شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

من جريان البراءة لنفي التكليف الزائد ، إلا أنّ الأقلّ والأكثر في المحرّمات يختلف عن الأقلّ والأكثر في الواجبات من جهة تصوير الأقلّ والأكثر ، ومن جهة أنّ هذا الدوران هل يشمل الموارد الأربعة للدوران أي الأجزاء والشرائط والتعيين والتخيير العقلي أو الشرعي أو لا؟

ولذلك سوف نتحدّث عن هاتين الجهتين ، فنقول :

فأوّلا : وجوب الأكثر هناك كان هو الأشدّ مئونة ، وأمّا حرمة الأكثر هنا فهي الأخفّ مئونة ، إذ يكفي في امتثالها ترك أي جزء ، فحرمة الأكثر في باب الحرام تناظر إذن وجوب الأقلّ في باب الواجب.

الجهة الأولى : في تصوير الأقلّ والأكثر.

تقدّم في باب الواجبات أنّ الأكثر يشتمل على مئونة زائدة ، ففي الدوران بين التسعة أو العشرة كان وجوب الأكثر أي العشرة فيه مئونة زائدة ، وهي لزوم ضمّ الجزء العاشر إلى التسعة ولا يكفي الإتيان بالتسعة فقط ، وحيث إنّ هذا الوجوب مشكوك فتجري عنه البراءة.

وأمّا في باب المحرّمات فالأكثر لا يشتمل على المئونة الزائدة ، وإنّما الأقلّ هو الذي يشتمل على المئونة الزائدة ؛ وذلك لأنّه في الدوران بين حرمة تصوير الرأس أو حرمة تصوير تمام الشكل ، تكون حرمة تصوير الرأس والتي هي الأقلّ ثابتة سواء صوّر الرأس فقط أم صوّره مع تمام البدن ، بينما حرمة الأكثر وهي تصوير تمام الشكل ثابتة فيما إذا صوّر جميع الأعضاء فقط ، وهذا يعني أن الحرمة الأولى لا تنتفي إلا بعدم تصوير الرأس سواء صوّر غيره أم لا ، بينما الحرمة الثانية تنتفي بانتفاء أي جزء من الشكل.

ولذلك فإذا صوّر الرأس فقط سوف يشكّ في حرمته ؛ لأنّ الحرام لو كان هو تصوير الرأس فالحرمة ثابتة ، وأمّا لو كان الحرام هو تصوير تمام البدن فلا حرمة في تصوير الرأس فقط ، وحينئذ تكون حرمة تصوير الرأس وحده مشكوكة فتجري عنها البراءة ، وحيث إنّ البراءة تجري لنفي المئونة الزائدة والتكليف الزائد فيكون الأقلّ هنا مشتملا على المئونة الزائدة نظير الأكثر في الواجبات ، بينما الأكثر هنا وهو حرمة تصوير تمام الشكل ليس فيه مئونة زائدة ؛ لأنّها تنتفي بانتفاء أي جزء من الشكّ فهي نظير الأقلّ في الواجبات.

٨١

وبذلك تثبت حرمة تصوير الشكل بتمامه ؛ لأنّها الحرمة المتيقّنة على كلّ تقدير ؛ لأنّه إذا صوّر تمام الشكل يكون قد ارتكب الحرام سواء كان الحرام تصوير تمام البدن أم كان الحرام تصوير الرأس فقط ؛ لأنّ الرأس داخل في تمام الشكل.

وأمّا إذا صوّر الرأس فقط فهو شكّ في حرمة زائدة مضافا إلى حرمة تصوير الكلّ ، وحيث إنّ حرمته مشكوكة فتجري عنها البراءة.

فالفارق الأوّل بين الواجبات والمحرّمات هو في المئونة الزائدة وفي تصوير جريان البراءة ، فهناك تجري لنفي المئونة الزائدة في الأكثر بينما هنا تجري لنفي المئونة الزائدة في الأقلّ.

وثانيا : أنّ دوران الحرام بين الأقلّ والأكثر يشابه دوران أمر الواجب بين التعيين والتخيير ؛ لأنّ حرمة الأكثر في قوّة وجوب ترك أحد الأجزاء تخييرا ، وحرمة الأقلّ في قوّة وجوب ترك هذا الجزء بالذات تعيينا ، فالأمر دائر بين وجوب ترك أحد الأجزاء ووجوب ترك هذا الجزء بالذات ، وهذا يشابه دوران الواجب بين التعيين والتخيير لا الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو الشرائط.

الجهة الثانية : في كون الدوران من أي أقسام الأقلّ والأكثر؟

والصحيح فيها : أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في المحرّمات يدخل في الدوران بين التعيين والتخيير.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ حرمة الأكثر ـ أي حرمة تصوير تمام الشكل ـ يكفي في الاجتناب عنها ترك أي جزء من الأجزاء كاليد أو الرأس ونحوهما ، فهي نظير الوجوب التخييري الذي يكفي في امتثاله أن يمتثل أيّ فرد من الأفراد المخيّر بينها عقلا أو شرعا ، ففي مقام الامتثال للحرمة أو للوجوب التخييري يكفي ترك أي جزء أو فعل أيّ فرد.

وأمّا حرمة الأقلّ ـ أي حرمة تصوير الرأس خاصّة ـ فهذه لا يكفي فيها ترك أيّ جزء آخر كاليد أو الساق ، بل لا بدّ فيها من ترك الرأس سواء ضمّ إليه ترك الأعضاء الأخرى أم لا ، لأنّ ضمّ ترك الأجزاء الأخرى إلى ترك الرأس يكون من باب ضمّ ترك ما ليس بحرام إلى ترك الحرام ، وأمّا فعل الأجزاء الأخرى مع ترك الرأس فهو من باب ضمّ فعل المباح إلى جانب ترك الحرام ، فهذا نظير الوجوب التعييني للعتق مثلا ، والذي

٨٢

لا يمتثل إلا بالعتق ولا يكفي الإطعام أو الصيام عنه ، ومخالفته تتحقّق بترك العتق سواء أطعم وصام أم لا ؛ لأنّ ضمّهما أو تركهما يكون من ضمّ أو ترك المباح.

فالتصوير الصحيح للدوران بين الأقلّ والأكثر هو الدوران بين التعيين أي حرمة تصوير الرأس خاصّة أو التخيير أي حرمة تصوير تمام البدن.

ولا يدخل المورد في الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء أو الشرائط.

والحكم هو جريان البراءة عن حرمة الأقلّ ، ولا تعارضها البراءة عن حرمة الأكثر ، بنفس البيان الذي جرت بموجبه البراءة عن الوجوب التعييني للعتق ، بدون أن تعارض بالبراءة عن الوجوب التخييري.

الجهة الثالثة : أنّ حكم هذا الدوران هو الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي الدائر بين المتباينين ؛ وذلك لأنّ البراءة عن وجوب الأقلّ ـ حرمة تصوير الرأس ـ تجري من دون معارض.

