شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

مقدار ما

يثبت الاستصحاب

٢٦١
٢٦٢

مقدار ما يثبت الاستصحاب

لا شكّ في أنّ المستصحب يثبت تعبّدا وعمليّا بالاستصحاب ، وأمّا آثاره ولوازمه فهي على قسمين :

القسم الأوّل : الآثار الشرعيّة ، كما إذا كان المستصحب موضوعا لحكم شرعي ، أو حكما شرعيّا واقعا بدوره موضوعا لحكم شرعيّ آخر. وقد يكون المستصحب موضوعا لحكمه ، وحكمه بدوره موضوع لحكم آخر ، كطهارة الماء الذي يغسل به الطعام المتنجّس فإنّها موضوع لطهارة الطعام وهي موضوع لحلّيّته.

بعد الفراغ عن تواجد أركان الاستصحاب الأربعة لا إشكال في جريان الاستصحاب ، وفي ثبوت الحالة السابقة المستصحبة تعبّدا بنظر الشارع وعمليّا بلحاظ المكلّف ، فإنّنا إذا استصحبنا بقاء عدالة زيد ثبت لدينا شرعا عدالته فعدالته ثابتة تعبّدا ، وكذلك يجب ترتيب الآثار من المكلّف بلحاظ هذه العدالة.

وهذه الآثار واللوازم تقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : الآثار الشرعيّة ، وهي على أنواع :

١ ـ أن يكون المستصحب موضوعا لحكم شرعي ، كاستصحاب عدالة زيد ، فإنّ أثرها الشرعي هو جواز الصلاة خلفه أو قبول شهادته.

٢ ـ أن يكون المستصحب حكما شرعيّا واقعا موضوعا لحكم شرعيّ آخر ، كاستصحاب ملكيّة زيد ، فإنّها حكم شرعي وضعي ، وهي بدورها موضوع لجواز تصرّفه في ملكه وعدم جواز تصرّف غيره فيه إلا بإذنه.

٣ ـ أن يكون المستصحب موضوعا لحكمه ، وحكمه موضوع لحكم آخر ، كاستصحاب طهارة الماء الذي هو موضوع لطهارة الطعام المتنجّس الذي غسل به ، وهذا الحكم أي طهارة الطعام موضوع لحكم آخر ، وهو حلّيّة أكله.

٢٦٣

القسم الثاني : الآثار واللوازم العقليّة التي يكون ارتباطها بالمستصحب تكوينيّا وليس بالجعل والتشريع ، كنبات اللحية اللازم تكوينا لبقاء زيد حيّا ، وموته اللازم تكوينا من بقائه إلى جانب الجدار إلى حين انهدامه ، وكون ما في الحوض كرّا اللازم تكوينا من استصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، فإنّ مفاد ( كان ) الناقصة لازم عقلي لمفاد ( كان ) التامّة ، وهكذا.

القسم الثاني : الآثار العقليّة ، وهي على أنواع :

١ ـ أن تكون اللوازم والآثار العقليّة مترتّبة على نفس المستصحب ، كاستصحاب بقاء زيد حيّا بعد مرور فترة طويلة على غيابه ، فإنّه يثبت بهذا الاستصحاب بقاء حياته ، ولازم بقائه على قيد الحياة هذه الفترة الطويلة كونه كبير السنّ أو ذا لحية.

فإنّ كبر السنّ ونبات اللحية من الآثار التكوينيّة لبقائه على قيد الحياة ، وهذه الآثار ليست شرعيّة بل هي آثار ولوازم تكوينيّة تثبت بالملازمة العقليّة بينها وبين بقائه على قيد الحياة.

٢ ـ أن تكون الآثار واللوازم العقليّة مترتّبة على المستصحب مع الواسطة التكوينيّة ، كاستصحاب بقاء زيد إلى جانب الجدار إلى حين انهدام الجدار ، فإنّ هذا الاستصحاب يثبت وقوع الجدار عند ما كان زيد إلى جانبه.

وأمّا أنّه مات فهذا الأثر إنّما يثبت لو ضممنا إلى وقوع الجدار كونه قد وقع عليه ، وكون هذا الوقوع بحيث يسبّب الوفاة عادة ، فتكون النتيجة أنّه قد مات ، وهذا أثر غير شرعي بل هو أثر تكويني ثبت بالملازمة بينه وبين وقوع الجدار مع ضمّ تلك الوسائط العاديّة.

٣ ـ أن تكون الآثار واللوازم العقليّة مترتّبة مع الواسطة العقليّة ، كاستصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، فإنّنا إذا كنّا نعلم بوجود كرّ من الماء في الحوض ثمّ أخذنا منه مقدارا من الماء أدّى إلى الشكّ في بقاء الكرّ من الماء في الحوض أو زواله ، فهنا نجري استصحاب وجود كرّ من الماء في الحوض ، ولازم ذلك كون ما في الحوض من الماء كرّا ، فإنّ هذا لازم غير شرعي ، بل هو أثر عقلي لوجود كرّ من الماء في الحوض.

وبعبارة أخرى : أنّ ما ثبت بالاستصحاب هو أصل وجود كرّ من الماء في الحوض ،

٢٦٤

والأثر الذي يراد إثباته هو كون ما في الحوض من الماء متّصفا بالكرّيّة ، وهذا يعني أنّ ما يثبت هو مفاد ( كان ) التامّة أي أصل وجود الشيء ، وما يراد التوصّل إليه من الآثار هو مفاد ( كان ) الناقصة أي اتّصاف هذا الشيء بتلك الصفة ، ومن الواضح أنّ مفاد ( كان ) الناقصة لازم عقلي لمفاد ( كان ) التامّة.

