شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

الاستصحاب بسبب وجود احتمال انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ وعدم إحراز اتّصالهما ، للزم المنع عن جريان الاستصحاب أيضا في صورة الجهل بزمان الكرّيّة مع العلم بزمان الملاقاة ، وهي الصورة التي

اختار فيها صاحب ( الكفاية ) جريان استصحاب عدم الكرّيّة فيها إلى زمان الملاقاة.

والوجه في ذلك هو : أنّه في صورة الجهل بزمان الكريّة مع العلم بزمان الملاقاة ، وأنّه في الساعة الثانية مثلا ، فهنا لدينا احتمالان :

الأوّل : أن تكون الكرّيّة المجهولة حادثة فيما بعد الساعة الثانية أي بعد زمان الملاقاة ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب عدم الكرّيّة الثابت قبل أو عند الزوال إلى زمان الملاقاة فيحكم بالانفعال ، وهذا الاستصحاب يجري لأنّ زمان اليقين متّصل بزمان الشكّ.

الثاني : أن تكون الكرّيّة المجهولة حادثة قبل الساعة الثانية أي قبل زمان الملاقاة ، فهنا استصحاب عدم الكرّيّة إلى الساعة الثانية قد تخلّله وجود الكرّيّة ، فينقطع الاتّصال بين الزمانين ، وما دام كلا الاحتمالين واردا فلا يعلم بالاتّصال بين الزمانين فيكون من الشبهة المصداقيّة.

ولكنّ صاحب ( الكفاية ) قبل في هذه الصورة جريان استصحاب عدم الكرّيّة بينما لم يقبله في مجهولي التاريخ ، مع أنّ المانع لو كان هو وجود الكرّيّة الواقعي فهو مانع في المقامين ؛ لأنّ احتمال سبق وجودها الواقعي على زمان الملاقاة موجود في الصورتين ، ومع الاحتمال لا يحرز الاتّصال ، ولو كان المانع هو الوجود الواقعي المعلوم فهو غير موجود في الصورتين معا ؛ لأنّ العلم الإجمالي علم بالجامع لا بالواقع ولذلك فهو يجتمع مع الشكّ والتردّد دون العلم التفصيلي.

وهناك تفسير آخر لكلام صاحب ( الكفاية ) أكثر انسجاما مع عبارته :

ولنأخذ المثال السابق لتوضيحه ، وهو الماء الذي كان قليلا قبل الزوال ثمّ مرّت ساعتان حدثت في إحداهما الكرّيّة وفي الأخرى الملاقاة للنجاسة ، وحاصل التفسير : أنّ ظرف اليقين بعدم الكرّيّة في هذا المثال هو ما قبل الزوال ، وظرف الشكّ مردّد بين الساعة الأولى بعد الزوال والساعة الثانية ؛ لأنّ عدم الكرّيّة له اعتباران :

٤٠١

فتارة نأخذه بما هو مقيس إلى قطعات الزمان وبصورة مستقلّة عن الملاقاة ، وأخرى نأخذه بما هو مقيس إلى زمان الملاقاة ومقيّد به.

التفسير الثاني لكلام صاحب ( الكفاية ) : أنّنا إذا أخذنا المثال السابق أي العلم بعدم الكرّيّة قبل الزوال ثمّ العلم بعد الزوال بحصول الكرّيّة وبحصول الملاقاة ، ولكن لا يعلم زمانهما بالتحديد ، ولا يعلم المتقدّم منهما والمتأخّر ، فأحدهما حدث إمّا الساعة الأولى وإمّا الساعة الثانية ، والآخر كذلك ، فهنا لدينا يقين وشكّ.

أمّا اليقين فهو اليقين بعدم الكرّيّة وهذا ظرفه قبل الزوال.

وأمّا الشكّ فهو مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية بعد الزوال ، فظرف الشكّ وإن كان بعد الزوال يقينا لكنّه مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية ؛ لأنّ عدم الكرّيّة له اعتباران :

أحدهما : أن يؤخذ عدم الكرّيّة بما هو في عمود الزمان ، أي بما هو مضاف إلى عمود الزمان والقطعات الزمانيّة بقطع النظر عن الملاقاة ، فهنا عدم الكرّيّة مقيس إلى الزمان مطلقا.

