شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

وحيث إنّ المرجع هو العرف وهو يرى جريان الاستصحاب بلحاظ الحمل الأوّلي ، فيجري استصحاب المجعول بلا معارض.

إن قيل : لما ذا لا نحكّم كلا النظرين ونلتزم بإجراء استصحاب عدم الجعل الزائد تحكيما للنظر الأوّل في تطبيق دليل الاستصحاب ، وإجراء استصحاب المجعول تحكيما للنظر الثاني ، ويتعارض الاستصحابان؟

إن قيل ـ كما هي مقالة صاحب التفصيل المذكور ـ : لما ذا لا يجري كلا الاستصحابين معا؟ وذلك بأن ننظر إلى القضيّة المجعولة تارة بالحمل الأوّلي فيجري استصحاب المجعول ، وأخرى بالحمل الشائع فيجري استصحاب عدم الجعل الزائد ، وهذان الاستصحابان متعارضان ؛ لأنّ أحدهما منجّز للحكم والآخر ينفيه ، فيحكم بتساقطهما.

كان الجواب : أنّ التعارض لا نواجهه ابتداء في مرحلة إجراء الاستصحاب بعد الفراغ عن تحكيم كلا النظرين ، وإنّما نواجهه في مرتبة أسبق أي في مرحلة تحكيم هذين النظرين ، فإنّهما لتهافتهما ينفي كلّ منهما ما يثبته الآخر من الشكّ في البقاء ، ومع تهافت النظرين في نفسيهما يستحيل تحكيمهما معا على دليل الاستصحاب لكي تنتهي النوبة إلى التعارض بين الاستصحابين ، بل لا بدّ من جري الدليل على أحد النظرين وهو النظر الذي يساعد عليه العرف خاصّة.

كان الجواب : أنّ تحكيم كلا النظرين في نفسه مستحيل بقطع النظر عن المعارضة التي تحصل فيما بعد هذا التحكيم ، بمعنى أنّ المعارضة ثابتة في مرحلة سابقة والتي هي مرحلة المدلول التصوّري ، فلا يمكننا غضّ النظر عن هذه المعارضة والالتزام بإيقاعها في مرحلة متأخّرة ، والتي هي مرحلة المدلول التصديقي أي مرحلة التطبيق.

وحينئذ نقول : إنّ المعارضة لمّا كانت ثابتة في مرحلة المدلول التصوّري ، فهذا يعني أنّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون مفاده ونظره إلى كلا اللحاظين والنظرين ؛ لأنّ شموله لهما معا يؤدّي إلى الاستحالة والتهافت لما تقدّم منّا سابقا ، بأنّ أحدهما ينظر إلى القضيّة المجعولة بما هي في نفس الشارع والآخر ينظر إلى القضيّة في واقعها ، والأخذ بهما يؤدّي إلى التهافت ؛ لأنّ أحدهما ينجّز والآخر يؤمّن أو أحدهما ينفي ما يثبته الآخر أو بالعكس.

٣٠١

فلو أخذنا بالنظرين معا كان نفس المدلول التصوّري للاستصحاب يستحيل التعبّد به ؛ لأنّه تعبّد بالمتنافيين ، ولذلك لا تصل النوبة إلى مرحلة المدلول التصديقي التي هي مرحلة تطبيق الاستصحاب.

ومن هنا كان لا بدّ من تعيين أحد النظرين ، وهذا الأمر يلاحظ فيه الفهم العرفي ؛ لأنّ كبرى الاستصحاب كما تقدّم مركوزة في الفهم العرفي ، والعرف هنا يرى تحكيم النظر الأوّلي والحمل الأوّلي دون الحمل الشائع.

* * *

٣٠٢

تطبيقات

استصحاب الحكم المعلّق

٣٠٣
٣٠٤

تطبيقات

١ ـ استصحاب الحكم المعلّق

قد نحرز كون الحكم منوطا في مقام جعله بخصوصيّتين ، وهناك خصوصيّة ثالثة يحتمل دخلها في الحكم أيضا ، وفي هذه الحالة يمكن أن نفترض أنّ إحدى تلك الخصوصيّتين معلومة الثبوت والثانية معلومة الانتفاء ، وأمّا الخصوصيّة الثالثة المحتمل دخلها فهي ثابتة ، وهذا الافتراض يعني أنّ الحكم ليس فعليّا ، ولكنّه يعلم بثبوته على تقدير وجود الخصوصيّة الثانية ، فالمعلوم هو الحكم المعلّق والقضيّة الشرطيّة.

فإذا افترضنا أنّ الخصوصيّة الثانية وجدت بعد ذلك ولكن بعد أن زالت الخصوصيّة الثالثة حصل الشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة ؛ لاحتمال دخل الخصوصيّة الثالثة في الحكم.

وهنا تأتي الحاجة إلى البحث عن إمكان استصحاب الحكم المعلّق.

بيان الحكم المعلّق : تقدّم أنّ الشكّ في الشبهات الحكميّة بالمصطلح المتعارف عليه معناه كون خصوصيّة ما موجودة سابقا ثمّ ارتفعت ، ويشكّ في بقاء الحكم وارتفاعه من جهة الشكّ في كون هذه الخصوصيّة حيثيّة تقييديّة أو تعليليّة ، وهذا الاستصحاب الحكمي يسمّى باستصحاب الحكم المنجّز ؛ لأنّ الحكم كان ثابتا ومنجّزا في السابق لتحقّق سائر الخصوصيّات فيه ، ثمّ يشكّ في بقائه فيستصحب بقاء الحكم المنجّز.

وهناك نحو آخر من الشكّ في الحكم وهو ما إذا فرض وجود خصوصيّتين يعلم بدخالتهما في الحكم ، وهناك خصوصيّة ثالثة يشكّ في دخالتها ، فهنا نقول :

إذا كانت إحدى الخصوصيّتين ـ المعلوم كونهما دخيلتين ـ مرتفعة والأخرى ثابتة ، وفرضنا أنّ الخصوصيّة الثالثة المشكوك دخالتها ثابتة أيضا ، فهنا لا يكون الحكم ثابتا

٣٠٥

وفعليّا ؛ لأنّ فعليّة الحكم تابعة لفعليّة سائر القيود المأخوذة فيه ، وهنا إحدى الخصوصيّتين غير فعليّة ، ولكن هذا الحكم على تقدير ثبوت الخصوصية المرتفعة فعلا يصبح فعليا.