وأمّا البراءة عن وجوب الأكثر ـ حرمة تصوير تمام الشكل ـ فلا تجري ؛ لأنّه لا معنى لجريانها ولا أثر ؛ وذلك لأنّه إن أريد بالبراءة عن الأكثر ـ حرمة تصوير تمام الشكل ـ التأمين عن حرمة تصوير تمام الشكل ، بإثبات أنّ الحرمة في الأقلّ ـ أي حرمة تصوير الرأس ـ فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الملازمة هنا عقليّة.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر التأمين عن تصوير تمام الشكل حال الإتيان بتصوير الرأس فهذا غير معقول ؛ لأنّ تصوير الرأس مع تصوير تمام الأعضاء الأخرى معناه الوقوع في المخالفة القطعيّة ، والبراءة لا مورد لها في حال المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها معلومة الحرمة وليست مشكوكة.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر التأمين عن تصوير تمام الشكل حال ترك تصوير الرأس فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بتمام الشكل يتضمّن حتما الإتيان بتصوير الرأس ، وهذا مخالفة قطعيّة أيضا.

وإن أريد بالبراءة عن الأكثر أنّه إذا ترك تصوير الرأس وترك تصوير سائر الأعضاء أيضا فهو مؤمّن بالبراءة ، فهذا لا معنى له ؛ لأنّه في هذه الحالة يقطع بالتأمين حيث إنّه لم يرتكب شيئا من التصوير لا الجزء ولا الكلّ ، والبراءة لا تجري في موارد القطع.

وبهذا يظهر أنّ البراءة عن وجوب الأقلّ ذي المئونة الزائدة تجري بلا معارض ،

٨٣

والنتيجة عدم حرمة تصوير الرأس خاصّة ، وإنّما يحرم تصوير تمام الشكل.

وأمّا الانحلال الحقيقي فهو غير متصوّر هنا ؛ لأنّ العلم الإجمالي دائر في الحقيقة بين المتباينين لا الأقلّ والأكثر. وهذا فارق ثالث بين الأقلّ والأكثر في الواجبات وبين الأقلّ والأكثر في المحرّمات.

فهناك كان يمكن تصوير الانحلال الحقيقي في بعض الموارد ، وأمّا هنا فلا يمكن تصوير الانحلال الحقيقي ؛ لأنّ الطرفين هنا متباينان لأنّ حرمة الأكثر عبارة عن حرمة إيجاد المجموع بعنوانه الخاصّ ، وهذه الحرمة ترتفع بانتفاء أي جزء من المجموع على سبيل التخيير ، بينما حرمة الأقلّ عبارة عن إيجاد هذا الجزء بخصوصه وهذه الحرمة لا ترتفع إلا بانتفاء هذا الجزء فقط على سبيل التعيين ، فهناك تباين وتغاير بين الطرفين ولذلك لا انحلال حقيقي. وإنّما الانحلال الحكمي هو المتعيّن.

٤ ـ الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر

كما يمكن افتراض الشبهة الحكميّة للدوران بين الأقلّ والأكثر ، كذلك يمكن افتراض الشبهة الموضوعيّة ، بأن يكون مردّ الشكّ إلى الجهل بالحالات الخارجيّة لا الجهل بالجعل ، كما إذا علم المكلّف بأنّ ما لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة ، وشكّ في أنّ هذا اللباس هل هو ممّا لا يؤكل لحمه أو لا؟ فتجري البراءة عن مانعيّته أو عن وجوب تقيّد الصلاة بعدمه بتعبير آخر.

التنبيه الرابع : في الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر.

كما يمكن افتراض الشكّ في الشبهة الحكميّة للأقلّ والأكثر وهو ما كنّا نتحدّث عنه سابقا ، كموارد الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة أو التعيين والتخيير ، حيث كان الشكّ فيها بلحاظ عالم الجعل ، أي أنّ هذا المشكوك هل هو جزء أو شرط أو مانع؟ فالشكّ في أصل ثبوت الجزئيّة والمانعيّة والشرطيّة ، وهناك قلنا : إنّ الحكم هو البراءة عن الأكثر الذي يتضمّن المئونة الزائدة.

كذلك يمكن افتراض الشكّ في الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بأصل الشرطيّة أو المانعيّة أو الجزئيّة ، وشكّ في أنّ هذا الأمر الموجود في الخارج هل هو مصداق للشرطيّة أو المانعيّة أو الجزئيّة المعلومة أم ليس مصداقا لها؟ فإنّ الشكّ في المصداق الخارجي شكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة.

٨٤

مثاله : أن يعلم بأنّ اللباس المصنوع ممّا لا يؤكل لحمه مانع في الصلاة ، وشكّ في أنّ هذا اللباس الموجود أمامه هل هو مصنوع ممّا يؤكل لحمه أو ممّا لا يؤكل لحمه؟ فهنا يشكّ في أنّه مانع من الصلاة أم لا ، والشكّ في المانعيّة شكّ في أمر زائد ؛ لأنّ المانعيّة معناها كما تقدّم تقيّد المركّب بعدم شيء ، خلافا للشرطيّة التي تعني تقيّده بوجود شيء.

وهذا الشكّ شكّ في الشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ المانعيّة على مستوى الجعل معلومة ، إلا أنّ مصداقها مشكوك.

والحكم هنا هو جريان البراءة ؛ لأنّ الشكّ في مانعيّة هذا اللباس معناه الشكّ في تكليف زائد ؛ لأنّه يشكّ في تقيّد الصلاة بعدم هذا اللباس فتجري البراءة للتأمين عن هذا اللباس المشكوك ، وبالتالي تجوز الصلاة فيه.

وأمّا لو شكّ في الشبهة الموضوعيّة للشرطيّة فهنا يختلف الحكم ، فإذا علم بشرطيّة الطهارة مثلا ، وشكّ في أنّ ما فعله هل هو طهارة أم لا؟ فهنا يكون الشكّ في المحصّل للمأمور به ، فيجب الاحتياط والإتيان بالطهارة يقينا ، وهكذا الحال في الشكّ في الجزئيّة وأنّه هل أتى بها أم لا؟

إلا أنّ هذا على عمومه غير صحيح ، لإمكان تصوير الشبهة الموضوعيّة بين الأقلّ والأكثر في الشرطيّة وفي الجزئيّة أيضا والذي يكون مجرى للبراءة.

وقد يقال ـ كما عن الميرزا قدس‌سره (١) : إنّ الشبهة الموضوعيّة للواجب الضمني لا يمكن تصويرها إلا إذا كان لهذا الواجب تعلّق بموضوع خارجي كما في هذا المثال.

قد يقال : كما عن المحقّق النائيني ـ قدس الله روحه ـ ذهب إلى أنّ تصوير الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر إنّما تكون في المانعيّة وفي الشرطيّة التي لها متعلّق في الخارج ، كما في مثالنا السابق ، فإنّ اللباس الذي يشكّ في كونه ممّا يؤكل لحمه أو ممّا لا يؤكل ، موضوع خارجي يشكّ في تعلّق المانعيّة به.

وأمّا إذا لم يكن للواجب تعلّق بموضوع خارجي ، فلا يتصوّر فيه الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر ، كما في القراءة الواجبة فإنّه لا يوجد شيء في الخارج يتعلّق به وجوب

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٢٠٠.

