شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

وتقريبه : أنّ هذا الشاكّ يعلم تفصيلا أنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة زيادة مبطلة على كلّ تقدير ، أي سواء كان الواجب في الواقع هو الأقلّ أم كان هو الأكثر.

أمّا على تقدير كون الواجب هو الأقلّ فواضح ؛ لأنّ الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مبطل حتما ؛ لأنّه يكون قد أتى بما ليس بواجب ، وما ليس بجزء بهذا القصد.

وأمّا على تقدير كون الأكثر هو الواجب واقعا فكذلك يكون الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة مبطلا ؛ لأنّه لا يعلم بوجوب الأكثر وإنّما هو شاكّ في وجوبه ، ومع الشكّ في وجوبه يكون الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة تشريعا محضا وهو محرّم ؛ لأنّه ينسب إلى الشريعة ما لا يعلم أنّه منها ؛ لأنّ الفرض كونه شاكّا في وجوب الأكثر.

يبقى وجوب الإتيان بالسورة لا بقصد الجزئيّة ، وهذا الوجوب غير معلوم ، بل هو مشكوك بدوا ، فتجري فيه البراءة بلا معارض ؛ لأنّ معارضه وهو البراءة عن وجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة على كلا التقديرين لا يجري ؛ لأنّ وجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة معلوم كونه مبطلا ومانعا تفصيلا ، ومع العلم به كذلك لا مجال لجريان البراءة عنه.

يبقى احتمال أن تكون السورة واجبة بالوجوب الضمني ، وهذا الاحتمال باطل ؛ لأنّ كون السورة واجبة ضمنا فرع أن يكون الأمر بالمركّب متعلّقا بالأكثر ، فإنّه إذا كان متعلّقا بالأكثر كان هناك وجوب ضمني لكلّ جزء من أجزائه حتّى السورة ، إلا أنّ المفروض أنّ وجوب الأكثر مشكوك فيكون الوجوب الضمني للسورة مشكوكا فتجري فيه البراءة من دون معارض كما تقدّم.

وبهذا اتّضح أنّه ليس هناك مانع من جريان البراءة في مسألة الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء ؛ لأنّ كلّ ما ذكر من أدلّة وبراهين للمنع غير تامّة.

وبهذا ينتهي البحث عن مسألة الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء.

* * *

٤١
٤٢

الدوران بين

الأقلّ والأكثر في الشرائط

٤٣
٤٤

٢ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط

والتحقيق فيها ـ على ضوء المسألة السابقة ـ هو جريان البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّ مرجع الشرطيّة للواجب إلى تقيّد الواجب بقيد وانبساط الأمر على التقيّد ، كما تقدّم في موضعه (١) ، فالشكّ فيها شكّ في الأمر بالتقيّد.

والدوران إنّما هو بين الأقلّ والأكثر إذا لوحظ المقدار الذي يدخل في العهدة ، وهذا يعني وجود علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الزائد فتجري البراءة عنه.

إذا شكّ في وجوب شرط مع الواجب ، كما إذا شكّ في وجوب الطهارة مع الصلاة ، فهذا من الشكّ في الأقلّ والأكثر في الشرائط ، بمعنى أنّ الواجب هل هو الصلاة فقط ، أو الصلاة مع الطهارة؟

والتحقيق في ذلك أن يقال : إنّ البراءة تجري لنفي الشرط الزائد المشكوك ، كما هو الحال في الشكّ في الجزء الزائد تماما.

والوجه في ذلك : أنّ مرجع الشكّ في الشرطيّة للواجب إلى الشكّ في أنّ المأمور به هل هو ذات الطبيعة أو حصّة خاصّة من الطبيعة؟ لأنّ الشرطيّة للواجب معناها تقيّد الواجب بقيد ، وتعلّق الأمر بذات الواجب وبالتقيّد بذلك القيد لا بذات الواجب فقط ؛ لأنّ القيد يحصّص الواجب إلى حصّتين ، الأولى الصلاة من دون القيد والثانية الصلاة مع القيد ، بحيث يكون المأمور به هو الحصّة الخاصّة من الواجب لا الواجب كيفما اتّفق.

وحينئذ يكون الشكّ في الشرط مرجعه في الحقيقة إلى الشكّ في الأمر بالتقيّد زائدا على ذات الواجب ، وهذا يعني أنّه دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ ذات الواجب

__________________

(١) بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : المسئوليّة تجاه القيود والمقدّمات.