نعم لو أردنا استصحاب اتّصاف الماء الموجود في الحوض بالكرّيّة بأن نقول : هذا الماء كان متّصفا بالكرّيّة والآن نشكّ في بقاء اتّصافه فيجري استصحاب هذا الاتّصاف ، لكان هذا الاستصحاب من أوّل الأمر ناظرا لمفاد ( كان ) الناقصة مباشرة ، من دون توسّط ( كان ) التامّة في ذلك ، وبالتالي يكون الأثر المترتّب على ذلك هو كون هذا الماء معتصما لا ينفعل بالنجاسة لمجرّد الملاقاة من دون تغيّر ، وهذا الأثر شرعي لا عقلي ، فيكون الاستصحاب تامّا.

بعد هذا نبحث في كلّ من القسمين لنرى مدى انطباق دليل الاستصحاب عليهما.

أمّا القسم الأوّل : فلا خلاف في ثبوته تعبّدا وعمليّا بدليل الاستصحاب ، سواء قلنا : إنّ مفاده : الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء المتيقّن ، أو الإرشاد إلى عدم الانتقاض لعناية التعبّد ببقاء نفس اليقين ، أو النهي عن النقض العملي لليقين بالشكّ.

أمّا القسم الأوّل وهو الآثار الشرعيّة فهي تثبت بالاستصحاب بلا خلاف بينهم ، فيكون الاستصحاب مثبتا لتلك الآثار تعبّدا ، أي أنّ مفاده هو التعبّد ببقاء تلك الآثار الشرعيّة ولزوم الجري العملي على وفقها مهما كان مفاد هذا التعبّد ، أي أنّ الآثار الشرعيّة تثبت تعبّدا وعمليّا على جميع المسالك في تفسير مفاد دليل الاستصحاب وهي :

١ ـ أن يكون مفاد دليل الاستصحاب يعبدنا ببقاء المتيقّن على أساس كون النهي إرشادا إلى أنّ آثار المتيقّن لا يمكن نقضها بسبب حكم الشارع ببقائها تعبّدا ، فيكون الشارع قد نزّل المشكوك منزلة المتيقّن ، فيكون الاستصحاب أصلا تنزيليّا.

٢ ـ أن يكون مفاد دليل الاستصحاب يعبّدنا ببقاء اليقين نفسه ، فيكون النهي عن النقض نهيا إرشاديّا إلى أنّ اليقين السابق لا ينتقض عند الشكّ بسبب حكم الشارع

٢٦٥

ببقائه ، فالمكلّف على يقين فعلا ولكن ادّعاء وتنزيلا لا حقيقة وواقعا ، فينزّل الشاكّ منزلة المتيقّن ، وبهذا يصبح الاستصحاب كالأمارات ؛ لأنّ مفاده جعل العلميّة والطريقيّة.

٣ ـ أن يكون مفاد دليل الاستصحاب التعبّد ببقاء الآثار ولزوم الجري العملي على طبق اليقين ، وهذا يعني أنّ النهي عن النقض لا يتوجّه إلى اليقين حقيقة ؛ لأنّه غير معقول كما تقدّم ، بل ينصبّ على النقض العملي لآثار اليقين والتي تعني كونه كاشفا عن المتعلّق والمتيقّن ، فيكون المفاد التعبّد ببقاء الآثار العمليّة للحالة السابقة المتيقّنة في مرحلة الجري العملي ، ولذلك يكون الاستصحاب أصلا تنزيليّا.

وتفصيل الكلام بناء على هذه المسالك أن يقال :

أمّا على الأوّل : فلأنّ التعبّد ببقاء المتيقّن ليس بمعنى إبقائه حقيقة بل تنزيلا ، ومرجعه إلى تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي ، فيكون دليل الاستصحاب من أدلّة التنزيل ، ومقتضى دليل التنزيل إسراء الحكم الشرعي للمنزّل عليه إلى المنزّل إسراء واقعيّا أو ظاهريّا تبعا لواقعيّة التنزيل أو ظاهريّته وإناطته بالشكّ.

وعليه فإطلاق التنزيل في دليل الاستصحاب يقتضي ثبوت جميع الآثار الشرعيّة للمستصحب بالاستصحاب.

أمّا على المسلك الأوّل وهو ما اختاره صاحب ( الكفاية ) من تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، فهذا معناه أنّ الشارع قد حكم ببقاء المتيقّن عند الشكّ وعبّدنا بذلك ، وهذا الحكم بالإبقاء ليس إبقاء حقيقيّا ، إذ من الواضح أنّ المتيقّن الآن مشكوك واقعا وتكوينا ، بل الإبقاء هنا تعبّدي وتنزيلي.

والتنزيل على نحوين :

الأوّل : التنزيل الواقعي أي إسراء الآثار الشرعيّة المترتّبة على المنزّل عليه إلى المنزّل ، وهذا يكون في الموارد التي لم يفترض فيها الشكّ ، كما في « الطواف في البيت صلاة » فهذا تنزيل واقعي بحيث تكون الآثار الشرعيّة للصلاة سارية إلى الطواف.

الثاني : التنزيل الظاهري أي إسراء الأحكام والآثار الشرعيّة للمنزّل عليه إلى المنزّل ظاهرا ، وهذا يفترض الشكّ ليكون التنزيل ظاهريّا.

٢٦٦

وأمّا حدود هذا التنزيل وهل هي تشمل جميع الآثار والأحكام الشرعيّة أو بعضها فقط؟ فهذا يحتاج إلى مراجعة دليل التنزيل لتحديد المقدار الناظر إليه.

وفي مقامنا يكون تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن تنزيلا ظاهريّا لفرض الشكّ.

