شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

على حدّ واحد ، ولذلك لا يكون العلم الإجمالي به مانعا من الانحلال الحقيقي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ النفسي وإن لم تحرز فيه خصوصيّة الاستقلاليّة ؛ لأنّ إحرازها وعدم إحرازها لا أثر له في عالم الاشتغال والدخول في العهدة.

الجواب الثاني : أنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّا فمتعلّقه الأقلّ مطلقا من حيث انضمام الزائد وعدمه ، وإذا كان ضمنيّا فمتعلّقه الأقلّ المقيّد بانضمام الزائد ، وهذا يعني أنّا نعلم إجمالا إمّا بوجوب التسعة المطلقة أو التسعة المقيّدة ، والمقيّد يباين المطلق ، والعلم التفصيلي بوجوب التسعة على الإجمال ليس إلا نفس ذلك العلم الإجمالي بعبارة موجزة ، فلا معنى لانحلاله به.

الإيراد الثاني : ما ذكره المحقّق النائيني من المنع عن انحلال العلم الإجمالي حقيقة بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ على كلّ تقدير ؛ وذلك لأنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّا فالواجب هو التسعة مطلقا أي لا بشرط من حيث الزيادة ، فسواء ضمّ إليها العاشر أم لا فالتسعة الواجبة متحقّقة ، وأمّا إذا كان وجوب الأقلّ ضمنيّا فالواجب هو التسعة المقيّدة بالعاشر أي بشرط الجزء العاشر والزيادة.

وهذا يعني أنّ وجوب الأقلّ يدور أمره بين كونه مطلقا أو كونه مقيّدا ، والإطلاق والتقييد وصفان متقابلان ؛ لأنّ أحدهما مباين للآخر ، إلا أنّ هذا العلم التفصيلي لا يحقّق الانحلال ؛ لأنّه نفس العلم الإجمالي وعبارة أخرى عنه ، إذ العلم بوجوب الأقلّ إمّا مطلقا وإمّا مقيّدا عبارة أخرى وموجزة ومختصرة عن العلم الإجمالي إمّا بوجوب التسعة وإمّا بوجوب العشرة ، والشيء لا ينحلّ بنفسه بل بغيره.

وبتعبير آخر : إنّ العلم بوجوب الأقلّ مطلقا عبارة عن العلم بوجوب التسعة ، والعلم بوجوب الأقلّ مقيّدا عبارة عن العلم بوجوب العشرة ، فكان العلم التفصيلي عين العلم الإجمالي وعبارة أخرى عنه وإن اختلفت الألفاظ والتعبيرات ، إلا أنّ الحقيقة شيء واحد.

ويلاحظ هنا أيضا : أنّ الإطلاق ـ سواء كان عبارة عن عدم لحاظ القيد أو لحاظ عدم دخل القيد ـ لا يدخل في العهدة ؛ لأنّه يقوّم الصورة الذهنيّة ، وليس له محكي ومرئي يراد إيجابه زائدا على ذات الطبيعة ، بخلاف التقييد.

فإن أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالإطلاق أو التقييد فهو غير ممكن ؛ لأنّ

٢١

الإطلاق لا يقبل التنجّز ، وإن أريد إثبات التنجيز للعلم الإجمالي بالوجوب بالقدر الذي يقبل التنجّز ويدخل في العهدة ، فهو منحلّ.

ولكن سيظهر ممّا يلي أنّ دعوى الانحلال غير صحيحة.

ويرد عليه : أنّ حدّ الإطلاق ـ سواء كان معناه لحاظ عدم القيد أم كان معناه عدم لحاظ القيد ـ لا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ وذلك لأنّ الإطلاق والتقييد وصفان للصور الذهنيّة فهما لحاظان ذهنيّان ، لا وجود لهما في الخارج ؛ لأنّه في الخارج إمّا أن يوجد المفهوم والطبيعة الواجدة للجزء العاشر أو توجد الماهيّة والطبيعة الفاقدة لهذا الجزء ، وإنّما الذهن هو الذي ينتزع من الخارج هذين الوصفين ويجعلهما حدّين للصور الذهنيّة.

وحينئذ نقول : إنّ ما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة إمّا الأجزاء التسعة وإمّا الأجزاء العشرة أي ذات الطبيعة ، وأمّا وصف الإطلاق فلا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ؛ لأنّه لا يوجد له مرئي ومحكي في الخارج بخلاف التقييد فإنّه يحكي عن الخارج وجودا أو عدما.

وعليه ، فإن أريد من العلم الإجمالي بوجوب التسعة المطلقة أو بوجوب التسعة المقيّدة إثبات التنجيز المردد بين الأمرين ، فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإطلاق لا يقبل التنجيز فالعلم الإجمالي به لا يكون منجّزا ؛ لأنّه ليس دائرا بين تكليفين ، أو لأنّه غير صالح لتنجيز معلومه على كل تقدير ، فلا يكون هناك علم إجمالي بجامع التكليف ؛ لأنّ الجامع بين التنجيز واللاتنجيز لا يكون منجّزا.

وإن أريد من هذا العلم الإجمالي إثبات التنجيز للقدر الذي يمكن دخوله في العهدة ويمكن اشتغال الذمّة به وهو ذات الطبيعة فهذا وإن كان ممكنا وصحيحا ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حقيقة للعلم التفصيلي بوجوب التسعة أي الأقلّ على كلّ تقدير ، فيكون الأكثر مشكوكا بدوا فتجري فيه البراءة.

إلا أنّ هذا الانحلال غير تامّ كما سيأتي توضيحه في الجواب الثالث عن البرهان الأوّل.

ومنها : أنّه إن لوحظ العلم بالوجوب بخصوصيّاته التي لا تصلح للتنجّز ـ من قبيل حدّ الاستقلاليّة والإطلاق ـ فهناك علم إجمالي ولكنّه لا يصلح للتنجيز.

٢٢

وإن لوحظ العلم بالوجوب بالقدر الصالح للتنجّز فلا علم إجمالي أصلا ، بل هناك علم تفصيلي بوجوب التسعة وشكّ بدوي في وجوب الزائد.

فالبرهان الأوّل ساقط إذن ، كما أنّ دعوى الانحلال ساقطة أيضا ؛ لأنّها تستبطن الاعتراف بوجود علمين لو لا الانحلال ، مع أنّه لا يوجد إلا ما عرفت.

الجواب الثالث : وهو الصحيح في الجواب عن دعوى وجود العلم الإجمالي المنجّز الدائر بين الأقلّ والأكثر ، وحاصله : أنّ العلم الإجمالي المدّعى إمّا أن تلاحظ فيه الخصوصيّات جميعا ، بما فيها تلك الحدود التي لا تقبل التنجيز والدخول في العهدة ولا تصلح لاشتغال الذمّة بها ، من قبيل وصفي الاستقلاليّة والإطلاق ؛ لأنّهما حدّان منتزعان ولا وجود لهما في الخارج ، وإمّا ألاّ تلاحظ فيه إلا الخصوصيّات التي تقبل التنجيز والدخول في العهدة واشتغال الذمّة.