والآخر : أن يؤخذ عدم الكرّيّة بما هو مضاف إلى الملاقاة ومقيّد بزمان الملاقاة ، وهنا عدم الكرّيّة مضاف إلى حصّة خاصّة من الزمان وهي زمان الملاقاة.

والاستصحاب الذي نريد إجراءه هو استصحاب عدم الكرّيّة الذي يترتّب عليه الأثر الشرعي ويكون منجّزا لا مطلقا حتّى ولو لم يكن له أثر أصلا.

وحينئذ لا بدّ من ملاحظة الاستصحاب في كلّ من هذين الاحتمالين ، فنقول :

فإذا أخذناه بالاعتبار الأوّل ، وجدنا أنّ الشكّ فيه موجود في الساعة الأولى وهي متّصلة بزمان اليقين مباشرة ، فبالإمكان أن نستصحب عدم الكرّيّة إلى نهاية الساعة الأولى ، ولكن هذا لا يفيدنا شيئا ؛ لأنّ الحكم الشرعي وهو انفعال الماء ليس مترتّبا على مجرّد عدم الكرّيّة ، بل على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة.

أمّا الاحتمال الأوّل : وهو ما إذا لاحظنا عدم الكرّيّة منسوبا ومضافا ومقيسا إلى قطعات الزمان أي إلى عمود الزمان بقطع النظر عن الملاقاة ، فهنا نجد أنّ الشكّ في عدم الكرّيّة موجود في الساعة الأولى ؛ لأنّنا لا نعلم بحدوث الكرّيّة في هذه الساعة ، وإنّما نعلم إجمالا بحدوث الكرّيّة المردّد بين الساعة الأولى والثانية ، فحدوثها في

٤٠٢

الساعة الأولى إذن مشكوك ، والساعة الأولى متّصلة بما قبلها ، أي أنّ زمان الشكّ وهو الساعة الأولى متّصل بزمان اليقين وهو عدم الكرّيّة إلى الزوال ، وحينئذ لا مانع من جريان الاستصحاب لإثبات عدم الكرّيّة تعبّدا في الساعة الأولى بعد الزوال.

إلا أنّ هذا الاستصحاب لا يفيد في ترتيب الأثر الشرعي وهو انفعال الماء وتنجّسه ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ على الانفعال إنّما يفترضه في صورة عدم الكرّيّة مع الملاقاة لا في صورة عدم الكرّيّة مطلقا وإن لم يكن هناك ملاقاة أصلا ، وهذا معناه أنّ هذا الاستصحاب لا يترتّب عليه أثر شرعي فيمتنع جريانه لذلك.

وهكذا أيضا لا يمكننا ترتيب الأثر الشرعي من جهة استصحاب عدم الملاقاة في الساعة الأولى ؛ وذلك لأنّ زمان الملاقاة وإن كان معلوما يقينا في الساعة الثانية ؛ لأنّ الملاقاة مردّدة بين الساعة الأولى أو الثانية بنحو مانعة الخلو ، فإذا كانت في الأولى فهي موجودة في الثانية بقاء ، وإذا كانت في الثانية فهي موجودة فيها حدوثا ، ولذلك فهي معلومة يقينا في الساعة الثانية ، ولكنّ هذا المقدار لا يفيد ؛ لأنّه قبل الساعة الثانية يفترض الشكّ فيها فيجري استصحاب عدمها ، وهذا معناه أنّه في الساعة الأولى تثبت عدم الملاقاة بالاستصحاب ، ويثبت بالاستصحاب الذي ذكرناه قبل قليل عدم الكرّيّة ، فلم يتحقّق موضوع الحكم الشرعي أيضا.

