرفت : أن الإيجاد والوجود متحدان بالذات ، وحيث إن الوجود واحد فكذا الايجاد.

وبالجملة الاستقلال في الايجاد التنزيلي ـ كما هو معنى الاستعمال الذي هو محل الكلام ـ يقتضي الاستقلال في الوجود التنزيلي ، وليس الوجود التنزيلي إلا وجود اللفظ حقيقة ، فالتفرد بالوجود التنزيلي والاختصاص به يقتضي التفرد بالوجود الحقيقي ، وإلا لكان وجودا تنزيليا لهما معا ، لا لكل منفردا ، فتدبّره جيدا.

ومنه تعرف : أن الاستعمال لو فرض ـ محالا ـ تحقّقه بلا لحاظ لكان محالا ، وإنه لا يدور الامتناع والجواز مدار امتناع تقوّم الواحد بلحاظين وعدمه.

وأما الامتناع بواسطة الجمع بين لحاظين في لحاظ واحد ، فهو وإن كان حقا ، إلا أن اللفظ والمعنى من أعظم أركان الاستعمال ، فالعدول عن التعليل بلزوم تعدّد الواحد في اللفظ إلى مثله في اللحاظ ، بلا وجه بل يجب الاستناد في الاستحالة إلى ما ذكرنا ، لا إلى امتناع تقوّم الواحد بلحاظين ؛ ضرورة أن اللفظ بوجوده الخارجي لا يقوّم اللحاظ ، بل المقوّم له صورة شخصه في افق النفس ، فأي مانع من تصوّر شخص اللفظ الصادر بتصورين في آن واحد مقدمة لاستعمال اللفظ الصادر في معنيين لو لم يكن جهة اخرى في البين.

وربما يورد (١) على ما افيد في المتن : بالنقض بالعامّ الاستغراقي الملحوظ بنحو الكلّ الأفرادي ؛ نظرا إلى أنّ أفراد العامّ ملحوظة كلّ على انفراده بلحاظ واحد. فكما أن لحاظ كلّ من أفراده على انفراده يصحّح تعلّق الحكم بكل واحد من أفراده على انفراده ، كذلك لحاظ كلّ من المعاني على انفراده يصحّح استعمال اللفظ الواحد فيه على انفراده.

__________________

(١) كما عن بعض أجلّة العصر ـ وهو العلامة المؤسّس الشيخ عبد الكريم الحائري (رحمه الله) ـ في درر الفوائد ١ : ٢٧١.

١٥٣

ولا يندفع هذا النقض : بأن لحاظ المتكثرات بالذات بلحاظ واحد والاستعمال فيها ، خارج عن محلّ النزاع ، فإن المدّعى الاستعمال في كلّ من المعاني على انفراده مع وحدة اللفظ واللحاظ ، لا في الكلّ بنحو الوحدة.

__________________

ـ وهو الشيخ عبد الكريم بن المولى محمد جعفر المهرجردي اليزدي الحائري القمي فقيه جليل وعالم كبير وزعيم ديني شريف.

ولد في مهرجرد من قرى يزد في سنة ( ١٢٧٦ ه‍ ) ، تعلم في قريته المقدمات ثم سطوح الفقه في يزد على السيد يحيى الكبير وغيره ، ثم هاجر إلى كربلاء المقدسة ، فأكمل فيها السطوح على الشيخ فصل الله النوري والميرزا المحلاّتي والسيد المجدد الشيرازي والسيد محمد الفشاركي والميرزا محمد تقي الشيرازي ، سافر إلى النجف ، ولازم درس الشيخ محمد كاظم الخراساني ، ثم نزل كربلاء واشتغل بالتدريس والإفادة فيها ، وكان الميرزا محمد تقي الشيرازي يبجّله ، ويشير إليه ، ويعترف بفضله حتى أرجع احتياطاته اليه ، فأحلّه مكانة سامية في النفوس.

في أوائل سنة ( ١٣٣٣ ه‍ ) سافر إلى ايران لزيارة الامام الرضا عليه السلام ، وتلقى دعوة وجوه أراك للإقامة فيها ، فلبّى دعوتهم وأخذ يدرس فيها ، فأقبل عليه الطلاب ، واصبحت في المدينة حركة ثقافية وعلمية على بساطتها.

ولما انتقل مراجع الشيعة آنئذ إلى رحمة الله كالسيد كاظم اليزدي والميرزا الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني اتجه إليه المقلّدون ، وحاز ثقة العامّة فضلا عن الخاصة.