٨٥

القراءة ، وإنّما يراد بوجوب القراءة إيجاد شيء في الخارج ، وهكذا بالنسبة للطهور أيضا.

ففي هذه الحالة يشكّ في تحقّق الواجب وعدم تحقّقه ، وحيث إنّه معلوم اشتغال الذمّة به فتجري أصالة الاشتغال.

ولكنّ الظاهر إمكان تصويرها في غير ذلك أيضا ، وذلك بلحاظ حالات المكلّف نفسه ، كما إذا فرضنا أنّ السورة كانت واجبة على غير المريض في الصلاة ، وشكّ المكلّف في مرضه ، فإنّ هذا يعني الشكّ في جزئيّة السورة مع أنّها واجب ضمني لا تعلّق له بموضوع خارجي ، والحكم هو البراءة.

والجواب : أنّ ما فرض الميرزا عدم إمكان تصويره يمكن تصويره ، وذلك بأن نفرض أنّ السورة واجبة على الصحيح وليست واجبة على المريض ، أي أنّ هذا الواجب الضمني مختصّ ببعض حالات المكلّف لا في جميع حالاته ، وحينئذ فإذا شكّ المكلّف في كونه مريضا فهذا شكّ في الشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ الشخص الموجود في الخارج لا يدري هل هو مريض أم لا؟ فهنا سوف يشكّ في وجوب السورة عليه وعدم وجوبه ، وبذلك يتحقّق تصوير تعلّق الشكّ في الواجب الضمني بالشبهة الموضوعيّة ؛ لأنّ الشكّ في المرض سوف يؤدّي إلى الشكّ في أنّ وجوب السورة متعلّق به أو لا؟ وهذا يعني أنّه بالإمكان تصوير الشكّ بنحو الشبهة الموضوعيّة للجزء الذي هو واجب ضمني مع أنّ نفس الجزء لا تعلّق له بموضوع خارجي.

وفي مثل ذلك تجري البراءة أيضا ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد ؛ لأنّه عند ما يشكّ في مرضه سوف يشكّ في وجوب السورة عليه وعدم وجوبها أي في الجزئيّة ، فتجري البراءة لأنّها تكليف زائد مشكوك كما تقدّم.

٥ ـ الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط

كنّا نتكلّم عمّا إذا شكّ المكلّف في جزئيّة شيء أو شرطيّته مثلا للواجب.

وقد يتّفق العلم بجزئيّة شيء أو دخالته في الواجب بوجه من الوجوه ، ولكن يشكّ في شمول هذه الجزئيّة لبعض الحالات ، كما إذا علمنا بأنّ السورة جزء في الصلاة الواجبة وشككنا في إطلاق جزئيّتها لحالة المرض أو السفر.

ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر بلحاظ هذه الحالة

٨٦

بالخصوص ، فإذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق لها وانتهى الموقف إلى الأصل العملي جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة.

وهذا على العموم لا إشكال فيه ، ولكن قد يقع الإشكال في حالتين من هذه الحالات وهما :

حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة نسيان الجزء.

وحالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة تعذّره.

ونتناول هاتين الحالتين فيما يلي تباعا :

التنبيه الخامس : الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط.

إذا علم بجزئيّة شيء أو بشرطيّته في الواجب فتارة يعلم بأنّه واجب مطلقا وفي جميع الحالات ، كما في ( الفاتحة ) فإنّها واجبة على كلّ حال ، وأخرى يعلم بأنّه ليس واجبا مطلقا وإنّما في بعض الحالات ، كما في القيام أو الركوع أو السجود فإنّها تسقط عند العجز عن القيام أو الركوع أو السجود وينتقل إلى بدلها وهو الجلوس والإيماء ، وثالثة يشكّ في أنّ هذا الجزء أو الشرط هل هو واجب مطلقا وفي جميع الحالات أو في بعض الحالات فقط؟

كما إذا علم بوجوب السورة وكونها جزءا واجبا من الصلاة ولكن شكّ في أنّها واجبة بنحو مطلق وفي جميع الحالات ، أو أنّها واجبة في بعض الحالات دون البعض الآخر كالسفر أو المرض أو الخوف فإنّها تسقط.

فإنّ مرجع هذا الشكّ إلى أنّ جزئيّتها هل هي مطلقة أو مقيّدة ببعض الحالات ، وتسمّى هذه الحالة بحالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة.

والحكم هنا على وجه العموم أنّ هذه الجزئيّة حيث إنّه لا دليل على إطلاقها وشمولها لكلّ الحالات ، فسوف يصل الأمر إلى الأصول العمليّة لتحديد الموقف والوظيفة ، وهنا تجري الأصول المؤمّنة كالبراءة ؛ لأنّ المورد من موارد الشكّ في تكليف زائد بالنسبة للمريض أو المسافر ، حيث إنّه يعلم بوجوب الصلاة ويشكّ في كون الأجزاء هي الأقلّ أو الأكثر ؛ لأنّه يشكّ في وجوب السورة وعدمها فهو شكّ في تكليف زائد.

إلا أنّه قد وقع الإشكال في حالتين من حالات الشكّ في إطلاق الجزئيّة أو الشرطيّة ، هما :

٨٧

١ ـ حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة النسيان.

٢ ـ حالة الشكّ في إطلاق الجزئيّة لصورة التعذّر.

أ ـ الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان

إذا نسي المكلّف جزءا من الواجب فأتى به بدون ذلك الجزء ، ثمّ التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به.

فإن كان لدليل الجزئيّة إطلاق لحال النسيان اقتضى ذلك بطلان ما أتى به ؛ لأنّه فاقد للجزء ، من دون فرق بين افتراض النسيان في أثناء الوقت وافتراض استمراره إلى آخر الوقت ، وهذا هو معنى أنّ الأصل اللفظي في كلّ جزء يقتضي ركنيته أي بطلان المركّب بالإخلال به نسيانا.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق وانتهى الموقف إلى الأصل العملي ، فقد يقال بجواز اكتفاء الناسي بما أتى به ؛ لأنّ المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان والأقلّ واقع والزائد منفيّ بالأصل.

الصورة الأولى : فيما إذا شكّ في إطلاق الجزئيّة أو الشرطيّة لحالة النسيان.

فإذا نسي المكلّف أن يأتي بالجزء كالسورة مثلا ثمّ التفت بعد ذلك إلا أنّه قد أتى بالمركّب من دون السورة نسيانا ، فهل يحكم بصحّة صلاته أو ببطلانها؟

والجواب كما عن المشهور هو :

إن كان لدليل الجزئيّة إطلاق لحالة النسيان فمقتضى إطلاقه لذلك كون هذا الجزء ركنا واجبا في المركّب لا بدّ من الإتيان به ، ويكون الإخلال به ولو سهوا ونسيانا موجبا لبطلان المركّب وبالتالي تجب الإعادة ، فالسورة مثلا التي نسيها إن كان لدليلها إطلاق على كون السورة واجبة في جميع الحالات وأنّها لا تسقط بحال ، فهذا يعني أنّ جزئيّتها تشمل النسيان ، وهذا النوع من الأجزاء الواجبة يسمّى بالركن كما هو الحال بالنسبة للتكبيرة والركوع والسجود والفاتحة والتسليم.