وإذا أخذنا عدم الكرّيّة بالاعتبار الثاني أي مقيسا ومنسوبا إلى زمان الملاقاة ، فمن الواضح أنّ الشكّ فيه إنّما يكون في زمان الملاقاة ، إذ لا يمكن الشكّ قبل زمان الملاقاة في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة ، وإذا تحقّق أنّ زمان الملاقاة هو زمان الشكّ ترتّب على ذلك أنّ زمان الشكّ مردّد بين الساعة الأولى والساعة الثانية تبعا لتردّد نفس زمان الملاقاة في الساعتين ، وهذا يعني عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ؛ لأنّ زمان اليقين ما قبل الزوال وزمان الشكّ محتمل الانطباق على الساعة الثانية ، ومع انطباقه عليها يكون مفصولا عن زمان اليقين بالساعة الأولى.

وأمّا الاحتمال الثاني : وهو ملاحظة عدم الكرّيّة مضافا ومقيسا إلى زمان الملاقاة ، والذي هو موضوع الحكم الشرعي بالانفعال ؛ لأنّه متى ما تحقّقت الملاقاة وعدم الكرّيّة معا حصل الانفعال.

٤٠٣

فهنا نجد أنّ تحقّق الشكّ في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة لا يمكن أن يتحقّق قبل زمان الملاقاة ، بل لا بدّ من تحقّقه في ظرفه لكي يترتّب الأثر الشرعي المطلوب ، وهذا معناه أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة لا بدّ أن يكون موجودا في زمان الملاقاة ، ولكن زمان الملاقاة مردّد بين الساعة الأولى والثانية ، ممّا يعني أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة مردّد أيضا في هذين الزمانين أيضا تبعا لتردّد زمان الملاقاة فيهما.

وحينئذ يحتمل أن يكون زمان الملاقاة وبالتالي زمان الشكّ في عدم الكرّيّة هو الساعة الأولى ، كما يحتمل أن يكون هو الساعة الثانية.

فإن كان زمانهما الساعة الأولى فهذا معناه أنّ زمان الشكّ متّصل بزمان اليقين ولم يفصل بينهما شيء ، فيجري استصحاب عدم الكرّيّة المضاف والمنسوب إلى الملاقاة في الساعة الأولى ، فيثبت أنّ الملاقاة حصلت في الساعة الأولى وعدم الكرّيّة بالاستصحاب أيضا موجود في الساعة الأولى.

وأمّا إن كان زمانهما الساعة الثانية فهذا يعني أنّ زمان الشكّ في عدم الكرّيّة قد انفصل عن زمان اليقين بها ؛ لأنّ اليقين بعدم الكرّيّة إنّما هو إلى الزوال فقط والشكّ فيها في الساعة الثانية ، ممّا يعني أنّه في الساعة الأولى قد حصلت الكرّيّة فانفصل زمان الشكّ عن زمان اليقين.

وبما أنّنا نحتمل كلا هذين الأمرين بسبب التردّد في حدوث الكرّيّة والملاقاة بين الساعة الأولى والثانية ، وحيث إنّ أحد الاحتمالين على تقديره لا يجري الاستصحاب ، فنحن نحتمل عدم جريان الاستصحاب من جهة عدم إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين على أحد التقديرين.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّ الأثر الشرعي إذا كان مترتّبا على عدم الكرّيّة المقيّد بالملاقاة أي على اجتماع أحدهما بالآخر ، فقد يتبادر إلى الذهن أنّ الشكّ في هذا العدم المقيّد بالملاقاة لا يكون إلا في زمان الملاقاة ، وأمّا الشكّ ـ قبل زمان الملاقاة ـ في عدم الكرّيّة فهو ليس شكّا في عدم الكرّيّة المقيّد بالملاقاة.

ولكنّ الصحيح أنّ الأثر الشرعي مترتّب على عدم الكرّيّة والملاقاة بنحو

٤٠٤

التركيب بدون أخذ التقيّد والاجتماع ، وإلا لما جرى استصحاب عدم الكرّيّة رأسا كما تقدّم ، وهذا يعني أنّ عدم الكرّيّة بذاته جزء الموضوع.

الإيراد الأوّل على التفسير الثاني :

أنّنا نسلّم كون الأثر الشرعي مترتّبا على عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ، أي بما هو مضاف ومنسوب ومقيس إلى الملاقاة لا في مطلق الزمان ، وهذا معناه أنّه لا بدّ من اجتماع عدم الكرّيّة والملاقاة معا.