فإن قيل بالأوّل فهذا العلم الإجمالي غير منحلّ بالعلم التفصيلي بالأقلّ ؛ لأنّه لا يحرز وجود مثل هذه الخصوصيّات في الأقلّ ؛ إذ الاستقلاليّة أو الإطلاق مشكوكان والأقلّ مردّد بينهما ، فهناك ميزة في الجامع المعلوم بالإجمال لا يحرز وجودها في المعلوم بالتفصيل ، إلا أنّ هذا العلم الإجمالي الموجود غير منجّز ؛ لأنّ الخصوصيّات المشتمل عليها والدخيلة فيه بحسب الفرض غير منجّزة ولا تصلح للتنجيز أصلا ، ولذلك لا يكون لمثل هذا العلم الإجمالي أثر ، وبالتالي يسقط عن الاعتبار إذ لا منجّزيّة له ؛ لأنّ الغرض من العلم الإجمالي إثبات التنجيز وهذا غير متحقّق في مقامنا.

وإن قيل بالثاني فالعلم الإجمالي المذكور لا وجود له ؛ وذلك لأنّ ما يقبل التنجيز والدخول في العهدة هو الأقلّ أو الأكثر ، أي التسعة أو العشرة ، وهذا معناه أننا نعلم بوجوب التسعة تفصيلا ولو ضمن العشرة ، ونشكّ في العاشر فتجري البراءة عنه ، كما هو مقتضى الدوران بين الأقلّ والأكثر.

وبهذا نثبت أنّ البرهان الأوّل ساقط ؛ لعدم وجود علم إجمالي.

ومن هنا يعرف أنّ دعوى انحلال العلم الإجمالي ساقطة أيضا ؛ لأنّ هذه الدعوى تستبطن الاعتراف بكون العلم الإجمالي الأوّل منجّز ثمّ ينحلّ بالعلم التفصيلي المذكور ، مع أنّنا أثبتنا أنّه لا وجود للعلم الإجمالي المنجّز ؛ لأنّ العلم إذا دار بين الأقلّ

٢٣

والأكثر لم يكن منجّزا أصلا ؛ لأنّه عبارة عن علم تفصيلي بالأقلّ وشكّ بدوي بالأكثر.

ومنها : دعوى انهدام الركن الثالث ؛ لأنّ الأصل يجري عن وجوب الأكثر أو الزائد ولا يعارضه الأصل عن وجوب الأقلّ ؛ لأنّه إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر فهو غير معقول ؛ إذ لا يعقل ترك الأقلّ مع الإتيان بالأكثر ، وإن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ وترك الأكثر بتركه رأسا فهو غير ممكن أيضا ؛ لأنّ هذه الحالة هي حالة المخالفة القطعيّة ولا يمكن التأمين بلحاظها.

وهكذا نعرف أنّ الأصل المؤمّن عن وجوب الأقلّ ليس له دور معقول ، فلا يعارض الأصل الآخر.

الجواب الرابع : ما ذكره السيّد الخوئي من الانحلال الحكمي لهذا العلم الإجمالي ؛ وذلك لاختلال الركن الثالث من أركان المنجّزيّة ؛ إذ الأصل المؤمّن يجري لنفي وجوب الأكثر من دون معارض ، لأنّ الأصل المؤمّن لا يجري في الأقلّ ؛ لأنّ جريانه فيه غير ممكن ، بتقريب : أنّ الأصل المؤمّن عن وجوب الأقلّ إن أريد به التأمين في حالة ترك الأقلّ ولكن بشرط الإتيان بالأكثر فهذا غير معقول ؛ لأنّ الإتيان بالأكثر يستبطن الإتيان بالأقلّ فلا يعقل ترك الأقلّ حالة الإتيان بالأكثر ، فكيف يتمّ التأمين من ناحيته مع أنّه لا بدّ من الإتيان به ولا يمكن تركه تكوينا وواقعا حالة الإتيان بالأكثر؟ فيكون التأمين عنه كذلك بلا أثر وبلا فائدة ، بل غير معقول في نفسه ، ولا يمكن صدوره من الشارع.

وإن أريد بجريان الأصل المؤمّن عن الأقلّ التأمين حالة ترك الأقلّ عند ترك الأكثر أيضا ، أي أنّ المكلّف مؤمّن في ترك الأقلّ إذا ترك الأكثر أيضا ، فهذا مستحيل وغير معقول ؛ لأنّ التأمين المذكور يعني التأمين عند المخالفة القطعيّة ؛ لأنّ ترك الأقلّ وترك الأكثر معناه الوقوع في المخالفة القطعيّة.

ومن الواضح أنّ التأمين عن المخالفة القطعيّة غير معقول ، ولا يمكن صدوره من الشارع ؛ لما تقدّم في الجزء السابق من عدم إمكان الترخيص لا الواقعي ولا الظاهري في موارد العلم التفصيلي بحكم العقل ، ولا يمكن ذلك في موارد العلم الإجمالي عقلائيّا.

٢٤

وبهذا يظهر أنّ الأصل المؤمّن عن الأقلّ مستحيل ولا معنى له فلا يجري ، ولذلك يكون جريان الأصل المؤمّن عن وجوب الأكثر لا معارض له ، وبه يتحقّق الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي.

وهذا بيان صحيح في نفسه ، ولكنّه يستبطن الاعتراف بالركنين الأوّل والثاني ومحاولة التخلّص بهدم الركن الثالث ، مع أنّك عرفت أنّ الركن الثاني غير تامّ في نفسه.

وهذا الجواب وإن كان صحيحا في نفسه لكنّه يستلزم مسبقا الاعتراف بوجود علم إجمالي منجّز وتامّ ، ثمّ يصار إلى إسقاطه عن المنجّزيّة بعدم ركنه الثالث.

إلا أنّ مثل هذا العلم الإجمالي المنجّز لا وجود له كما تقدّم في الجواب الثالث ، أو منحلّ انحلالا حقيقيّا كما تقدّم في الجوابين الأوّل والثاني ، وحينئذ لا مجال للانحلال الحكمي أصلا.

البرهان الثاني : والبرهان الثاني يقوم على دعوى أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصّل بالنسبة إلى الغرض ، وذلك ضمن النقاط التالية :

أوّلا : أنّ هذا الواجب المردّد بين الأقلّ والأكثر للمولى غرض معيّن من إيجابه ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات في متعلّقاتها.

ثانيا : أنّ هذا الغرض منجّز لأنّه معلوم ، ولا إجمال في العلم به ، وليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر وإنّما يشكّ في أنّه هل يحصل بالأقلّ أو بالأكثر؟

ثالثا : يتبيّن ممّا تقدّم أنّ المقام من الشكّ في المحصّل بالنسبة إلى الغرض ، وفي مثل ذلك تجري أصالة الاشتغال كما تقدّم.

البرهان الثاني : ما لعلّه يظهر من صاحب ( الكفاية ) حيث ذكر نظير هذا الكلام في بحث التعبّدي والتوصّلي عند الشكّ فيهما ، ودوران أمر الواجب بين كونه تعبّديّا أو توصّليّا.