وحينئذ لا يكون هناك فرق بين أن يتذكّر في الوقت أو يستمرّ نسيانه إلى أن يخرج من الوقت ، فتجب الإعادة في الأوّل والقضاء في الثاني.

وأمّا إذا لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاق لفظي يشمل حالة النسيان ، بل كان الدليل الدالّ عليها يثبت أصل جزئيّتها من دون نظر إلى كونها مطلقة أو مقيّدة بحالة من

٨٨

الحالات ، فهنا يكون القدر المتيقّن من جزئيّتها هو حالة التذكّر ، وأمّا حالة النسيان فهي مشكوكة الجزئيّة فيها كما هو بالنسبة للسورة أو الجهر أو الإخفات.

فهنا حيث لا يوجد أصل لفظي يتمسّك بإطلاقه فسوف ينتهي الأمر إلى الأصول العمليّة لتحديد الوظيفة والموقف ، وحينئذ قد يقال إنّ البراءة تجري في المقام ؛ لأنّ من نسي السورة إلى أن فرغ من صلاته سوف يشكّ في وجوب الإعادة وعدم وجوبها نتيجة الشكّ في أنّ السورة جزء مطلقا ، أم أنّها في بعض الحالات ، وهذا الشكّ يرجع إلى الدوران بين الأقلّ والأكثر أي بين وجوب السورة حال التّذكر الذي هو الأقلّ ، أو وجوبها مطلقا للمتذكّر والناسي والذي هو الأكثر ، فتجري البراءة لنفي المئونة الزائدة في الأكثر ؛ لأنّ وجوبها على المتذكّر معلوم على كلّ حال ويشكّ في وجوبها على الناسي.

وتوضيح الحال في ذلك : أنّ النسيان تارة يستوعب الوقت كلّه ، وأخرى يرتفع في أثنائه.

والتحقيق في هذه الصورة أن يقال : إنّه تارة يتذكّر في أثناء الوقت فيكون النسيان مرتفعا في الأثناء وغير مستمرّ.

وأخرى لا يتذكّر إلا أن يخرج الوقت بحيث يكون النسيان مستمرّا ومستوعبا للوقت كلّه.

فلا بدّ من استعراض كلّ واحدة من هاتين الحالتين لمعرفة حكم الناسي في كلّ منهما.

ففي الحالة الأولى لا يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، بل لا يحتمل التكليف بالأكثر بالنسبة إليه ؛ لأنّ الناسي لا يكلّف بما نسيه على أي حال ، بل هو يعلم إمّا بصحّة ما أتى به أو بوجوب القضاء عليه ، ومرجع هذا إلى الشكّ في وجوب استقلالي جديد وهو وجوب القضاء ، فتجري البراءة عنه حتّى لو منعنا من البراءة في موارد دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

أمّا الحالة الأولى : وهي فيما إذا كان النسيان مستوعبا لتمام الوقت ، فالحكم فيها صحّة ما أتى به.

٨٩

والوجه في ذلك : أنّ المكلّف الذي نسي الجزء حتّى انتهى الوقت لا يمكن تكليفه بهذا الجزء في أثناء الوقت ؛ إذ لا يمكن توجيه خطاب للناسي بالجزء الذي نسيه ؛ لأنّ هذا خلف كونه ناسيا ، ولذلك لا يكلّف بالأكثر جزما في أثناء الوقت بسبب النسيان المانع من ذلك ، وعليه فلا يكون المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الأكثر لا يكلّف به الناسي إمّا لعجزه وإمّا لرفع التكليف بالنسيان استنادا إلى حديث الرفع.

وحينئذ يكون الدوران في هذه الحالة بين كون ما أتى به من صلاة فاقدة للجزء الذي نسيه صحيحة ومجزية عن المأمور به ، وبين لزوم القضاء بالإتيان بصلاة واجدة للجزء خارج الوقت ؛ لأنّ الفرض هنا استيعاب النسيان لتمام الوقت.

ومرجع هذا الشكّ في الحقيقة إلى الشكّ في تكليف زائد ، بمعنى أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة إلى علم تفصيلي بالأقلّ ـ بناء على إمكان تكليفه بالأقلّ ـ وشكّ بدوي في الأكثر فتجري البراءة عن الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ قد امتثله فعلا والأكثر مشكوك ، وهذا من العلم الإجمالي بعد امتثال أحد طرفيه والذي لا يكون علما إجماليّا في الحقيقة ، بل مشكوك في تكليف زائد ابتداء.

وأمّا بناء على عدم إمكان تكليف الناسي بالأقلّ كالأكثر فالأمر أوضح ؛ لأنّه حال نسيانه لم يكن مكلّفا بشيء وبعد ارتفاع النسيان خارج الوقت يشكّ في وجوب القضاء فتجري البراءة عنه.

وهذا الكلام يتمّ حتّى لو أنكرنا جريان البراءة في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لأنّه هنا لا يوجد تكليف بالأكثر حقيقة ، والأقلّ متحقّق فعلا.

وأمّا في الحالة الثانية فالتكليف فعلي في الوقت ، غير أنّه متعلّق إمّا بالجامع الشامل للصلاة الناقصة الصادرة حال النسيان أو بالصلاة التامّة فقط.

والأوّل معناه اختصاص جزئيّة المنسي بغير حال النسيان ، والثاني معناه إطلاق الجزئيّة لحال النسيان ، والدوران بين وجوب الجامع ووجوب الصلاة التامّة تعيينا هو من أنحاء الدوران بين الأقلّ والأكثر ، ويمثّل الجامع فيه الأقلّ ، وتمثّل الصلاة التامّة الأكثر ، وتجري البراءة وفقا للدوران المذكور.

وأمّا الحالة الثانية : وهي فيما إذا ارتفع النسيان في أثناء الوقت بحيث كان فيه متّسع للأداء ، فالحكم هنا هو البراءة والاكتفاء بما أتى به.

٩٠

وجهه أن يقال : إنّ المكلّف الذي أتى بالصلاة الناقصة نسيانا ثمّ ارتفع عذره في الوقت سوف يتشكّل لديه علم إجمالي دائر بين طرفين ، أحدهما كونه مكلّفا بالصلاة التامّة الواجدة لجميع الأجزاء فقط ، بحيث يكون الإخلال بجزء منها ولو نسيانا موجبا للإعادة في الوقت ؛ لأنّ ما أتى به ليس هو المأمور به ، والآخر كونه مكلّفا بالجامع بين الصلاتين التامّة والناقصة ، بمعنى أنّ الإتيان بصلاة واجدة لجميع الأجزاء حال التذكّر كالصلاة الفاقدة للجزء حال النسيان في كونهما مصداقين للجامع المأمور به.