ومن هنا قد يقال بأنّ معنى اجتماعهما معا هو كون عدم الكرّيّة مقيّدا بالملاقاة ، وحينئذ يأتي ما ذكره صاحب ( الكفاية ) من أنّ الشكّ في عدم الكرّيّة المقيّد بزمان الملاقاة لا يمكن أن يتحقّق إلا في زمان الملاقاة لا قبلها.

فإذا شكّ في عدم الكرّيّة قبل زمان الملاقاة ، فهذا الشكّ ليس شكّا في عدم الكرّيّة المقيّد في زمان الملاقاة ليجري استصحابه ؛ لأنّ عدم الكرّيّة إن لم يكن في زمان الملاقاة فلا يترتّب عليه الأثر الشرعي.

وإذا كان عدم الملاقاة مشكوكا في نفس زمان الملاقاة ، فحيث إنّ زمان الملاقاة مردّد بين الساعتين الأولى والثانية فيحتمل حينئذ انفصال زمان اليقين عن زمان الشكّ ، وبالتالي لا يحرز الاتّصال فلا يجري الاستصحاب أيضا.

إلا أنّ هذا القول مبني على أن يكون اجتماع عدم الكرّيّة مع الملاقاة بنحو التقييد والتقيّد ، وهذا غير تامّ في نفسه ، وإنّما هو بمعنى التركيب بين الجزءين ، أي وجود الجزءين ذاتهما من دون تقيّد أحدهما بالآخر.

والوجه في ذلك : ما تقدّم سابقا من أنّه لو كان عنوان التقيّد أو أي عنوان انتزاعي آخر مأخوذا في الموضوع ، فلا يمكن إثباته باستصحاب ذات الجزء ؛ لأنّه لا يثبت التقيّد إلا بالملازمة فيكون من الأصل المثبت ، أو من نقض اليقين باليقين كما تقدّم ، وحينئذ يمتنع جريان الاستصحاب في تمام الصور والفروض.

فالصحيح إذن كون ذات عدم الكرّيّة أحد الجزءين وذات الملاقاة الجزء الآخر من دون أخذ شيء آخر معهما.

وعلى هذا فنقول :

[ و ] لا فرق في ذلك بين ما كان منه في زمان الملاقاة أو قبل زمانها ، غير أنّه في

٤٠٥

زمانها يكون الجزء الآخر موجودا أيضا ، وعليه فعدم الكريّة مشكوك منذ الزوال وإلى زمان الملاقاة.

وإن كان الأثر الشرعي لا يترتّب فعلا إلا إذا استمرّ هذا العدم إلى زمان الملاقاة ، فيجري استصحاب عدم الكرّيّة من حين ابتداء الشكّ في ذلك الزمان الواقعي للملاقاة ، وبهذا نثبت بالاستصحاب عدما للكرّيّة متّصلا بالعدم المتيقّن ، وإن كان الأثر الشرعي لا يترتّب على هذا العدم إلا في مرحلة زمنيّة معيّنة قد تكون متأخّرة عن زمان اليقين.

بعد أن أثبتنا أنّ ذات الجزءين هو الموضوع للأثر الشرعي فنقول : إنّ عدم الكرّيّة لمّا كان بذاته جزء الموضوع ، فلا فرق فيه بين ما إذا كان في زمان الملاقاة ابتداء ، وبين ما إذا كان سابقا على زمان الملاقاة ولكنّه يبقى إلى زمان الملاقاة ، فهنا نحوان :

الأوّل : أن يثبت عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ابتداء ، إمّا بالعلم به وإمّا بالاستصحاب.

الثاني : أن يثبت عدم الكرّيّة قبل زمان الملاقاة ولكنّنا نجري الاستصحاب فيه إلى زمان الملاقاة فيكون في زمان الملاقاة موجودا أيضا.