وعلى هذا فالمقدار الذي يثبت بدليل الاستصحاب هو الآثار والأحكام الشرعيّة الثابتة للمتيقّن ، فإنّها تسري إلى المشكوك ؛ لأنّ التنزيل يكون من الشارع بما هو شارع لا بما هو خالق ، ولذلك فلا تترتّب إلا الآثار التي تطالها يد الشارع بما هو كذلك ، وهي الآثار الشرعيّة دون اللوازم والآثار العقليّة ؛ لأنّها ليست من أحكام الشارع بما هو شارع.

فإن قيل : هذا يصحّ بالنسبة إلى الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب مباشرة ، ولا يبرّر ثبوت الأثر الشرعي المترتّب على ذلك الأثر المباشر ؛ وذلك لأنّ الأثر المباشر لم يثبت حقيقة لكي يتبعه أثره ؛ لأنّ التنزيل ظاهري لا واقعي ، وإنّما ثبت الأثر المباشر تنزيلا وتعبّدا ، فكيف يثبت أثره؟

قد يقال : إنّه بناء على هذا المسلك تثبت الآثار الشرعيّة ، غير أنّ هذه الآثار كما تقدّم على ثلاثة أنحاء ، فما يثبت منها هو الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب مباشرة ، أي استصحاب الحكم الشرعي والموضوع للحكم الشرعي.

وأمّا الآثار الشرعيّة الطوليّة التي لا تترتّب على المستصحب مباشرة ، بل كانت من آثار ولوازم آثار المستصحب فلا تثبت ، كما هو الحال بالنسبة لاستصحاب طهارة الماء الموضوع لطهارة الطعام المغسول به الموضوع لجواز أكله وحلّيّته ، فإنّ الحلّيّة ليست من الآثار الشرعيّة المباشرة لطهارة الماء ، بل هي من آثار طهارة الطعام ، التي هي الأثر الشرعي المباشر لطهارة الماء ، فهذه الآثار ليست مشمولة لدليل الاستصحاب بناء على هذا المسلك.

وبتعبير آخر : أنّ الآثار الشرعيّة على قسمين : آثار مباشرة ، وآثار غير مباشرة.

أمّا الآثار المباشرة كاستصحاب عدالة زيد التي يترتّب عليها الحكم بجواز الصلاة خلفه ، وكاستصحاب وجوب الجمعة مثلا ، فلا إشكال في ثبوتها بالتنزيل المذكور ؛ لأنّها القدر المتيقّن من أدلّة التنزيل.

وأمّا الآثار غير المباشرة كثبوت حلّيّة الطعام التي موضوعها طهارة الطعام التي

٢٦٧

تثبت باستصحاب طهارة الماء ، فهذه ليست من آثار طهارة الماء المستصحبة فكيف يتمّ التنزيل بلحاظها؟

إذ المفروض هنا أنّ التنزيل ظاهري لأخذ الشكّ في دليل الاستصحاب ، وليس تنزيلا حقيقيّا ، والتنزيل الظاهري مفاده جعل الحكم المماثل على طبق المؤدّى ، فالمستصحب منزّل منزلة المتيقّن ، ولذلك فالآثار المترتّبة على المستصحب تثبت وهذا يختصّ بالآثار الشرعيّة المباشرة ؛ لأنّها المترتبة على المستصحب ، وأمّا الآثار الشرعيّة الطولية أو غير المباشرة فهي ليست مترتّبة على المستصحب ، بل على آثار المستصحب فلا يشملها دليل التنزيل ، إلا بالقول : إنّ دليل التنزيل يثبت جميع الآثار الشرعيّة المباشرة أو مع الواسطة ، وهذا لا يمكن قبوله ؛ لأنّه يشمل الآثار الشرعيّة المترتّبة على الواسطة العقليّة أيضا ، وهذا لا يقوله أصحاب هذا المسلك.

وبكلمة ثالثة : أنّ الآثار المباشرة مترتّبة على المستصحب نفسه ، فإذا ثبت المستصحب حقيقة أو تعبّدا تثبت هذه الآثار ، وأمّا الآثار غير المباشرة فهي مترتّبة على آثار المستصحب ، وهذه الآثار ليست ثابتة حقيقة بل هي ثابتة بالتعبّد والتنزيل ، والتنزيل هنا ظاهري لا واقعي.

ومعنى ذلك أنّ ما هو ثابت لنا هو طهارة الطعام ظاهرا بينما حلّيّته مترتّبة على طهارة الطعام واقعا ، فالطهارة الظاهريّة ليست من لوازمها الحلّيّة ، بل الحلّيّة لازم للطهارة الواقعيّة وهي غير ثابتة ، فلم يتحقّق موضوعها.

كان الجواب : أنّه يثبت بالتنزيل أيضا ، إذ ما دام إثبات الأثر المباشر كان إثباتا تنزيليّا فمرجعه إلى تنزيله منزلة الأثر المباشر الواقعي ، وهذا يستتبع ثبوت الأثر الشرعي الثاني تنزيلا ، وهكذا.

والجواب : أنّ الآثار الشرعيّة غير المباشرة أي الطوليّة يمكن إرجاعها إلى آثار شرعيّة مباشرة ، وذلك بأن يقال : إنّ دليل الاستصحاب ما دام يستفاد منه تنزيل المشكوك منزلة الواقع المتيقّن ، فهذا يعني أنّ استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الطعام المتنجّس يترتّب عليه طهارة الطعام ، وحينئذ تكون طهارة الطعام ثابتة بالتنزيل ، وهذا يعني أنّ طهارة الطعام ثابتة ظاهرا بالتنزيل فيترتّب عليها أثرها الشرعي المباشر وهو حلّيّة هذا الطعام.

٢٦٨

والوجه في ذلك : أنّ دليل الاستصحاب الذي مفاده جعل الحكم المماثل تنزيلا يستفاد منه عدّة تنزيلات ، أي أنّه ينحلّ إلى تنزيلات متعدّدة من جهة الموضوع ومن جهة المحمول.

