شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

وعلى هذا الأساس لا بدّ أن ننظر إلى الحيثيّة بما هي موجودة في الخارج وعالم المجعول لا عالم الجعل والذهن.

وعليه فالمعروض محدّد واقعا ، وما هو داخل فيه وما هو خارج عنه لا يتّبع في دخوله وخروجه نحو أخذه في عالم الجعل ، بل مدى قابليّته للاتّصاف بالحكم خارجا.

فالتغيّر مثلا لا يتّصف بالنجاسة والقذارة في الخارج ، بل الذي يوصف بذلك ذات الماء ، والتغيّر سبب الاتّصاف.

والتقليد وأخذ الفتوى يكون من العالم بما هو عالم أو من علمه بحسب الحقيقة.

فالتغيّر حيثيّة تعليليّة ولو أخذت تقييديّة جعلا ودليلا ، والعلم حيثيّة تقييديّة لوجوب التقليد ولو أخذ شرطا وعلّة جعلا ودليلا.

وعلى هذا نقول : إنّ الحكم عرض محدّد وكذا المعروض محدّد في الواقع ، تبعا لما لاحظه الشارع في عالم الجعل واللحاظ ، أي أنّ الشارع صبّ حكمه على المعروض المحدّد.

وأمّا الحيثيّات والخصوصيّات الداخلة أو الخارجة بالنسبة للمعروض ، فهذه لا يتّبع فيها كيفيّة أخذها في عالم الجعل واللحاظ ، بل خروجها ودخولها يتّبع فيه مدى قابليّتها للاتّصاف بالحكم في الخارج ، فإذا كانت قابلة لاتّصاف الحكم فهي داخلة وإلا فهي خارجة.

وبهذا يكون الميزان والضابط لكون الحيثيّة تعليليّة أي خارجة أو تقييديّة أي داخلة هو مدى قابليّتها لاتّصاف الحكم بها في الخارج.

فمثلا التغيّر المأخوذ في موضوع الحكم بالنجاسة على الماء إن كان قابلا للاتّصاف بالحكم فهو حيثيّة تقييديّة وإن لم يكن قابلا لذلك فهو حيثيّة تعليليّة.

ومن الواضح أنّ التغيّر لا يتّصف بالنجاسة ؛ إذ لا يقال : ( التغيّر نجس ) وإنّما يقال : ( الماء نجس ) ، فإذن ما هو داخل ذات الماء فقط ، والتغيّر علّة لذلك ، سواء كان مأخوذا في لسان الدليل شرطا وعلّة أم كان مأخوذا قيدا ووصفا ؛ لأنّ الاعتبار بلحاظ عالم الخارج لا بلحاظ عالم الجعل واللحاظ.

٢٤١

والاجتهاد أو العلم المأخوذ في موضوع الحكم بتقليد الشخص العالم إن كان قابلا للاتّصاف بالحكم فهو حيثيّة تقييديّة وإلا فهو حيثيّة تعليليّة.

ومن الواضح أنّ الاجتهاد أو العلم يصحّ اتّصافه بالحكم فيقال : قلّد العلم أو الاجتهاد ، أو يقال : قلّد من يكون عالما ، ولا يقال : ( قلّد الشخص ) على الإطلاق.

وهذا يعني أنّه حيثيّة تقييديّة سواء أخذ في لسان الدليل وعالم الجعل شرطا وعلّة أم وصفا وقيدا.

وبهذا يظهر أنّ الضابط لكون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو كونها قابلة للاتّصاف بالحكم في الخارج أو غير قابلة لذلك ، وليس الضابط لذلك كونها مأخوذة في لسان الدليل وعالم الجعل شرطا أو قيدا ؛ لأنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يجري بلحاظ عالم المجعول والخارج لا عالم الجعل واللحاظ.