وفي هذين النحوين يترتّب الأثر الشرعي ، غاية الأمر أنّه يترتّب في النحو الأوّل مباشرة ومن دون فاصل زمني ، بينما يترتّب في النحو الثاني في حين حصول الملاقاة لا من حين جريان استصحاب عدم الكرّيّة.

فمثلا عدم الكرّيّة الثابت قبل الزوال يمكن جريان استصحابه ؛ لأنّه مشكوك بعد الزوال ، وهذا يعني أنّنا نجرّ بقاء عدم الكرّيّة إلى حين تحقّق الملاقاة واقعا ، وحينئذ سوف يترتّب الأثر الشرعي بعد العلم بالملاقاة والذي يفرض كونه متأخّرا إلى الساعة الثانية ؛ لأنّه يعلم بالملاقاة فيها يقينا إمّا الآن وإمّا من الساعة الأولى وإلى الآن أيضا ، وباستصحاب عدم الكرّيّة إلى الزمان الواقعي للملاقاة سوف نثبت عدما للكرّيّة متّصلا بزمان العدم المتيقّن ؛ لأنّ زمان العدم المتيقّن هو ما قبل الزوال وهذا لم يفصل بينه وبين عدم الكرّيّة شيء ؛ لأنّها مشكوكة بعد الزوال من دون أن يفصل بينهما شيء ، وهذا العدم نجرّه ونبقيه إلى زمان الملاقاة ، فيتحقّق الأثر الشرعي من حين العلم بالملاقاة ، وهو وإن كان متأخّرا إلا أنّه لا يضرّ.

٤٠٦

والوجه في ذلك هو :

فإنّ المناط اتّصال المشكوك الذي يراد إثباته استصحابا بالمتيقّن ، لا اتّصال فترة ترتب الأثر بالمتيقّن ، فإذا كنت على يقين من اجتهاد زيد فجرا ، وشككت في بقاء اجتهاده بعد طلوع الشمس ، ولم يكن الأثر الشرعي مترتّبا على اجتهاده عند الطلوع ، إذ لم يكن عادلا وإنّما أصبح عادلا بعد ساعتين ، أفلا يجري استصحاب الاجتهاد إلى ساعتين بعد طلوع الشمس؟ فكذلك في المقام.

وبعد أن جرى الاستصحاب سوف يتأخّر ترتّب الأثر الشرعي عن الجزء المستصحب بانتظار حصول الجزء الآخر إلا أنّ هذا لا يضرّ ؛ وذلك لأنّ المناط في جريان الاستصحاب هو اتّصال المشكوك بالمتيقّن أي اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين ، لا اتّصال الأثر بالمتيقّن ؛ لأنّه مع انفصال المشكوك عن المتيقّن وعدم اتّصالهما فلن نحرز وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وأمّا الأثر فيشترط وجوده ، وأمّا كونه يترتّب مباشرة أو يتأخّر إلى حين حصول الجزء الآخر فهذا ليس شرطا.

ويدلّ على ذلك : أنّ الاستصحاب يجري في كثير من الأحيان مع كون الأثر متأخّرا عن المستصحب ، فمثلا إذا كنّا على يقين من اجتهاد زيد في الفجر ثمّ بعد طلوع الشمس شككنا في بقاء اجتهاده ، ولكن نفرض أنّ الأثر الشرعي المطلوب من استصحاب بقاء اجتهاده لا يترتّب إلا بعد ساعتين من طلوع الشمس ؛ لأنّه بعد ساعتين نعلم بأنّه عادل ، فهنا لا إشكال في جريان استصحاب بقاء الاجتهاد ، وبضمّه إلى العدالة الحاصلة بعد ساعتين يترتّب الأثر الشرعي كجواز تقليده مثلا ، مع أنّ هذا الأثر لم يترتّب على المستصحب مباشرة أي عند طلوع الشمس ؛ لأنّه زمان جريان الاستصحاب وإنّما يترتّب بعد ذلك بساعتين.