٤٥

معلوم على كلّ تقدير سواء كان الشرط موجودا أم لا ، ويشكّ في وجوب زائد وهو تقيّد الواجب بهذا القيد فتجري فيه البراءة ؛ لأنّه تكليف زائد مشكوك.

وبهذا يكون هذا العلم الإجمالي منحلاّ انحلالا حقيقيّا ؛ لأنّ ما يدخل في العهدة على كلّ تقدير هو ذات الواجب ، ويشكّ في دخول شيء زائد في العهدة وهو التقيّد الناشئ من الشكّ في وجوب الشرط.

والحاصل : أنّ الشكّ في دخالة الشرط كالشكّ في دخالة الجزء في كونه مجرى للبراءة.

غاية الأمر الفرق بينهما من جهة أنّ الجزء يكون بنفسه مأمورا به بنحو الوجوب الضمني المترشّح عليه من الأمر بالمركّب ، بينما الشرط لا يكون بنفسه مأمورا به ، بل المأمور به هو تقيّد الواجب بهذا الشرط لا الشرط نفسه ، وإنّما الشرط يفيدنا في تحصيص الواجب إلى حصّتين حصّة مطلقة وحصّة مقيّدة ، ثمّ ينصبّ الأمر على الحصّة المقيّدة والتي هي بالتحليل العقلي تقسّم إلى جزءين ذات الواجب والشرط ، فهو جزء تحليلي للواجب.

ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشرط المشكوك راجعا إلى متعلّق الأمر كما في الشكّ في اشتراط العتق بالصيغة العربيّة واشتراط الصلاة بالطهارة ، أو إلى متعلّق المتعلّق ، كما في الشكّ في اشتراط الرقبة التي يجب عتقها بالإيمان أو الفقير الذي يجب إطعامه بالهاشميّة.

ثمّ إنّ الحكم الذي ذكرناه عند الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط وهو جريان البراءة ، لا يختلف سواء كان الشكّ في الشرطيّة راجعا إلى متعلّق الأمر أم كان راجعا إلى متعلّق المتعلّق.

أمّا النحو الأوّل أي يكون الشكّ راجعا إلى متعلّق الأمر ، كما إذا شكّ في اشتراط الصلاة بالطهارة ، فإنّ الطهارة هنا شرط للمادّة أي لمتعلّق الأمر وهو الصلاة في المثال ، لا للوجوب ؛ لأنّ الوجوب ثابت على كلّ تقدير عند زوال الشمس سواء كان متطهّرا أم لا ، وإنّما الواجب عند الزوال هو الصلاة مع الطهارة لا بدونها ، فهذا الشرط شرط للمادّة أي للواجب.

وأمّا النحو الثاني أي يكون الشكّ راجعا إلى متعلّق المتعلّق وهو الموضوع ، كما إذا

٤٦

شكّ في اشتراط الإيمان في الرقبة التي يجب عتقها ، فإنّ العتق متعلّق للوجوب ، والرقبة متعلّق للعتق ، والإيمان متعلّق بالرقبة لا بالوجوب ولا بالعتق ، فهي شرط في الموضوع.

وكذا وجوب إطعام الفقير الذي شكّ في اشتراط الهاشميّة فيه ، فإنّ الهاشميّة شرط لمتعلّق المتعلّق أي للموضوع ؛ لأنّ الحكم هو الوجوب المتعلّق بالإطعام فهو المادّة أو متعلّق الأمر ، والإطعام متعلّق بالفقير فهو متعلّق المتعلّق والهاشميّة شرط في الفقير أي الموضوع.

ففي هذين النحوين يكون الشكّ في الشرطيّة مجرى للبراءة ؛ لأنّ مرجعه كما قلنا إلى الأمر بالتقيّد زائدا على ذات الطبيعة المعلومة على كلّ تقدير.

هذا هو الصحيح في المسألة ، إلا أنّ المحقّق العراقي له تفصيل في المقام وهو :

وقد ذهب المحقّق العراقي ـ قدس الله روحه ـ (١) إلى عدم جريان البراءة في بعض الحالات المذكورة.

ومردّ دعواه إلى أنّ الشرطيّة المحتملة على تقدير ثبوتها : تارة تتطلّب من المكلّف في حالة إرادته الإتيان بالأقلّ أن يكمّله ويضمّ إليه شرطه ، وأخرى تتطلّب منه في الحالة المذكورة صرفه عن ذلك الأقلّ الناقص رأسا وإلغاءه إذا كان قد أتى به ودفعه إلى الإتيان بفرد آخر كامل واجد للشرط.