وهذا الشكّ مرجعه في الدقّة إلى أنّ جزئيّة الجزء المنسي هل هي مختصّة بحال التذكّر فقط ، فلا تشمل الناسي ، أو أنّها مطلقة وشاملة لحال النسيان أيضا ، فالناسي كالمتذكّر في وجوب الإعادة عند فقدان الجزء ، غاية الأمر يختلفان في العقاب وعدمه؟

فإن كانت جزئيّة الجزء المنسي مختصّة بالمتذكّر فصلاة الناسي للجزء صحيحة ومجزية عن المأمور به ، وهو وجوب الجامع بين الصلاتين لا خصوص إحداهما.

وإن كانت جزئيّة الجزء المنسي مطلقة وشاملة فصلاة الناسي باطلة وغير صحيحة وتجب عليه الإعادة.

والحاصل : أنّ المكلّف بعد ارتفاع النسيان يعلم إجمالا إمّا بوجوب الصلاة التامّة فقط أو بوجوب الجامع بين الصلاتين ، وهذا العلم الإجمالي يدخل في الدوران بين التعيين والتخيير العقلي والذي هو أحد أنحاء الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ التكليف لو كان هو الجامع بين الصلاتين فهذا معناه أنّه تجزي إحدى الصلاتين عن الأخرى ، ولكن كلّ واحدة في موردها فالصلاة التامّة واجبة ومجزية عن المأمور به حال التذكّر ، والصلاة الناقصة مجزية كذلك حال النسيان ، ولو كان التكليف هو الصلاة التامّة فقط فهذا يعني لزوم الإتيان بها عند القدرة عليها ، ولذلك إذا لم يرتفع العذر لم يكن مكلّفا بها ، ولكن مع ارتفاعه ـ كما في مقامنا ـ يصبح قادرا على الإتيان بالصلاة التامّة والمفروض أنّها تكليفه فتجب الإعادة والإتيان بالصلاة التامّة.

فيدور الأمر بين وجوب الصلاة التامة تعيينا وبين وجوبها تخييرا بينها ـ حال التذكّر ـ وبين الصلاة الناقصة حال النسيان ، فهو من الدوران بين التعيين والتخيير.

وفي مثل هذه الحالة قلنا بأنّ البراءة تجري هنا عن الوجوب التعييني بلا معارض ؛

٩١

لأنّ جريانها عن الوجوب التخييري لا معنى له ، فهنا تجري البراءة عن وجوب الإتيان بصلاة تامّة تعيينا ، ولا تعارض بجريان البراءة عن وجوب الجامع بين الصلاتين ؛ لأنّ التأمين عن الجامع يراد به أحد أمور كلّها باطلة :

أن يكون المراد بالتأمين عن الجامع بعد امتثال أحد طرفيه أنّه موجود في الطرف المتحقّق فعلا فهو من الأصل المثبت.

أن يكون المراد بذلك أنّه يجوز ترك الجامع بكلا طرفيه فهذا مستحيل هنا ؛ لأنّ أحد طرفيه متحقّق فعلا.

أن يكون المراد بذلك أنّه لا يجب شيء من الصلاتين فهذا مخالفة قطعيّة لا تجري فيها البراءة.

وبهذا ظهر أنّ الوجه هنا هو التفصيل بين استيعاب الوقت وعدم استيعابه ، وإن كانت النتيجة واحدة فيهما إلا أنّ ملاكها مختلف.

بخلاف ما ذهب إليه المشهور من التفصيل بين كون دليل الجزئيّة فيه إطلاق لحال النسيان فتجب الإعادة أو القضاء ، وبين ما إذا لم يكن فيه إطلاق فلا تجب الإعادة ؛ لأنّه من الأقلّ والأكثر.

فإنّه في الصورة الأولى يصحّ ما حكموا به إلا أنّ الصورة الثانية قد يستشكل فيها كما عن الشيخ.

ولكن قد يقال ـ كما في إفادات الشيخ الأنصاري (١) وغيره ـ بأنّ هذا إنّما يصحّ فيما إذا كان بالإمكان أن يكلّف الناسي بالأقلّ ، فإنّه يدور عنده أمر الواجب حينئذ بين الأقلّ والأكثر ، ولكنّ هذا غير ممكن ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ إن خصّص بالناسي فهو محال ؛ لأنّ الناسي لا يرى نفسه ناسيا ، فلا يمكن لخطاب موجّه إلى الناسي أن يصل إليه ، وإن جعل على المكلّف عموما شمل المتذكّر أيضا مع أنّ المتذكّر لا يكفي منه الأقلّ بلا إشكال.

وعليه فلا يمكن أن يكون الأقلّ واجبا في حقّ الناسي وإنّما المحتمل إجزاؤه عن الواجب ، فالواجب إذن في الأصل هو الأكثر ويشكّ في سقوطه بالأقلّ ، وفي مثل ذلك لا تجري البراءة.

__________________

(١) راجع فرائد الأصول ٢ : ٣٦٣ ، وكفاية الأصول : ٤١٨.

٩٢

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري أثار شبهة هنا حاصلها أنّ الناسي لا يمكن تكليفه لا بالأقلّ ولا بالأكثر ، ولذلك لا يكون المورد من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر أو التعيين والتخيير ، بل يكون من موارد الشكّ في براءة الذمّة بعد العلم باشتغالها بتكليف ، والذي هو مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال ، وتوضيح ذلك أن يقال :

إنّ ما تقدّم من كلام حول ما إذا كان هناك إطلاق في دليل الجزئيّة ، وما إذا لم يكن إطلاق فيه ، وحول ما إذا كان مستوعبا للوقت أم لا ، إنّما يتمّ فيما إذا أمكن تكليف الناسي بالأقلّ وتوجيه خطاب له بذلك ، فإنّه والحال هذه سوف يكون الأقلّ معلوم الدخول في العهدة تفصيلا وقد أتى به ، ويشكّ في اشتغال ذمّته بتكليف زائد فتجري فيه البراءة ، وتأتي التفصيلات المذكورة سابقا.

إلا أنّ الصحيح عدم إمكان تكليف الناسي لا بالأكثر كما هو واضح ؛ لأنّ المفروض كونه ناسيا فيكون عاجزا عقلا أو لا تكليف عليه شرعا من الإتيان بالأكثر ، ومع العجز أو رفع التكليف لا يكون هناك تكليف ، ولا بالأقلّ أيضا ؛ وذلك لأنّ التكليف إنّما يكون لغرض الباعثيّة والمحرّكيّة ، فلو قيل بصدور خطاب بحقّ الناسي متعلّق بالأقلّ ، فهذا الخطاب إمّا أن يتوجّه إلى الناسي بعنوان كونه ناسيا ، وإمّا أن يتوجّه إلى طبيعي المكلّف الشامل للناسي والمتذكّر.

فإن كان موجّها للناسي بعنوانه فهذا يجعل الناسي متذكّرا ؛ لأنّ وصول الخطاب إلى الناسي بأنّه مكلّف بالأقلّ يجعله متذكّرا لما نسيه فيصبح متذكّرا لا ناسيا ، وإذا لم يصل الخطاب إليه فلا تكليف عليه بالأقلّ ، وإن كان موجّها للناسي بنحو العموم والشمول لطبيعي المكلّف الشامل للناسي والمتذكّر ، فهذا يعني أنّ المتذكّر سوف يشمله هذا الخطاب ، وبالتالي سوف يصحّ منه الاكتفاء بالأقلّ اعتمادا على هذا العموم ، وهذا واضح البطلان ؛ لأنّ المتذكّر للجزء لا يمكنه تركه عمدا ؛ لأنّ تركه كذلك مبطل.