وهذا يعني أنّنا نعلم بثبوت الحكم بنحو القضيّة التعليقيّة أو الشرطيّة حيث نقول : ( لو وجدت تلك الخصوصيّة لصار الحكم فعليّا ) ، فنحن إذن نعلم بهذه القضيّة أو نعلم بالحكم المعلّق.

ثمّ إذا فرضنا بعد ذلك أنّ الخصوصيّة التي كانت مرتفعة قد وجدت ، إلا أنّ الخصوصيّة الثالثة التي نشكّ في كونها دخيلة في الحكم قد ارتفعت ، فهنا سوف نشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة أو ذاك الحكم التعليقي ؛ لأنّنا كنّا على يقين من تلك القضيّة والحكم التعليقي عند ثبوت الخصوصيّة الثالثة ، فلمّا ارتفعت هذه الخصوصيّة المشكوك دخالتها في الحكم شككنا في بقاء ذاك الحكم التعليقي ؛ لأنّها لو كانت دخيلة فحيث إنّها الآن قد ارتفعت فترتفع القضيّة الشرطيّة والحكم التعليقي ، وإن لم تكن دخيلة جرى استصحاب تلك القضيّة.

ومثل هذا الاستصحاب يسمّى باستصحاب الحكم التعليقي ، أي أنّ الحكم الذي كان متيقّنا حدوثه هو الحكم التعليقي لا التنجيزي ، ثمّ يشكّ في بقائه ، فهل يجري استصحابه أم لا؟

ومثال ذلك : حرمة العصير العنبي المنوطة بالعنب وبالغليان ، ويحتمل دخل الرطوبة وعدم الجفاف فيها ، فإذا جفّ العنب ثمّ غلى كان موردا لاستصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان.

مثال ذلك : ما اشتهر عندهم من حرمة العصير العنبي المنوطة بخصوصيّتين معلومتين هما : العنب والغليان ، فلو كان لدينا عنب وغلى كان حراما بلا شكّ.

ولكن لو كان لدينا عنب ولم يغل فهنا الحرمة ليست فعليّة ، وإنّما نعلم بالحرمة التعليقيّة أي على تقدير كون هذا العنب غلى فهو حرام ، فالحرمة المعلومة هنا هي الحرمة التعليقيّة.

ثمّ لو أنّ هذا العنب جفّ بحيث زالت عنه خصوصيّة الرطوبة التي نشكّ في دخالتها في الحكم ، وأغلي هذا العنب الجاف ، فهنا سوف نشكّ في ثبوت تلك

٣٠٦

الحرمة التعليقيّة ؛ لأنّها كانت ثابتة للعنب على تقدير غليانه ، والآن قد غلى لكن بعد أن زالت منه الرطوبة سوف نشكّ في بقاء تلك القضيّة الشرطيّة أي الحرمة التعليقيّة ، فهل يجري استصحاب هذه الحرمة التعليقيّة أم لا؟

وبتعبير آخر : نحن نعلم بالقضيّة الشرطيّة والحرمة التعليقيّة في حالة وجود العنب الرطب الذي لم يغل ، ثمّ بعد زوال الرطوبة وصيرورة العنب جافّا لو أغليناه سوف نشكّ في بقاء الحرمة التعليقيّة ، حيث يقال : إنّ هذا العنب الجاف الذي غلى لو كان عنبا رطبا وغلى فهو حرام ، وهذه القضيّة ( أي أنّه لو كان عنبا رطبا وغلى فهو حرام ) معلومة يقينا عند ما كان العنب رطبا ولم يغل ، والآن يشكّ في بقاء هذه القضيّة بعد صيرورة العنب جافّا مع غليانه ، فهل يجري استصحابها أم لا؟

المشهور قبل الميرزا النائيني هو جريان الاستصحاب التعليقي المذكور ، وبالتالي تثبت الحرمة.

إلا أنّ الميرزا وجّه اعتراضا على هذا الاستصحاب فصار المشهور بعده عدم جريان هذا الاستصحاب.

ولذلك لا بدّ من استعراض هذه الاعتراضات لنرى مدى إمكانيّة منعها عن جريان الاستصحاب في نفسه أوّلا ، ثمّ بعد فرض تماميّة هذا الاستصحاب فهل يوجد استصحاب آخر معارض له أم لا؟

ولذلك فالاعتراضات على نحوين :

١ ـ اعتراضات تمنع من أصل جريان الاستصحاب التعليقي في نفسه.

٢ ـ اعتراضات تمنع من جريان هذا الاستصحاب ؛ لوجود الاستصحاب المعارض له.

وقد وجّه إلى هذا الاستصحاب ثلاثة اعتراضات :

الاعتراض الأوّل : أنّ أركان الاستصحاب غير تامّة ؛ لأنّ الجعل لا شكّ في بقائه والمجعول لا يقين بحدوثه ، والحرمة على نهج القضيّة الشرطيّة أمر منتزع عن جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود ولا أثر للتعبّد به ، ومن أجل هذا الاعتراض بنت مدرسة المحقّق النائيني على عدم جريان الاستصحاب في الحكم المعلّق.

٣٠٧

الاعتراض الأوّل : ما ذهبت إليه مدرسة الميرزا من عدم جريان مثل هذا الاستصحاب هنا ؛ وذلك لأنّه : إن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم الجعل أي استصحاب بقاء الجعل في عالم التشريع ، فهذا الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّنا نعلم بجعل الحرمة في عالم التشريع ، ولا نشكّ في ارتفاع هذا الجعل ، فالركن الثاني غير متحقّق.