وهذا البرهان يبتني على جعل المورد من موارد الشكّ في المحصّل لكن بلحاظ الغرض لا بلحاظ نفس التكليف ، ولا بلحاظ الخروج عن العهدة ، إذ الشكّ في المحصّل تارة يكون بلحاظ التكليف ، وذلك عند الشكّ فيما هو المكلّف به ، وأخرى

٢٥

يكون بلحاظ الخروج عن عهدة التكليف عند الشكّ في أنّ هذا مصداق للمكلّف به أو ذاك ، وثالثة يكون بلحاظ تحقيق الغرض المطلوب من التكليف.

ومقامنا من القسم الثالث من الشكّ في المحصّل ، وتوضيحه :

أوّلا : أنّ التكليف كما يدخل في العهدة وتشتغل به الذمّة كذلك يدخل في العهدة الغرض ؛ لأنّ كلّ تكليف فيه غرض بناء على ما هو الصحيح عند مذهب العدليّة من أنّ الأحكام الشرعيّة كلّها تابعة للمفاسد والمصالح في متعلّقاتها ، وفي مقامنا حيث إنّ التكليف معلوم ولو إجمالا فيدخل في العهدة ، فكذلك الغرض معلوم ويدخل في العهدة.

والواجب هنا وإن كان مردّدا بين الأقلّ والأكثر إلا أنّه على كلا التقديرين يعلم بوجود الغرض المولوي واشتغال الذمّة به.

وثانيا : أنّ الغرض يجب تحصيله كما أنّ التكليف يجب تحصيله أيضا ، وذلك على أساس حكم العقل بحقّ الطاعة ولزوم الامتثال ، فإنّ هذا الحكم لا يختصّ بالتكليف ، بل يشمل الغرض المطلوب من التكليف أيضا ، فالغرض واجب إذن فيجب تحصيله أيضا.

وثالثا : أنّ هذا الغرض الواجب تحصيله بحكم العقل ليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر كما هو حال التكليف ، فإنّ التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر والأقلّ معلوم تفصيلا والأكثر مشكوك بدوا فتجري عنه البراءة.

بينما الغرض شيء واحد لا ترديد فيه ولا إجمال ، وهذا الغرض الواحد يشكّ في تحقّقه وحصوله بالأقلّ ؛ لأنّه لا يعلم هل يتحقّق بالأقلّ أو أنّه يتحقّق بالأكثر.

وبكلمة أخرى : أنّ الواجب مركّب من أجزاء لا يعلم هل هي تسعة أو عشرة؟ فيكون الواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، إلا أنّ الغرض ليس مركّبا بل هو بسيط ، وهذا يعني أنّ الأمر يدور بين وجوده أو عدمه أي أنّه هذا الغرض البسيط والواحد هل يوجد بالأقلّ أو يوجد بالأكثر؟

ورابعا : إنّ المورد ما دام من موارد الشكّ في المحصّل بلحاظ الغرض ، وما دام هذا الغرض واحدا وبسيط أولا يعلم بتحققه عند الإتيان بالأقلّ ، إذ بمجرّد الإتيان بالأقلّ لا يعلم بفراغ الذمّة يقينا وخروجها عن عهدة الغرض ، فلا بدّ من الاحتياط والإتيان بالأكثر ؛ لأنّه هو الذي يؤدّي إلى فراغ الذمّة يقينا من الغرض.

٢٦

والحاصل : أنّ الشكّ في المحصّل معناه لزوم الاحتياط استنادا إلى أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني ، وحيث إنّنا نعلم بالغرض ؛ لأنّ الأحكام تابعة للملاكات ، وحيث إنّنا لا نعلم ببراءة الذمّة من الغرض عند الإتيان بالأقلّ لاحتمال أن يكون الأكثر هو المحصّل للغرض دون الأقلّ فيجب الاحتياط بالإتيان بالأكثر.

ووجوب الإتيان بالأكثر لا من باب الاحتياط في التكليف بلحاظ الشكّ فيما هو المكلّف به ، ليقال بأنّ الأقلّ معلوم يقينا والأكثر مشكوك فينفى بالبراءة ، بل وجوب الأكثر هنا من باب الاحتياط في تحصيل الغرض المطلوب والذي هو أمر آخر اشتغلت به الذمّة إضافة إلى التكليف ، فالذمّة هنا مشغولة بالتكليف ومشغولة بالغرض ، والتكليف يكفي فيه الأقلّ لجريان البراءة عن الزائد ، بينما الغرض لا يكفي فيه إلا الأكثر عند الشكّ في تحصيله ؛ لأنّه أمر وحداني بسيط وليس مركّبا كالتكليف.

ويلاحظ على ذلك :

أوّلا : أنّه من قال بأنّ الغرض ليس مردّدا بين الأقلّ والأكثر كنفس الواجب؟

بأن يكون ذا مراتب وبعض مراتبه تحصل بالأقلّ ولا تستوفى كلّها إلا بالأكثر ، ويشكّ في أنّ الغرض الفعلي قائم ببعض المراتب أو بكلّها ، فيجري عليه نفس ما جرى على الواجب.

ويرد على هذا البرهان أمران :

الأمر الأوّل : أن ننكر كون الغرض واحدا بسيطا في جميع الموارد ، بل تارة يكون واحدا وأخرى يكون متعدّدا وذا مراتب ، وحينئذ نقول : كما يحتمل في مقامنا أن يكون الغرض واحدا وبسيطا ، وبالتالي حيث يعلم بوجوده واشتغال الذمّة به يقينا ويشكّ في تحقّقه بالأقلّ ، فيجب الإتيان بالأكثر من باب الفراغ اليقيني.

فكذلك يحتمل أن يكون الغرض متعدّدا ؛ وذلك لأنّ الغرض عبارة عن الحسن والقبح الذاتيّين في المتعلّق أو المصلحة والمفسدة فيه ، فيحتمل أن يكون الغرض المطلوب مترتّبا على جميع الأفعال بنفسها لكونه حسنة مثلا ، بأن يكون كلّ جزء وكلّ فعل فيه مصلحة بذاته لكونه حسنا ، فيكون لدينا مجموعة من المصالح لا مصلحة واحدة فقط.

فإذا كان كلّ واحد منهما محتملا ، فيعقل حينئذ أن يكون الغرض كالتكليف

٢٧

والواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ؛ لأنّه إذا كان الغرض ذا مراتب متعدّدة ، وبعض هذه المراتب تحصل بالأقلّ بينما يحصل الجميع بالأكثر ، فنحن نشكّ في كون الغرض الفعلي هو الغرض القائم ببعض المراتب أو هو الغرض القائم بكلّ المراتب نتيجة الشكّ في كون الواجب هو الأقلّ أو الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ إن كان هو الواجب فالغرض قائم ببعض المراتب ، وإن كان الأكثر هو الواجب فالغرض قائم بكلّ المراتب ، ولكن حيث إنّ الغرض القائم ببعض المراتب معلوم تفصيلا ودخيل في العهدة يقينا على كلّ تقدير فيكون الزائد عن ذلك مشكوكا بدوا فتجري عنه البراءة.

وبهذا يظهر أنّه من الممكن تصوير الغرض متعدّدا وذا مراتب فلا يتمّ فيه البرهان المذكور.