وفي مقامنا يقال كذلك ، فإنّ استصحاب عدم الكرّيّة وإن كان يثبت عدم الكرّيّة بعد الزوال ، إلا أنّ الأثر الشرعي لا يترتّب إلا بعد العلم بحصول الملاقاة ، وهذا إنّما يكون في الساعة الثانية ، وهذا لا مانع منه ما دام زمان المشكوك متّصلا بزمان المتيقّن حين إجراء الاستصحاب ، وهو هنا كذلك ، فإنّ عدم الكرّيّة المتيقّنة قبل الزوال والمشكوكة بعد الزوال زمانهما متّصل ولا انفصال فيه.

ثانيا : أنّ ما ذكر لو تمّ لمنع عن جريان استصحاب عدم الكرّيّة فيما إذا كان

٤٠٧

زمان حدوثها مجهولا مع العلم بتاريخ الملاقاة ، كما إذا كان عدم الكرّيّة وعدم الملاقاة معلومين عند الزوال وحدثت الملاقاة بعد ساعة ، ولا يدرى متى حدثت الكرّيّة ، فإنّ استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة يجري عند صاحب ( الكفاية ) ، مع أنّه يواجه نفس الشبهة الآنفة الذكر ؛ لأنّ الشكّ في عدم الكرّيّة المنسوب إلى زمان الملاقاة إنّما هو في زمان الملاقاة بحسب تصوّر هذه الشبهة أي بعد ساعة من الزوال ، مع أنّ زمان اليقين بعدم الكرّيّة هو الزوال.

الإيراد الثاني على التفسير الثاني :

أنّ ما ذكره صاحب ( الكفاية ) على هذا التفسير لو تمّ فهو يتمّ أيضا في صورة العلم بزمان الملاقاة مع الجهل بزمان عدم الكرّيّة ، مع أنّه بنى فيها على جريان الاستصحاب ، والحال أنّ نفس الشبهة التي صوّرها هناك تأتي هنا أيضا.

وبيانه : أنّنا إذا كنّا نعلم بعدم الكرّيّة وبعدم الملاقاة قبل الزوال ، ثمّ عند الزوال حدثت الكرّيّة والملاقاة ولكن تاريخ الملاقاة معلوم وهو بعد الزوال بساعة مثلا ، وأمّا تاريخ الكرّيّة فهو مجهول ومردّد بين أن يكون قبل زمان الملاقاة أو بعده.

فهنا إذا كان زمان حدوث الكرّيّة بعد الملاقاة ، سوف يجري استصحاب عدم الكريّة المتيقّن قبل الزوال إلى زمان حدوث الملاقاة ؛ لأنّه في فترة الزوال وإلى ساعة حصول الملاقاة فهو مشكوك فيجري استصحابه ؛ لأنّ زمانه متّصل بزمان المتيقّن.

ولكن إذا كان زمان حدوث الكرّيّة قبل الملاقاة ، فهنا لن يجري استصحاب عدم الكريّة ؛ لأنّ هذا العدم يعلم بانتقاضه يقينا بحدوث الكرّيّة قبل الملاقاة ، واستصحابه في أوائل الزوال لا يفيد ؛ لأنّ الذي يفيد هو عدم الكرّيّة في زمان الملاقاة ، وهذا يحتمل انتقاضه بطروّ الكرّيّة فلم يتحقّق استصحاب عدم الكرّيّة المقيّد أو المنسوب إلى الملاقاة.

أو يقال بأنّ زمان الكرّيّة لمّا كان مجهولا ومردّدا بين كونه قبل زمان الملاقاة أو بعده ، فالذي ينفع استصحابه هو عدم الكرّيّة المنسوب والمقيّد بالملاقاة ، وهذا لا يكون إلا في زمان العلم بالملاقاة ، وهو بعد ساعة من الزوال ، وأمّا من حين الزوال وإلى تمام الساعة الأولى منه فهذا الزمان وإن كان يجري فيه استصحاب عدم الكرّيّة ، إلا أنّه لا يفيد ؛ لأنّه في هذه الفترة لا يترتّب الأثر الشرعي وإنّما يترتّب بعد الساعة الأولى الذي هو زمان الملاقاة.

٤٠٨

وبهذا ظهر أنّ هذه الشبهة تمنع من جريان الاستصحاب في تمام الصور لو قيل بها.

