شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

دوران الواجب بين

التعيين والتخيير الشرعي

٦١
٦٢

٤ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي

ونتكلّم في حكم هذا الدوران على عدّة مبان في تصوير التخيير الشرعي الذي هو أحد طرفي الترديد في المقام :

التخيير الشرعي هو التخيير الثابت بحكم الشارع وذلك بأن يجعل عدّة بدائل على نحو يكون امتثال أحدها محقّقا للمأمور به ؛ لأنّه أحد الموضوعات التي تعلّق بها الأمر مباشرة ، ولكن على سبيل البدل كما هو الحال في خصال كفارة الإفطار العمدي في شهر رمضان حيث إنّها متباينة ولا يوجد بينها جامع حقيقي.

كما إذا ورد حكم وتردّد متعلّقه بين أن يكون أمرا واحدا على سبيل التعيين أو عدّة أمور على سبيل البدل ، كما إذا ورد الأمر بالكفّارة في مورد وشكّ في كونها إحدى الخصال الثلاث على سبيل البدل أو كونها واحدة منها على سبيل التعيين.

وتفصيل الكلام في هذا المورد أن نستعرض المباني في حقيقة التخيير الشرعي لنتكلّم عن حكم المسألة بلحاظ كلّ مبنى بنحو مستقلّ.

والمباني المذكورة في تصوير التخيير الشرعي نذكر منها ثلاثة :

١ ـ كون التخيير الشرعي عبارة عن وجوبين أو وجوبات مشروطة ، أي كلّ واحد منها مشروط بترك الآخر.

٢ ـ كون التخيير الشرعي كالتخيير العقلي متعلّقا بأمر واحد كلّي له حصص متعدّدة.

٣ ـ كون التخيير الشرعي عبارة عن غرضين لزوميّين متزاحمين في مقام التحصيل والاستيفاء بحيث يكون استيفاء أحدهما مفوّتا لاستيفاء الآخر من حيث الملاك.

فأوّلا : نبدأ بالمبنى القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى وجوبين مشروطين ، وشرط كلّ منهما ترك متعلّق الآخر ، وهذا يعني أنّ ( العتق ) مثلا الذي علم

٦٣

وجوبه إمّا تعيينا أو تخييرا واجب في حالة ترك ( الإطعام ) بلا شكّ ، ويشكّ في وجوبه حالة وقوع الإطعام فتجري البراءة عن هذا الوجوب ، وينتج ذلك التخيير عمليّا.

المبنى الأوّل : وهو المعروف من رجوع التخيير الشرعي إلى وجوب كلّ واحد من البدائل مشروطا بترك الآخر.

ففي مثال الخصال الثلاث يجب العتق إذا ترك الإطعام والصيام ، ويجب الصيام إذا ترك العتق والإطعام ، ويجب الإطعام إذا ترك العتق والصيام.

فإذا شكّ في مورد بوجوب العتق تعيينا أو وجوبه تخييرا بينه وبين غيره من الخصال ، فهنا يقال : إنّ وجوب العتق معلوم فيما إذا ترك الصيام والإطعام ، إمّا لكونه واجبا تعيينيّا وإمّا لكونه واجبا تخييريّا ، وأمّا إذا أطعم أو صام فسوف يشكّ في وجوب العتق لاحتمال كونه واجبا تعيينيّا ؛ لأنّه حينئذ يجب الإتيان به حتّى لو أطعم أو صام ؛ لأنّ الواجب التعييني لا يجزي غيره عنه ، إلا أنّ الشكّ في وجوب العتق حال الإطعام أو الصيام شكّ في تكليف زائد فتجري فيه البراءة ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي.

وتكون النتيجة هي عدم وجوب العتق التعييني ، وهذا يعني عمليّا التخيير بين الخصال الثلاث كلّ منها مشروط بترك الآخر.

ولا يتعارض أصل البراءة عن وجوب العتق بأصل البراءة عن وجوب العدلين الآخرين ؛ إذ لا معنى لجريانها عنهما حالة جريانها في وجوب العتق ؛ لأنّ لازمها الترخيص في المخالفة القطعيّة وهي معلومة الحرمة.

والحاصل : أنّ البراءة تجري لنفي المئونة الزائدة المشكوكة ، وهذه المئونة موجودة في طرف التعيين لا التخيير ؛ لأنّ التعيين معناه أنّه لا يجزي غير العتق عنه بخلاف التخيير فإنّه يجزي غيره عنه ، ولذلك لو أطعم فسوف يتمسّك في وجوب العتق أيضا وعدم وجوبه فتجري البراءة لنفي وجوبه ، وأمّا لو ترك الإطعام والصيام فسوف يعلم بوجوب العتق قطعا على كلا التقديرين.

وقد يقال ـ كما في بعض إفادات المحقّق العراقي ـ (١) إنّ كلاّ من الوجوب

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

٦٤

التعييني للعتق والوجوب التخييري فيه حيثيّة إلزاميّة يفقدها الآخر ، فيكون كلّ منهما مجرى للأصل النافي ويتعارض الأصلان.

قد يقال : كما عن المحقّق العراقي كلاما يثبت فيه أنّ دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعي من الدوران بين المتباينين ، والذي يكون العلم الإجمالي فيه منجّزا وموجبا للاحتياط.