ومثال الحالة الأولى : أن يعتق رقبة كافرة فإنّ شرطيّة الإيمان في الرقبة تتطلّب منه أن يجعلها مؤمنة عند عتقها ، وحيث إنّ جعل الكافر مؤمنا ممكن فالشرطيّة لا تقتضي إلغاء الأقلّ رأسا بل تكميله ، وذلك بأن يجعل الكافر مؤمنا عند عتقه له فيعتقه وهو مؤمن.

ومثال الثاني : أن يطعم فقيرا غير هاشمي فإنّ شرطيّة الهاشميّة تتطلّب منه إلغاء ذلك رأسا وصرفه إلى الإتيان بفرد جديد من الإطعام ؛ لأنّ غير الهاشمي لا يمكن جعله هاشميّا.

وهنا تفصيل للمحقّق العراقي يفرّق على أساسه بين الشرط الراجع إلى المتعلّق والشرط الراجع إلى متعلّق المتعلّق ، فتجري البراءة في النحو الأوّل دون الثاني ، ولكن

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٣٩٩.

٤٧

يمكن إرجاع تفصيله إلى مطلب آخر لعلّه هو مراده فنقول : أنّ الشرطيّة المحتملة على تقدير ثبوتها واقعا على نحوين :

الأوّل : أن تكون الشرطيّة تستدعي من المكلّف أن يضمّ شيئا زائدا على ما أتى به ، بحيث إنّ الأقلّ لا يكفي ، بل لا بدّ من تكميله بضمّ الزائد إليه لكي تتحقّق الشرطيّة.

كما إذا قيل أعتق رقبة وشكّ في شرطيّة الإيمان في الرقبة ، فهنا إذا أراد أن يعتق رقبة غير مؤمنة فشرطيّة الإيمان المحتملة لا تتطلّب منه أن يلغي ما أراد الشروع فيه رأسا ويأتي برقبة مؤمنة غير الرقبة التي يريدها ، بل تتطلّب منه أن يضمّ إلى هذه الرقبة الكافرة شرطا زائدا عليها وهو شرط الإيمان ، وذلك بأن يجعل هذا الكافر مؤمنا ، فإنّ جعل الكافر مؤمنا ممكن فيكون واقعا تحت الاختيار ويصحّ تعلّق الأمر به ، ولذلك إذا جعل هذا الكافر مؤمنا عند إرادة عتقه فلا يكون قد جاء بمتعلّق آخر ، وإنّما نفس المتعلّق الذي تحت يده غاية الأمر أنّه ضمّ إليه شيئا زائدا وأكمله بالشرط المحتمل ، وأوضح منه ما إذا كان الشرط المحتمل في العتق هو قصد القربة.

الثاني : أن تكون الشرطيّة تستدعي من المكلّف أن يلغي ما أراد الشروع فيه رأسا ، ويأتي بمتعلّق آخر غير هذا ، وذلك بأن يكون الشرط المحتمل الثبوت غير ممكن جعله وضمّه إلى ما بيده ، بل لا بدّ من كونه موجودا في نفسه من قبل ، فهو خارج عن إرادته واختياره.

كما إذا قيل : أكرم الفقير ، وشكّ في شرطيّة الهاشميّة فيه ، فهنا إذا أراد أن يكرم فقيرا غير هاشمي فلا يمكنه أن يضمّ إليه شرط الهاشميّة ؛ لأنّ الهاشميّة ليست دخيلة تحت إرادة المكلّف ولا يمكنه جعلها ، ولذلك تكون هذه الشرطيّة على تقدير ثبوتها تستدعي من المكلّف أن يصرف نظره عن المتعلّق الذي يريد إكرامه فيما إذا لم يكن واجدا للشرط ، وعليه أن يبحث عن فرد آخر يكون واجدا لهذا الشرط في نفسه ؛ لأنّ هذا الفرد يباين ويغاير الفرد السابق.