فالموضوع الذي هو طهارة الماء ثبت بالتنزيل وترتّب عليه أثره الشرعي أي طهارة الطعام المغسول به ، وهذا المحمول أي طهارة الطعام ثبت بالتنزيل فيترتّب عليه أثره الشرعي المباشر ، أي حلّيّة الطعام.

ولا وجه للتفصيل بين هذين التنزيلين ؛ لأنّه ترجيح بلا مرجّح.

وبتعبير آخر : أنّ دليل التنزيل عامّ من جهة الموضوع ومن جهة المحمول ، إذ لا دليل على اختصاصه بالموضوع فقط ، ولذلك تثبت الآثار المباشرة للموضوع وتثبت الآثار المباشرة للمحمول أيضا.

وأمّا على الثاني : فقد يستشكل بأنّه لا تنزيل في ناحية المستصحب على هذا التقدير ، وإنّما التنزيل والتعبّد في نفس اليقين ، وغاية ما يقتضيه كون اليقين بالحالة السابقة باقيا تعبّدا بلحاظ كاشفيّته.

ومن الواضح أنّ اليقين بشيء إنّما يكون طريقا إلى متعلّقه لا إلى آثار متعلّقه ، وإنّما يقع في صراط توليد اليقين بتلك الآثار ، واليقين المتولّد هو الذي له طريقيّة إلى تلك الآثار ، وما دامت طريقيّة كلّ يقين تختصّ بمتعلّقه فكذلك منجّزيّته ومحرّكيّته.

وعليه فالتعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة إنّما يقتضي توفير المنجّز والمحرّك بالنسبة إلى الحالة السابقة ، لا بالنسبة إلى آثارها الشرعيّة.

وأمّا على المسلك الثاني وهو ما اختارته مدرسة الميرزا من أنّ المستفاد من دليل الاستصحاب هو تنزيل الشكّ منزلة اليقين أي أنّ الشاكّ كالمتيقّن ، فإنّه على هذا المسلك يكون التنزيل بلحاظ نفس اليقين لا المتيقّن ، أي هنا تعبّد وتنزيل بلزوم الجري العملي على وفق اليقين أو التعبّد ببقاء نفس اليقين السابق.

وأمّا الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب ، فهذه لا يمكن استفادتها من دليل الاستصحاب على أساس هذا المسلك ؛ وذلك لأنّ ما يقتضيه الحكم ببقاء اليقين أو الجري العملي على وفق كون الحالة السابقة لا تزال باقية تعبّدا لا حقيقة ، حيث

٢٦٩

لوحظ اليقين هنا بما هو كاشف وطريق إلى متعلّقه لا بما هو موضوع ، إذ لا يصحّ إسناد النقض إليه كما تقدّم.

وبهذا يكون التعبّد ببقاء اليقين الكاشف والطريقي تعبّدا ببقاء المتعلّق ؛ لأنّ اليقين إنّما يكون طريقيّا وكاشفا عن متعلّقه فقط ، وأمّا آثار متعلّقه فهذه لا يكشف عنها اليقين ابتداء ولا تقع في طريق كاشفيّة اليقين ؛ لأنّ الكشف عن المتعلّق لا يعني الكشف عن آثاره المترتّبة عليه ، فيكون اليقين الذي نستفيده من دليل التعبّد الاستصحابي طريقيّا وكاشفا عن تلك الحالة السابقة فقط.

وأمّا الآثار الشرعيّة التي تترتّب على المتعلّق فهذه لا يمكن إثباتها بناء على هذا المسلك ؛ لأنّ طريقيّة اليقين وكاشفيّته إنّما تكون بلحاظ متعلّقه فيكون هذا اليقين محرّكا ومنجّزا بلحاظ ما يقتضيه متعلّقه فقط ؛ لأنّها هي التي تمّ عليها المحرّك والمنجّز.

وبتعبير آخر : أنّ دليل الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين وعدم جواز نقضه ، وهذا يكون بلحاظ الجري العملي على وفق ما يقتضيه اليقين الكاشف والطريقي ، لا اليقين الموضوعي ؛ لأنّ إسناد النقض إليه غير معقول.

وعلى هذا فالكاشفيّة والطريقيّة لليقين تكون بلحاظ كشفه عن متعلّقه ، فالتعبّد ببقاء اليقين يعني التعبّد بوجود المحرّك والمنجّز بلحاظ الحالة السابقة التي حكم ببقاء اليقين بها ، وأمّا الآثار الشرعيّة فهي ليست آثارا لكاشفيّة اليقين ، بل هي آثار للمتيقّن نفسه ، فلم تكن داخلة في كاشفيّة وطريقيّة اليقين المتولّد من الاستصحاب ، وهذا يعني أنّ الاستصحاب غاية ما ينظر إليه هو ثبوت الحالة السابقة دون غيرها.

وبكلمة ثالثة : أنّ اليقين متعلّق بالمؤدّى والمستصحب بحسب كاشفيّته وطريقيّته ، والتعبّد الاستصحابي المستفاد منه الحكم ببقاء اليقين على أساس جعل العلميّة والطريقيّة في الاستصحاب كما هي مقالة السيّد الخوئي يعبّدنا بأنّ الشاكّ كالمتيقّن ، فيثبت المؤدّى والمستصحب ؛ لأنّه واقع في طريق الكاشفيّة والطريقيّة لليقين ، وهذا التعبّد يقتضي الجري العملي على وفق المستصحب ، وأمّا الآثار الشرعيّة فهي ليست داخلة في كاشفيّة وطريقيّة اليقين ؛ لأنّ اليقين لا يكشف إلا عن المتعلّق وبالتالي لا يكون محرّكا ومنجّزا إلا للمتعلّق.