والوجه في ذلك أن يقال : إنّ الوجوب التعييني للعتق فيه مئونة زائدة غير موجودة في الوجوب التخييري ، والوجوب التخييري بين العتق وغيره فيه حيثيّة ومئونة زائدة غير موجودة في الوجوب التعييني ، وعليه فكما تجري البراءة لنفي المئونة الزائدة في الوجوب التعييني كذلك تجري لنفي المئونة الزائدة في الوجوب التخييري ، وبالتالي تتعارض البراءتان وتتساقطان ويحكم بالمنجّزيّة.

وتفصيل ذلك أن يقال :

أمّا الحيثيّة الإلزاميّة في الوجوب التعييني للعتق التي يجري الأصل النافي للتأمين عنها فهي الإلزام بالعتق حتّى ممّن أطعم ، وهي حيثيّة لا يشتمل عليها الوجوب التخييري.

أمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني فهي حيثيّة إلزاميّة ، وتوضيحها : أنّ وجوب العتق ثابت سواء أطعم وصام أم لا ، وهذا يعني أنّه إذا أطعم وصام فيبقى وجوب العتق ثابتا ولا ينتفي ؛ لأنّ الوجوب التعييني لا يجزي غيره عنه ، وهذه الحيثيّة الإلزاميّة حيث إنّها مشكوكة لعدم العلم بالوجوب التعييني فتكون مجرى للبراءة فيثبت التأمين من ناحيتها ، وهذه الحيثيّة الإلزاميّة ليست موجودة في الوجوب التخييري ؛ لأنّه إذا أطعم أو صام فلا يجب عليه العتق ، حيث إنّ الوجوب التخييري معناه أنّه إذا أتى بأحد البدائل كفى وسقط وجوب البقيّة ، وهذه الحيثيّة ناظرة إلى جهة الامتثال والإطاعة ، فإنّه إذا أطعم سوف يشكّ في كونه محقّقا للامتثال والإطاعة وحده أم يجب ضمّ العتق إليه أيضا ، فهو شكّ في وجوب زائد فيمكن نفيه بالبراءة التي تثبت جواز ترك العتق ممّن أطعم ، بخلافه على الوجوب التخييري فإنّه إذا أطعم لا شكّ في جواز ترك العتق حيث إنّ كلّ واحد مشروط وجوبه بترك الآخر.

وأمّا الحيثيّة الإلزاميّة في الوجوب التخييري للعتق أو الإطعام التي يجري

٦٥

الأصل النافي للوجوب التخييري تأمينا عنها فهي تحريم ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ، إذ بهذا الضمّ تتحقّق المخالفة ، وهي حيثية لا يشتمل عليها الوجوب التعييني للعتق ، إذ على الوجوب التعييني تكون المخالفة متحقّقة بنفس ترك العتق ، ولا يكون هناك بأس في ضمّ ترك الإطعام إلى ترك العتق ؛ لأنّه من ضمّ ترك المباح إلى ترك الواجب. فالبراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم معارضة بالبراءة عن حرمة ترك الإطعام ممّن ترك العتق.

وأمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التخييري فهي حيثيّة إلزاميّة وتوضيحها : أنّ وجوب العتق إنّما يثبت فيما إذا ترك وجوب الإطعام والصيام ، فوجوب العتق ليس ثابتا مطلقا ، بل معلّق على ترك البديلين الآخرين ، وعليه فإذا ترك العتق لا يكون قد ارتكب حراما بمجرّد تركه ، وإنّما يكون ترك العتق محرّما فيما إذا ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام ؛ لأنّه حينئذ يكون قد ترك جميع البدائل فتتحقّق المخالفة القطعيّة وهي محرّمة.

وهذه حيثيّة إلزاميّة ناظرة إلى جهة العصيان والمخالفة ، وهي حرمة ترك العتق الذي ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام ، وهذه ليست موجودة في الوجوب التعييني للعتق ؛ لأنّه بناء على الوجوب التعييني يكون ترك العتق محرّما مطلقا سواء ضمّ إليه ترك الإطعام والصيام أم لا ، كما أنّه لا مدخليّة لضمّ فعل الغير إلى فعله في الامتثال ، إذ يكون ضمّ كلّ من فعل الغير إلى فعله أو ترك الغير إلى تركه من باب ضمّ الفعل أو الترك المباح إلى ترك أو فعل الواجب.

والحاصل : أنّ الوجوب التخييري فيه حيثيّة إلزاميّة وهي حرمة ضمّ ترك العتق إلى ترك الإطعام والصيام ، وهذه الحرمة مشكوكة ؛ لأنّه لا يعلم بالوجوب التخييري فتكون مجرى للبراءة فيثبت التأمين عنها.

وحينئذ يكون في كلّ من الوجوب التعييني والوجوب التخييري حيثيّة زائدة عن الآخر فتكون مجرى للبراءة ، فتجري البراءتان معا ، وتتعارضان ويحكم بتساقطهما ؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بالبراءتين معا ؛ لأنّه مخالفة قطعيّة ؛ لأنّ البراءة عن وجوب العتق ممّن أطعم تعني أنّه يجوز ترك العتق ، والبراءة عن حرمة ترك الإطعام حين ترك العتق تعني جواز ترك الإطعام ، والجمع بينهما تعني جواز ترك العتق والإطعام معا وهو مخالفة قطعيّة ، والأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فيتعيّن التساقط.