فاتّضح على ضوء هذا التفصيل أنّ الشرطيّة تارة تكون واقعة تحت إرادة المكلّف واختياره فلا تتطلّب منه إلا ضمّ الزائد إلى نفس المتعلّق ، وأخرى لا تكون تحت اختياره وإرادته فهنا تتطلّب منه أن يأتي بمتعلّق آخر واجد للشرط ؛ لأنّ المتعلّق الذي

٤٨

بيده لا يمكن أن يضمّ إليه الشرط ؛ لأنّه غير ممكن له وخارج عن اختياره ، وحينئذ نقول :

ففي الحالة الأولى : تجري البراءة عن الشرطيّة المشكوكة ؛ لأنّ مرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في إيجاب ضمّ أمر زائد على ما أتى به بعد الفراغ عن كون ما أتى به مصداقا للمطلوب في الجملة ، وهذا معنى العلم بوجوب الأقلّ والشكّ في وجوب الزائد ، فالأقلّ محفوظ على كلّ حال والزائد مشكوك.

وفي الحالة الثانية : لا تجري البراءة عن الشرطيّة ؛ لأنّ الأقلّ المأتي به ليس محفوظا على كلّ حال ، إذ على تقدير الشرط لا بدّ من إلغائه رأسا ، فليس الشكّ في وجوب ضمّ أمر زائد إلى ما أتى به ليكون من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

الفرق بين الصورتين :

ففي الحالة الأولى : تجري البراءة عن الشرطيّة المشكوكة والمحتملة الثبوت ؛ وذلك لأنّ ما في يده يحتمل فيه أن يكون محقّقا للمأمور به وكافيا في الامتثال والخروج عن العهدة ، وذلك على تقدير ألا يكون الشرط ثابتا ، ويحتمل ألاّ يكون كافيا كذلك إلا بضمّ الشرط إليه.

وهذا معناه أنّه يشكّ في وجوب شيء زائد عمّا في يده ، فما في يده معلوم الوجوب على كلّ تقدير سواء كان هو الواجب فقط أم كان هو مع الشيء الآخر ، وأمّا الشيء الزائد وهو الشرطيّة فهي مشكوكة فتجري فيها البراءة بلا معارض ؛ لأنّ البراءة عن الفعل الذي بيده لا معنى لها ؛ لأنّه معلوم الوجوب تفصيلا ، فهو من الدوران بين الأقلّ والأكثر حقيقة ، والذي ينحلّ بالدقّة إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الزائد والذي تجري عنه البراءة.

فمثلا إذا كان الشكّ في شرطيّة قصد القربة في العتق للرقبة ، فعتق الرقبة معلوم تفصيلا ويشك في وجوب شيء آخر زائدا عليه وهو قصد القربة فتجري البراءة عنه بلا معارض.

وأمّا الحالة الثانية : فلا تجري البراءة عن الشرطيّة المحتملة الثبوت ؛ وذلك لأنّ الفرد المأتي به والذي لا يكون واجدا للشرطيّة ـ على تقدير ثبوت الشرطيّة واقعا ـ لا يكون محقّقا للمأمور به ، من جهة أنّه ليس مصداقا له رأسا لا من جهة أنّه فاقد لشيء زائد ،

٤٩

إذ المفروض أنّ هذا الشيء الزائد لا يمكنه إيجاده ؛ لأنّه خارج عن قدرته واختياره ، ولذلك لا بدّ من الإتيان بفرد آخر يكون واجدا في نفسه للشرط.

وهذا معناه أنّه يشكّ في مصداق الواجب هل هو هذا الفرد الفاقد للشرط أو ذاك الفرد الواجد للشرط؟ وهذا علم إجمالي دائر بين المتباينين وليس هناك قدر متيقّن ومعلوم على كلّ حال ، بل إمّا هذا الواجب أو ذاك.

وفي مثل ذلك يكون العلم الإجمالي منجّزا للإتيان بالأكثر ؛ لأنّه يتحقّق المأمور به على كلا التقديرين ، بخلاف ما لو أتى بالأقلّ فإنّه على تقدير يكون محقّقا وعلى تقدير آخر لا يكون محقّقا ، فيكون الشكّ فيما هو المحقّق للمأمور به فيجب الاحتياط.

وهذا التحقيق لا يمكن الأخذ به ، فإنّ الدوران في كلتا الحالتين دوران بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الملحوظ فيه إنّما هو عالم الجعل وتعلّق الوجوب ، وفي هذا العالم ذات الطبيعي معروض للوجوب جزما ، ويشكّ في عروضه على التقيّد ، فتجري البراءة عنه ، وليس الملحوظ في الدوران عالم التطبيق خارجا ليقال : إنّ ما أتي به من الأقلّ خارجا قد لا يصلح لضمّ الزائد إليه ولا بدّ من إلغائه رأسا على تقدير الشرطيّة.