فإن قيل : أليس من يكون على يقين من شيء يكون على يقين من آثاره أيضا؟

٢٧٠

كان الجواب : أنّ اليقين التكويني بشيء يلزم منه اليقين التكويني بما يعرفه الشخص من آثاره ، وأمّا اليقين التعبّدي بشيء فلا يلزم منه اليقين التعبّدي بآثاره ؛ لأنّ أمره تابع امتدادا وانكماشا لمقدار التعبّد ، ودليل الاستصحاب لا يدلّ على أكثر من التعبّد باليقين بالحالة السابقة.

قد يقال : إنّ الآثار الشرعيّة المباشرة تترتّب أيضا ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب مفاده جعل العلميّة والطريقيّة ، وهذا يعني أنّ المكلّف يصبح عالما بالحالة السابقة تعبّدا ، ومن الواضح أنّ العلم بشيء علم بلوازمه أيضا ، فيكون العلم متعلّقا بالحالة السابقة وبآثارها الشرعيّة مطلقا.

وجوابه : أنّ الملازمة بين ثبوت شيء وثبوت آثاره ولوازمه ملازمة تكوينيّة واقعيّة ، فإذا كان لدينا علم وجداني بالشيء فهذا الشيء صار ثابتا واقعا وتكوينا ، وبالتالي تترتّب آثاره ولوازمه تبعا للملازمة التكوينيّة بينهما.

وأمّا إذا كان لدينا يقين تعبّدي كما في مقامنا ، فاليقين التعبّدي يتحدّد بالمقدار الذي يدلّ عليه الدليل سعة وضيقا ، فإن كان دليل التعبّد يستفاد منه التعبّد بجميع الآثار فيؤخذ بها ، وإن لم يكن له مثل هذه الدلالة فيقتصر فيه على المقدار المتيقّن الذي يدفع به محذور اللغويّة من التعبّد لا أكثر.

وهنا دليل الاستصحاب يعبّدنا ببقاء اليقين بالحالة السابقة فيثبت هذا المقدار فقط ، باعتبار اليقين كاشفا عن متعلّقه ، وبالتالي تترتّب الآثار الشرعيّة المباشرة دفعا لمحذور اللغويّة من التعبّد ، وأمّا سائر الآثار الشرعيّة فهذه لا تثبت إلا بالملازمة التكوينيّة وهذه سببها غير موجود ، أو بشمول دليل التعبّد لها بالمطابقة وهذا أيضا غير موجود.

والتحقيق : أنّ تنجّز الحكم يحصل بمجرّد وصول كبراه وهي الجعل ، وصغراه وهي الموضوع ، فاليقين التعبّدي بموضوع الأثر بنفسه منجّز لذلك الأثر والحكم وإن لم يسر إلى الحكم.

والتحقيق أن يقال : إنّ المنجّزيّة تترتّب على أمرين :

الأوّل : وصول الكبرى وهي الجعل.

والثاني : تحقّق الصغرى وهي الموضوع.

فمثلا وجوب الحجّ على المستطيع إنّما يكون منجّزا فيما إذا وصل الجعل إلى

٢٧١

المكلّف ، بأن علم بوجوب الحجّ على المستطيع ، وفيما إذا تحقّقت الاستطاعة في الخارج ، وأمّا إذا لم يعلم بوجوب الحجّ فلا يكون الحجّ منجّزا عليه ولو كان مستطيعا ، وكذا إذا علم بوجوب الحجّ ولم يكن مستطيعا فلا يكون الوجوب منجّزا عليه.

وفي مقامنا نقول : إنّ اليقين التعبّدي المستفاد من دليل الاستصحاب يثبت لنا الموضوع أي الصغرى ، وأمّا الأثر والحكم الشرعي فهو ثابت بالوجدان.

فمثلا نحن نعلم بأنّ من كان عادلا تجوز الصلاة خلفه وتقبل شهادته. وهذا يعني أنّنا نعلم بالأثر والحكم وجدانا ، وأمّا الصغرى وهي كون زيد عادلا فهذا ما يثبت بالاستصحاب ؛ لأنّنا كنّا على يقين من عدالة زيد وعند استصحابها تثبت لنا عدالته تعبّدا.

وبهذا تتحقّق المنجّزيّة لوصول الجعل بالعلم الوجداني ولوصول الموضوع بالعلم التعبدي.

ولا نحتاج لإثبات الحكم والأثر إلى إثبات كون اليقين التعبّدي متعلّقا بالأثر والحكم ليقال بأنّ اليقين التعبّدي يثبت لنا الحالة السابقة فقط ولا يسري إلى آثارها وأحكامها الشرعيّة.

وعلى هذا تكون الآثار الشرعيّة ثابتة ومنجّزة لتحقّق كلا جزأي موضوع المنجّزيّة من الجعل والموضوع ، فإنّ الأوّل ثابت بالوجدان ، والثاني ثابت بالتعبّد.

فإن قيل : إذا كان اليقين بالموضوع كافيا لتنجّز الحكم المترتّب عليه ، فما ذا يقال عن الحكم الشرعي المترتّب على هذا الحكم؟ وكيف يتنجّز مع أنّه لا تعبّد باليقين بموضوعه وهو الحكم الأوّل؟

فإن قيل : إنّ ما ذكرتموه يتمّ في الآثار الشرعيّة المباشرة المترتّبة على المستصحب ؛ لأنّ الجعل معلوم وجدانا والصغرى ثابتة تعبّدا ، وأمّا الآثار الشرعيّة غير المباشرة أي الآثار والأحكام المترتّبة على الحكم ، وكذا الأثر الشرعي للمستصحب لا على المستصحب نفسه ، فهذه كيف يمكن تنجّزها مع أنّ موضوعها ـ أي الحكم الشرعي ـ لم يثبت بدليل التعبّد الاستصحابي؟

لأنّ التعبّد الاستصحابي يثبت به الموضوع فقط لا الأثر الشرعي ، فتترتّب الآثار الشرعيّة الثابتة للموضوع دون الآثار الشرعيّة الثابتة للأثر الشرعي ؛ لأنّه غير ثابت

٢٧٢

وجدانا كما هو واضح ، وغير ثابت تعبّدا ؛ لأنّ دليل الاستصحاب قاصر عن إثباته كما تقدّم ، فيقتصر على المقدار الثابت تعبّدا لا أكثر.