٦٦

والنتيجة : منجّزيّة العلم الإجمالي للوجوب التعييني والوجوب التخييري ، وتتحقّق الموافقة القطعيّة بالإتيان بمتعلّق الوجوب التعييني ؛ لأنّه يحقّق كلا الأمرين فيكون ممتثلا للطرفين.

ولا يكتفى بالإتيان بإحدى البدائل الأخرى وترك العتق المحتمل كونه تعيينيّا ؛ لأنّه يكون قد امتثل أحد طرفي العلم الإجمالي ، فتبقى ذمّته مشغولة بالطرف الآخر.

وهذا البيان وإن كان يثبت علما إجماليّا بإحدى حيثيّتين إلزاميّتين ، ولكن هذا العلم غير منجّز بل منحلّ حكما ، لجريان البراءة الأولى وعدم معارضتها بالبراءة الثانية ؛ لأنّ فرض جريانها هو فرض وقوع المخالفة القطعيّة ، ولا يعقل التأمين مع المخالفة القطعيّة ، بخلاف فرض جريان البراءة الأولى فإنّه فرض المخالفة الاحتماليّة.

والجواب عن ذلك : أنّ هذا الكلام وإن كان يبرز لنا وجود حيثيّتين إلزاميّتين يعلم بإحداهما إجمالا ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي غير منجّز لانهدام ركنه الثالث ، حيث إنّ البراءة تجري في أحد الطرفين من دون معارض لها ؛ لأنّ البراءة في الطرف الآخر لا يعقل جريانها.

فهذا الكلام يتمّ للمنع عن الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي وأنه لا يوجد علم إجمالي بين المتباينين ، وإنّما هناك علم إجمالي بين الأقلّ والأكثر والذي مرجعه إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الأكثر.

فبهذا الكلام يثبت أنّه يوجد علم إجمالي ؛ لأنّه يوجد في كلّ من الوجوب التخييري والوجوب التعييني حيثيّة إلزاميّة زائدة غير موجودة في الآخر ، ولذلك لا يعلم بأحدهما على كلّ تقدير ، بل كلّ واحد منهما مشكوك.

إلا أنّ هذا العلم الإجمالي ـ ولو سلّم أنّه دائر بين المتباينين ـ منحلّ انحلالا حكميّا ؛ لأنّ البراءة عن الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني تجري بلا معارض ، فيثبت لنا التأمين من جهة ترك العتق حال الانتقال إلى الإطعام أو الصيام.

وأمّا البراءة عن الحيثيّة الزائدة في الوجوب التخييري ـ التي هي حرمة ضمّ ترك الإطعام والصيام إلى ترك العتق ـ فلا تجري ؛ لأنّ هذه الحيثيّة الزائدة معلومة الحرمة

٦٧

وليست مشكوكة ، والبراءة موردها الشكّ لا العلم ، فالمكلّف إذا ترك الإطعام والصيام وترك العتق أيضا يعلم بأنّه قد خالف قطعا كلا الوجوبين التخييري والتعييني ، ولا شكّ عنده في هذه الحرمة ليحتمل جريان البراءة عنها. إذن لو سلّم بوجود حيثيّة زائدة إلا أنّها ليست مشكوكة بل معلومة الحرمة.

وأمّا الحيثيّة الزائدة في الوجوب التعييني فهي مشكوكة ؛ لأنّه يحتمل إذا ترك العتق أن يجزي عنه الإطعام أو الصيام فيما لو كان الواجب المتعلّق في ذمّته هو الوجوب التخييري لا التعييني ، ويحتمل عدم الإجزاء لو كان الداخل في ذمّته الوجوب التعييني ، وحيث إنّه يشكّ فيما هو الداخل في عهدته فسوف يشكّ في أنّه إذا أطعم أو صام هل يجب عليه العتق أيضا أو لا؟ فتجري البراءة للتأمين عنه لأنّ مورد جريانها هو التأمين عن المخالفة الاحتماليّة ، وهنا تحتمل المخالفة حال ترك العتق.

وأمّا إذا ترك العتق مضافا إلى ترك الإطعام والصيام فهذه الحيثيّة الزائدة لا يحتمل كونها مخالفة لتجري فيها البراءة ، بل يقطع بالمخالفة المحرّمة فلا تجري البراءة لكونها لا تجري للتأمين عن المخالفة القطعيّة المعلومة الحرمة.

وثانيا : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع التخيير الشرعي إلى التخيير العقلي ، والحكم حينئذ هو الحكم في المسألة السابقة فيما إذا دار الواجب بين إكرام زيد مطلقا وإطعامه خاصّة.

المبنى الثاني : هو المبنى القائل بأنّ التخيير الشرعي يرجع إلى التخيير العقلي ، فالشارع وإن ذكر البدائل إلا أنّ ذكرها ليس من باب تعلّق الأمر بها ، وإنّما من باب كونها مصاديق للمأمور به وهو الجامع الانتزاعي الكلّي كعنوان ( أحدها ) مثلا.