وهنا نواجه سؤالا آخر وهو : أنّ المعروض واقعا بأي نظر نشخّصه؟ هل بالنظر الدقيق العقلي ، أو بالنظر العرفي؟

مثلا : إذا أردنا في الشبهة الحكميّة أنّ نستصحب اعتصام الكرّ بعد زوال جزء يسير منه ـ فيما إذا احتملنا بقاء الاعتصام وعدم انثلامه بزوال ذلك الجزء ـ فكيف نشخّص معروض الاعتصام؟

فإنّنا إذا أخذنا بالنظر الدقيق العقلي وجدنا أنّ المعروض غير محرز بقاء ؛ لأنّ الجزء اليسير الذي زال من الماء يشكّل جزءا من المعروض بهذا النظر ، وإذا أخذنا بالنظر العرفي وجدنا أنّ المعروض لا يزال باقيا ببقاء معظم الماء ؛ لأنّ العرف يرى أنّه نفس الماء السابق.

والشيء نفسه نواجهه عند استصحاب الكريّة بعد زوال الجزء اليسير من الماء في الشبهة الموضوعيّة.

وهنا سؤال آخر : بعد أن عرفنا أنّ الضابط في تحديد كون الحيثيّة تعليليّة أو تقييديّة هو ملاحظة المعروض في الخارج ومدى اتّصاف الحيثيّة بالحكم ، نريد أن نشخّص هذا الضابط ؛ وذلك لأنّ تشخيص المعروض الخارجي إمّا أن يكون بالنظر العقلي الدقيق ، وإمّا أن يكون بالنظر العرفي المسامحي ، فإنّ هذين النظرين يختلفان في النتيجة.

٢٤٢

وبيان ذلك : إذا كان لدينا ماء بقدر كرّ فهو محكوم بالاعتصام وعدم الانفعال بملاقاة النجاسة ما لم يحصل التغيّر ، فإذا أخذنا من هذا الماء مقدارا يسيرا جدّا ـ كقبضة اليد مثلا ـ فشككنا في بقائه على صفة الاعتصام أو زوالها عنه بسبب فقدانه لذلك الجزء اليسير من الماء.

فهل يجري استصحاب الاعتصام بنحو الشبهة الحكميّة ، بأن يقال : إنّ هذا الماء كان معتصما والآن نشكّ في بقائه على الاعتصام بسبب فقدانه مقدارا يسيرا من الماء ، فيجري استصحاب الاعتصام؟ أو أنّ الاستصحاب لا يجري ؛ لأنّ الماء الذي كان معتصما هو الماء الواجد لهذا الجزء اليسير الذي أخذ منه ، والماء المشكوك كونه معتصما هو الماء الفاقد لهذا المقدار ، فلم يتّحد الموضوع أو القضيّة المتيقّنة والمشكوكة؟

وهنا الجواب يختلف باختلاف الميزان والضابط الذي على أساسه نشخّص المعروض في الخارج ، فنقول : إن كان الميزان هو النظر العقلي الدقيق ، كان الماء المحكوم بالاعتصام يقينا غير الماء المشكوك الاعتصام ، فالموضوع غير محرز أو المعروض ليس متّحدا ؛ لأنّ الجزء اليسير من الماء المأخوذ يعتبر جزءا من الماء ويشكّل جزءا من الكرّ المحكوم بالاعتصام ، فمع فقدانه يفقد الكرّ وبالتالي الاعتصام.

وإن كان الميزان هو النظر العرفي المسامحي ، فالماء أي المعروض للاعتصام لا يزال باقيا على حاله ؛ لأنّه يقال عرفا إنّ هذا الماء الفاقد لمقدار يسير لا يزال على الاعتصام ، بحيث إنّه يرى عرفا أنّ هذا الماء هو نفس ذلك الماء واستمرار له.

ونفس هذا الكلام يجري في الشبهات الموضوعيّة ، فيما إذا أردنا أن نستصحب بقاء الكرّيّة لهذا الماء بعد العلم بالكرّيّة ثمّ أخذ مقدار منه ، فإنّه يشكّ في بقاء الموضوع بناء على النظر العقلي الدقيق فلا يجري الاستصحاب ، بينما يكون الموضوع واحدا بناء على النظر العرفي المسامحي فيجري الاستصحاب.