نعم ، إذا كان الغرض واحدا وبسيطا فيتمّ البرهان ، إلا أنّ معرفة كون الغرض واحدا أو متعدّدا ليس ميسورا للمكلّف لعدم اطّلاعه على الملاكات ، وإنّما عهدته على الشارع ؛ لأنّه الأعرف بملاكاته ، ولذلك لا بدّ من بيان ذلك شرعا ، فإذا لم يتبيّن ذلك كان المكلّف شاكّا في كون الغرض واحدا أو متعدّدا ، فيكون شاكّا فيما اشتغلت به ذمّته وهل هي مشتغلة بغرض واحد أو بغرض متعدّد؟ والأوّل ذو مئونة زائدة بخلاف الثاني فيكون من الأقلّ والأكثر أيضا.

وهذا نقاش صغروي ؛ لأنّه مبني على التسليم بوجود غرض منجّز ولكنّه مردّد بين كونه غرضا وحدانيّا بسيطا ، أو كونه غرضا مركّبا وذا مراتب.

وثانيا : أنّ الغرض إنّما يتنجّز عقلا بالوصول إذا وصل مقرونا بتصدّي المولى لتحصيله التشريعي ، وذلك بجعل الحكم على وفقه أو نحو ذلك.

فما لم يثبت هذا التصدّي التشريعي بالنسبة إلى الأكثر بمنجّز وما دام مؤمّنا عنه بالأصل فلا أثر لاحتمال قيام ذات الغرض بالأكثر.

الأمر الثاني : وهو نقاش كبروي أي إنكار وجود غرض منجّز في المقام ، وتوضيحه أن يقال : إنّ الغرض إنّما يتنجّز مع فرض وصوله إلى المكلّف كالتكليف ، فما لم يصل الغرض إلى المكلّف فلا يكون منجّزا وبالتالي لا تشتغل به الذمّة ، ولا يدخل في العهدة ؛ إذ يقبح العقاب على ترك شيء لم يصل إلى المكلّف.

٢٨

فحال الغرض كحال التكليف تماما ، فكما لا عقاب على ترك تكليف غير واصل ، فكذلك لا عقاب على ترك تحصيل غرض غير واصل.

وأمّا كيفيّة وصول الغرض إلى المكلّف فهذا إنّما يكون بتصدّي الشارع لتحصيله ، فإنّه إذا تصدّى المولى لإبراز تحصيل الغرض ـ إمّا ابتداء ومباشرة بأن جعل الحكم على وفقه ، وإمّا بالإخبار عن كونه مطلوبا ومحبوبا للمولى ـ فحينئذ يحكم العقل بلزوم تحصيله ، ويكون التقريب المذكور صحيحا وتامّا ؛ لأنّ الغرض قد دخل في العهدة واشتغلت به الذمّة يقينا فيجب إبراؤها اليقيني ، وهذا لا يتمّ إلا بالإتيان بالأكثر ؛ لأنّ الأقلّ وإن كان معلوما على كلّ تقدير لكنّه من جهة الغرض لا يحرز كونه محصّلا للغرض.

وأمّا إذا لم يتصدّ المولى لإبرازه بنحو من الأنحاء فلا يتنجز ولا يدخل في العهدة ولا تشتغل به الذمّة ، حتّى وإن علم به المكلّف من طريق آخر غير طريق الشرع ، وحينئذ لا يتمّ التقريب المذكور ، بل يكون الغرض على فرض وجوده معلوما ضمن الأقلّ ، ويشكّ في وجوده ضمن الأكثر فتجري البراءة لنفيه.

وفي مقامنا لم يثبت التصدي المولوي لإبراز الغرض وأنّه ضمن الأكثر ؛ إذ المفروض أنّه لا يوجد دليل ولا أصل ولا شيء من أنحاء التنجيز يثبت الأكثر ، بل الأصل يثبت التأمين والتعذير من ناحية الأكثر ؛ لأنّ الأقلّ معلوم تفصيلا على كلّ حال.

وما دام الأمر كذلك فلا موجب ولا مبرّر لإثبات كون الغرض في الأكثر ، بل هو مشكوك ، وبما أنّ الأقلّ معلوم تفصيلا فيعلم بتحقّق الغرض به ، فيكون الشكّ في وجوب الغرض بالأكثر شكّا بدويّا وهو مجرى للبراءة لا للاحتياط.

فتبيّن أنّ الغرض ما دام غير ثابت ولا واصل ولا منجّز ولم يتصدّ المولى لإبرازه فلا يحكم العقل بلزوم تحصيله والاحتياط من ناحيته ؛ لأنّه والحال هذه يكون مشكوكا بدوا.

البرهان الثالث :

أنّ وجوب الأقلّ منجّز بحكم كونه معلوما ، وهو مردّد بحسب الفرض بين كونه استقلاليّا أو ضمنيّا ، وفي حالة الاقتصار على الإتيان بالأقلّ يسقط هذا

٢٩

الوجوب المعلوم على تقدير كونه استقلاليّا ؛ لحصول الامتثال ، ولا يسقط على تقدير كونه ضمنيّا ؛ لأنّ الوجوبات الضمنيّة مترابطة ثبوتا وسقوطا ، فما لم تمتثل جميعا لا يسقط شيء منها.

وهذا يعني أنّ المكلّف الآتي بالأقلّ يشكّ في سقوط وجوب الأقلّ والخروج عن عهدته ، فلا بدّ له من الاحتياط.

وليس هذا الاحتياط بلحاظ احتمال وجوب الزائد ، حتّى يقال : إنّه شكّ في التكليف ، بل إنّما هو رعاية للتكليف بالأقلّ المنجّز بالعلم واليقين ، نظرا إلى أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

البرهان الثالث : ويقوم على أساس إبراز أنّ المورد من موارد الشكّ في المحصّل بلحاظ الخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت الذمّة به يقينا ، والذي يكون مجرى لأصالة الاحتياط والاشتغال العقلي.

وحاصله : أنّنا لو سلّمنا بانحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقلّ وشكّ بدوي في وجوب الأكثر ، إلا أنّه مع ذلك يجب الإتيان بالأكثر ولا يكفي الاقتصار على الأقلّ.

ببيان : أنّ الأقلّ بحسب الفرض معلوم وجوبه تفصيلا ، إلا أنّه مع ذلك مردّد بين كونه واجبا استقلاليّا فيما إذا كان الواجب الأقلّ وحده أو واجبا ضمنيّا فيما إذا كان الواجب الأقلّ ضمن الأكثر ، وهذا معناه اشتغال الذمّة يقينا بالأقلّ على كلا التقديرين ، ويجب إخراجها عن عهدته وإبراؤها منه يقينا ؛ لأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

وعليه فإذا اقتصر في الامتثال والخروج عن العهدة بالإتيان بالأقلّ وحده ، سوف يعلم ببراءة ذمّته ممّا اشتغلت به على تقدير كون الأقلّ الذي اشتغلت به الذمّة هو الأقلّ الاستقلالي ، وأمّا على تقدير كون الأقلّ الداخل في العهدة هو الأقلّ الضمني فالذمّة لا تزال مشتغلة به ولم تخرج عن عهدته ؛ لأنّ الوجوبات الضمنيّة حيث إنّها مترابطة فيما بينها في عالم الثبوت فهي مترابطة فيما بينها أيضا بلحاظ عالم الامتثال والسقوط والخروج عن العهدة ، إذ الوجوب الضمني لا يمتثل إلا ضمنا ، أي أنّ الأقلّ الضمني لا يتحقّق امتثاله إلا بلحاظ كونه ضمنيّا ، وهذا لا يتأتّى إلا بالإتيان بالأكثر لكي يتحقّق عنوان الضمنيّة للأقلّ.