وحينئذ إذا دار الأمر بين وجوب أحد هذه البدائل تعيينا وبين وجوبه تخييرا بينه وبين سائر البدائل ، فسوف يكون حكمه حكم المسألة السابقة من الانحلال الحقيقي ، فيما إذا كان أحد المفهومين أعمّ من الآخر في عالم الصدق الخارجي وفي ذات الملحوظ والمرئي كالعالم والفقيه ، أو الانحلال الحكمي فيما إذا كانا متغايرين في عالم اللحاظ والملحوظ أيضا ، ولكنّهما في عالم الصدق الخارجي بينهما عموم وخصوص مطلق.

٦٨

وهذا يعني أنّ البراءة تجري عن الوجوب التعييني ، ولا تعارضها البراءة عن الوجوب التخييري إذ لا معنى لجريانها عن الوجوب التخييري ؛ لأنّه يعني الترخيص في المخالفة القطعيّة وهي معلومة الحرمة.

وثالثا : نأخذ المبنى القائل بأنّ مرجع الوجوب التخييري إلى وجود غرضين لزوميّين للمولى غير أنّهما متزاحمان في مقام التحصيل ، بمعنى أنّ استيفاء أحدهما يعجّز المكلّف عن استيفاء الآخر ، ومن هنا يحكم بوجوب كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر.

والحكم هنا أصالة الاشتغال ؛ لأنّ مرجع الشكّ في وجوب العتق تعيينا أو تخييرا حينئذ إلى الشكّ في أنّ الإطعام هل يعجّز عن استيفاء الغرض اللزومي من العتق ، فيكون من الشكّ في القدرة الذي تجري فيه أصالة الاشتغال؟

المبنى الثالث : هو المبنى القائل بأنّ التخيير الشرعي مرجعه إلى وجود غرضين لزوميّين أو أغراض لزوميّة بعدد البدائل بحيث يكون لكلّ واحد من البدائل غرض خاصّ به ، إلا أنّ هذه الأغراض متزاحمة في مقام التحصيل ، أي أنّ تحصيل أحدها يجعل المكلّف عاجزا عن تحصيل الغرض من الآخر ، ولذلك يكون كلّ من الفعلين مشروطا بترك الآخر.

وهذا شبيه بالمبنى الأوّل من جهة كون أحد البدائل واجبا فيما لو ترك الآخر ، ولكنّهما يختلفان من جهة أنّ المبنى الأوّل يفترض وجود غرض واحد يمكن استيفاؤه بأحد هذه البدائل ، بينما هذا المبنى يفترض تعدّد الغرض ، إلا أنّه لا يمكن استيفاء جميع هذه الأغراض بسبب عجز المكلّف عن ذلك ، إذ بمجرّد تحصيل الغرض الأوّل يصبح عاجزا عن تحصيل الغرض الثاني.

وعليه فإذا دار الأمر بين الوجوب التعييني لأحد البدائل وبين الوجوب التخييري ، فهذا يعني الدوران في أنّ الغرض هل هو متعلّق بهذا البدل بنحو التعيين بحيث لا يكون الإتيان بغيره معجّزا للمكلّف عن تحصيل الغرض منه ، أو أنّ الغرض متعلّق بكل واحد من البدائل ويكون الإتيان بأحدها معجّزا عن تحصيل الغرض في الآخر؟

ولذلك فإذا أتى بالإطعام سوف يشكّ في أنّه يعجّز المكلّف عن تحصيل الغرض

٦٩

الموجود في العتق على تقدير كون الواجب تخييرا ، أو أنّه لا يعجّزه عن تحصيل الغرض من العتق فيما إذا كان وجوب العتق تعيينا.

وهذا مرجعه بالدقّة إلى الشكّ في القدرة على تحصيل الغرض بعد العلم بوجوده ، وفي مثل هذه الحالة تجري أصالة الاشتغال الموجبة للإتيان بالعتق بعد الإطعام ؛ لأنّ القدرة موجودة ابتداء ويشكّ في ارتفاعها بعد الإطعام.

وهذا الحكم ـ لو تمّ المبنى ـ صحيح ، إلا أنّ المبنى غير تامّ كما تقدّم في محلّه.

* * *

٧٠

ملاحظات

عامّة حول الأقلّ والأكثر

٧١
٧٢

٥ ـ ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر

فرغنا من المسائل الأساسيّة في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، وبقي علينا أن نذكر في ختام مسائل هذا الدوران ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر.

١ ـ دور الاستصحاب في هذا الدوران

قد يتمسّك بالاستصحاب في موارد هذا الدوران تارة لإثبات وجوب الاحتياط وأخرى لإثبات نتيجة البراءة.

أمّا التمسّك به على الوجه الأوّل فبدعوى : أنّا نعلم بجامع وجوب مردّد بين فردين من الوجوب ، وهما وجوب التسعة ووجوب العشرة ، ووجوب التسعة يسقط بالإتيان بالأقلّ ، ووجوب العشرة لا يسقط بذلك ، فإذا أتى المكلّف بالأقلّ شكّ في سقوط الجامع وجرى استصحابه ، ويكون من استصحاب القسم الثاني من الكلّي.