والجواب : أنّ المتّبع هو النظر العرفي ؛ لأنّ دليل الاستصحاب خطاب عرفي منزّل على الأنظار العرفيّة ، فالاستصحاب يتّبع صدق النقض عرفا ، وصدقه كذلك يرتبط بانحفاظ المعروض عرفا.

والجواب : أنّ الميزان في تشخيص المعروض في الخارج هو النظر العرفي المسامحي.

والوجه في ذلك هو : أنّ دليل الاستصحاب عبارة عن خطاب بأمر عرفي ؛ لأنّ

٢٤٣

كبرى الاستصحاب أي ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) عبارة عن قاعدة مرتكزة في الذهن العرفي ، وهذا معناه أنّ ما يراه العرف نقضا لليقين بالشكّ يكون حراما ، وتشخيص كون هذا نقضا أو ليس نقضا بيد العرف ؛ لأنّ الاستصحاب منزّل على الفهم العرفي وعلى صدق النقض عرفا.

وعلى هذا الأساس فالمعروض الذي يشترط بقاؤه والحفاظ عليه هو ذاك المعروض الذي يراه العرف ثابتا ومحفوظا.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الثالث من أركان الاستصحاب.

* * *

٢٤٤

الأثر العملي

٢٤٥
٢٤٦

د ـ الأثر العملي

والركن الرابع من أركان الاستصحاب وجود الأثر العملي المصحّح لجريانه ، وهذا الركن يمكن بيانه بإحدى الصيغ التالية :

الركن الرابع من أركان الاستصحاب هو وجود أثر عملي يمكن التعبّد به.

والوجه في ركنيّة هذا الركن هو أنّ الأثر العملي يعتبر شرطا مصحّحا لجريان الاستصحاب ، إذ لو لم يكن هناك أثر عملي فلا يصحّ جريان الاستصحاب.

ثمّ إنّ هذا الركن توجد ثلاث صياغات له :

الأولى : أن ينتهى إلى التعبّد بأثر عملي ، ولعلّ هذا ما يظهر من مدرسة الميرزا.

الثانية : أن يكون المستصحب ذا أثر قابل للتنجيز أو التعذير ، ولعلّ هذا ما يختاره السيّد الشهيد.

الثالثة : أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، وهو المشهور بينهم كما يظهر من ( الكفاية ) وغيرها.

وتوجد فوارق عمليّة بين هذه الصياغات سوف تظهر لاحقا.

الأولى : أنّ الاستصحاب يتقوّم بلزوم انتهاء التعبّد فيه إلى أثر عملي ، إذ لو لم يترتّب أيّ أثر عمليّ على التعبّد الاستصحابي كان لغوا ، وقرينة الحكمة تصرف إطلاق دليل الاستصحاب عن مثل ذلك.

الصياغة الأولى : أن يكون التعبّد الاستصحابي مؤدّيا إلى التعبّد بأثر عملي ، أي أنّ جريان الاستصحاب متقوّم بوجود الأثر العملي لكي يصحّ التعبّد الاستصحابي ، إذ لو لم يكن هناك أي أثر عملي في البين لم يصحّ التعبّد بالاستصحاب في مثل تلك الموارد ؛ لأنّ شموله للموارد التي لا يوجد فيها أثر عملي لغو ولا فائدة منه.

ولذلك فمقدّمات الحكمة تصرف الإطلاق في دليل الاستصحاب من الموارد التي

٢٤٧

لا أثر عملي فيها إلى الموارد التي يوجد فيها أثر عملي ، فيكون الدليل مقيّدا بمقيّد لبّي متّصل به ، والذي يعني أنّ ظهور الدليل لا ينعقد في الإطلاق أصلا ومن أوّل الأمر ، بل ينعقد في المقيّد ابتداء.