وإن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ عالم المجعول ، أي استصحاب بقاء الحرمة الفعليّة المجعولة على العنب المغلي فهذا لا يجري أيضا ؛ لأنّه لم تثبت لنا الحرمة الفعليّة فلا يقين بحدوثها ، حيث إنّ ثبوتها تابع لفعليّة جميع القيود والخصوصيّات المأخوذة والدخيلة في الحكم.

وفي مقامنا لم تتحقّق هذه القيود ، فالركن الأوّل غير متحقّق.

وإن أريد إجراء الاستصحاب بلحاظ الحكم على نهج القضيّة الشرطيّة ، أي استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان التي كانت ثابتة حال العنبيّة ويشكّ في بقائها عند جفافه وغليانه ، فهذا الاستصحاب أيضا لا يجري في نفسه ؛ لأنّ هذه القضيّة الشرطيّة أو الحرمة التعليقيّة أثر انتزاعي ينتزعه العقل بعد ملاحظة جعل الحرمة على موضوعها المقدّر الوجود الذي هو الغليان ؛ لأنّ هذا الجعل وكلّ جعل شرعيّ يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة ، أي يكون الموضوع مقدّر الوجود.

وهذه القضيّة الحقيقيّة ينتزع العقل منها القضيّة الشرطيّة بالتحليل.

فالشارع إنّما جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة ، والعقل هو الذي ينتزع القضيّة الشرطيّة.

فاستصحاب القضيّة الشرطيّة لا يفيدنا ولا أثر شرعا للتعبّد بها ؛ لأنّها مستبطنة في نفس القضيّة الجعليّة والتي لا تكون منجّزة لمجرّد العلم بها فضلا عن استصحابها ؛ لما تقدّم من كون المنجّزيّة تابعة للعلم بالكبرى والصغرى لا لإحداهما فقط.

وهنا الكبرى ثابتة لأنّنا نعلم بالقضيّة الجعليّة إلا أنّ الصغرى وهي الموضوع لا علم بتحقّقها ، ولذلك لا يكون هنا أثر ولا فائدة من التعبّد الاستصحابي بها ، فالركن الرابع مختلّ.

وبهذا يظهر أنّه لا يوجد معنى محصّل لإجراء الاستصحاب هنا ، لا في الجعل ؛

٣٠٨

لأنّه إنّما يشكّ به بلحاظ النسخ وهذا مقطوع العدم فلا شكّ في البقاء ، ولا في المجعول الفعلي ؛ لأنّه لم يكن متيقّن الحدوث ؛ إذ الحرمة لم تكن فعليّة بحسب الفرض المذكور ، ولا في نفس القضيّة الشرطيّة التعليقية ؛ لأنّها ليست موضوعا للأثر الشرعي التنجيزي أو التعذيري.

وإنّما ما هو موضوع الأثر هو القضيّة الحقيقية أي الحكم المجعول على نهج القضيّة الحقيقيّة ؛ لأنّه بهذا اللحاظ يكون أمرا مجعولا من الشارع فيصحّ التعبّد ببقائه ، وأمّا الحكم المجعول على نهج القضيّة الشرطيّة فهو أمر عقلي تحليلي انتزاعي ، وليس موضوعا للأثر التنجيزي أو التعذيري ؛ لأنّه ليس مجعولا للشارع.

وعلى هذا الأساس ذهبت مدرسة الميرزا إلى عدم جريان الاستصحاب في الحكم المعلّق في نفسه ، إمّا لعدم تماميّة الأركان أو لعدم الفائدة منه.

وقد يجاب على ذلك بجوابين :

أحدهما : أنّا نستصحب سببيّة الغليان للحرمة ، وهي حكم وضعي فعلي معلوم حدوثا ومشكوك بقاء.

والردّ على هذا الجواب : أنّه إن أريد باستصحاب السببيّة إثبات الحرمة فعلا ، فهو غير ممكن ؛ لأنّ الحرمة ليست من الآثار الشرعيّة للسببيّة ، بل من الآثار الشرعيّة لذات السبب الذي رتّب الشارع عليه الحرمة.

وإن أريد بذلك الاقتصار على التعبّد بالسببيّة فهو لغو ؛ لأنّها بعنوانها لا تصلح للمنجّزيّة والمعذّريّة.

وأجيب على الاعتراض المذكور بجوابين :

الجواب الأوّل : أنّا نجري الاستصحاب بلحاظ السببيّة التي هي حكم وضعي كالشرطيّة والمانعيّة والجزئيّة ، وهي واقعة تحت سلطان الشارع جعلا ووضعا ، فيقال :

إنّ سببيّة الغليان للحرمة معلومة حدوثا عند ما كان العنب رطبا ، والآن بعد أن صار جافّا نشكّ في بقاء هذه السببيّة فيجري استصحابها. هذا ما ذكره الشيخ الأنصاري.

ويرد عليه : أنّ استصحاب السببيّة إن أريد به إثبات الحرمة الفعليّة فهذا من الأصل المثبت ؛ لأنّ الحرمة من اللوازم العقليّة وليست من اللوازم الشرعيّة للسببيّة ؛ لأنّ الشارع جعل الحرمة على الغليان بنحو القضيّة الحقيقيّة ، والعقل بالتحليل ينتزع عنوان السببيّة

٣٠٩

ويجعل هناك ملازمة بين الحرمة والغليان ، وإن أريد إثبات التعبّد الشرعي بهذه السببيّة حيث إنّها كانت معلومة حدوثا ومشكوكة بقاء فالاستصحاب يجري ، لكنّه لا أثر له شرعا ؛ لأنّ الأثر الشرعي ليس مجعولا على عنوان السببيّة فلا تكون دخيلة في العهدة ، وإنّما الأثر الشرعي مجعول على الغليان.

وبتعبير آخر : أنّ الأحكام الوضعيّة كالسببيّة ونحوها من الأحكام الوضعيّة المنتزعة من أحكام العقل لا الشرع ، فإثبات هذا العنوان بنفسه لا أثر له شرعا لعدم جعله شرعا ، وإثباته للتوصّل به إلى الحكم التكليفي الذي له أثر شرعا لا يتمّ إلا بالملازمة العقليّة والأصل المثبت.