التنبيه الأوّل : في جريان الاستصحاب وعدمه ، فهل يجري في الدوران بين الأقلّ والأكثر أو لا؟ وهنا قولان :

قد يقال : إنّ الاستصحاب يجري لإثبات نتيجة الاحتياط ووجوب الإتيان بالأكثر.

وقد يقال : إنّ الاستصحاب يجري لإثبات نتيجة البراءة والاكتفاء بالأقلّ.

أمّا القول الأوّل : وهو التمسّك بالاستصحاب لإثبات وجوب الاحتياط والاتيان بالأكثر ، فتقريبه أن يقال : إنّ المكلّف يعلم إجمالا إمّا بوجوب التسعة وإمّا بوجوب العشرة ، وعلى التقديرين فهو يعلم بوجوب الجامع بينهما كوجوب الصلاة المردّد بين تسعة أجزاء أو عشرة أجزاء ، فذمّة المكلّف مشغولة يقينا بالجامع ، ولو سلّمنا ما تقدّم

٧٣

سابقا من جريان البراءة لنفي وجوب الزائد ووجوب الإتيان بالأقلّ ، إلا أنّه عند الإتيان بالأقلّ سوف يشكّ في سقوط الجامع المعلوم إجمالا من جهة أنّ الإتيان بالأقلّ يوجب سقوط التسعة على تقدير كون الجامع هو الأقلّ ، ولكنّ الإتيان بالأقلّ لا يوجب سقوط العشرة على تقدير كون الجامع هو الأكثر ، وهذا يعني أنّه عند الإتيان بالأقلّ سوف يشكّ في براءة ذمّته من الجامع ، وهذا الشكّ وإن كان مجرى للبراءة ولكنّه مجرى للاستصحاب أيضا ، لتوفّر أركانه في المقام للعلم السابق بالجامع والشكّ اللاحق في سقوطه فيستصحب بقاؤه.

والنتيجة هي وجوب الاحتياط والإتيان بالأكثر من جهة الاستصحاب الحاكم على البراءة كما سيأتي في محلّه.

وهذا الاستصحاب من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ؛ لأنّه دائر بين الفردين الطويل والقصير ، حيث إنّ الفرد القصير مرتفع جزما والفرد الطويل باق جزما ، والجامع يشكّ في كونه متمثّلا في القصير فيرتفع أو متمثّلا في الطويل فهو باق ، فيشكّ في بقائه وارتفاعه ، وحيث إنّه معلوم الحدوث ومشكوك البقاء فتجري استصحابه.

والجواب على ذلك : أنّ استصحاب جامع الوجوب إن أريد به إثبات وجوب العشرة ـ لأنّ ذلك هو لازم بقائه ـ فهذا من الأصول المثبتة ؛ لأنّه لازم عقلي لا يثبت بالاستصحاب.

وإن أريد به الاقتصار على إثبات جامع الوجوب ، فهذا لا أثر له ؛ لأنّه لا يزيد على العلم الوجداني بهذا الجامع ، وقد فرضنا أنّ العلم به لا ينجّز سوى الأقلّ ، والأقلّ حاصل في المقام بحسب الفرض.

والجواب : أنّ استصحاب جامع الوجوب لا يجري في المقام ؛ وذلك لأنّه إن أريد باستصحاب جامع الوجوب ـ بعد الإتيان بالأقلّ ـ إثبات أنّ الأكثر هو الذي اشتغلت به الذمّة ، حيث إنّ الأقلّ لم يسقط به وجوب الجامع فيتعيّن وجوب الأكثر ؛ لأنّ الجامع لا يزال باقيا ولا معنى لبقائه في الأقلّ ؛ لأنّه قد ارتفع وسقط بالإتيان به فيكون باقيا في الأكثر ، فهذا من الأصل المثبت وهو غير حجّة ؛ لأنّ إثبات وجوب الأكثر باستصحاب الجامع لازم عقلي لبقاء الجامع ، إذ المفروض أنّ الجامع مردّد بين الأقلّ

٧٤

والأكثر ، فإذا أتى بالأقلّ وبقي وجوب للجامع فهذا يعني أنّه باق في الأكثر ؛ إذ لا يوجد غير الأكثر بعد استثناء الأقلّ ، إلا أنّ هذا لازم عقلي وليس شرعيّا ، والملازمة العقليّة لا تثبت بالأصل.

وإن أريد باستصحاب الجامع التعبّد ببقاء الجامع من دون تعيين للفرد ، فهذا هو نفس العلم الإجمالي السابق والذي كان عبارة عن علم تفصيلي وجداني بالجامع وشكّ في الفرد ، ومع فرض وجود العلم الوجداني بالجامع يكون التعبّد به لغوا وتحصيلا للحاصل ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ هذا الجامع المتعبّد ببقائه لا أثر له ؛ لأنّ البراءة تجري عن الزائد كما تقدّم سابقا.

وأمّا التمسّك به على الوجه الثاني فباستصحاب عدم وجوب الزائد الثابت قبل دخول الوقت أو في صدر عصر التشريع.