وفي رجب سنة ( ١٣٤٠ ه‍ ) هبط مدينة قم المشرفة ( دار الإيمان ) مثوى فاطمة بنت الإمام موسى واخت الإمام الرضا عليهما‌السلام ، نظّم الحوزة فيها ، وأقبل عليه الطلاب فيها ، وزاد طلاب درسه على الألف طالب حتى فاقت شهرته علماء ايران على الاطلاق.

وقع له مع البهلوي الوقائع الجسام ؛ إذ قام البهلوي بتفريق الحوزات في خراسان وطهران واصفهان وغيرها إلا أنه لم يستطع ذلك مع الشيخ الحائري لحنكته وصبره ولتحمّله الصعاب (رحمه الله) مما أثرت فيه هذه الأحداث حتى أدّت إلى مرضه ، فتوفّي في ليلة السبت (١٧) ذي القعدة سنة ( ١٣٥٥ ه‍ ) ، ودفن في رواق حرم فاطمة عليها‌السلام بقم ، له آثار جليلة منها : كتاب ( الصلاة ) و ( التقريرات ) في الاصول و ( درر الفوائد ) و ( درر الاصول ).

( طبقات أعلام الشيعة نقباء البشر في القرن الرابع عشر )

( ٢ : ١١٥٨ / رقم ١٦٩٢ ) بتصرف.

١٥٤

بل يندفع النقض : بالفرق بين الاستعمال وتعلّق الحكم ، فإن المستعمل فان في المستعمل فيه ، وعين وجوده تنزيلا ، بخلاف الحكم ، فإنه لا يكون فانيا في موضوعه ، ولا وجودا تنزيليا له ، بل يتوقف تعلقه بموضوعه على لحاظ موضوعه بأيّ وجه كان فلا يلزم فناء الواحد في الاثنين ، ولا تقوّم الواحد بلحاظين.

لا يقال : لا بدّ في الحكم على عنوان العام من ملاحظته فانيا في معنونه ، فاذا تعدّد المعنون ـ كما في الملحوظ على نهج الكلّ الأفرادي ـ لزم فناؤه في المتعدد ، ولا فرق في الإمكان والامتناع بين فناء مفهوم واحد في مطابقات متعددة ، وفناء لفظ واحد في مفاهيم متعدّدة بما هي كذلك.

لأنا نقول : أما مثل مفهوم العشرة ـ وسائر المفاهيم التركيبية ـ فمطابقها واحد مشتمل على كثرة بالذات ، وكذا مفهوم ( كل عالم ) فإن مطابقة الآحاد بالأسر ، لا كل واحد ؛ بداهة أنّ مفهوم ( كل عالم ) لا يصدق على كل عالم.

وأما مفهوم ( العالم ) الصادق على المتكثّر بسبب أداة العموم ، فليس شأن أداة العموم التوسعة في صدق مدخوله وجعله فانيا في المتكثر بعد ما لم يكن في حدّ ذاته كذلك ، بل مطابق مفهوم ( العالم ) ـ بما هو مطابق له ـ واحد ، وإنما شأن أداة العموم التوسعة في ذات المطابق ، فيفيد المطابق ـ بما هو مطابق ـ للمفهوم فانيا فيه. ويفيد تعدده وتكثره الحاصل له بسبب المميزات والخصوصيات بأداة العموم ، لا أنها تجعل المدخول فانيا في مطابقه ، وفيما هو خارج عن المطابق بما هو مطابق له.

ومما ذكرنا يندفع نقض آخر بصورة عموم الوضع وخصوص الموضوع له ؛ نظرا إلى أنه ـ كما أنّ ملاحظة عنوان واحد تصحح الوضع لخصوصيات مندرجة تحته ـ كذلك يصح ملاحظة عنوان عام والاستعمال في كل واحد من الخصوصيات المندرجة تحته.

١٥٥

وجه الاندفاع : ما تقدم (١) من أن اللفظ يجب أن يكون فى مرحلة الاستعمال فانيا في المعنى ، ولا يجب أن يكون كذلك حال الوضع ، ولا الوضع بنفسه يحتاج إلا إلى لحاظ الموضوع له بأي وجه كان ، كما عرفت في الحكم بالإضافة إلى موضوعه.

٩٣ ـ قوله [ قدس سره ] : ( فإن اعتبار الوحدة في الموضوع له ... الخ ) (٢).

مجمل القول فيه : أن المعنى له وحدة ذاتية لا ينسلخ عنها أبدا ولو اجتمع مع غيره ، وله وحدة عرضية ، وهي كونه واحدا في اللحاظ ، وما يعقل أن يكون قيدا هو الثاني.

وحينئذ فيشكل : بأن الوحدة. اللحاظية مقوّمة للاستعمال ، فيستحيل أخذها في الموضوع له.