والصحيح : أنّ هذا التفصيل وإن كان تحقيقا في المقام لكنّه خارج عن محلّ البحث ، وذلك لأنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر تارة يلحظ في عالم الجعل والتشريع ، وأخرى يلحظ في عالم التطبيق والامتثال.

فإن لوحظ الأقلّ والأكثر في عالم التطبيق والامتثال كان هذا التفصيل وجيها.

وإن لوحظ الأقلّ والأكثر في عالم الجعل والتشريع فلا يتمّ هذا التفصيل ؛ لأنّ عالم الجعل والتشريع هو عالم تعلّق الحكم بموضوعه ، فإذا قيل : أكرم الفقير أو اعتق رقبة كان وجوب الإكرام عارضا على موضوعه وهو ذات الفقير ، وكذلك وجوب العتق عارض على ذات الرقبة ، فإذا شكّ في شرطيّة الهاشميّة في الفقير أو شرطيّة الإيمان وقصد القربة في العتق أو الرقبة ، كان هذا الشكّ من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ؛ لأنّ وجوب الأقلّ وهو ذات الفقير أو ذات الرقبة معلوم الوجوب تفصيلا ؛ لأنّه هو معروض الحكم ، ويشكّ في وجوب شيء زائد عليه وهو تقيّد

٥٠

الفقير بالهاشميّة أو تقيّد الرقبة بالإيمان أو تقيّد العتق بقصد القربة ؛ لأنّ الشكّ في الشرطيّة مرجعه ـ كما قلنا ـ إلى الشكّ في التقيّد ؛ لأنّ الشرط على تقدير ثبوته يكون محصّصا للواجب إلى حصّتين فهو أمر بالواجب وأمر بالتقييد بالقيد ، وحيث إنّ ذات الواجب معلوم ؛ لأنّه هو معروض الحكم فيكون الشكّ في التقيّد شكّا في تكليف زائد فتجري عنه البراءة.

واللحاظ الأوّل خارج عن محلّ البحث والكلام ؛ لأنّنا نريد أن نحدّد المقدار الداخل في الذمّة والذي اشتغلت به في مرحلة سابقة عن الامتثال والتطبيق ، وهذا إنّما يكون بتحديد الموضوع الذي انصبّ عليه الحكم ، ولذلك لا بدّ من ملاحظة الدوران في عالم الجعل والتشريع ؛ لأنّه هو الذي يحدّد المقدار الداخل في العهدة.

وبهذا ظهر أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط تجري فيه البراءة مطلقا ، سواء كان الشرط راجعا إلى متعلّق الأمر أم كان راجعا إلى متعلّق المتعلّق ، وسواء كان الشرط ممّا يمكن إيجاده للمكلّف أم كان ممّا لا يمكن إيجاده.

وبهذا يتمّ الكلام حول الشكّ في الشرطيّة.

ولا يختلف الحال في جريان البراءة عند الشكّ في الشرطيّة ووجوب التقيّد بين أن يكون القيد المشكوك أمرا وجوديّا وهو ما يعبّر عنه بالشرط عادة ، أو عدم أمر وجودي ويعبّر عن الأمر الوجودي حينئذ بالمانع.

فكما لا يجب على المكلّف إيجاد ما يحتمل شرطيّته كذلك لا يجب عليه الاجتناب عمّا يحتمل مانعيّته ، وذلك لجريان الأصل المؤمّن.

الشكّ في المانعيّة : ذكرنا فيما تقدّم أنّه إذا شكّ في شرطيّة شيء فتجري البراءة لنفي الشرطيّة.

ثمّ إنّ هذه الشرطيّة على نحوين :

الأوّل : أن تكون الشرطيّة المحتملة الثبوت أمرا وجوديّا ، وهذا ما يسمّى بالشرط عادة كالأمثلة المتقدّمة سابقا ، فإنّ الشكّ في شرطيّة الهاشميّة في الفقير مثلا شكّ في أمر وجودي ؛ لأنّ الهاشميّة صفة وجوديّة ، ويكون الشكّ فيها راجعا إلى تقيّد الواجب بهذا القيد ، والذي تجري عنه البراءة كما تقدّم.

الثاني : أن تكون الشرطيّة المحتملة الثبوت أمرا عدميّا أو عدم أمر وجودي ، وهذا ما

٥١

يسمّى بالمانع على تقدير وجود هذا الأمر ، كما إذا شكّ في مانعيّة الضحك أو البكاء في الصلاة ، أو شكّ في مانعيّة لبس الجلد المشكوك في الصلاة ، فإنّ الشكّ هنا مرجعه إلى تقيّد الواجب بعدم هذا الأمر الوجودي ، فتجري فيه البراءة لأنّه شكّ في تكليف زائد عمّا هو متيقّن وهو ذات الواجب.