والحاصل : أنّه لا يوجد معنى معقول لتكليف الناسي لا بالأقلّ ولا بالأكثر.

وحينئذ تكون النتيجة أنّه بعد الفراغ من الصلاة الناقصة ثمّ تذكره للجزء المنسي في الوقت سوف يشكّ في براءة ذمّته من الصلاة التي اشتغلت بها يقينا ، وهذا الشكّ مجرى لأصالة الاشتغال لا البراءة ؛ لأنّه يعلم باشتغال ذمّته بأصل الصلاة من دون

٩٣

تعيين لها بالأقلّ أو بالأكثر ؛ لأنّهما لا يدخلان في ذمّته كما تقدّم ، ويشكّ في فراغها بما أتى به ، فهو شكّ في الفراغ اليقيني.

والجواب : أنّ التكليف بالجامع يمكن جعله وتوجيهه إلى طبيعي المكلّف ، ولا يلزم منه جواز اقتصار المتذكّر على الأقلّ ؛ لأنّه جامع بين الصلاة الناقصة المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة ، كما لا يلزم منع عدم إمكان الوصول إلى الناسي ؛ لأنّ موضوع التكليف هو طبيعي المكلّف ، غاية الأمر أنّ الناسي يرى نفسه آتيا بأفضل الحصّتين من الجامع مع أنّه إنّما تقع منه أقلّهما قيمة ، ولا محذور في ذلك.

والجواب : أنّنا نختار الشقّ الثاني ، أي بأن يكون هناك تكليف يشمل بعمومه أو بإطلاقه الناسي كما يشمل المتذكّر ، وذلك بأن يجعل التكليف على طبيعي المكلّف متعلّقا بجامع الصلاة المقرونة بالنسيان والصلاة التامّة حال التذكّر.

فيقال مثلا : ( تجب على طبيعي المكلّف أو على عموم المكلّفين الصلاة الجامعة بين إحدى حصّتين : إمّا الصلاة الناقصة حال النسيان وإمّا الصلاة التامّة حال التذكّر ).

وحينئذ يكون الناسي مخاطبا بعنوان عامّ بالصلاة الناقصة وكذا المتذكّر يكون مطالبا بالصلاة التامّة حال كونه متذكّرا ، ولا يلزم من ذلك ما ذكره الشيخ من الإشكالين.

أمّا أنّه لا يلزم محذور جواز اكتفاء المتذكّر بالصلاة الناقصة فلأنّ الصلاة الناقصة وإن كانت واجبة على طبيعي المكلّف إلا أنّها واجبة فيما إذا تحقّقت حال النسيان لا مطلقا ، والمتذكّر يفترض أنّه غير ناس فيكون مخاطبا بالحصّة الأخرى من الصلاة أي الصلاة التامّة ، فلا تجزيه الصلاة الناقصة ؛ لعدم تحقّق شرطها وقيدها ، لا لأنّ التكليف مختصّ بالناسي إذ المفروض أنّ التكليف مطلق يشمل الناسي والمتذكّر ، وإنّما متعلّق التكليف أي الصلاة كانت مقيّدة بحالة النسيان.

وأمّا أنّه لا يلزم محذور في كيفيّة توجيه الخطاب إلى الناسي ، فلأنّنا فرضنا أنّ الخطاب ليس مختصّا بالناسي ليقال بأنّه يستحيل وصوله إليه ؛ لأنّ وصوله إليه يعني التفاته إلى نسيانه فيصبح متذكّرا ، بل الخطاب موجّه إلى طبيعي المكلّف من أوّل الأمر ، فهذا المكلّف يعلم بوجود خطاب بحقّ الناسي وأنّه تجب عليه الصلاة الناقصة وبحقّ المتذكّر أيضا وأنّه تجب عليه الصلاة التامّة ، غاية الأمر أنّ هذا الناسي حينما

٩٤

يأتي بالصلاة يعتقد أنّه متذكّر وأنّه يأتي بالصلاة التامّة لا الناقصة ، مع أنّ واقع الحال كونه ناسيا وأنّه يأتي بالصلاة الناقصة.

وهذا الأمر سوف يتبيّنه فيما بعد التذكّر إمّا في الوقت وإمّا في خارجه ، إلا أنّ هذا الاشتباه لا يضرّ ؛ لأنّه اشتباه في المصداق لا اشتباه في الموضوع المأمور به والمتعلّق للتكليف ، إذ متعلّق التكليف إحدى الصلاتين التامّة أو الناقصة كلّ واحدة في موردها وهو قد حقّق إحدى هاتين الصلاتين بظنّ امتثال الأخرى ، إلا أنّ ما حقّقه قد تعلّق به الأمر أيضا.

فهو من قبيل الأمر بالصلاة إمّا في المسجد أو في البيت فصلّى في البيت بظنّ أنّه المسجد ، فهذه الصلاة مأمور بها وإن اعتقد بأنّها الأفضل فتبيّن أنّها الأقلّ فضلا ، فإنّ هذا لا يضرّ ؛ لأنّه لم يكن متعلّقا للأمر ، وهذا ما يسمّى بأنّ القيد خارج ولكن التقيّد داخل أي أنّه ليس مأمورا بالقيد ، وإنّما بالتقيّد فقط والتقيّد متحقّق ؛ لأنّه أتى بالصلاة الناقصة حال كونه ناسيا (١).

وهذا الجواب أفضل ممّا ذكره عدد من المحقّقين (٢) في المقام من حلّ الإشكال وتصوير تكليف الناسي بالأقلّ بافتراض خطابين :

أحدهما متكفّل بإيجاب الأقلّ على طبيعي المكلّف ، والآخر متكفّل بإيجاب الزائد على المتذكّر.

وأجاب صاحب ( الكفاية ) عن إشكال الشيخ بنحو آخر مفاده :

__________________

(١) وهناك صياغة أخرى للجامع وذلك بأن يقال : ( إن الصلاة واجبة على طبيعي المكلّف بمقدار ما يتذكّره منها ) ، فإنّ عنوان ( ما يتذكّره ) جامع لأي مقدار من الأجزاء يأتي به ، فالناسي يتذكر الصلاة الناقصة وغير الناسي يتذكّر الصلاة التامّة.

ولا يمكن للمتذكّر لكامل الأجزاء أن يأتي بالصلاة الناقصة ؛ لأنّه يكون قد أخلّ به عمدا مع تذكّره له فيكون مخاطبا بشيء ولكنّه لم يمتثله عمدا فصلاته باطلة.

ولا يرد محذور توجيه الخطاب للناسي ؛ أنّ الخطاب متوجّه إلى عنوان المتذكّر ، والناسي متذكّر لسائر الأجزاء الأخرى أيضا فهو مكلف بها فقط ، وأمّا الجزء الذي نسيه فهو ليس مكلّفا بها لعدم دخوله في العنوان المتعلّق به التكليف أي عنوان ( ما يتذكّره ).