والجواب الآخر لمدرسة المحقّق العراقي (١) ، وهو يقول : إنّ الاعتراض المذكور يقوم على أساس أنّ المجعول لا يكون فعليّا إلا بوجود تمام أجزاء الموضوع خارجا ، فإنّه حينئذ يتعذّر استصحاب المجعول في المقام ، إذ لم يصبح فعليّا ليستصحب.

ولكنّ الصحيح : أنّ المجعول ثابت بثبوت الجعل ؛ لأنّه منوط بالوجود اللحاظي للموضوع لا بوجوده الخارجي ، فهو فعلي قبل تحقّق الموضوع خارجا.

وقد أردف المحقّق العراقي ناقضا على المحقّق النائيني : بأنّه أليس المجتهد يجري الاستصحاب في المجعول الكلّي قبل أن يتحقّق الموضوع خارجا؟!

الجواب الثاني : ما ذكره المحقّق العراقي ، وحاصل ما أفاده يرجع إلى أمرين :

الأوّل : جواب حلّي ، مفاده : أنّ الاعتراض المذكور مبني على التفكيك بين الجعل والمجعول ، بمعنى وجود نحوين من الحكم : أحدهما في عالم الجعل ، والآخر في عالم المجعول.

إلا أنّ هذا المبنى غير صحيح ؛ لأنّ الجعل والمجعول بالنسبة للحكم شيء واحد ؛ وذلك لأنّ الحكم الشرعي عبارة عن تلك القضيّة الجعليّة التي واقعها عالم الجعل والتشريع ، وهي بهذا المعنى توجد فعلا ؛ لأنّ الشارع حينما يجعل الحكم يجعله على موضوعه الموجود فعلا في لحاظه ونفسه ، فالحكم فعلي تبعا لفعليّة موضوعه في عالم الجعل والتشريع.

__________________

(١) مقالات الأصول ٢ : ٤٠٠.

٣١٠

ولا تتوقّف فعليّة الحكم على فعليّة الموضوع في الخارج ، إذ لا يوجد في الخارج حكم وراء الحكم في عالم الجعل.

وما ذكره الميرزا نشأ من قياس القضايا الجعليّة على القضايا الحقيقيّة التكوينيّة ، كالحكم على النار بالحرارة ، فإنّه في القضايا التكوينيّة يكون الحكم فعليّا تبعا لفعليّة موضوعه في الخارج ، فالنار لا تتّصف بالحرارة إلا في الخارج لا في الذهن.

إلا أنّ هذا لا يسري إلى القضايا الجعليّة ؛ لأنّ فعليّتها تكون بجعلها وتشريعها على موضوعها الفعلي أيضا في عالم الجعل والتشريع الذي هو وعاء وواقع هذه القضايا.

وعلى هذا يجري الاستصحاب في نفسه فيقال : إنّ الحرمة كانت فعليّة ومتيقّنة للعنب عند ما كان رطبا ، وبعد جفافه يشكّ في بقاء الحرمة له عند غليانه فيجري استصحابها.

والثاني بالنقض ومفاده : أنّه لو كانت فعليّة الحكم تابعة لفعليّة الموضوع في الخارج ، لزم عدم جريان استصحاب الحكم المجعول الكلّي الذي يكون الموضوع فيه مقدّر الوجود.

فمثلا نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر لا يمكن استصحابها ؛ لأنّ الموضوع مقدّر الوجود فيها ، والمفروض أنّ الحكم الفعلي تابع لفعليّة الموضوع في الخارج ، وهذا يعني أنّه لن يتمكّن المجتهد من إجراء هذا الاستصحاب ، وإنّما يجري الاستصحاب الفعلي الجزئي والذي هو من شئون المكلّف لا المجتهد.

وهذا مخالف للوجدان العرفي والارتكاز الفقهي.

ونلاحظ على الجواب المذكور : أنّ المجعول إذا لوحظ بما هو أمر ذهني فهو نفس الجعل المنوط بالوجود اللحاظي للشرط وللموضوع على ما تقدّم في الواجب المشروط (١) ، إلا أنّ المجعول حينئذ لا يجري فيه استصحاب الحكم بهذا اللحاظ إذ لا شكّ في البقاء ، وإنّما الشكّ في حدوث الجعل الزائد على ما عرفت سابقا (٢).

__________________

(١) في بحث الدليل العقلي من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : قاعدة إمكان الوجوب المشروط.

(٢) في بيان جريان الاستصحاب في المجعول ، ضمن البحث عن التفصيل بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة ، تحت عنوان : عموم جريان الاستصحاب.

٣١١

وإذا لوحظ المجعول بما هو صفة للموضوع الخارجي فهو منوط في هذا اللحاظ بالخارج ، فما لم يوجد الموضوع بالكامل ولو تقديرا وافتراضا لا يرى للمجعول فعليّة لكي يستصحب.

ويرد على جواب المحقّق العراقي أنّ الحكم المجعول يمكن أن ينظر إليه بأحد نظرين :

فتارة ينظر إليه بالحمل الشائع أي ينظر إلى الحكم بما هو أمر ذهني واقعه وموطنه نفس الشارع وعالم الاعتبار ، فهنا الحكم المجعول موجود في نفس الشارع دفعة واحدة ؛ لأنّ الشارع يتصوّر في لحاظه تمام ما له دخل من القيود والخصوصيّات ويجعل الحكم عليها ، فالحكم المجعول فعلي في هذا اللحاظ تبعا لفعليّة الموضوع فيه أيضا.