* * *

٥٢

دوران الواجب بين

التعيين والتخيير العقلي

٥٣
٥٤

٣ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

وذلك بأن يعلم بوجوب متعلّق بعنوان خاصّ أو بعنوان آخر مغاير له مفهوما غير أنّه أعمّ منه صدقا ، كما إذا علم بوجوب الإطعام إمّا لطبيعي الحيوان أو لنوع خاصّ منه كالإنسان ، فإنّ الحيوان والإنسان كمفهومين متغايران وإن كان أحدهما أعمّ من الآخر صدقا.

المراد من التخيير العقلي أن يكون متعلّق الأمر عنوانا واحدا كلّيّا له حصص ومصاديق متعدّدة في الخارج ، ونسبته إلى حصصه على حدّ واحد ، كعنوان الإنسان مثلا ، فهو أمر تعييني بحسب مفهومه ولحاظه ولكنّه تخييري بحسب مصداقه.

كما إذا قيل : أكرم العالم ، فإنّ الإكرام له حصص كثيرة في الخارج ، فيكون اختيار أحدها ناتجا من حكم العقل ، وهنا إذا علم بوجوب الإكرام للعالم وشكّ في كونه متعلّقا بالعالم مطلقا أو بالفقيه خاصّة ، فهنا الشكّ في ذلك ناتج عن التخيير العقلي بين أفراد العالم ، فلو كان الواجب مطلق العالم لكفى غير الفقيه ، ولو كان الواجب خصوص الفقيه لم يجز غيره.

والنسبة بين العالم والفقيه بلحاظ مفهوميهما هي نسبة التباين ؛ لأنّ كلّ المفاهيم متباينة في عالم الذهن ؛ لأنّ لكلّ مفهوم صورة ذهنيّة تختلف عن الصورة الذهنيّة للمفهوم الآخر حتّى وإن كان بينهما تساو في الخارج.

نعم ، النسبة بين العالم والفقيه في الخارج وبلحاظ عالم الصدق هي العموم والخصوص مطلقا ؛ لأنّ كلّ فقيه عالم ، ولكن ليس كلّ عالم فقيها.

والحاصل : أنّ الشكّ في التعيين والتخيير يعني أن يشكّ في كون المتعلّق للأمر هل هو الحصّة الخاصّة المعيّنة منه أو أي حصّة يختارها؟ فيكون داخلا في الأقلّ والأكثر ؛ لأنّ الحصّة الخاصّة عبارة عن الحصّة وزيادة ، وهي كونها متشخّصة ومتعيّنة بحدود

٥٥

وخصوصيّات لا يكفي عنها غيرها ، بخلاف مطلق الحصّة فإنّه لا يجب إلا كونها حصّة للمتعلّق ، وأمّا الخصوصيّات والمشخّصات فهي غير داخلة فيها.

وهذا يعني أنّه يعلم بوجوب الحصّة على كلّ تقدير ، سواء كانت مطلقة أو كانت معيّنة ويشك في كونها معيّنة بحصّة لا تنطبق إلا على نفسها ولا يجزي عنها غيرها ، وهذا يعني أنّ الدوران المذكور ينحلّ إلى علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي في الأكثر فتجري عنه البراءة.

والصحيح أن يقال : إنّ التغاير بين المفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في اللحاظ كما في الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ومحفوظ فيه ، ولكن بنحو اللف والإجمال.

وأخرى يكون التغاير في ذات الملحوظ لا في مجرّد إجمال اللحاظ وتفصيليّته ، كما لو علم بوجوب إكرام زيد كيفما اتّفق أو بوجوب إطعامه ، فإنّ مفهوم الإكرام ليس محفوظا في مفهوم الإطعام انحفاظ الجنس في النوع ، غير أنّ أحدهما أعمّ من الآخر صدقا.

والتحقيق في حال الدوران المذكور أن يقال : إنّ التغاير بين العنوانين والمفهومين تارة يكون على أساس الإجمال والتفصيل في عالم اللحاظ ، أي في عالم الصور الذهنيّة كما في التغاير بين الجنس والنوع ، فإنّ الجنس مندمج في النوع ؛ لأنّ النوع مركّب عقلا من الجنس والفصل ، فالجنس داخل في تركيب النوع ومحفوظ فيه ، ولكنّه بنحو الإجمال من دون ظهور واضح لذلك.