كان الجواب : أنّ الحكم الثاني الذي أخذ في موضوعه الحكم الأوّل لا يفهم من لسان دليله إلا أنّ الحكم الأوّل بكبراه وصغراه موضوع للحكم الثاني ، والمفروض أنّه محرز كبرى وصغرى ، جعلا وموضوعا ، وهذا هو معنى اليقين بموضوع الحكم الثاني ، فيتنجّز الحكم الثاني كما يتنجّز الحكم الأوّل.

كان الجواب : أنّ الحكم الثاني المترتّب على الحكم الأوّل بحيث يكون الحكم الأوّل جزءا من موضوعه ، لم يؤخذ في دليل الاستصحاب ، ولا نريد إثباته بالتعبّد الاستصحابي ، وإنّما يثبت لتحقّق كبراه وصغراه.

فمثلا إذا أردنا إثبات حلّيّة الطعام وجواز أكله التي هي أثر شرعي مترتّب على طهارة الطعام ، التي هي أثر شرعي مترتّب على طهارة الماء المغسول به الثابتة بالاستصحاب ، نقول : إنّ هذا الحكم الثاني كبراه ثابتة وجدانا ؛ لأنّنا نعلم بالجعل الثابت في عالم التشريع القائل بأنّ الطعام الطاهر يجوز أكله ، لدلالة الأخبار والروايات على ذلك.

وأمّا صغراه أي الموضوع وهو ثبوت ووجود طعام طاهر فعلا ، فهذه ثابتة بالتعبّد الاستصحابي ، حيث إنّ استصحاب طهارة الماء يثبت به موضوع طهارة الطعام ؛ لأنّه أثر شرعي معلوم جعلا بالوجدان ومعلوم موضوعا بالاستصحاب. وهذا يعني أنّ الاستصحاب أحرز به أو تنجّز به طهارة الطعام التي هي الصغرى للحكم بحلّيّة الطعام وجواز أكله. وبالتالي يكون الحكم الثاني ثابتا لثبوت جعله وجدانا ، ولثبوت صغراه تعبّدا فيكون منجّزا.

ولذلك نقول : إنّنا لا نريد بالاستصحاب إثبات الحكم الثاني ابتداء ، ليقال إنّ دليل الاستصحاب غير شامل له ، وإنّما نريد بالاستصحاب إثبات أحد جزأي موضوع منجّزيّة الحكم الثاني وهي الصغرى ؛ لأنّ الكبرى أي الجعل معلومة بالوجدان.

فكما قلنا بالنسبة للأثر الأوّل نقوله بالنسبة للأثر الثاني ؛ لأنّ الاستصحاب يثبت به تمام موضوع الأثر الأوّل ، وبالتالي يثبت به جزء موضوع الأثر الثاني أيضا ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

٢٧٣

وهذا المضمون هو معنى ما يقال : إنّ أثر الأثر الشرعي أثر أيضا ، فإذا ثبت الأثر الشرعي يثبت أثره الشرعي الثاني وهكذا (١).

ومنه يعرف الحال على التقدير الثالث ، فإنّ اليقين بالموضوع لمّا كان بنفسه منجّزا للحكم كان الجري على طبق حكمه داخلا في دائرة اقتضائه العملي ، فيلزم بمقتضى النهي عن النقض العملي.

وأمّا على المسلك الثالث الذي اخترناه من كون دليل الاستصحاب ناظرا إلى النهي عن النقض العملي لليقين ، فمقتضى النهي المذكور كون الآثار الشرعيّة الثابتة للمتعلّق لا يجوز نقضها ؛ لأنّ إسناد النقض إلى اليقين ليس حقيقة بلحاظ نفس اليقين ؛ لأنّه غير معقول كما تقدّم ، بل إلى اليقين بما هو كاشف وطريق.

وهذا يفترض وجود آثار ثابتة للمتعلّق ينهى عن نقضها عمليّا ، فتثبت الآثار العمليّة الشرعيّة المترتّبة على المستصحب ؛ لأنّ الجري العملي على وفق المستصحب يعني ثبوت الموضوع وتنجّزه ، وإذا تحقّق الموضوع تعبّدا ترتّب حكمه الشرعي عليه ؛ لأنّ الحكم معلوم وجدانا بلحاظ عالم الجعل ، فيكون ثبوت الحكم داخلا في دائرة التعبّد الاستصحابي بالجري العملي على طبق الموضوع.

وبتعبير آخر : أنّ مقتضى النهي عن النقض العملي لليقين كون المتيقّن ثابتا ومنجّزا وهو الموضوع ، فإذا ثبت الموضوع تعبّدا وكان الحكم معلوما بالوجدان بلحاظ عالم الجعل تحقّقت المنجّزيّة للحكم الشرعي المترتّب على هذا الموضوع فيثبت الحكم ، وبالتالي يدخل في دائرة النهي عن النقض العملي.

هذا بالنسبة للآثار المباشرة ، وكذا الحال بالنسبة للآثار الطوليّة غير المباشرة ، فإنّ التعبّد بالجري العملي على وفق المتيقّن يثبت جزء الموضوع للحكم الثاني تعبّدا كما تقدّم آنفا.

__________________

(١) قدّمنا الإشكال وجوابه على قوله : ( ومنه يعرف .. ) ؛ لأنّه الأنسب بالترتيب كما هو واضح.