وصياغة الركن بهذه الصيغة تجعله بغير حاجة إلى أيّ استدلال سوى ما ذكرناه ، وتسمح حينئذ بجريان الاستصحاب حتّى فيما إذا لم يكن المستصحب أثرا شرعيّا ، أو ذا أثر شرعي ، أو قابلا للتنجيز والتعذير بوجه من الوجوه ، على شرط أن يكون لنفس التعبّد الاستصحابي به أثر يخرجه عن اللغويّة ، كما إذا أخذ القطع بموضوع خارجي ـ لا حكم له ـ تمام الموضوع لحكم شرعي ، وقلنا بأنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي بدعوى أنّ المجعول فيه الطريقيّة ، فإنّ بالإمكان حينئذ جريان الاستصحاب لترتيب حكم القطع وإن لم يكن للمستصحب أثر.

وهذا معنى إمكان قيامه مقام القطع الموضوعي دون الطريقي في بعض الموارد.

وهذه الصياغة واسعة جدّا فهي تشمل كلّ الموارد ما عدا تلك التي يكون جريانه فيها لغوا ولا فائدة منه.

والدليل على هذا الركن بهذه الصياغة هو التمسّك بإطلاق أدلّة الاستصحاب الشاملة ، لعدم جواز نقض اليقين بالشكّ في كلّ الحالات ما عدا الحالات التي لا يوجد فيها أثر يصحّ التعبّد به وإلا لكان لغوا ، فمحذور اللغويّة ومقدّمات الحكمة تقتضي هذه الصياغة.

ثمّ إنّ صياغة الركن بهذا النحو تجعل الاستصحاب يجري في كلّ الموارد ، سواء كان هناك أثر شرعي مترتّب على المستصحب ، أم كان المستصحب نفسه حكما شرعيّا ، أو موضوعا لحكم شرعي ، أم كان المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ، أم لم يكن المستصحب شيئا من هذه الأمور أصلا شرط أن يكون هناك أثر على نفس التعبّد الاستصحابي لكي يخرج عن اللغويّة ويصحّ التعبّد به ، فيما إذا كان الأثر مترتّبا على نفس اليقين الاستصحابي لا على المستصحب.

مثال ذلك : أن يكون القطع بالموضوع الخارجي تمام الموضوع لحكم شرعي ، من دون أن يكون لنفس الموضوع الخارجي أثر شرعي ، فإنّنا لو فرضنا مثل هذا الموضوع

٢٤٨

فيكون القطع به هو تمام الموضوع ولا مدخليّة لهذا الموضوع الخارجي في موضوع الحكم.

فهنا إذا حصل لنا قطع وجداني بالموضوع الخارجي فلا إشكال في ترتّب الحكم المفترض ثبوته على هذا القطع.

وأمّا إذا لم يكن لدينا قطع فعلا بل كان لدينا قطع بالموضوع الخارجي سابقا والآن نشكّ ببقائه ، فهل يجري الاستصحاب أم لا؟

والجواب : أنّه على هذه الصياغة سوف يجري الاستصحاب ؛ لأنّه ينتهى به إلى التعبّد بأثر عملي ؛ لأنّنا إذا استصحبنا بقاء ذاك اليقين السابق فنصبح على يقين تعبّدي بذاك الموضوع الخارجي ، وهنا إذا قلنا ـ كما هي مقالة مدرسة الميرزا ـ إنّ المجعول في الاستصحاب هو العلميّة والكاشفيّة والطريقيّة وإنّ الاستصحاب كالأمارات يقوم مقام القطع الموضوعي ، فسوف يترتّب الحكم الثابت للقطع الحقيقي على القطع الثابت بالاستصحاب ، فيكون للتعبّد الاستصحابي نفسه أي لليقين التعبّدي أثر عملي يصحّح التعبّد به ، بينما نفس المستصحب أي ذاك الموضوع الخارجي لا أثر عملي له بحسب الفرض.