كما في الدوران بين الحيوان والإنسان أو بين العالم والفقيه ، فإنّ الحيوان والعالم جنس والفقيه والإنسان نوع ؛ لأنّ الانسان هو الحيوان الناطق ، والفقيه هو العالم بالفقه ، فكل واحد منهما ينطوي على الجنس أي الحيوان ويحتوي عليه ولكن بنحو الإجمال لا التفصيل وبنحو اللفّ لا النشر والظهور.

وأخرى يكون التغاير بين العنوانين والمفهومين إضافة للتغاير في عالم اللحاظ في عالم الملحوظ أيضا ، أي في عالم الصور الذهنيّة وحدودها ، وفي نفس الملحوظ والمرئي في هذه الصور فإنّه مختلف ومتغاير أيضا.

كما فيما إذا علم بوجوب إكرام زيد أو بوجوب إطعامه ، فهنا الإكرام والإطعام

٥٦

كمفهومين بلحاظ عالم الجعل متغايران وكذا نفس الإكرام كملحوظ ومرئي يغاير الإطعام ، وليس أحدهما محفوظا في الآخر ومندمجا فيه ؛ إذ الإكرام لا يتركّب من الإطعام ولا الإطعام يتركّب من الإكرام كما هو الحال في الجنس والنوع.

نعم ، يوجد بين هذين المفهومين عموم وخصوص مطلق من حيث الصدق الخارجي ، فإنّ كلّ إطعام إكرام ولكن ليس كلّ إكرام إطعاما.

وفي الصورتين تجري البراءة عن الأكثر ؛ لأنّ العلم الإجمالي الدائر بين المفهومين منحلّ ، إلا أنّ الانحلال يختلف ، ففي الصورة الأولى يكون الانحلال حقيقيّا بينما في الصورة الثانية يكون الانحلال حكميّا ، ولذلك نقول :

فالحالة الأولى تدخل في نطاق الدوران بين الأقلّ والأكثر حقيقة إذا أخذنا بالاعتبار مقدار ما يدخل في العهدة ، وليست من الدوران بين المتباينين ؛ لأنّ تباين المفهومين إنّما هو بالإجمال والتفصيل ، وهما من خصوصيّات اللحاظ التي لا تدخل في العهدة ، وإنّما يدخل فيها ذات الملحوظ ، وهو مردّد بين الأقلّ وهو الجنس ، أو الأكثر وهو النوع.

أمّا الحالة الأولى : وهي حالة كون التغاير بين المفهومين في الإجمال والتفصيل في عالم اللحاظ والصور الذهنيّة ، أي في عالم التحليل العقلي كما في الجنس والنوع. فهنا يكون الانحلال حقيقيّا لسريان العلم من الجامع إلى الفرد.

ففي قولنا : أكرم العالم إذا شكّ في أنّه مطلق العالم أو خصوص الفقيه ، فإنّ الفقيه هو العالم بالفقه وهذا معناه أنّنا نعلم بوجوب إكرام العالم على كلّ تقدير ، سواء كان المطلوب والمتعلّق هو مطلق العالم بأي حصّة منه أو خصوص الفقيه.

والوجه في ذلك : أنّ ما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة هو ذات الملحوظ لا الحدود اللحاظيّة ، فإنّها ممّا لا تقبل الدخول في العهدة ، وهنا ذات الملحوظ مردّدة بين العالم أو العالم الفقيه ، وهذا من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حقيقة ، والذي ينحلّ إلى علم تفصيلي بالأقلّ أي العالم ، وشكّ بدوي بالأكثر أي الفقيه.

نعم ، إذا أخذنا الحدود واللحاظات الذهنيّة فالعالم والفقيه متباينان بلحاظ أنّ هذا جنس وذاك نوع ، ولكن بالتحليل الذهني نرى أنّ التباين بلحاظ الإجمال والتفصيل فقط ، أو بلحاظ اللفّ والنشر ، إلا أنّ هذه الحدود لا تدخل في العهدة ولا تشتغل بها

٥٧

الذمّة فلا تكون منجّزة ، كغيرها من الحدود التي لا تدخل في العهدة كالإطلاق والاستقلاليّة.

وأمّا الحالة الثانية فالتباين فيها بين المفهومين ثابت في ذات الملحوظ لا في كيفيّة لحاظهما ، ومن هنا كان الدوران فيها دورانا بين المتباينين ؛ لأنّ الداخل في العهدة إمّا هذا المفهوم أو ذاك ، وهذا يعني أنّ العلم الإجمالي ثابت.