٢٧٤

الأصل المثبت

٢٧٥
٢٧٦

[ الأصل المثبت ]

وأمّا القسم الثاني ، فلا يثبت بدليل الاستصحاب ؛ لأنّه إن أريد إثبات اللوازم العقليّة بما هي فقط فهو غير معقول ، إذ لا أثر للتعبّد بها بما هي ، وإن أريد إثبات ما لهذه اللوازم من آثار وأحكام شرعيّة فلا يساعد عليه دليل الاستصحاب على التقادير الثلاثة المتقدّمة.

أمّا على الأوّل فلأنّ التنزيل في جانب المستصحب إنّما يكون بلحاظ الآثار الشرعيّة لا اللوازم العقليّة كما تقدّم في الحلقة السابقة (١).

وأمّا على الأخيرين فلأنّ اليقين بالحالة السابقة تعبّدا لا يفيد لتنجيز الحكم الشرعي المترتّب على اللازم العقلي ؛ لأنّ موضوع هذا الحكم هو اللازم العقلي ، واليقين التعبّدي بالمستصحب ليس يقينا تعبّديا باللازم العقلي.

وأمّا اللوازم العقليّة المترتّبة على المستصحب كنبات اللحية وكبر السنّ والهرم المترتّبة على استصحاب حياة زيد بعد فترة طويلة من السنين ، وكإثبات موته باستصحاب بقائه تحت الجدار إلى انهدامه ، وكإثبات كرّيّة الماء الموجود باستصحاب وجود الكرّ من الماء ، فهذه اللوازم لا تثبت بالاستصحاب ، وهذا ما يسمّى بالأصل المثبت ، ويقال عادة : إنّ الأصل المثبت لا يثبت.

والوجه في عدم حجّيّة اللوازم العقليّة المراد إثباتها بالاستصحاب هو : أنّه إن أريد بالاستصحاب إثبات اللوازم العقليّة بما هي هي من دون الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها ، فهذا لغو ولا فائدة منه ، إذ لا معنى لأن يعبّدنا الشارع بنبات اللحية في حين لا يوجد أثر شرعي مترتّب عليها ؛ لأنّ مثل هذا التعبّد يكون لغوا ومخالفا لمقدّمات الحكمة.

__________________

(١) في بحث الاستصحاب ، تحت عنوان : مقدار ما يثبت بالاستصحاب.

٢٧٧

وإن أريد بالاستصحاب إثبات اللوازم العقليّة وإثبات الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها بأن كان المنظور من إثبات اللوازم العقليّة هو التوصّل إلى إثبات الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها ، كأن يفرض وجود حكم شرعي مترتّب على نبات اللحية كأن يقال : ( إذا كان لزيد لحية فيجب التصدّق ) ، فهذا معقول في نفسه ، إذ لا محذور في أن يعبّدنا الشارع بثبوت مثل هذا الأثر المترتّب على اللازم العقلي ؛ لأنّ الثبوت للأثر ولموضوعه ظاهري ادّعائي لا حقيقي.

إلا أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن إفادة ذلك على المسالك الثلاثة المتقدّمة في تفسير التعبّد الاستصحابي.

أمّا على المسلك الأوّل القائل بالتنزيل للمشكوك منزلة المتيقّن فواضح ؛ لأنّ التنزيل من الشارع إنّما يكون بلحاظ الآثار التي تقع تحت سلطان الشارع بما هو شارع ، وهذا يفترض كون الآثار المراد التنزيل بلحاظها آثارا شرعيّة كالحكم وموضوعه ؛ لأنّها هي التي يمكن للشارع التنزيل بلحاظها ؛ لأنّها أحكامه هو.

وأمّا الآثار واللوازم العقليّة فهي من أحكام العقل لا الشرع ، ولا معنى لأن يعبّدنا الشارع بثبوت الآثار العقليّة ؛ لأنّها خارجة عن نطاق التشريع ، فيكون هناك قصور من ناحية هذه الآثار العقليّة ؛ لأنّ الملاحظ في التنزيل كون المنزّل مشرّعا ، فيكون هناك انصراف لبّي في دليل الاستصحاب عن اللوازم العقليّة واختصاصه باللوازم الشرعيّة فقط.

وأمّا على المسلك الثاني القائل بأنّ الاستصحاب مفاده التعبّد ببقاء اليقين بالحالة السابقة ، فالمستفاد منه كما تقدّم أنّ الحالة السابقة هي المنجّزة ؛ لأنّها هي التي تعلّق بها اليقين دون غيرها ، فما يثبت هو الحالة السابقة فقط دون الآثار مطلقا ؛ لأنّها ليست متعلّقة لليقين الاستصحابي ؛ لأنّ متعلّقه هو الموضوع المستصحب.

وأمّا الآثار فهي متعلّقة لليقين المتولّد من اليقين بالمتعلّق والموضوع ، إلا أنّ ثبوت اليقين التعبّدي بالمتعلّق لا يلزم منه ثبوت اليقين التعبّدي بالآثار ؛ لأنّ الملازمة تكوينيّة واقعيّة وهي لا تثبت بالتعبّد.

نعم ، قلنا : إنّ الآثار الشرعيّة المباشرة وكذا الآثار الشرعيّة غير المباشرة التي تكون الواسطة فيها شرعيّة يمكن إثباتها بما تقدّم من تحقّق موضوع الحجّيّة والمنجّزيّة ، حيث

٢٧٨

إنّ الجعل معلوم وجدانا والموضوع أي الصغرى تثبت بالاستصحاب ؛ لأنّه يثبت تمام الموضوع للأثر المباشر وجزء الموضوع للأثر غير المباشر.