وهذا معنى ما يقال : إنّ الاستصحاب يقوم مقام القطع الموضوعي دون القطع الطريقي في بعض الموارد ، فإنّ هذا المورد يقوم فيه الاستصحاب نفسه أي اليقين التعبدي المفاد من دليل الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ، حيث فرضنا أنّ القطع تمام الموضوع لحكم ، ولكنّه لم يقم مقام القطع الطريقي ؛ لأنّ الموضوع الخارجي لا أثر عملي له بحسب الفرض.

الثانية : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير ، ولا يكفي مجرّد ترتّب الأثر على نفس التعبّد الاستصحابي.

ولا فرق في قابليّة المستصحب للمنجّزيّة والمعذّريّة بين أن تكون باعتباره حكما شرعيّا أو عدم حكم شرعي ، أو موضوعا لحكم أو دخيلا في متعلّق الحكم ، كالاستصحابات الجارية لتنقيح شرط الواجب مثلا إثباتا ونفيا.

الصياغة الثانية : أن يكون الاستصحاب ذا أثر تنجيزي أو تعذيري ، بمعنى أن يكون المستصحب قابلا للتنجيز أو التعذير ، فإذا لم يكن المستصحب قابلا لذلك لم

٢٤٩

يجر الاستصحاب حتّى لو فرض وجود أثر على نفس التعبّد الاستصحابي ، فإنّ هذا الأثر وحده لا يكفي في جريان الاستصحاب ما دام المستصحب غير قابل للتنجيز أو التعذير.

ثمّ إنّ كون المستصحب قابلا للتنجيز والتعذير يشمل عدّة موارد :

الأول : أن يكون المستصحب حكما شرعيّا كاستصحاب نجاسة الماء أو استصحاب وجوب الجمعة بعد زوال التغيّر أو بعد عصر الحضور.

الثاني : أن يكون المستصحب عدم حكم شرعي كاستصحاب عدم وجوب الحجّ عند الشكّ في تحقّق الاستطاعة.

الثالث : أن يكون المستصحب موضوعا لحكم شرعيّ كاستصحاب عدالة زيد التي هي موضوع لجواز الصلاة خلفه أو لقبول شهادته.

الرابع : أن يكون المستصحب دخيلا في متعلّق الحكم نفيا أو إثباتا كاستصحاب طهارة الثوب الدخيلة إثباتا في الصلاة ، أو استصحاب عدم الطهارة كذلك ، فإنّ الطهارة ثبوتا وانتفاء دخيلة في الواجب كالصلاة.

فهذه الاستصحابات كلّها ممّا يترتّب على المستصحب فيها أثر تنجيزي أو تعذيري ، فاستصحاب الحكم منجّز تارة إن كان الحكم إلزاميّا كالوجوب والحرمة ، ومعذّر أخرى بأن كان الحكم الجواز ، واستصحاب عدم الحكم معذّر ؛ لأنّه ينفي التكليف ، واستصحاب الموضوع تارة يكون منجّزا بأن كان موضوعا لحكم إلزامي ، وأخرى يكون معذّرا بأن كان موضوعا لحكم ترخيصي.

واستصحاب ما يكون دخيلا في متعلّق الحكم أي الواجب تارة يكون منجّزا كاستصحاب طهارة الثوب أو عدم طهارته ، فإنّ استصحاب طهارته تجعل المكلّف معذورا لو دخل في الصلاة بهذا الثوب ثمّ تبيّن نجاسته فيما بعد ، واستصحاب نجاسته تجعل المكلّف ملزما بتطهيره أو تبديله وعدم جواز الصلاة فيه.

ومدرك هذه الصيغة التي هي أضيق من الصيغة السابقة استظهار ذلك من نفس دليل الاستصحاب ؛ لأنّ مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، والنقض هنا ليس هو النقض الحقيقي ؛ لأنّه واقع لا محالة ولا معنى للنهي عنه ، وإنّما هو النقض العملي ، وفرض النقض العملي لليقين هو فرض أنّ اليقين ـ بحسب طبعه ـ له

٢٥٠

اقتضاء عملي لينقض عملا ، والاقتضاء العملي لليقين إنّما يكون بلحاظ كاشفيّته ، وهذا يفترض أن يكون اليقين متعلّقا بما هو صالح للتنجيز والتعذير لكي يشمله إطلاق دليل الاستصحاب.