ولكن مع هذا تجري البراءة عن وجوب أخصّ العنوانين صدقا ، ولا تعارضها البراءة عن وجوب أعمّهما وفقا للجواب الأخير من الأجوبة المتقدّمة على البرهان الأوّل في المسألة الأولى من مسائل الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين.

وأمّا الحالة الثانية : وهي حالة كون التباين بين المفهومين موجودا في عالم اللحاظ وكيفيّته وفي عالم ذات الملحوظ والمرئي ، كما في مثال الدوران بين وجوب الإطعام أو الإكرام ، ففي عالم اللحاظ يختلف فيه الإكرام عن الإطعام ، وفي عالم الملحوظ يتغايران كذلك.

نعم ، في عالم الصدق الخارجي يكون الإكرام أعمّ صدقا من الإطعام ؛ لأنّه يشمله ويشمل غيره ، فالتباين إذن موجود ، فيكون هناك علم إجمالي دائر بين المتباينين : إمّا وجوب الإطعام وإمّا وجوب الإكرام ، فالداخل في العهدة إمّا هذا وإمّا ذاك.

وحيث إنّهما متباينان لحاظا وملحوظا فسوف يشكّ في متعلّق الوجوب ، وهل هو هذا المفهوم أو ذاك المفهوم المباين له؟ فالعلم الإجمالي موجود إذن.

إلا أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ انحلالا حكميّا ؛ وذلك لأنّ البراءة تجري في أحدهما من دون معارض لها ، فتجري البراءة عن المفهوم الأخصّ من الآخر بلحاظ عالم الصدق الخارجي ، أي عن وجوب الإطعام في مثالنا ، ولا تجري البراءة عن المفهوم الأعمّ صدقا وهو الإكرام ، ولذلك تسقط المنجّزيّة لانهدام الركن الثالث.

وأمّا كيفيّة انهدام هذا الركن فبأن يقال :

وذلك : أنّ البراءة عن وجوب الأعمّ ليس لها دور معقول لكي تصلح للمعارضة ؛ لأنّه إن أريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ مع الإتيان بالأخصّ فهو غير معقول ؛ لأنّ نفي الأعمّ يتضمن نفي الأخصّ لا محالة.

وإن أريد بها التأمين في حالة ترك الأعمّ بما يتضمّنه من ترك الأخصّ فهذا

٥٨

مستحيل ؛ لأنّ المخالفة القطعيّة ثابتة في هذه الحالة ، والأصل العملي يؤمّن عن المخالفة الاحتماليّة لا القطعيّة.

وجه الانحلال : أن البراءة لا يمكن جريانها عن المفهوم الأعمّ صدقا في الخارج ؛ وذلك لأنّه إن أريد بالبراءة عن الأعمّ إثبات التأمين من ناحية الأعمّ مع الإتيان بالأخصّ فهذا غير معقول ؛ إذ الإتيان بالأخصّ يتضمّن الإتيان بالأعمّ قطعا ، فكيف يمكنه الإتيان بالأخصّ من دون الإتيان بالأعمّ؟ إذ لو فرض أنّه لن يأتي بالأعمّ فهذا يعني أيضا عدم الإتيان بالأخصّ ؛ لأنّ الأخصّ ينتفي إذا انتفى الأعمّ ، والأعمّ يثبت إذا ثبت الأخصّ.

وإن أريد بالبراءة عن الأعمّ إثبات التأمين عن الأعمّ حالة عدم الإتيان بالأخصّ فهذا لا يكون معقولا ؛ لأنّه ترخيص في المخالفة القطعيّة ؛ لأنّه إذا ترك الأخصّ وترك الأعمّ أيضا فهذا يعني أنّه ترك الواجب المأمور به ، فيكون الأصل مؤمنا في هذه الحالة عن العقاب حالة المخالفة القطعيّة ، وهذا لا يمكن إثباته ؛ لأنّ الأصل يراد به التأمين من ناحية احتمال المخالفة فقط ، ولا يمكنه إثبات التأمين عند المخالفة القطعيّة ؛ لأنّها محرّمة عقلا أو عقلائيّا ولا شكّ فيها.

وبهذا ظهر أنّه لا معنى لجريان البراءة عن الأعمّ فتجري البراءة عن الأخصّ بلا معارض ، وبهذا يتحقّق الانحلال الحكمي.

* * *

٥٩
٦٠