(٢) منهم المحقّق الخراساني في كفاية الأصول : ٤١٨ ، والمحقّق النائيني في فوائد الأصول ٤ : ٢١٤.

٩٥

أنّه إذا استحال توجيه خطاب للناسي بعنوانه الخاصّ فيمكننا توجيه خطاب عامّ لمطلق المكلّفين يكون شاملا للناسي وللمتذكّر ، ويكون متعلّق هذا الخطاب الصلاة الناقصة أي الأقلّ ، وبذلك يندفع محذور استحالة توجيه الخطاب لخصوص الناسي.

وأمّا محذور اكتفاء المتذكّر بالأقلّ فهذا يندفع بأن يوجّه خطاب آخر متعلّقه الصلاة التامّة لخصوص المتذكّر أي بعنوانه الخاصّ.

والحاصل أنّه يوجد خطابان : أحدهما لمطلق المكلّف متعلّق بالصلاة الناقصة ، والآخر خطاب لخصوص المتذكّر متعلّق بالصلاة التامّة.

إذ نلاحظ على ذلك : أنّ الأقلّ في الخطاب الأوّل هل هو مقيّد بالزائد ، أو مطلق من ناحيته ، أو مقيّد بلحاظ المتذكّر ومطلق بلحاظ الناسي ، أو مهمل؟

والأوّل خلف ؛ إذ معناه عدم كون الناسي مكلّفا بالأقلّ.

والثاني كذلك ؛ لأنّ معناه كون المتذكّر مكلّفا بالأقلّ ، وسقوط الخطاب الأوّل بصدور الأقلّ منه.

والثالث رجوع إلى الخطاب الواحد الذي ذكرناه ، ومعه لا حاجة إلى افتراض خطاب آخر يخصّ المتذكّر.

والرابع غير معقول ؛ لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الجعل تقابل السلب والإيجاب ، فلا يمكن انتفاؤهما معا.

إلا أنّ ما ذكره من جواب لا يمكن قبوله ؛ وذلك لأنّ الخطاب الأوّل الشامل لطبيعي المكلّف والمتعلّق بالأقلّ أي بالصلاة الناقصة لا معنى له ؛ لأنّ المراد منه لا يخلو من أحد احتمالات أربعة :

الأوّل : أن يكون الخطاب بالأقلّ مقيّدا بالزائد أي متعلّق بالصلاة التامّة ، بالنسبة للناسي والمتذكّر معا.

وهذا خلف المفروض ؛ لأنّ لازم ذلك كون الناسي كالمتذكّر مخاطبا بالصلاة التامّة لا الناقصة ، مع أنّ المطلوب إثبات كونه مخاطبا بالصلاة الناقصة ليجوز له الاكتفاء بها.

الثاني : أن يكون الخطاب بالأقلّ مطلقا من حيث الزائد ، أي يوجد خطاب شامل للناسي والمتذكّر متعلّق بالصلاة فقط الأعمّ من الناقصة والتامّة.

٩٦

وهذا باطل ؛ لأنّ لازمه جواز اكتفاء المتذكّر بالصلاة الناقصة كالناسي ، فإذا أتى بها سقط الخطاب أو سقطت فاعليّته بالامتثال للأقلّ.

وحينئذ يجب عليه خصوص الزائد بعد الانتهاء من الأقلّ ، وهذا لا معنى له ؛ إذ لا معنى لوجوب السورة مثلا بعد الانتهاء من الصلاة ؛ لأنّ السورة واجبة أثناء الصلاة لا بعدها ، وإعادة الصلاة من جديد بحيث تكون شاملة للجزء لا مبرّر لها ؛ لأنّ سائر الأجزاء الأخرى قد امتثلها بالإتيان بالصلاة الناقصة ، وبالتالي سقط الأمر بها فلا موجب لإعادتها مرّة ثانية.

وهذا خلف كون المتذكّر مكلّفا بصلاة تامّة من أوّل الأمر لا بصلاتين ، ولا بصلاة وجزء بعدها.

الثالث : أن يكون الخطاب بالأقلّ مقيّدا بالزائد بلحاظ المتذكّر ومطلقا من ناحيته بلحاظ الناسي ، وهذا يعني أنّه يوجد خطاب واحد لا خطابان.

وهذا الاحتمال باطل ؛ لأنّ كلام الشيخ يأتي هنا وأنّه كيف يكون الناسي مخاطبا بالأقلّ بعنوانه الخاصّ؟

ولا جواب لهذا الإشكال إلا ما ذكرناه من كيفيّة جعل خطاب واحد شامل للناسي والمتذكّر ، بحيث يكون الناسي تكليفه الأقلّ بينما المتذكّر تكليفه الأكثر ، ومع هذا الخطاب الواحد لا نحتاج إلى خطاب آخر مستقلّ مجعول على عنوان المتذكّر بخصوصه ؛ لأنّه يكون لغوا وتحصيلا للحاصل.

الرابع : أن يكون الخطاب بالأقلّ مهملا من حيث الزائد لا هو مقيّد به ولا هو مطلق من ناحيته.

وفيه أنّه غير معقول ؛ لأنّ النظر إن كان إلى عالم الثبوت والجعل فالتقابل بين الإطلاق والتقييد في عالم الثبوت والجعل تقابل النقيضين لا يرتفعان ولا يجتمعان ، ولا معنى لفرض الإهمال الثبوتي ؛ لأنّه يعني ارتفاع الإطلاق والتقييد وهذا يعني ارتفاع النقيضين وهو محال.

وإن كان النظر إلى عالم المجعول والصياغة فالإهمال غير معقول أيضا ، وإنّما يتصوّر الإجمال فقط ، إلا أنّ هذا لا يحلّ الإشكال المذكور سابقا ؛ إذ يبقى السؤال في كيفيّة توجيه الخطاب إلى الناسي بالأقلّ ، ولا حلّ له إلا ما ذكرناه من جواب.

٩٧

وعلى هذا الأساس فالمقام من صغريات دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، فيلحقه حكمه من جريان البراءة عن الزائد.

وبهذا ظهر أنّ هذا الجواب لا ينفع لحلّ المشكلة التي أثارها الشيخ ، وإنّما الحلّ ما ذكرناه من جواب.

وبذلك يتّضح لنا أنّ المقام من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر بلحاظ حالة النسيان ؛ لأنّه بعد الفراغ من الصلاة سوف يشكّ أنّ تكليفه هذه الصلاة التي أتى بها فقط ، أو تكليفه مضافا إليها وجوب الإعادة مع الجزء الذي نسيه فتجري البراءة عنه ؛ لأنّه شكّ في التكليف الزائد.

بل التدقيق في المقارنة يكشف عن وجود فارق يجعل المقام أحقّ بالبراءة من حالات الدوران المذكور. وهو أنّ العلم بالواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر قد يدّعى كونه في حالات الدوران المذكور علما إجماليّا منجّزا ، وهذه الدعوى لئن قبلت في تلك الحالات فهناك سبب خاصّ يقتضي رفضها في المقام وعدم إمكان افتراض علم إجمالي منجّز هنا.