والدليل على صحّة هذه الصياغة هو أنّ النقض الوارد في كبرى الاستصحاب ليس هو النقض الحقيقي وإنّما هو النقض العملي.

أمّا أنّ النقض الحقيقي غير ممكن أن يكون هو المراد ، فلأنّ النقض الحقيقي معناه أنّ الشارع حكم ببقاء اليقين عند الشكّ أو أنّه نهى عن نقض اليقين عند الشكّ.

وهذا المعنى غير معقول ؛ لأنّ اليقين منتقض حقيقة وتكوينا بسبب حصول الشكّ ، إذ لا يمكن اجتماع اليقين والشكّ معا ، ففرض حصول الشكّ معناه انتقاض اليقين من نفسه ، فلا معنى لأن يعبّدنا الشارع بعدم نقض اليقين ؛ لأنّه يكون من النهي عن شيء واقع لا محالة ، وهو خارج عن قدرة المكلّف.

وبتعبير آخر : أنّ النقض هنا واقع لا محالة لفرض الشكّ فلا يعقل النهي عن النقض الحقيقي لليقين ؛ لأنّه لما انتقض تكوينا بالشكّ فصار عدم نقضه تكليفا بما لا يطاق ولا يقدر المكلّف عليه.

وأمّا النقض العملي فهو المعقول فيكون المراد أنّ آثار اليقين لا يجوز نقضها ورفع اليد عنها بسبب الشكّ.

ومن الواضح أنّ الفرض المذكور لا يتمّ إلا إذا كان اليقين متعلّقا بشيء له أثر عملي تنجيزي أو تعذيري لكي يصحّ النهي عن نقضه ، وعليه فلا بدّ من فرض أن يكون لليقين اقتضاء عملي بالفعل لكي يصحّ نقضه بالشكّ ، وبالتالي يصحّ النهي الشرعي عنه ، وفرض الاقتضاء العملي لليقين لا يكون بلحاظ نفس اليقين ؛ لأنّ النقض العملي يقابله الجري العملي والجري العملي بلحاظ اليقين لا يكون بلحاظ اليقين نفسه ، بل بلحاظ المتيقّن ، وهذا يفترض أن يكون اليقين هنا ملحوظا بما هو كاشف وطريق عن المتعلّق.

وبهذا يكون النقض العملي لليقين بلحاظ كاشفيّته متوجّها في الحقيقة إلى آثار المتيقّن التنجيزيّة أو التعذيريّة ، فيكون دليل الاستصحاب شاملا لكلّ الموارد التي يكون فيها تنجيز وتعذير بلحاظ المتيقّن.

٢٥١

ولذلك لا بدّ من فرض المستصحب نفسه ذا أثر تنجيزي أو تعذيري لكون اليقين هنا ملحوظا بما هو كاشف ، ولا يصحّ جريان الاستصحاب في الموارد التي لا يكون فيها للمستصحب أي أثر ، بل كان الأثر بلحاظ نفس التعبّد الاستصحابي أي اليقين التعبّدي ؛ لأنّ هذا يعني ملاحظة اليقين الموضوعي وملاحظته كذلك معناها فرض النقض الحقيقي والذي تقدّم أنّه غير معقول.

وهذا البيان يتوقّف على استظهار إرادة النقض العملي من النقض بقرينة تعلّق النهي به ، ولا يتمّ إذا استظهر عرفا إرادة النقض الحقيقي مع حمل النهي على كونه إرشادا إلى عدم إمكان ذلك بحسب عالم الاعتبار ، فإنّ المولى قد ينهى عن شيء إرشادا إلى عدم القدرة عليه كما يقال في : ( دعي الصلاة أيّام أقرائك ) ، غاية الأمر أنّ الصلاة غير مقدورة للحائض حقيقة ، والنقض غير مقدور للمكلّف ادّعاء واعتبارا ، لتعبّد الشارع ببقاء اليقين السابق.