٣٠

وبهذا ظهر أنّ المكلّف وإن كان يعلم بوجوب الأقلّ على كلّ حال ، إلا أنّه بلحاظ تحصيل الخروج عن العهدة للتكليف الذي اشتغلت به الذمّة لا بدّ له من الاحتياط والإتيان بالأكثر.

ووجوب الأكثر هنا ليس بابه باب الاحتياط في الإتيان بالتكليف الزائد ليقال : إنّ احتمال التكليف الزائد مجرى للبراءة ، بل بابه باب الاحتياط في الخروج عن عهدة التكليف الذي اشتغلت به الذمّة.

فالأكثر في نفسه ليس واجبا وإنّما يجب بلحاظ كونه مقدّمة لتحقيق الامتثال والفراغ اليقيني.

والجواب على ذلك : أنّ الشكّ في سقوط تكليف معلوم إنّما يكون مجرى لأصالة الاشتغال فيما إذا كان بسبب الشكّ في الإتيان بمتعلّقه ، وهذا غير حاصل في المقام ؛ لأنّ التكليف بالأقلّ ـ سواء كان استقلاليّا أو ضمنيّا ـ قد أتي بمتعلّقه بحسب الفرض ، إذ ليس متعلّقة إلا الأقلّ ، وإنما ينشأ احتمال عدم سقوطه من احتمال قصور في نفس الوجوب بلحاظ ضمنيّته المانعة عن سقوطه مستقلاّ عن وجوب الزائد.

وهكذا يرجع الشكّ في السقوط هنا إلى الشكّ في ارتباط وجوب الأقلّ بوجوب زائد.

والجواب على هذا البرهان أن يقال : إنّ الشكّ في سقوط التكليف المعلوم دخوله في العهدة على نحوين :

الأوّل : أن يكون الشكّ ناشئا من الشكّ في الإتيان بالتكليف ، أي أنّه لا يعلم هل أتى بمتعلّق التكليف أو لا؟

فهنا سوف يشكّ في أنّه امتثل المأمور به أو لا ، وبالتالي سوف يشكّ في سقوط التكليف وخروجه عن عهدته أو أنّه لا يزال مشغول الذمّة به ، وهذا الشكّ هو مورد قاعدة الاشتغال اليقيني المستدعي للفراغ اليقيني.

الثاني : أن يكون الشكّ ناشئا من الشكّ في أنّ التكليف هل هو متعلّق بهذا المقدار الذي أتى به أو أنّه متعلّق بشيء آخر أيضا زائدا عليه؟ فهنا يعلم بأنّ ما أتى به متعلّقا للتكليف يقينا وأنّ الذمّة مشتغلة به يقينا ، إلا أنّه يشكّ في اشتغاله بشيء آخر

٣١

زائدا عليه يكون على فرض وجوده وثبوته واشتغال الذمّة به مانعا من الخروج عن العهدة وعن سقوط التكليف ، وهذا النحو من الشكّ يرجع إلى الشكّ في تكليف زائد عمّا هو معلوم ويكون مجرى لأصالة البراءة.

وفي المقام إذا كان الشكّ من النحو الأوّل جرت فيه أصالة الاشتغال العقلي ، وأمّا إذا كان من النحو الثاني فهو مجرى لأصالة البراءة العقليّة أو الشرعيّة ، ولذلك نقول :

إنّ وجوب الأقلّ المعلوم يقينا اشتغال الذمّة به إمّا استقلالا وإمّا ضمنا قد أتى به المكلّف وامتثله وبالتالي قد سقط التكليف بالأقلّ ؛ لأن التكليف متعلّق بالأقلّ وقد أتى به ، فلا شكّ في امتثاله للمتعلّق.

إلا أنّه هنا يشكّ في سقوط التكليف من ناحية أخرى ، وهي أنّ الأقلّ لو كان وجوبه ضمنيّا فهو لا يسقط بالامتثال الاستقلالي للأقلّ ، بمعنى أنّ الإتيان بالأقلّ الاستقلالي يمنع من تحقّق الامتثال فيما لو كان الأقلّ واجبا ضمنا ؛ لأنّ الواجب الضمني لا يتحقّق ولا يمتثل إلا بالإتيان به ضمنا.

وهذا النحو من الشكّ مرجعه بالدقّة إلى الشكّ في كون الأقلّ مستقلاّ عن الزائد أو هو مرتبط بالزائد ، أي أنّ التكليف هل هو متعلّق بالمقدار الذي أتى به فقط ، أو أنّه متعلّق بشيء آخر زائد على ذلك؟ وهذا يجعل المورد من القسم الثاني لا الأوّل ، ولذلك نقول :

ومثل هذا الشكّ ليس مجرى لأصالة الاشتغال ، بل يكون مؤمّنا عنه بالأصل المؤمّن عن ذلك الوجوب الزائد ، لا بمعنى أنّ ذلك الأصل يثبت سقوط وجوب الأقلّ ، بل بمعنى أنّه يجعل المكلّف غير مطالب من ناحية عدم السقوط الناشئ من وجوب الزائد.

بعد أن تبيّن أنّ الشكّ في مقامنا من الشكّ في وجوب الأقلّ المرتبط بوجوب الزائد ، نقول : إنّ وجوب الزائد المشكوك يجري فيه الأصل المؤمّن ؛ لأنّه شكّ في تكليف زائد على التكليف المعلوم ، فيثبت أنّ ما تعلّق به التكليف واشتغلت به الذمّة يقينا وهو الأقلّ قد امتثل ؛ لأنّ المكلّف قد أتى بالأقلّ.

وأمّا الأكثر أي وجوب الزائد فهو منفي بالأصل المؤمّن ، وهذا الأصل ينفي لنا

٣٢

وجوب الأكثر ، بمعنى أنّ الذمّة لم تشتغل به يقينا ولم يدخل في العهدة ، وبالتالي لم يتعلّق به التكليف.

ولا يراد بهذا الأصل المؤمّن إثبات سقوط وجوب الأقلّ ليقال بأنّه من الأصل المثبّت بتقريب أنّ جريان البراءة عن الأكثر لازمه ثبوت وجوب الأقلّ ، وحيث إنّه امتثله فيتحقّق سقوط وجوبه.

بل المراد بهذا الأصل أنّ المكلّف ليس مطالبا بأكثر من الإتيان بالأقلّ في مقام إسقاط التكليف والخروج عن العهدة ، من جهة أنّ الزائد مؤمّن عنه ، فلا حاجة إلى الإتيان به في مقام الخروج عن عهدة التكليف ، بل الخروج كذلك يتحقّق بالإتيان بالأقلّ فقط.