وحينئذ فالشكّ في الحكم المجعول بهذا اللحاظ والنظر غير معقول ؛ لأنّ الحصص تكون عرضيّة دفعيّة وليس فيها ترتّب وطوليّة ، فلا تتمّ أركان استصحاب الحكم المجعول ؛ لأنّ الحصّة المشكوكة في هذا اللحاظ ليست بقاء للحصّة المتيقّنة ، بل هي حصّة مستقلّة عنها ومغايرة لها ، ولذلك يكون الشكّ في الحكم شكّا في الجعل الزائد ، بمعنى أنّ الشارع هل جعل الحكم على هذه الحصص جميعا أو على هذه الحصّة دون تلك؟ وحينئذ يجري استصحاب عدم الجعل الزائد ، كما تقدّم في الجواب عن التفصيل المتقدّم.

وأخرى ينظر إلى الحكم المجعول بالحمل الأوّلي أي بما هو عنوان ومفهوم ، فإنّ القضيّة الجعليّة إذا نظر إليها كعنوان فهي تحكي عن وصف لأمر خارجي ؛ لأنّ الحرمة تكون صفة للعنب المغلي الموجود في الخارج ؛ لأنّه في عالم الذهن لا يوجد إلا صورة العنب والغليان لا واقعهما ، فلكي تثبت الحرمة لا بدّ من وجود العنب أوّلا ثمّ الغليان ثانيا ، ولذلك يكون هناك ترتّب وطوليّة ، بحيث يكون العنب الجافّ استمرارا وبقاء للعنب عند ما كان رطبا ، ولذلك فالحكم المجعول على العنب الرطب المغلي يتيقّن به إذا كان الغليان متحقّقا ، فإذا شكّ فيما بعد في بقاء هذا الحكم المجعول جرى استصحابه.

وكذلك يجري الاستصحاب فيما لو قدّر وجود الموضوع في الخارج ، وذلك بأن

٣١٢

التفت المجتهد إلى ذهنه ولحاظه وافترض فيه العنب المغلي ، فإنّه يحكم عليه بالغليان ، ويكون الحكم فعليّا بهذا المعنى أيضا ، ويجري استصحاب بقائه عند الشكّ فيه.

وبهذا يظهر أنّ ما ذكره المحقّق العراقي من كون الحكم المجعول فعليّا تبعا لفعليّة موضوعه في عالم الجعل واللحاظ صحيح إن نظرنا إلى الحكم المجعول بالحمل الشائع.

وما ذكره الميرزا من عدم كون الحكم فعليّا إلا بفعليّة موضوعه في الخارج صحيح أيضا إذا نظرنا إلى الحكم بالحمل الأوّلي ، إلا أنّه هنا يكفي افتراض وجود الموضوع في الخارج لا وجوده الفعلي فقط ، كما تقدّم سابقا.

ومن ذلك يعرف حال النقض المذكور ، فإنّ المجتهد يفترض تحقّق الموضوع بالكامل فيشكّ في البقاء مبنيّا على هذا الفرض ، وأين هذا من إجراء استصحاب الحكم بمجرّد افتراض جزء الموضوع؟

وبكلمة أخرى : أنّ كفاية ثبوت المجعول بتقدير وجود موضوعه في تصحيح استصحابه شيء ، وكفاية الثبوت التقديري لنفس المجعول في تصحيح استصحابه دون تواجد تمام الموضوع لا خارجا ولا تقديرا شيء آخر.

وممّا تقدّم يعرف الجواب عن النقض الذي نقضه المحقّق العراقي على الميرزا.

وحاصله : أنّ المجتهد لا إشكال في إجرائه لاستصحاب الحكم المجعول بمجرّد الافتراض والتقدير ، فيمكن للمجتهد أن يلحظ تحقّق الموضوع في ذهنه ويقدّر وجوده في الخارج فيثبت له الحكم كذلك ، ثمّ إذا شكّ في بقاء هذا الحكم أجرى استصحاب بقائه.

فالماء المتغيّر المحكوم بالنجاسة يكون حكمه فعليّا بمجرّد تصوّر وتقدير وجود الماء المتغيّر في الخارج ، فإذا افترض المجتهد زوال التغيّر حصل له شكّ في بقاء هذا الحكم فيجري استصحاب بقائه.

فهذا الاستصحاب يقول به الميرزا أيضا ، ولا يعتبر نقضا عليه ؛ لأنّه لم يرفض هذا الاستصحاب وإنّما رفض إجراء الاستصحاب فيما إذا كان المقدّر والمفترض وجوده جزء الموضوع لا تمامه.

فالعنب إنّما يتّصف بالحرمة فيما لو غلى ، وأمّا قبل أن يغلي فلا يتّصف بالحرمة ، وعليه فتقدير العنب وافتراض وجوده لا يكفي لثبوت الحكم بالحرمة وفعليّته ، بل لا بدّ

٣١٣

من افتراض الغليان أيضا ، ومع افتراض الغليان للعنب لا يمكن تصوّر الشكّ في البقاء من ناحية العنب ؛ لأنّه لم يعد موجودا بعد الغليان ، إذ الموجود حينئذ هو العصير ، وقبل الغليان الموجود هو العنب فقط ، فلا حرمة.

ولذلك قال الميرزا : إنّ الاستصحاب بالنسبة للحكم المجعول لا يجري ؛ لأنّه بالنسبة للمجعول لا يقين بالحدوث ، أي أنّ الحكم ليس فعليّا لكي يجري استصحابه ، وبالنسبة للجعل فلا شكّ في البقاء ؛ لأنّه يعلم بثبوت الحرمة للعنب المغلي.

وبتعبير آخر : أنّ الاستصحاب الذي نقض به المحقّق العراقي هو استصحاب الحكم المجعول على الموضوع المقدّر الوجود.

بينما الاستصحاب الذي نظر إليه المحقّق النائيني ومنع جريانه هو استصحاب الحكم على مستوى الجعل أو المجعول على جزء الموضوع المقدّر الوجود لا على تمامه.

ففرق بين أن نقول : إنّ الاستصحاب يجري سواء كان الموضوع محقّقا في الخارج أم كان مفترض الوجود في الذهن ، وبين أن نقول : إنّ الاستصحاب لا يجري فيما إذا كان الموجود في الخارج أو المقدّر وجوده هو جزء الموضوع ؛ لأنّ الأوّل معناه ملاحظة الحكم بالحمل الأوّلي ، فهو حكم وصفة لأمر خارجي ، وهذا الأمر الخارجي إمّا أن يكون وجوده محقّقا وإمّا أن يكون مقدّرا ، وفي الحالتين يكون الحكم فعليّا.