ولا يعارض باستصحاب عدم الوجوب الاستقلالي للأقلّ ، إذ لا أثر لهذا الاستصحاب ؛ لأنّه إن أريد به إثبات وجوب الزائد بالملازمة فهو مثبت ، وإن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ فهو غير صحيح ؛ لأنّ فرض ترك الأقلّ هو فرض المخالفة القطعيّة ، ولا يصحّ التأمين بالأصل العملي إلا عن المخالفة الاحتماليّة.

وأمّا القول الثاني : وهو التمسّك بالاستصحاب لإثبات نتيجة البراءة ، والاكتفاء بالأقلّ فتقريبه :

إمّا بلحاظ عالم الجعل والتشريع ، حيث يلتفت إلى بداية عصر التشريع فيقال : إنّه لم يجعل الشارع وجوبا للأكثر ، بل هو مشكوك فيجري استصحاب عدم جعل الأكثر.

وإمّا بلحاظ عالم المجعول والفعليّة ، وذلك بأن يلتفت المكلّف إلى ما قبل دخول الوقت ، فإنّه قبل زوال الشمس لم يكن الأكثر مجعولا ولا فعليّا ولو من جهة عدم تحقّق قيوده وشروطه وموضوعه ، ثمّ بعد الزوال ـ حيث يعلم بوجوب الصلاة فعلا عليه ـ يشكّ في كون الوجوب متعلّقا بالأكثر فيجري استصحاب عدمه الثابت قبل الزوال.

وبهذا الاستصحاب يتبيّن لنا أنّ الزائد غير واجب وهذا يعني أنّه يجوز الاكتفاء بالأقلّ.

وقد يعترض على استصحاب عدم وجوب الزائد لنفي وجوب الأكثر ، بأنّه معارض

٧٥

باستصحاب عدم وجوب الأقلّ الاستقلالي ، فإنّه وإن كنّا نعلم بوجوب الأقلّ بعد جريان البراءة لنفي الزائد كما تقدّم سابقا ، إلا أنّ هذا الأقلّ مردّد بين كونه استقلاليّا أو ضمنيّا ، وإثبات كونه استقلاليّا يعني صدور تشريع خاصّ بالأقلّ ، وهذا الأمر مشكوك الصدور في عصر التشريع فيجري استصحاب عدم جعل الأقلّ الاستقلالي ، أو يجري استصحاب عدم فعليّة الأقلّ أيضا ولو قبل دخول الوقت.

وحينئذ يتعارض الاستصحابان ويتساقطان ، إذ الأخذ بهما معا غير معقول والأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجّح.

وجوابه : أنّ استصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي ـ سواء كان على مستوى الجعل أم كان على مستوى المجعول ـ لا يجري في المقام ؛ وذلك لأنّه لا معنى لجريانه ؛ لأنّه :

إن أريد باستصحاب عدم الأقلّ إثبات أنّ الأكثر هو متعلّق الوجوب ؛ لأنّ الوجوب دائر بينهما فإذا انتفى أحدهما ثبت الآخر ، فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الملازمة هنا عقليّة.

وإن أريد باستصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي إثبات التأمين من جهة الأقلّ حالة فعل الأكثر ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بالأكثر يستبطن الإتيان بالأقلّ ، مضافا إلى أنّه خلف المراد من الاستصحاب وهو إثبات الأقلّ دون الأكثر.

وإن أريد باستصحاب عدم الأقلّ الاستقلالي إثبات التأمين من جهة الأقلّ حين ترك الزائد والأكثر أيضا ، فهذا مستحيل أيضا ؛ لأنّه إذا ترك الزائد وترك الأقلّ يكون قد وقع في المخالفة القطعيّة ، ففي حالة تركه للزائد لا يمكن تأمينه عن ترك الأقلّ بالأصل العملي ؛ لأنّه يكون من باب التأمين عن المخالفة القطعيّة بالأصل ، وهذا غير ممكن لأنّ المخالفة القطعيّة معلومة الحرمة قطعا ؛ ولأنّ الأصل العملي إنّما يجري لإثبات التأمين من جهة المخالفة الاحتماليّة لا القطعيّة.

وبهذا ظهر أنّه لا معنى لجريان استصحاب عدم الأقلّ.

فالصحيح هو جريان استصحاب عدم جعل الأكثر أو عدم فعليّة الأكثر ، وتكون النتيجة تأكيدا لنتيجة البراءة.

٢ ـ الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة

إذا تردّد أمر شيء بين كونه جزءا من الواجب أو مانعا عنه ، فمرجع ذلك إلى

٧٦

العلم الإجمالي بوجوب زائد متعلّق إمّا بالتقيّد بوجود ذلك الشيء أو بالتقيّد بعدمه. وفي مثل ذلك يكون هذا العلم الإجمالي منجّزا وتتعارض أصالة البراءة عن الجزئيّة مع أصالة البراءة عن المانعيّة ، فيجب على المكلّف الاحتياط بتكرار العمل مرّة مع الإتيان بذلك الشيء ومرّة بدونه.

هذا فيما إذا كان في الوقت متّسع ، وإلا جازت المخالفة الاحتماليّة بملاك الاضطرار وذلك بالاقتصار على أحد الوجهين.