ولا نرى حاجة للتوسّع أكثر من هذا في استيعاب نكات الاستصحاب في الموضوعات المركّبة.

كما أنّ ما تقدّم من بحوث الاستصحاب أحاط بالمهمّ من مسائله ، وهناك مسائل في الاستصحاب لم نتناولها بالبحث هنا ـ كالاستصحاب في الأمور التدريجيّة والأصل السببي والمسبّبي ـ وذلك اكتفاء بما تقدّم من حديث عن ذلك في الحلقة السابقة.

وبذلك نختم الكلام عن الأصول العمليّة.

* * *

٤٠٩
٤١٠

الفهرس

الوظيفة عند الشكّ في الأقلّ والأكثر............................................. ٥

التقسيم الرئيسي للأقلّ والأكثر.................................................. ٧

١ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الأجزاء..................................... ١١

البرهان الأوّل .............................................................. ١٤

البرهان الثاني ............................................................... ٢٥

البرهان الثالث ............................................................. ٢٩

البرهان الرابع .............................................................. ٣٣

البرهان الخامس ............................................................. ٣٦

البرهان السادس ............................................................ ٣٩

٢ ـ الدوران بين الأقلّ والأكثر في الشرائط.................................... ٤٣

٣ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي................................ ٥٣

٤ ـ دوران الواجب بين التعيين والتخيير الشرعي............................... ٦١

٥ ـ ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر....................................... ٧١

١ ـ دور الاستصحاب في هذا الدوران....................................... ٧٣

٢ ـ الدوران بين الجزئيّة والمانعيّة............................................. ٧٦

٣ ـ الأقلّ والأكثر في المحرّمات............................................... ٨٠

٤ ـ الشبهة الموضوعيّة للأقلّ والأكثر......................................... ٨٤

٥ ـ الشكّ في إطلاق دخالة الجزء أو الشرط.................................. ٨٦

أ ـ الشكّ في الإطلاق لحالة النسيان.......................................... ٨٨

ب ـ الشكّ في الإطلاق لحالة التعذّر........................................ ١٠٠

٤١١

الاستصحاب................................................................ ١٠٧

أدلّة الاستصحاب........................................................... ١٠٩

الرواية الأولى ............................................................. ١١١

الرواية الثانية ............................................................. ١١٣

الرواية الثالثة ............................................................. ١٤١

الرواية الرابعة ............................................................. ١٦٢

الاستصحاب أصل أو أمارة.................................................. ١٦٥

كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب............................................. ١٧٢

أركان الاستصحاب......................................................... ١٧٧

أ ـ اليقين بالحدوث....................................................... ١٨٠

ب ـ الشكّ في البقاء....................................................... ٢٠٥

الشبهات الحكميّة في ضوء الركن الثاني ...................................... ٢٢١

ج ـ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة........................................ ٢٢٧

د ـ الأثر العملي........................................................... ٢٤٧

مقدار ما يثبت الاستصحاب.................................................. ٢٦١

الأصل المثبت............................................................... ٢٧٥

عموم جريان الاستصحاب................................................... ٢٨٣

تطبيقات استصحاب الحكم المعلّق............................................. ٣٠٣

١ ـ استصحاب الحكم المعلّق............................................... ٣٠٥

الاعتراض الأول........................................................... ٣٠٨

الاعتراض الثاني ........................................................... ٣١٧

الاعتراض الثالث ......................................................... ٣٢٠

٢ ـ استصحاب عدم النسخ................................................ ٣٣١

٣ ـ استصحاب الكلّي..................................................... ٣٣٩

القسم الأوّل له حالتان .................................................... ٣٤٨

القسم الثاني له حالتان أيضا ................................................ ٣٥١

٤١٢

٤ ـ الاستصحاب في الموضوعات المركّبة..................................... ٣٦٧

النقطة الأولى ............................................................. ٣٧١

النقطة الثانية .............................................................. ٣٧٥

النقطة الثالثة .............................................................. ٣٨١

شبهة انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين..................................... ٣٩٥

الفهرس..................................................................... ٤١١

٤١٣