وأمّا الثاني فمعناه أنّنا لاحظنا الحكم مع جزء موضوعه ، ومن الواضح أنّ الحكم لا يثبت ولا يكون فعليّا إذا كان الموجود في الخارج أو المقدّر وجوده هو جزء الموضوع لا تمامه.

والتحقيق : أنّ إناطة الحكم بالخصوصيّة الثانية في مقام الجعل ، تارة تكون في عرض إناطته بالخصوصية الأولى بأن قيل : ( العنب المغلي حرام ) ، وأخرى تكون على نحو مترتّب وطولي بمعنى أنّ الحكم يقيّد بالخصوصيّة الثانية ، وبما هو مقيّد بها يناط بالخصوصيّة الأولى بأن قيل : ( العنب إذا غلى حرم ) ، فإنّ العنب هنا يكون موضوعا للحرمة المنوطة بالغليان ، خلافا للفرضيّة الأولى التي كان العنب المغلي بما هو كذلك موضوعا للحرمة.

وتحقيق الجواب على الاعتراض الأوّل أن يقال : إنّ الشارع في مقام الجعل للحكم

٣١٤

على موضوعه إذا كان هذا الموضوع مركّبا من عدّة قيود وخصوصيّات ، يمكنه أن يأخذ هذه القيود كلّها في عرض واحد ، ويمكنه أن يجعلها في طول بعضها ، فهنا نحوان :

الأوّل : أن يأخذ كلّ الخصوصيّات في عرض واحد ثمّ يجعل الحكم عليها ، ففي مقامنا يأخذ العنبيّة والغليان ثمّ يجعل الحرمة عليهما فيقول : ( العنب المغلي حرام ) ، أو يقول : ( إذا كان هناك عنب وغلى فهو حرام ).

الثاني : أن يأخذ بعض الخصوصيّات في طول البعض الآخر ثمّ يجعل الحكم ، فيكون الحكم مقيّدا أوّلا ببعض الخصوصيّات ثمّ يقيّد المجموع بخصوصيّة أخرى ، كأن يقال : ( العنب إذا غلى حرم ) ، فهنا قيّدت الحرمة أوّلا بالغليان ثمّ قيّد المجموع بالعنبيّة.

ففي الفرضيّة الأولى كان الموضوع هو العنب المغلي أي العنب المقيّد بالغليان هو موضوع الحرمة.

بينما في الفرضيّة الثانية كان الموضوع هو العنب والحكم هو الحرمة المقيّدة بالغليان.

وعلى هذا الأساس سوف تختلف النتيجة من جهة جريان الاستصحاب وعدم جريانه على النحو التالي :

ففي الحالة الأولى يتّجه الاعتراض المذكور ، ولا يجري الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة ؛ لأنّها أمر منتزع عن الجعل وليست هي الحكم المجعول.

وأمّا في الحالة الثانية فلا بأس بجريان الاستصحاب في نفس القضيّة الشرطيّة التي وقع العنب موضوعا لها ؛ لأنّها مجعولة من قبل الشارع بما هي شرطيّة ومرتّبة على عنوان العنب ، فالعنب موضوع للقضيّة الشرطيّة حدوثا يقينا ويشكّ في استمرار ذلك بقاء فتستصحب.

ففي الحالة الأولى : أي فيما إذا كانت القيود عرضيّة وكان الحكم مجعولا على الموضوع المقيّد ، فهنا لا يجري الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة القائلة : ( إنّ هذا العنب لو غلى لحرم ) ، كما قال الميرزا لا في عالم الجعل ولا في عالم المجعول ولا في نفس هذه القضيّة الشرطيّة.

٣١٥

أمّا في عالم الجعل فلأنّ الحكم قد جعل على ( العنب المغلي ) لا على نفس العنب ، فلم تثبت الحرمة فعلا.

وأمّا في عالم المجعول والفعليّة فلأنّ المتحقّق فعلا هو أحد جزأي الموضوع أي العنب فقط دون الغليان ، فلا ثبوت للحرمة فعلا.

وأمّا نفس هذه القضيّة الشرطيّة فهذه القضيّة ليست مجعولة للشارع ، وإنّما هي أمر منتزع من جعل الشارع يحكم به العقل ، ولا أثر للتعبّد بها لا هي نفسها لأنّه لا أثر لها شرعا ، ولا لازمها أي الحرمة لأنّ الحرمة لم تجعل على هذه القضيّة : ( العنب إذا غلى ) ، وإنّما جعلت على نفس العنب المغلي.

وأمّا في الحالة الثانية : أي فيما إذا كانت القيود طوليّة ، وكان الحكم بما هو مقيّد ببعض هذه القيود مجعولا على الموضوع ، فهنا يجري الاستصحاب سواء في عالم الجعل أم المجعول أم نفس القضيّة الشرطيّة القائلة : ( إنّ هذا العنب لو غلى لحرم ).

أمّا جريان الاستصحاب في عالم الجعل فلأنّ العنب تمام الموضوع المقدّر والمفترض الوجود للحكم ، فيمكن فرض وجوده فيكون الحكم فعليّا له على تقدير الغليان ، فإذا شكّ في بقاء هذا الموضوع لارتفاع خصوصيّة مشكوكة الدخل جرى استصحاب بقاء الحكم الفعلي بهذا اللحاظ.

وأمّا جريانه في عالم المجعول فلأنّ المفروض وجود العنب في الخارج ، فيعلم بثبوت الحكم له على تقدير الغليان ثمّ يشكّ في بقائه لما ذكر ، فيجري استصحاب بقاء هذا الحكم أي الحرمة على تقدير الغليان.