التنبيه الثاني : فيما إذا دار الأمر بين كون شيء جزءا أو مانعا :

مثاله ما إذا شكّ في أنّ كلمة ( آمين ) أو ( التكفير ) مثلا هل هو جزء من الصلاة أو مانع من الصلاة؟

ومرجع هذا الشكّ في الحقيقة إلى العلم الإجمالي بوجوب زائد ، وهذا الوجوب الزائد يتردّد أمره بين تقيّد المركّب بأمر وجودي بناء على الجزئيّة ، أو تقيّده بأمر عدمي بناء على المانعيّة ؛ لأنّ الجزئيّة معناها كون وجود التأمين أو التكفير جزءا واجبا في المركّب ، والمانعيّة معناها كون عدم التأمين أو التكفير جزءا واجبا في المركّب. فيعود الدوران في الحقيقة بين شيئين متباينين ؛ لأنّ وجود التأمين أو التكفير مغاير لعدم التكفير أو التأمين ، إذ الوجود والعدم لا يجتمعان ، بل هما متباينان.

وفي مثل ذلك يكون لدينا علم إجمالي منجّز لدورانه بين المتباينين ؛ لأنّ البراءة عن كونه جزءا تتعارض مع البراءة عن كونه مانعا ، فتجب الموافقة القطعيّة وتحرم المخالفة القطعيّة.

ولكن حيث إنّ المخالفة القطعيّة والموافقة القطعيّة غير ممكنتين ؛ لأنّ هذا الأمر المردّد بين الجزئيّة أو المانعيّة يتردّد في الحقيقة بين وجوده أو عدمه ، والوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان فلا تمكن المخالفة أو الموافقة ، إلا أنّ هذا إنّما هو في الفعل الواحد للمركّب ، ولكن بلحاظ تكرار المركّب يمكن فيه الموافقة القطعيّة ، وذلك بأن يأتي بالفعل الأوّل مع الجزء ويأتي بالفعل الثاني من دون الجزء.

ولذلك يحكم في هذه الصورة بوجوب الاحتياط بتكرار العمل مرة واجدا للشيء ، وأخرى فاقدا له ، وبهذا تتحقّق الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي ؛ لأنّها ممكنة ومقدور عليها ، ولا يكفيه الموافقة الاحتماليّة عندئذ.

٧٧

وهذا بخلاف ما إذا دار الأمر بين كونه جزءا أو ليس جزءا كالسورة ، فإنّ الموافقة القطعيّة تحصل بالإتيان بالمركّب مرّة واحدة واجدة للجزء لا بقصد الجزئيّة ، بل بقصد رجاء المطلوبيّة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من حكم الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة إنّما هو على تقدير سعة الوقت للتكرار ، وأمّا لو كان الوقت ضيّقا لا يتّسع إلا للفعل مرّة واحدة فيكون المكلّف مخيّرا في الإتيان به مع الجزء أو بدونه ؛ لأنّه مضطرّ عمليّا إلى ذلك ، إذ لا يمكنه ترك المركّب رأسا ولا يمكنه تكراره بحسب الفرض لضيق الوقت ، فيتعيّن الإتيان به مع أحدهما ، وهنا سوف تتحقّق المخالفة الاحتماليّة في مقابل الموافقة الاحتماليّة.

وهذه المخالفة الاحتماليّة يؤمّن عنها بملاك الاضطرار ؛ لأنّه يؤمّن عن المخالفة القطعيّة فمن الأولى أن يؤمّن عن المخالفة الاحتمالية كما هو واضح ؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها.

وقد يقال : إنّ العلم الإجمالي المذكور غير منجّز ولا يمنع عن جريان البراءتين معا ، بناء على بعض صيغ الركن الرابع لتنجيز العلم الإجمالي ، وهي صيغة الميرزا (١) القائلة : بأنّ تعارض الأصول مرهون بأداء جريانها إلى الترخيص عمليّا في المخالفة القطعيّة ، فإنّ جريان الأصول في المقام لا يؤدّي إلى ذلك ؛ لأنّ المكلّف لا تمكّنه المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ، إذ في حالة الإتيان بالشيء المردّد بين الجزء والمانع يحتمل الموافقة ، وفي حالة تركه يحتملها أيضا ، فلا يلزم من جريان الأصلين معا ترخيص في المخالفة القطعيّة.

فإن قيل : ألا تحصل المخالفة القطعيّة لو ترك المركّب رأسا؟

قلنا : نعم تحصل ، ولكن هذا ممّا لا إذن فيه من قبل الأصلين حتّى لو جريا معا.

قد يقال : إنّ حكم هذه المسألة هو التخيير لا الاحتياط بتكرار العمل.

والوجه في ذلك : أنّ العلم الإجمالي المذكور وإن كان دائرا بين المتباينين إلا أنّه في الدقّة دائر بين المحذورين ، وقد تقدّم أنّه في موارد الدوران بين المحذورين لا مانع من جريان البراءة عنهما ؛ لأنّه لن يؤدّي إلى الوقوع في المخالفة القطعيّة.

__________________

(١) فوائد الأصول ٤ : ٢٦ ـ ٢٧.