وبناء على هذا الاستظهار يكون مفاد الدليل جعل الطريقيّة ، ولا يلزم في تطبيقه على مورد تصوير النقض العملي والاقتضاء العملي.

إلا أنّ ما ذكرناه ـ من كون النقض هو النقض العملي لا الحقيقي ـ متوقّف على استظهار أن يكون المراد من النهي عن النقض هو النهي الحقيقي أي الحرمة الشرعيّة ، ولو بقرينة تعلّق النهي باليقين ، حيث قلنا : إنّ النهي عن نقض اليقين غير معقول ؛ لأنّ الانتقاض حاصل تكوينا لطروّ الشكّ فعلا ، فلا يمكن توجيه خطاب للمكلّف ينهاه عن نقض اليقين فإنّه غير مقدور له ، فالبيان المتقدّم يتمّ إذا كان المستظهر النهي الشرعي أي الحرمة التكليفيّة.

وأمّا إذا استظهر عرفا كون المراد من النهي هنا النهي الإرشادي فلا يتمّ ما ذكرناه ، بل يتمّ ما تقدّم في الصياغة الأولى لهذا الركن ؛ لأنّه بناء على النهي الإرشادي يكون المراد أنّ الشارع يرشدنا إلى عدم إمكان نقض اليقين بحسب عالم الاعتبار ، أي أنّه يرشدنا إلى أنّ النقض صار غير مقدور لنا بسبب أنّ الشارع قد عبّدنا ببقاء اليقين ، فيكون النقض خارجا عن قدرة المكلّف بسبب التعبّد الشرعي بعدم جواز النقض.

فكما أنّ عدم القدرة والعجز التكويني عن الفعل أو الترك لا يمكن تعلّق التكليف

٢٥٢

به فكذلك العجز الشرعي عن الفعل أو الترك ، فإنّه لا يكون المكلّف بلحاظه قادرا على الفعل أو الترك تعبّدا وإن كان قادرا على ذلك تكوينا.

فإذا قيل : ( لا تطر في الهواء ) كان هذا النهي متعلّقا بشيء غير مقدور للمكلّف تكوينا ؛ لأنّه غير قادر على الطيران واقعا فلا يمكن النهي عنه شرعا والتعبّد بعدمه.

وإذا قيل : ( دعي الصلاة أيّام أقرائك ) كان هذا النهي متعلّقا بشيء غير مقدور عليه شرعا ، أي أنّ الحائض بهذا الوصف لا يمكنها الإتيان بالصلاة ، فالصلاة غير مقدورة ولا يمكن للحائض الإتيان بها حقيقة ؛ لأنّ الصلاة يشترط فيها الطهارة وهي غير مقدورة للحائض حقيقة ، فإذا صلّت الحائض فهذه الصلاة ليست هي الصلاة المطلوبة شرعا ؛ لأنّها فاقدة للطهارة فهي لم تصلّ أصلا وإن أتت بشيء يشبه صورة الصلاة ، فواقعا وحقيقة لم تصلّ ولا تقدر على الصلاة.

وفي مقامنا إذا حملنا النقض على الإرشاد أي أنّ الشارع يرشدنا إلى أنّه لا يمكننا أن ننقض اليقين بالشكّ ، كان النقض غير مقدور لنا بسبب تعبّد الشارع ببقاء اليقين ، فعدم قدرتنا ليست تكوينيّة بل هي بسبب التعبّد والادّعاء الشرعي بأنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، ولذلك يكون اليقين باقيا على حاله ، وبالتالي تتمّ الصياغة الأولى بناء على استظهار جعل الطريقيّة والعلميّة في الاستصحاب كما هي مقالة السيّد الخوئي رحمه‌الله.

والحاصل : إننا أمام استظهارين :

الاستظهار الأوّل : أن يكون النهي تكليفيّا فهنا تتمّ الصياغة الثانية.