ويندفع بما عرفت في نظائره : من أنّ اعتبار أمثال هذه الامور ـ بنحو الإشارة إلى ذات الموضوع له ـ معقول ، فيضع اللفظ بإزاء المعنى الذي يصير باللحاظ الاستعمالي موصوفا بصفة الوحدة في قبال ما لا يصير كذلك.

نعم المتبادر من مسمّيات الألفاظ نفس معانيها ، حتى أن أوصافها الذاتية غير ملحوظة بلحاظها ولا متبادرة بتبادرها.

وأما قيدية الوحدة للوضع ، فقد عرفت سابقا أنها جزاف ، وأن الاختصاص الوضعي لا يتخصّص ولا يتكثّر حقيقة بقيود المستعمل فيه وخصوصياته ، وهو ظاهر لمن أمعن النظر.

__________________

(١) وذلك في نفس التعليقة عند قوله : ( بل يندفع النقض بالفرق بين الاستعمال ... ).

(٢) الكفاية : ٣٦ / ١٧.

١٥٦

٩٤ ـ قوله [ قدس سره ] : ( وكون الوضع في حال وحدة المعنى ... الخ ) (١).

تفصيله : أن حال الوحدة : تارة تضاف إلى المعنى ، ومن الواضح أن مجرّد وقوع اللفظ بإزاء المعنى في حال تفرّده باللحاظ عند الوضع لا يقتضي تقيّد الموضوع له بها.

واخرى تضاف إلى نفس الوضع ، ويراد منها استقلال كل وضع ، وعدم كونه ناظرا إلى وضع آخر ولا متمما له ، فالاستعمال الموافق للوضع يجب أن يكون كذلك بأن يقع كل استعمال منفردا عن استعمال آخر ، وهو ظاهر بعض أجلّة العصر (٢).

وفيه : أن مطابقة الاستعمال للوضع إنما تجب في الموضوع والموضوع له بحدودهما وقيودهما ، ولا تجب في غير ذلك ، وملاك صحة الاستعمال الحقيقي جريه على قانون الوضع ، وهو مطابقته له على الوجه المزبور.

وأما خصوصيات الوضع ـ أعني عمل الواضع ـ فغير لازمة المراعاة ؛ لوضوح أن متابعة كل جعل من كل جاعل إنما هي بملاحظة مجعوله ، لا بملاحظة نفس جعله ؛ إذ ليس للجعل جعل آخر.

وأما عدم كون أحد الوضعين ناظرا إلى الآخر ولا متمّما له فمسلم ، إلا أن مرحلة الاستعمال ـ أيضا ـ كذلك ؛ حيث إن استعمال لفظ في معنى ليس متمّما للاستعمال الآخر ، فكما أن الوضعين لا يرجعان إلى وضع واحد ، كذلك الاستعمالان ، فالجمع بين الاستعمالين ، لا بين المعنيين كي يؤول إلى استعمال واحد ؛ لينافي تعدد الوضع. فافهم واستقم.

__________________

(١) الكفاية : ٣٦ / ١٨.

(٢) الملاّ علي النهاوندي في تشريح الاصول : ٤٨.

١٥٧

٩٥ ـ قوله [ قدس سره ] : ( لأن الأكثر ليس جزء المقيد بالوحدة ... الخ ) (١).

يمكن أن يقال : ليس الغرض من الاستعمال في الأكثر الاستعمال فيه على وجه الجمع في اللحاظ ، كيف؟ وهو خارج عن محل الكلام ، بل الغرض استعماله في كل منهما كما [ لو ](٢) لم يكن غيره ، فاللفظ وإن كان واحدا إلا أن المستعمل فيه متعدد ، لا أن المستعمل فيه بذاته متعدد ، وبما هو مستعمل فيه واحد ليخرج عن محل البحث.

وسر الغاء الوحدة ـ مع أن كلاّ من المعنيين ملحوظ بالاستقلال ، فهو متفرد باللحاظ ـ هو : أن الموضوع له عند هذا القائل هو المعنى الملحوظ على وجه لا يكون معه ملحوظ آخر ، لا على وجه لا يكون معه ملحوظ بلحاظه. وحينئذ فكلّ من المعنيين لملحوظين المجتمعين فاقد لهذه الوحدة. ومن الواضح أن المستعمل فيه ـ حينئذ ـ جزء الموضوع له فتكون النسبة بين المستعمل فيه والموضوع له نسبة ذات المطلق إلى المقيد. ومن المعلوم أن المطلق بذاته هو اللابشرط المقسمي ؛ إذ ليس الأكثر ـ بما هو ـ مستعملا فيه باستعمال واحد ليكون بينهما المباينة ، بل البائنة (٣) ـ بالنحو المذكور في المتن ـ إنما تكون ـ أيضا ـ فيما إذا لوحظ لحاظ المعنى الآخر معه في المستعمل فيه.