٧٨

والمفروض أنّ المنع عن جريان البراءة في الطرفين إنّما هو لأجل أداء جريانها فيهما معا إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة ، وأمّا إذا لم يؤدّ جريانها فيهما إلى ذلك فلا محذور في جريانها.

وفي موردنا لا يمكن أن تتحقّق المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ هذا الشيء المشكوك على تقدير كونه جزءا فهذا يعني وجوب الإتيان به ، وعلى تقدير كونه مانعا فهذا يعني حرمة الإتيان به ، فيدور الأمر بين كون هذا الشيء واجبا أو محرّما ، وهذا من الدوران بين المحذورين والذي يحكم فيه بالتخيير عقلا وبجريان البراءة عن الوجوب والحرمة معا ؛ لأنّ التأمين عنهما لن يؤدّي عمليّا إلى المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ هذا الشاكّ إمّا أن يأتي بالمركّب واجدا للجزء أو يأتي به فاقدا للجزء ، فهناك مخالفة احتماليّة لا قطعيّة ، فالمورد من موارد جريان البراءة ، ولا يمكن للمكلّف أن يأتي بالمركّب واجدا وفاقدا لهذا الشيء ؛ لأنّه مستحيل.

ولا يقال هنا : إنّ المخالفة القطعيّة ممكنة وذلك بأن يترك الصلاة رأسا فيكون قد خالف العلم الإجمالي قطعا.

لأنّه يقال : إنّ هذه المخالفة القطعيّة مخالفة للعلم التفصيلي وهو وجوب المركّب لا للعلم الإجمالي ، مضافا إلى أنّ هذه المخالفة لم تنشأ من جريان البراءة في الطرفين ، وإنّما نشأت من خلال ترك الواجب المعلوم تفصيلا.

ولكن يمكن أن يقال على ضوء صيغة الميرزا : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ممكنة أيضا فيما إذا كان الشيء المردّد بين الجزء والمانع متقوّما بقصد القربة على تقدير الجزئيّة ، فإنّ المخالفة القطعيّة حينئذ تحصل بالإتيان به بدون قصد القربة ، ويكون جريان الأصلين معا مؤدّيا إلى الإذن في ذلك ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

والجواب أن يقال : إنّ المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي الدائر بين وجوب الشيء على تقدير كونه جزءا وبين حرمته على تقدير كونه مانعا ، ممكنة فيما إذا كان هذا الشيء على تقدير جزئيّته ممّا يشترط فيه قصد القربة بأن كان من الواجبات التعبّديّة لا التوصّليّة.

فإنّنا إذا فرضنا أنّ ( التأمين أو التكفير ) على تقدير الشكّ في الجزئيّة والمانعيّة يشترط

٧٩

في جزئيّتهما الإتيان بهما بقصد القربة ، فهنا يمكن للمكلّف المخالفة القطعيّة ، وذلك بأن يأتي بالشيء لا بقصد القربة فإنّه على تقدير كونه جزءا فقد خالف ؛ لأنّه لم يأت بالجزء بقصد القربة والذي هو شرط في تحقّق الجزئيّة بحسب الفرض.

وعلى تقدير كونه مانعا فلم يتركه أي أنّه أوجد المانع مع أنّ المطلوب منه إعدام المانع ، فقد خالف أيضا (١).

وبهذا يكون جريان البراءة عن كونه جزءا وجريان البراءة عن كونه مانعا مؤدّيا إلى المخالفة القطعيّة ، فالركن الرابع محفوظ ولذلك تتعارض البراءتان وتتساقطان ؛ لأنّه لا يمكن الأخذ بهما معا ولا يمكن الأخذ بأحدهما دون الآخر ؛ لأنّ الأوّل مخالفة قطعيّة والثاني ترجيح بلا مرجّح.

فالصحيح ما ذكرناه من لزوم الاحتياط بتكرار العمل مرّة مع الشيء ومرّة من دونه.

٣ ـ الأقلّ والأكثر في المحرّمات

كما قد يعلم إجمالا بواجب مردّد بين التسعة والعشرة ، كذلك قد يعلم بحرمة شيء مردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا علم بحرمة تصوير رأس الحيوان أو تصوير كامل حجمه.

ويختلف الدوران المذكور في باب الحرام عنه في باب الواجب من بعض الجهات :

التنبيه الثالث : فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر في المحرّمات.

كما إذا علم بحرمة التصوير وشكّ في أنّ هذه الحرمة مختصّة بتصوير الرأس أو أنّها شاملة لتصوير تمام الشكل ، فهنا يدور الأمر بين المتباينين إمّا حرمة تصوير الرأس فقط ، وإمّا حرمة تصوير تمام الشكل.

وهنا الحكم نفس الحكم المتقدّم في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في الوجوبات

__________________

(١) قد يقال : إنّ قصد القربة لمّا كان دخيلا في الشيء المردّد كما هو الفرض فكما لا تتحقق الجزئيّة بالإتيان به من دون قصد القربة كذلك لا تتحقق المانعية لأن المانع ليس هو ذات الشيء بل هو معه مضافا إلى قصد القربة ، ولذلك لا يبطل الصلاة الإتيان به من دون قصد الجزئيّة حتى لو كانت مانعيته معلومة قطعا.

٨٠