البرهان الرابع :

وهو علم إجمالي يجري في الواجبات التي يحرم قطعها عند الشروع فيها كالصلاة ، إذ يقال بأنّ المكلّف إذا كبّر تكبيرة الإحرام ملحونة وشكّ في كفايتها حصل له علم إجمالي إمّا بوجوب إعادة الصلاة ، أو حرمة قطع هذا الفرد من الصلاة التي بدأ بها ؛ لأنّ الجزء إن كان يشمل الملحون حرم عليه قطع ما بيده وإلا وجبت عليه الإعادة ، فلا بدّ له من الاحتياط ؛ لأنّ أصالة البراءة عن وجوب الزائد تعارض أصالة البراءة عن حرمة قطع هذا الفرد.

البرهان الرابع : ما ذكره المحقّق العراقي ، من إبراز علم إجمالي منجّز ، إلا أنّه مختصّ في الموارد التي يكون الواجب فيها مركّبا بنحو لا يجوز قطعه عند الشروع فيه ، وبنحو لا تجري فيه قاعدة ( لا تعاد ) ، كما في الصلاة والحجّ مثلا.

فإنّ المكلّف إذا شكّ في أوّل الصلاة أنّ تكبيرة الإحرام الملحونة هل تكفي لتحقّق المأمور به أو لا بدّ من التكبيرة الصحيحة؟

أو شكّ في أنّ الاستقبال للقبلة هل يكتفى فيه بالبناء على النظر العرفي التسامحي أو لا بدّ فيه من الدقّة؟

وعليه فإذا كبّر تكبيرة ملحونة أو استقبل القبلة من دون بناء على الدقّة فلو كان ذلك كافيا لوجب عليه الإتمام ؛ لأنّه شرع في تكليف يحرم قطعه ، وإذا لم يكن كافيا بأن كان الواجب هو التكبيرة الصحيحة أو الاستقبال الدقيق وجب عليه الإعادة من

٣٣

جديد ؛ لأنّه لا يكون قد دخل في الصلاة أصلا. فيكون الأمر دائرا بين وجوب الإتمام أو وجوب الإعادة أي وجوب الإتمام مع الأقلّ أو وجوب الإعادة مع الأكثر ، هذا هو التصوير الفنّي والصحيح لهذا المانع.

وأمّا ما ذكره المحقّق العراقي من دوران الأمر بين وجوب الإعادة وحرمة القطع فهو يتصوّر فيما إذا كان الشكّ في السورة وكونها جزءا من الصلاة أو لا ، فإنّه إذا شرع في الصلاة وقرأ الحمد من دون السورة ثمّ ركع ـ وهذا يعني تجاوز المحلّ لأنّه قد دخل في الركن ـ سوف يعلم إجمالا : إمّا بحرمة قطع هذه الصلاة ووجوب إتمامها بأن لم تكن السورة جزءا من الصلاة ، وإمّا بوجوب القطع والإعادة بأن كانت السورة جزءا من الصلاة وقد تركها عمدا بحسب الفرض لا نسيانا أو جهلا.

وهذا العلم الإجمالي الدائر بين حرمة القطع ووجوب الإعادة منجّز ويجب الاحتياط تجاهه ، وذلك بأن يتمّ ما بيده من صلاة ثمّ يأتي بصلاة جديدة مع الأكثر فيكون قد امتثل كلا الطرفين.

وهذا العلم الإجمالي ليس منحلاّ لا حقيقة ولا حكما.

أمّا الأوّل فواضح ، إذ لا علم لنا بأحد الفردين.

وأمّا الثاني فلأنّ الأصل المؤمّن الجاري لنفي وجوب الإعادة معارض بالأصل المؤمّن لنفي حرمة القطع ، فإنّ كلاّ من وجوب الإعادة وحرمة القطع يعتبر تكليفا زائدا عن الواجب المأمور به وهو الصلاة.

ثمّ إنّ هذا العلم الإجمالي وإن كان دائرا بين الأقلّ والأكثر قبل الشروع في الصلاة حيث يشكّ في وجوب السورة وعدمها ، ولكنّه بعد الشروع في الصلاة وتجاوز المحلّ أي بعد الدخول في الركن كالركوع سوف ينقلب هذا العلم الإجمالي إلى العلم الإجمالي بين وجوب الإتمام أو حرمة القطع ، وبين وجوب الإعادة والاستئناف.

ونلاحظ على ذلك : أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها هو الصلاة التي يجوز للمكلّف بحسب وظيفته الفعليّة الاقتصار عليها في مقام الامتثال ؛ إذ لا إطلاق في دليل الحرمة لما هو أوسع من ذلك.

وواضح أنّ انطباق هذا العنوان على الصلاة المفروضة فرع جريان البراءة

٣٤

عن وجوب الزائد ، وإلا لما جاز الاقتصار عليها عملا ، وهذا يعني أنّ احتمال حرمة القطع مترتّبة على جريان البراءة عن الزائد فلا يعقل أن يستتبع أصلا معارضا له.

والجواب على هذا البرهان أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي الدائر بين وجوب إعادة الصلاة وبين حرمة قطعها منحلّ انحلالا حكميّا ؛ وذلك لأنّ البراءة تجري لنفي وجوب الإعادة بلا معارض ؛ لأنّ البراءة لا تجري لنفي حرمة قطع الصلاة.

وتوضيحه : أنّ حرمة قطع الصلاة موضوعها الصلاة التي يجوز الاكتفاء بها والاقتصار عليها في مقام الامتثال ولو ظاهرا ، فلكي تثبت حرمة القطع لا بدّ أوّلا من إثبات كون الصلاة التي أتى بها وشرع فيها من دون الإتيان بالسورة ممّا يمكن ويصحّ الاكتفاء بها عمليّا ، إلا أنّ إثبات ذلك فرع كون السورة مؤمّنا عنها ، وهذا إنّما يثبت بجريان البراءة عن الزائد والاكتفاء بالأقلّ ، فإنّه إذا كان الأقلّ كافيا كانت الصلاة صحيحة وبالتالي يحرم قطعها.

والوجه في ذلك : أنّ دليل حرمة قطع الصلاة هو الإجماع والذي هو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن وهو الصلاة الصحيحة ولو ظاهرا ، والتي يصحّ الاكتفاء بها في الامتثال ، ولا شمول لهذا الدليل لأكثر من هذا المقدار ، بل يعلم بعدم الشمول ؛ لأنّ الصلاة إذا لم يصحّ الاكتفاء بها فلا معنى لحرمة قطعها ؛ لأنّها لا تكون صلاة بالدقّة.

وحينئذ نقول : إنّ حرمة قطع الصلاة مترتّبة ومتفرّعة على جريان البراءة أوّلا لنفي وجوب الزائد ، فهي في طول جريان البراءة إذ قبل جريانها لا يعلم بحرمة قطع الصلاة ؛ لأنّه إذا ترك السورة وكانت جزءا من الصلاة فهذا يعني أنّ صلاته باطلة ، والصلاة الباطلة لا يحرم قطعها إجماعا.

ولذلك لا يمكن أن تجتمع البراءة لنفي الأكثر والزائد مع البراءة لنفي حرمة قطع الصلاة ؛ لأنّ البراءة الثانية للزائد تنقّح موضوع حرمة القطع فتكون الحرمة ثابتة قطعا لثبوت موضوعها ، ومعه لا مجال لجريان البراءة عنها ؛ إذ لا مورد للبراءة في حالة العلم.