وهو أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر في المقام إنّما يحصل للناسي بعد ارتفاع النسيان ، والمفروض أنّه قد أتى بالأقلّ في حالة النسيان ، وهذا يعني أنّه يحصل بعد امتثال أحد طرفيه ، فهو نظير أن تعلم إجمالا بوجوب زيارة أحد الإمامين بعد أن تكون قد زرت أحدهما ، ومثل هذا العلم الإجمالي غير منجّز بلا شكّ ، حتّى لو كان التردّد فيه بين المتباينين فضلا عمّا إذا كان بين الأقلّ والأكثر.

وخلافا لذلك حالات الدوران الاعتياديّة ، فإنّ التردّد فيها يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، فإذا تشكّل منه علم إجمالي كان منجّزا.

والتحقيق في المسألة أن يقال : إنّ مقامنا أولى وأحقّ بجريان البراءة من موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر ؛ وذلك لوجود امتياز في المقام غير موجود في تلك الحالات.

وتوضيح ذلك : أنّه في حالات الدوران بين الأقلّ والأكثر في جميع أنحائه قلنا بجريان البراءة : إمّا للانحلال الحقيقي وإمّا للانحلال الحكمي.

إلا أنّه في بعض الحالات حيث يكون الطرفان متباينين مفهوما ومتّحدين مصداقا ،

٩٨

قد يثار إشكال في كون هذا الدوران من موارد العلم الإجمالي المنجّز لكلا الطرفين ، ومع ذلك قلنا بجريان البراءة عن الأكثر وعدم جريانها عن الأقلّ ؛ لأنّه لا يوجد معنى معقول لجريانها عن الأقلّ فيكون الركن الثالث مهدوما.

وأمّا في مقامنا فيوجد سبب خاصّ وامتياز يجعل المورد مجرى للبراءة بلا إشكال أو محذور ، حتّى لمن استشكل هناك فإنّه يقبل جريان البراءة هنا من دون إشكال.

والوجه في ذلك : أنّ التردّد بين الأقلّ والأكثر إنّما يحصل للناسي بعد الفراغ عن الإتيان بالأقلّ ؛ لأنّ ارتفاع النسيان كان بعد الفراغ من الصلاة كما تقدّم ، وحينئذ سوف يكون التردّد ناشئا بين طرفين ، أحدهما قد تحقّق وامتثل فعلا ، وبالتالي سوف يكون التردّد في طرف واحد ، وهذا يجعله من الشكّ البدوي ؛ لأنّ الموجود فعلا طرف واحد يشكّ في وجوبه.

وهذا نظير العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين ، والذي تحقّق أحد طرفيه قبل حصوله ، كما إذا زار المكلّف أحد المرقدين الطاهرين ثمّ شكّ في أنّه يجب عليه زيارة المرقد الذي زاره أو مرقد آخر غيره ، فإنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان دائرا بين المتباينين ولكنّه لمّا كان أحد طرفيه متحقّقا ومفروغا عن امتثاله فلا يكون مثل هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ لأنّ البراءة سوف تجري عن الطرف الموجود من دون معارض ؛ لأنّ البراءة في الطرف الآخر الذي امتثله لا معنى لها ، أو لأنّ المطلوب من العلم الإجمالي أن يكون صالحا لتنجيز معلومه على كلّ تقدير ، والحال أنّه في الطرف الممتثل لا يكون قابلا للتنجيز ؛ لأنّه امتثله فعلا.

فإذا كان العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين والذي امتثل فيه أحد الطرفين قبل حدوث العلم الإجمالي غير منجّز ، فمن الأولى ألاّ يكون التردّد بين الأقلّ والأكثر في مقامنا منجّزا أيضا.

ووجه الأولويّة أنّه في موارد العلم الإجمالي الدائر بين المتباينين قد تثار شبهة وجود علم إجمالي آخر منجّز ، بينما هنا لا يمكن ذلك ؛ لأنّ التردّد هنا إنّما يحدث بعد امتثال أحد الطرفين دائما ، بينما في موارد العلم الإجمالي قد يقال بحدوث العلم الإجمالي قبل امتثال أحد الطرفين ، وذلك بالالتفات إلى حالة ما قبل البلوغ أو حالة صدور التشريع مثلا.

٩٩

وبهذا ينتهي الكلام عن الحالة الأولى وهي حالة النسيان ، وتبيّن أنّ الحكم فيها هو البراءة في كلتا الصورتين ، أي استيعاب النسيان لتمام الوقت أو ارتفاعه في أثنائه وإن اختلف الملاك في جريانها.

ب ـ الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر

إذا كان الجزء جزءا حتّى في حالة التعذّر كان معنى ذلك أنّ العاجز عن الكلّ المشتمل عليه لا يطالب بالناقص.

وإذا كان الجزء جزءا في حالة التمكّن فقط فهذا يعني أنّه في حالة العجز لا ضرر من نقصه ، وأنّ العاجز يطالب بالناقص.

والتعذّر تارة يكون في جزء من الوقت ، وأخرى يستوعبه.

الصورة الثانية : فيما إذا كان عاجزا عن الإتيان بالجزء ، فهنا يقال : إذا كان الدليل الدالّ على الجزئيّة مطلقا وشاملا لحالة العجز والتعذر فهذا يعني أنّ الجزء لا يتحقّق المركّب من دونه ، فإذا كان المكلّف عاجزا عنه فلازمه كون المكلّف عاجزا عن الإتيان بالمركّب ، ومع العجز عن الإتيان به لا تكليف عليه ، والنتيجة أنّه لا يجب عليه شيء.

أمّا الكلّ فلأنّه متعذّر ، وأمّا سائر الأجزاء الأخرى فلأنّه ليس مخاطبا بالأجزاء الأخرى بنحو مستقلّ عن الجزء المتعذّر ، بل مخاطب بها ضمن ذلك الجزء ، فالتعذّر عن البعض يعني التعذّر عن الكلّ أيضا ، من قبيل شرطيّة الطهارة في الصلاة فإنّها إذا تعذّرت ـ سواء المائيّة أم الترابيّة ـ فلا تكليف عليه بالصلاة حينئذ.

وأمّا إذا كان دليل الجزئيّة دالاّ على الجزئيّة حال التمكّن فقط ، فهذا معناه الأمر بالجامع بين الصلاة الناقصة حال التعذّر وبين الصلاة التامّة حال التمكّن ، فإذا عجز عن جزء كان مكلّفا بسائر الأجزاء فيجب عليه الإتيان بها.

وهذا من قبيل جزئيّة القيام أو السورة في الصلاة فإنّ الدليل دلّ على جزئيّتها حال التمكّن ، وأمّا حال التعذّر فيصلّي من جلوس أو يصلّي من دون السورة.

وهذا واضح لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام فيما إذا شكّ في أنّ جزئيّة هذا الجزء هل هي شاملة لحالتي التعذّر والتمكّن ، أو أنّها مختصّة في حال التمكّن فقط؟ فهنا هل يسقط وجوب الباقي أو لا؟

والجواب : أنّه تارة يكون التعذّر والعجز مستوعبا لتمام الوقت وأخرى لا يكون

١٠٠