وإلا فمجرّد الاستعمال في مجموع المعنيين ـ بنحو الجمع في اللحاظ ـ لا

__________________

(١) الكفاية : ٣٧ / ٨.

(٢) قد شطب في الأصل على كلمة ( لو ) ، والصحيح إثباتها.

(٣) قولنا : ( بل المباينة ... ) هذا بناء على أن المعنى متقيّد باللحاظ الخاص ، كما هو كذلك عند القائل به. وأما بناء على ما قدّمنا ـ من أن الموضوع له حصة من المعنى المتخصّص باللحاظ الخاص ـ فنقل الخصوصية ـ مع فرض خصوصية مباينة ـ يوجب أن يكون المستعمل فيه حصة اخرى ، لا جزء الاول ، فحينئذ يستقيم ما أفاده ـ قدس سره ـ ( منه عفي عنه ).

١٥٨

يوجب المباينة المزبورة ، بل المعنيان فاقدان لجزء من الموضوع له ، وكل واحد ـ بالاضافة إلى اجتماع الآخر معه بذاته ـ لا بشرط ، بل هو استعمال في جزءين من معنيين ، لا في جزء واحد من معنى واحد ، كما في صورة الجمع بين الاستعمالين. فافهم جيّدا.

٩٦ ـ قوله [ قدس سره ] : ( لأن هيئتها إنما تدل على إرادة المتعدد ... الخ ) (١).

لا يخفى عليك أنه لا يتصور إلا إذا كان المراد من المادة ما يعبر عنه بلفظ كذا ـ حقيقة أو تأويلا ـ وإلا فلا يعقل تعدد مرحلة الهيئة والمادة.

نعم إذا قلنا : إنّ هذه المادة المتهيئة بهيئة التثنية لها وضع واحد ، صحّ إرادة الباكية والجارية من العينين (٢) ، إلا أنه خارج عن محلّ البحث ، لاستعماله في المعنيين معا ، لا في كل منهما بإرادتين ، وإلا لم يكن تثنية.

وأما تصحيح تثنية الأعلام بدون التأويل بالمسمّى ونحوه بدعوى : كفاية وحدة مادة اللفظ ـ الذي هو مرآة لمعناه ـ لسراية أحكام المعنى إلى اللفظ وبالعكس ، فالتعدد المستفاد من الهيئة إذا اضيفت إلى مثل هذه المادة يوجب صحّة إرادة المعنيين ؛ لأنهما كفردين من هذه المادة الملحوظة مرآة لمعناها.

ففيه : أن الهيئة واردة على مادة اللفظ ، ويستحيل ورودها على معناها ؛ لأنهما مقولتان متباينتان وكذلك يستحيل تعلق مفاد الهيئة الواردة على المادة بنفس المادة ، لا بمعناها ، بل المعقول تعلق مفاد الهيئة بمفاد المادة ، كعروض نفس الهيئة على نفس المادة ، فلحاظ المادة اللفظية مرآة لمعناها : إن أوجب تعلق التعدد بمعناها ، فمعناها في الأعلام غير قابل له ؛ لعدم الوحدة الطبيعية ليراد

__________________

(١) الكفاية : ٣٧ / ٨.

(٢) في الأصل : ( من المعنيين ).

١٥٩

منها فردان منها ، وإن لم يوجب فالمادة غير قابلة بنفسها لتعلّق مفاد الهيئة بها بنفسها.

نعم يمكن تصحيح التثنية والجمع في الأعلام بوجه آخر : وهو استعمال المادة في طبيعي لفظها ، لكن بما له من المعنى بحيث لا يكون المعنى مرادا من المادة ليلزم المحذور ، بل بنحو الاشارة إليه بما هو معنى لطبيعي اللفظ ، لا بما هو معنى اللفظ المستعمل ، فيكون كقولك : ( ضرب : فعل مشتمل على النسبة ) ، فإنّ المعنى النسبي غير مراد من نفس لفظ ( ضرب ) ، بل المراد منه طبيعي لفظه ، ولكن لا بما هو ؛ اذ لا نسبة فيه ، بل بما هو ذو معنى نسبي ، فيكون المراد من قولنا : ( زيدان ) فردين من لفظ ( زيد ) بما له من المعنى ، والمفروض أنّ له معنيين. فتأمل.

* * *

١٦٠