وبتعبير آخر : إنّ احتمال حرمة القطع والذي يكون موردا للبراءة فرع عدم جريان

٣٥

البراءة عن وجوب الزائد ؛ لأنّه لو جرت البراءة عن وجوب الزائد تنقّح موضوع حرمة القطع فصارت ثابتة قطعا ، وإذا لم تجر البراءة كذلك فحرمة القطع محتملة ومشكوكة فتكون مجرى للبراءة.

وهذا يعني أنّه لا يمكن أن تجتمع البراءة لنفي الزائد مع البراءة لنفي حرمة القطع ، بل إحداهما فقط هي الجارية ، ولذلك يكون العلم الإجمالي المذكور منحلاّ حقيقة.

والحكم في مثل هذا المورد يختلف باختلاف الأصل الجاري في المقام ، فقد يكون الأصل الجاري هو البراءة عن وجوب الزائد فيكون الحكم وجوب الإتمام وحرمة القطع ، وهذا يكون في مثل الشكّ في جزئيّة السورة.

وأمّا في مثل صحّة التكبيرة الملحونة أو صحّة الاستقبال العرفي المسامحي دون الدقّي والصحيح ، فهنا إذا لم تكن التكبيرة الملحونة كافية فهو لم يشرع في الصلاة أصلا ليحرم قطعها ، وإذا كانت كافية فيحرم قطعها فيشكّ في حرمة القطع فتجري عنها البراءة ، وتتعارض مع البراءة الجارية بلحاظ وجوب الإعادة ؛ لأنّها مشكوكة أيضا فيحكم بالاحتياط أي الإتمام ثمّ الإعادة.

البرهان الخامس :

وحاصله تحويل الدوران في المقام إلى دوران الواجب بين عامّين من وجه بدلا عن الأقلّ والأكثر ، وتوضيح ذلك ضمن مقدّمتين :

البرهان الخامس : وهو مختصّ في موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر في الواجبات العباديّة لا التوصّليّة ؛ لأنّ الواجبات العباديّة حيث إنّها تشتمل زائدا على الإتيان بالمتعلّق كون الإتيان به بداعي القربة لله تعالى ، فيمكن فيها انقلاب الأقلّ والأكثر إلى العامّين من وجه ، فيكون لكلّ واحد من الأقلّ والأكثر جهة افتراق عن الآخر وهناك مادّة اجتماع ، وإذا دار الأمر كذلك فيتنجّز خصوص مادّة الاجتماع دون مادّتي الافتراق ، ومادّة الاجتماع هنا هي الإتيان بالأكثر المشتمل على الزائد.

وأمّا كيفيّة تصوير هذا المطلب فهذا يتّضح ضمن المقدّمتين التاليتين :

الأولى : أنّ الواجب تارة يدور أمره بين المتباينين كالظهر والجمعة ، وأخرى بين العامّين من وجه كإكرام العادل وإكرام الهاشمي ، وثالثة بين الأقلّ والأكثر.

ولا إشكال في تنجيز العلم الإجمالي في الحالة الأولى الموجب للجمع بين

٣٦

الفعلين ، وتنجيزه في الحالة الثانية الموجب ؛ لعدم جواز الاقتصار على إحدى مادّتي الافتراق ، وأمّا الحالة الثالثة فهي محلّ الكلام.

المقدّمة الأولى : أنّ التردّد في الواجب على أنحاء ثلاثة :

١ ـ أن يكون الواجب مردّدا بين المتباينين ، كأن يعلم بوجوب الصلاة مثلا ويتردّد أمرها بين الظهر أو الجمعة ، وهنا لا إشكال في كون هذا العلم الإجمالي منجّزا لطرفيه بمعنى وجوب الإتيان بالظهر والجمعة ، كما تقدّم في مباحث العلم الإجمالي.

٢ ـ أن يكون الواجب مردّدا بين العامّين من وجه ، كأن يعلم بوجوب الإكرام مثلا ويتردّد أمره بين إكرام العالم أو إكرام الهاشمي ، فهنا العالم يشمل الهاشمي وغير الهاشمي ، والهاشمي يشمل العالم وغير العالم ، فيجتمعان في العالم الهاشمي ، ويفترق الهاشمي عن العالم في الهاشمي غير العالم ، ويفترق العالم عن الهاشمي في العالم غير الهاشمي ، ومثل هذا العلم الإجمالي يكون منجّزا لمادّة الاجتماع أي وجوب إكرام العالم الهاشمي ، ولا يصحّ الاكتفاء بإحدى مادّتي الافتراق.

٣ ـ أن يكون الواجب مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كأن يعلم بوجوب الصلاة ولا يدري أنّها تسعة أجزاء أو عشرة ، وحكم هذا الدوران يتحدّد على أساس أن الأقلّ والأكثر هل هما من العلم التفصيلي بالأقلّ والشكّ البدوي في الأكثر ، أو هما من المتباينين ، أو هما من العامّين من وجه؟

وسوف نرى أنه بالإمكان إرجاعهما إلى العامّين من وجه.

الثانية : أنّ الواجب المردّد في المقام بين التسعة والعشرة إذا كان عباديّا فالنسبة بين امتثال الأمر على تقدير تعلّقه بالأقلّ وامتثاله على تقدير تعلّقه بالأكثر هي العموم من وجه.

ومادّة الافتراق من ناحية الأمر بالأقلّ واضحة ، وهي أن يأتي بالتسعة فقط.

وأمّا مادّة الافتراق من ناحية الأمر بالأكثر فلا تخلو من خفاء في النظرة الأولى ؛ لأنّ امتثال الأمر بالأكثر يشتمل على الأقلّ حتما ، ولكن يمكن تصوير مادّة الافتراق في حالة كون الأمر عباديّا والإتيان بالأكثر بداعي الأمر المتعلّق بالأكثر على وجه التقييد على نحو لو كان الأمر متعلّقا بالأقلّ فقط لما انبعث عنه ، ففي

٣٧

مثل ذلك يتحقّق امتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته ، ولا يكون امتثالا للأمر بالأقلّ على تقدير ثبوته.

المقدّمة الثانية : أنّ مورد تردّد الواجب بين الأقلّ والأكثر تارة يكون الواجب المردّد توصّليّا ، وأخرى يكون عباديّا.

فإن كان توصّليّا فلا كلام في أنّ الزائد تجري فيه البراءة ؛ لأنّ الأقلّ معلوم على كلّ تقدير.

وإن كان تعبّديّا كالصلاة فهنا تكون النسبة بين امتثال الأقلّ وامتثال الأكثر العموم والخصوص من وجه ، أي أنّ الأقلّ يفترق عن الأكثر ، والأكثر يفترق عن الأقلّ ، ويجتمع كلّ منهما معا.

أمّا مادّة افتراق الأقلّ عن الأكثر فواضحة وهي فيما إذا أتى بالتسعة فقط ، فإنّه لا ينطبق عليها عنوان الأكثر.

وأمّا مادّة الاجتماع بينهما فهي الإتيان بالعشرة بقصد امتثال الأمر الواقعي ، لا بقصد امتثال الأقلّ بخصوصه ، ولا بقصد امتثال الأكثر بخصوصه ، فإنّ الإتيان بالعشرة بقصد امتثال مطلق الأمر ينطبق على الأقلّ والأكثر معا.