وأمّا الآثار واللوازم العقليّة فلا يتحقّق فيها موضوع المنجّزيّة لا بتمامه ولا بجزئه ؛ لأنّ استصحاب الموضوع المتيقّن ليس هو تمام الموضوع للأثر العقلي ، وليس أيضا جزء الموضوع له.

فمثلا استصحاب حياة زيد ليست هي تمام الموضوع لوجوب التصدّق وليست جزء الموضوع له أيضا ؛ لأنّ وجوب التصدّق موضوعه نبات اللحية لا حياة زيد ، ونبات اللحية لم يثبت بالاستصحاب ؛ لأنّ اليقين لم يتعلّق بها ، وإنّما هي ثابتة بالملازمة العقليّة والتي لا يقين بها.

وأمّا على المسلك الثالث القائل بأنّ الاستصحاب مفاده التعبّد بالجري العملي على طبق اليقين بلحاظ كاشفيّته عن المتعلّق ؛ لأنّ النقض ليس حقيقيّا بل عمليّا ، فأيضا لا تثبت اللوازم العقليّة ولا آثارها الشرعيّة ، لما تقدّم من أنّ موضوع الأثر الشرعي هو نبات اللحية في المثال والتي هي لازم عقلي ، وهذا اللازم العقلي لا يقين به مباشرة ، وإنّما اليقين متعلّق بحياة زيد ، وهي ليست تمام الموضوع ولا جزأه ، فلا يكون اليقين التعبّدي بحياة زيد يقينا تعبّديّا بنبات لحيته أيضا ؛ لأنّ الملازمة بينهما تكوينيّة واقعيّة وهي لا تثبت بالتعبّد.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّ الأصل المثبت غير معتبر ، بمعنى أنّ الاستصحاب لا تثبت به اللوازم العقليّة للمستصحب ، ولا الآثار الشرعيّة لتلك اللوازم.

والحاصل ممّا تقدّم : أنّ الأصل المثبت غير معتبر ولا يكون حجّة في إثبات اللوازم العقليّة لا هي نفسها ولا آثارها الشرعيّة المترتّبة عليها.

أمّا عدم ثبوتها هي نفسها فقط فلأنّه لغو ولا فائدة من التعبّد بها كما تقدّم.

وأمّا عدم ثبوت لوازمها الشرعيّة أيضا ، فلأنّ دليل الاستصحاب قاصر عن الشمول لها ؛ لأنّها ليست متعلّقة لليقين ، وليس المستصحب تمام الموضوع ولا جزأه بالنسبة لها ؛ لأنّ تمام موضوعها هو اللازم العقلي ، وهو لا يثبت تعبّدا بالاستصحاب ؛ لأنّه لا يقين به.

ولا ملازمة أيضا بين اليقين التعبّدي بالمستصحب واليقين التعبّدي بآثاره العقليّة ؛ لأنّ الملازمة واقعيّة تكوينيّة مترتّبة على اليقين الوجداني فقط.

٢٧٩

نعم ، إذا كان لنفس الاستصحاب لازم عقلي كحكم العقل بالمنجّزيّة مثلا فلا شكّ في ترتّبه ؛ لأنّ الاستصحاب ثابت بالدليل المحرز فتترتّب عليه كلّ لوازمه الشرعيّة والعقليّة على السواء.

وهنا يوجد استثناءان من عدم حجّيّة الأصل المثبت أو اللوازم العقليّة :

الأوّل : لم يذكره هنا لوضوحه وهو فيما إذا كان اليقين متعلّقا باللازم العقلي من أوّل الأمر ثمّ شكّ في بقائه ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب لإثبات بقائه تعبّدا.

كما إذا كنّا على يقين من نبات لحية زيد ثمّ شككنا في بقائها ، وكان هناك أثر شرعي مترتّب عليها فيجري استصحابها ويترتّب الأثر الشرعي ؛ لأنّه أثر شرعي للمؤدّى المستصحب.

وكما إذا كنّا على يقين بأنّ هذا الماء متّصف بالكرّيّة ثمّ شككنا في بقاء اتّصافه بها بعد أخذ مقدار يسير منه ، فيجري استصحاب بقاء اتّصافه بالكرّيّة ويترتّب عليه الحكم الشرعي بالاعتصام وعدم الانفعال بمجرّد الملاقاة ، خلافا لما إذا كنّا على يقين بوجود كرّ فاستصحبنا أصل وجود الكرّ ، فإنّ إثبات اتّصاف الماء بالكرّيّة يكون لازما عقليّا كما تقدّم ؛ لأنّ المتيقّن مفاد ( كان ) التامّة ، والمراد إثباته مفاد ( كان ) الناقصة وهي لازم عقلي.

الثاني : ما ذكره الشهيد هنا وهو : أن يكون اللازم العقلي مترتّبا على نفس التعبّد الاستصحابي أي لنفس الاستصحاب لا للمستصحب ، كحكم العقل بالمنجّزيّة والحجّيّة ، فإنّ هذا الحكم العقلي مترتّب وثابت لنفس الاستصحاب فيقال :

الاستصحاب حجّة ومنجّز ومعذّر ، فإذا جرى الاستصحاب في مورد ثبتت المنجّزيّة أو المعذّريّة التي هي حكم عقلي ، وصار هذا الشيء المستصحب حجّة ومنجّزا أو معذّرا.

وهذه المنجّزيّة ليست من الآثار العقليّة للمستصحب نفسه ؛ لأنّ حياة زيد ليست من آثارها التكوينيّة المنجّزيّة كما هو واضح ، وإنّما المنجّزيّة من الآثار العقليّة التي يحكم بها العقل عند إحراز الحكم الشرعي أو موضوعه ، فهي حكم عقلي منصبّ على نفس الحكم.

وعليه فيكون هذا اللازم العقلي ثابتا ؛ لأنّه مترتّب على الاستصحاب نفسه ،

٢٨٠