وأمّا نفس هذه القضيّة الشرطيّة : ( العنب إذا غلى حرم ) فيجري استصحابها أيضا ؛ وذلك لأنّها كانت متيقّنة حدوثا عند افتراض وجود العنب أو عند وجود العنب فعلا في الخارج ، ويشكّ في ارتفاعها بسبب ارتفاع خصوصيّة يشكّ في دخالتها فيجري استصحاب بقاء هذه الشرطيّة.

والفرق بين النحوين أنّه على النحو الأوّل لم تكن هذه القضيّة الشرطيّة مجعولة شرعا ، بل كانت منتزعة من الجعل ، أي الذي حكم بها هو العقل ولذلك لا يجري استصحابها لا هي ولا لازمها.

بينما على هذا النحو فهذه القضيّة الشرطيّة مجعولة شرعا ؛ لأنّنا فرضنا أنّ العنب

٣١٦

هو تمام الموضوع والحكم المجعول شرعا هو ( الحرمة على تقدير غليانه ) وهذا هو نفس الشرطيّة المتيقّنة على تقدير وجود العنب أو عند وجوده في الخارج.

وبهذا يظهر أنّه يمكن تصوير جريان الاستصحاب التعليقي أي استصحاب القضيّة الشرطيّة ، سواء في عالم الجعل أو في عالم المجعول ، فيما إذا كانت القيود مأخوذة شرعا بنحو طولي ترتّبي.

الاعتراض الثاني : أنّا إذا سلّمنا تواجد ركني الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة فلا نسلّم جريان الاستصحاب مع ذلك ؛ لأنّه إنّما يثبت الحكم المشروط وهو لا يقبل التنجّز ، وأمّا ما يقبل التنجّز فهو الحكم الفعلي ، فما لم يكن المجعول فعليّا لا يتنجّز الحكم ، وإثبات فعليّة المجعول عند وجود الشرط باستصحاب الحكم المشروط متعذّر ؛ لأنّ ترتّب فعليّة المجعول عند وجود الشرط على ثبوت الحكم المشروط عقلي وليس شرعيّا.

الاعتراض الثاني : ما ذكره الميرزا النائيني أيضا ، وحاصله : أنّنا لو سلّمنا تواجد ركني الاستصحاب في القضيّة الشرطيّة ، أي اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء بالتصوير المتقدّم ، فإنّه مع ذلك لا يجري الاستصحاب لاختلال ركنه الرابع ؛ إذ لا أثر ولا فائدة من التعبّد بهذه القضيّة.

والوجه في ذلك : أنّه يشترط في الاستصحاب ترتّب أثر تنجيزي أو تعذيري على المستصحب ، فما لم يوجد مثل هذا الأثر يكون التعبّد الاستصحابي لغوا.

ثمّ إنّ ما يكون قابلا للتنجيز أو التعذير إنّما هو الحكم الفعلي لا الحكم التعليقي المشروط.

وفي مقامنا إذا كان لدينا عنب وغلى صارت حرمته فعليّة ، وكذلك لو قدّرنا العنب والغليان ، فعند الشكّ يجري استصحاب الحرمة ؛ لأنّها كانت فعليّة يترتّب عليها الأثر الشرعي أي المنجّزيّة.

وأمّا لو كان لدينا عنب فقط أو قدّرنا وجود العنب فقط فالحرمة لا تكون فعليّة ، وإنّما هي مشروطة بالغليان ، وهذه الحرمة المشروطة لا تكون منجّزة حتّى لو كانت معلومة وجدانا فضلا عن استصحابها ؛ لأنّ هذا العنب يجوز تناوله بلا إشكال ، وإنّما تثبت حرمته لو فرض وجود الغليان أو كان الغليان متحقّقا فعلا ، وعليه فلا أثر شرعا لاستصحاب هذه الحرمة المشروطة.

٣١٧

ومجرّد استصحاب الحكم المشروط لا يثبت فعليّة المشروط عند تحقّق الشرط ، أي أنّ استصحاب الحرمة المشروطة بالغليان إلى ما بعد جفاف العنب لا يثبت لنا فعليّة الحرمة فيما إذا تحقّق الغليان لهذا العنب الجافّ.

والوجه في ذلك : أنّ استصحاب الحرمة المشروطة يثبت لنا بقاء هذه الحرمة المشروطة على تقدير الغليان فقط ، وأمّا صيرورة هذه الحرمة فعليّة فهذا لا يثبت بالاستصحاب وإنّما يثبت على أساس الملازمة العقليّة بين هذه الحرمة المشروطة وبين تحقّق الشرط في الخارج ، فإنّه إذا تحقّق الشرط في الخارج وغلى العنب الجافّ ، حكم العقل بحرمته ، فتكون الحرمة فعليّة على أساس حكم العقل لا على أساس الاستصحاب.

وبتعبير آخر : أنّ ما يثبت لنا باستصحاب الحرمة المشروطة إلى ما بعد الجفاف هو بقاء هذه الحرمة ، وحينئذ فإن اقتصرنا على ذلك لم يكن الاستصحاب جاريا ؛ لأنّ الحرمة المشروطة ليس لها أثر تنجيزي أو تعذيري فيكون التعبّد بها لغوا.

وإن أردنا من استصحابها التوصّل إلى فعليّة الحرمة عند تحقّق الغليان ، فهذا وإن كان معقولا إلا أنّ فعليّة الحرمة لازم عقلي لاستصحاب بقاء الحرمة المشروطة ؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بالحرمة الفعليّة فيما إذا تحقّق الغليان فيما بعد.

وأمّا الشارع فهو حكم بالحرمة على تقدير الغليان للعنب ، ولذلك لو كان لدينا عنب وغلى تثبت الحرمة الفعليّة ؛ لأنّها مجعولة من الشارع.

وأمّا هنا فلا يوجد لدينا عنب غلى وإنّما يوجد لدينا عنب جافّ أي ( الزبيب ) ، وهذا العنب الجافّ لا يعلم من الشارع جعل الحرمة له على تقدير الغليان ، وإنّما ثبت بالاستصحاب بقاء الحرمة المشروطة ، والاستصحاب لا يثبت أكثر من هذا المقدار أي بقاء الحرمة المشروطة ، وأمّا صيرورة هذه الحرمة فعليّة عند تحقّق الغليان لهذا العنب الجافّ فهي من حكم العقل ، فيكون من الأصل المثبت.

ونلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه يكفي في التنجيز إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط ؛ لأنّ وصول الكبرى والصغرى معا كاف لحكم العقل بوجوب الامتثال.

والجواب على الاعتراض الثاني :

٣١٨

أوّلا : أنّ ما ذكر من كون المنجّز هو الحكم الفعلي غير صحيح ، إذ هو ناشئ من تصوّرات الميرزا للحكم وكونه ينحلّ إلى الجعل والمجعول ، فالحكم في عالم الجعل ليس منجّزا ؛ لأنّه عبارة عن تلك القضيّة التشريعيّة الجعليّة ، وأمّا في عالم المجعول أي فعليّة الحكم التابع لفعليّة الموضوع فيكون الحكم منجّزا ، ولذلك يرد إشكال الأصل المثبت والملازمة العقليّة ؛ لأنّ المستصحب هو الحكم المشروط وهو ليس فعليّا ، وإنّما يصبح فعليّا عند تحقّق الشرط بحكم العقل لا الشرع.

إلا أنّ هذا المبنى غير تامّ لما تقدّم منّا من أنّ منجّزيّة الحكم تابعة لوصول الكبرى والصغرى معا ، فإنّه يكفي حينئذ أن تصل إحداهما تعبّدا ، والأخرى وجدانا.

وفي مقامنا حيث يجري استصحاب تلك القضيّة الشرطيّة التعليقيّة ـ بناء على ما ذكرناه في ردّ الاعتراض الأوّل من كون القيدين طوليّين ـ فيثبت لنا بالتعبّد الاستصحابي وصول الكبرى أي ( حرمة العنب الجافّ إذا غلى ) ؛ لأنّ هذه الكبرى كانت معلومة وجدانا عند ما كان العنب رطبا وشكّ في بقائها بعد صيرورته جافّا فجرى استصحابها.

وأمّا الصغرى وهي الغليان فالمفروض أنّها ثابتة بالوجدان ؛ لأنّنا وضعنا هذا العنب الجافّ على النار وغلى ، وبذلك تكون الحرمة منجّزة لوصول كبراها بالتعبّد وصغراها بالوجدان.

وثانيا : أنّ دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكفّله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكم مشروط ظاهري ، وتحوّل هذا الحكم الظاهري إلى فعليّ عند وجود الشرط لازم عقلي لنفس الحكم الاستصحابي المذكور لا للمستصحب ، وقد مرّ بنا سابقا (١) أنّ اللوازم العقليّة لنفس الاستصحاب تترتّب عليه بلا إشكال.

وثانيا : إذا قلنا بأنّ المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل للحكم الواقعي المشكوك ـ بناء على مسلك جعل الحكم المماثل ـ فسوف يثبت لنا عند استصحاب تلك القضيّة التعليقيّة الشرطيّة حكم مشروط ظاهري ، وهو حرمة العنب الجافّ إذا غلى.

__________________

(١) في نهاية البحث الوارد تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

٣١٩

وهذا الحكم المشروط الظاهري يصبح حكما فعليّا فيما إذا تحقّق الشرط ، أي أنّ الحرمة تصبح فعليّة إذا تحقّق الغليان.

وهذا الحكم الفعلي وإن كان لازما عقليّا ، إلا أنّه لازم عقلي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ، وقد تقدّم سابقا أنّ اللوازم العقليّة إذا كانت لنفس الاستصحاب فهي تثبت بلا إشكال ؛ لأنّ الدليل على الاستصحاب أمارة وهي الإخبار.

ولكنّ الكلام في كيفيّة كون الحرمة الفعليّة لازما عقليّا للاستصحاب لا للمستصحب.

والجواب : أنّ الفعليّة وصيرورة الحكم منجّزا ليست من شئون الثبوت الواقعي للشيء بل من لوازم العلم به ، فالحرمة للعنب الرطب لا تكون فعليّة إذا كان هناك عنب رطب وغلى واقعا من دون أن نعلم بذلك ، وهذا يعني أنّها ليست من لوازم الشيء ، بل من لوازم العلم به.

وهنا الحرمة للعنب الجافّ التي جرى استصحابها لا تكون فعليّة لمجرّد ثبوتها الظاهري ، بل تكون فعليّة لو علمنا بها وعلمنا بتحقّق الغليان أيضا ، وحيث إنّ الغليان ثابت لدينا بالوجدان ؛ لأنّ العنب الجافّ قد وضع فعلا على النار وغلى ، فتكون الحرمة الفعليّة ثابتة للعلم بالحكم المشروط ظاهرا ، إذ من الواضح أنّ غليان العنب الجافّ وحده لا يكفي للحرمة من دون علم بالحكم ولو ظاهرا ، ولذلك تكون الحرمة الفعليّة من شئون العلم بالحكم المستفاد من دليل الاستصحاب ، فهي لازم عقلي لنفس الاستصحاب الذي يولّد لنا هذا الحكم المشروط الظاهري ، وهذا اللازم العقلي حجّة ؛ لأنّ لوازم الاستصحاب العقليّة حجّة لأنّ دليله أمارة.

الاعتراض الثالث : أنّ استصحاب الحكم المعلّق معارض باستصحاب الحكم المنجّز ، ففي مثال العنب كما يعلم بالحرمة المعلّقة على الغليان سابقا كذلك يعلم بالحلّيّة الفعليّة المنجّزة قبل الغليان فتستصحب ، ويتعارض الاستصحابان.

الاعتراض الثالث : يتّجه إلى إبراز المعارض لاستصحاب الحكم المعلّق بعد التسليم والفراغ عن تماميّة أركانه ، فلو قلنا بجريان الاستصحاب التعليقي إلا أنّه مع ذلك لا يمكن الأخذ به لوجود المعارض له ، وهو الاستصحاب التنجيزي أي استصحاب الحكم المنجّز.

٣٢٠