وأمّا مادّة افتراق الأكثر عن الأقلّ فقد يقال : إنّ هذا غير معقول إذ لا يمكن تصوّر الأكثر من دون الأقلّ ؛ لأنّ العشرة لا تتحقّق إلا بالتسعة ، إلا أنّ الصحيح إمكان ذلك استنادا إلى المبنى الفقهي المشهور من أنّ الإتيان بالأكثر بقصد التقييد يمنع من انطباقه على الأقلّ ، بمعنى أنّه يقصد الإتيان بالأكثر بعنوان امتثال الأمر المتعلّق بالأكثر بحيث إنّه لو كان الأمر متعلّقا بالأقلّ لما كان امتثله وانبعث نحوه ، فيكون الإتيان بالأكثر بهذا القيد امتثالا للأمر بالأكثر دون الأقلّ ؛ لأنّه قصد عدم امتثاله والانبعاث عنه.

نظير ما لو علم بصدور أمر بالصلاة مردّد بين الوجوب والاستحباب ، فإنّه إذا قصد امتثال الأمر الواقعي يكون قد جمع بين الوجوب والاستحباب ، وإذا قصد الاستحباب بخصوصه فلا ينطبق على الوجوب وكذا العكس ، وهذا ما يسمّى بقصد الأكثر على نحو التقييد لا على نحو التطبيق.

وحينئذ يقال : إنّ العلم الإجمالي يدور بين العامّين من وجه ، وفي مثل ذلك يتنجّز

٣٨

مادّة الاجتماع ولا يكتفى بإحدى مادّتي الافتراق ، فيجب الإتيان بالأكثر بقصد امتثال الأمر الواقعي.

ويثبت على ضوء هاتين المقدّمتين أنّ العلم الإجمالي في المقام منجّز إذا كان الواجب عباديّا كما هو واضح.

وبهذا ظهر أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر العباديّين ينقلب إلى الدوران بين العامّين من وجه والذي يكون منجّزا لمادّة الاجتماع.

والجواب : أنّ التقييد المفروض في النيّة لا يضرّ بصدق الامتثال على كلّ حال حتّى للأمر بالأقلّ ما دام الانبعاث عن الأمر فعليّا.

والجواب عن هذا البرهان أن يقال : إنّ المبنى الفقهي المبتني عليه هذا البرهان غير تامّ ؛ وذلك لأنّنا ننكر أن يكون هناك نحوان من قصد الامتثال : أحدهما بعنوان التطبيق ، والآخر بعنوان التقييد ، وإنّما هناك نحو واحد فقط ، وهو قصد امتثال الأمر والانبعاث الفعلي نحو المأمور به الناشئ من تعلّق الأمر به.

والدليل على ذلك هو : أنّ المستند لوجوب الانبعاث عن الأمر وقصد امتثاله هو الإجماع ، وهو دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن منه وهو قصد القربة مطلقا ، أو قصد الامتثال والانبعاث الفعلي عن الأمر ، ولذلك فإذا أضاف قيدا زائدا على ذلك وهو كون الانبعاث والامتثال للأمر بنحو التقييد لخصوص الأكثر لا يكون مضرّا في صدق الانطباق على الأقلّ حقيقة وفي صدق تحقّق الانبعاث والامتثال للأمر.

البرهان السادس : وهو يجري في الواجبات التي اعتبرت الزيادة فيها مانعة ومبطلة كالصلاة ، والزيادة هي الإتيان بفعل بقصد الجزئيّة للمركّب مع عدم وقوعه جزءا له شرعا.

وحاصل البرهان : أنّ من يشكّ في جزئيّة السورة يعلم إجمالا إمّا بوجوب الإتيان بها وإمّا بأنّ الإتيان بها بقصد الجزئيّة مبطل ؛ لأنّها إن كانت جزءا حقّا وجب الإتيان بها ، وإلا كان الإتيان بها بقصد الجزئيّة زيادة مبطلة.

وهذا العلم الإجمالي منجّز وتحصل موافقته القطعيّة بالإتيان بها بدون قصد الجزئيّة ، بل لرجاء المطلوبيّة أو للمطلوبيّة في الجملة.

البرهان السادس : وهو يبتني على قاعدة فقهيّة صحيحة ، ومفادها أنّ الإتيان

٣٩

بالجزء بقصد الجزئيّة مانع ومبطل للمركّب ، فيما إذا لم يكن هذا الجزء المأتي به جزءا واقعا ، فهذا البرهان يختصّ في المركّبات العباديّة التي تعتبر الزيادة فيها على تقدير عدم ثبوتها واقعا مانعة ومبطلة للمركّب إذا قصد الجزئيّة حين الإتيان بها ، وحينئذ سوف يكون الدوران بين الأقلّ والأكثر في مثل هذه الموارد من الدوران بين العامّين من وجه ، والتي يكون العلم الإجمالي فيه منجّزا لمورد الاجتماع.

وحاصل البرهان أن يقال : إذا شكّ المكلّف في وجوب السورة وعدم وجوبها ، فهذا الشكّ ابتداء من الأقلّ والأكثر ؛ لأنّه إمّا أن تجب تسعة أجزاء أو عشرة ، إلا أنّه بالالتفات إلى كون السورة جزءا أو زيادة ، فسوف يحصل له علم إجمالي إمّا بوجوب الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة لاحتمال كونها جزءا دخيلا في المركّب واقعا ، وإمّا بوجوب تركها وحرمة الإتيان بها بقصد الجزئيّة ؛ لأنّها حينئذ سوف تكون زيادة مبطلة للمركّب على تقدير عدم جزئيّتها واقعا.

وهذا العلم الإجمالي دائر بين العامّين من وجه ، فيكون منجّزا لمورد الاجتماع ، ولا يصحّ الاكتفاء بأحد موردي الافتراق.

وبيان ذلك : أمّا مورد افتراق الأقلّ فهو الإتيان بالمركّب من دون الإتيان بالسورة لكونها زيادة مبطلة.

وأمّا مورد افتراق الأكثر فهو الإتيان بالمركّب مع الاتيان بالسورة بقصد الجزئيّة.

وأمّا مورد الاجتماع فهو الإتيان بالمركّب مع الإتيان بالسورة لا بقصد الجزئيّة ، بل بقصد المطلوبيّة للوجوب ، أو بقصد مطلق المطلوبيّة الأعمّ من الوجوب والاستحباب.

فإذا أتى بمورد الاجتماع تحقّقت الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي المذكور ، وبذلك يثبت وجوب الإتيان بالأكثر.

والجواب : أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ ؛ وذلك لأنّ هذا الشاكّ في الجزئيّة يعلم تفصيلا بمبطليّة الإتيان بالسورة بقصد الجزئيّة حتّى لو كانت جزءا في الواقع ؛ لأنّ ذلك منه تشريع ما دام شاكّا في الجزئيّة فيكون محرّما ولا يشمله الوجوب الضمني للسورة ، وهذا يعني كونه زيادة.

والجواب عن ذلك أن يقال : إنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ حكما ، وذلك لجريان أصل البراءة عن وجوب الزيادة أي السورة بلا معارض.

٤٠