والاستظهار الثاني : أن يكون النهي إرشاديّا فتتمّ الصياغة الأولى.

ولكي نعيّن الصياغة الثانية لا بدّ من استظهار النهي التكليفي لا الإرشادي.

غير أنّه يكفي لتعيّن الصيغة الثانية في مقابل الأولى إجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين الموجب للاقتصار على المتيقّن منه ، والمتيقّن ما تقرّره الصيغة الثانية.

نعم ، يكفي لتعيّن الصيغة الثانية أن يكون الدليل مجملا ، فالنقض المنهي عنه في كبرى الاستصحاب كما يحتمل فيه النهي الحقيقي أي الحرمة التكليفيّة كذلك يحتمل فيه النهي الإرشادي ، فإذا لم يكن لدينا دليل على تعيين أحد الاحتمالين وقع التعارض بين الاستظهارين ويحكم بتساقطهما ، وصيرورة الدليل مجملا ، وعند إجمال الدليل يقتصر فيه على القدر المتيقّن من النقض.

٢٥٣

وهنا القدر المتيقّن هو كون النقض مسندا إلى اليقين بلحاظ كونه طريقيّا أو كاشفا وطريقا إلى المتعلّق ؛ لأنّ هذا هو المتيقّن من دليل الحجّيّة أي قيامها مقام القطع الطريقي ، وأمّا قيامها مقام القطع الموضوعي فيحتاج إلى الدليل الخاصّ وهو مفقود بحسب الفرض.

وعليه فنحصل على نفس نتيجة الصيغة الثانية من خلال إجمال الدليل والاقتصار فيه على القدر المتيقّن وهو النهي عن نقض اليقين بلحاظ كاشفيّته التي هي آثار المتيقّن ، فيكون المراد أنّه لا يجوز نقض اليقين بلحاظ آثار متيقّنه ، وبالتالي لا بدّ أن نفترض كون الآثار مترتّبة على المستصحب.

وأمّا الآثار المترتّبة على نفس الاستصحاب فهذه لا يشملها الدليل إلا إذا كان النقض مسندا إلى اليقين ذاته أي كان اليقين موضوعيّا ، وهذا يحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير موجود في المقام لإجمال الدليل وتردّده بين الاحتمالين.

الثالثة : أنّ الاستصحاب يتقوّم بأن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي. وهذه الصيغة أضيق من كلتا الصيغتين السابقتين.

ومن هنا وقع الإشكال في كيفيّة جريان الاستصحاب على ضوء هذه الصيغة في متعلّق الأمر قيدا وجزءا ، ـ من قبيل استصحاب الطهارة ـ مع أنّ الواجب ليس حكما شرعيّا ولا موضوعا يترتّب عليه حكم شرعي ؛ لأنّ الوجوب يترتّب على موضوعه لا على متعلّقه.

الصياغة الثالثة : وهي الصياغة المشهورة عندهم ومفادها : أنّ الاستصحاب متقوّم بأن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، كاستصحاب وجوب الجمعة في عصر الغيبة وكاستصحاب عدالة زيد ، فإنّ استصحاب وجوب الجمعة استصحاب لحكم شرعي ، واستصحاب عدالة زيد استصحاب لموضوع يترتّب عليه حكم شرعي كجواز الصلاة خلفه وقبول شهادته.

ولذلك فهذه الصياغة أضيق من الصيغتين السابقتين ؛ لأنّ الصياغة الأولى تشمل كلّ أثر عملي يترتّب على الاستصحاب ، سواء كان هذا الأثر للمستصحب أم للاستصحاب نفسه ؛ ولأنّ الصياغة الثانية تشمل كلّ أثر تنجيزي أو تعذيري يترتّب على المستصحب دون الاستصحاب نفسه ، وأمّا هذه الصياغة فهي لا تشمل إلا إذا

٢٥٤

كان المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، ولا تشمل كلّ أثر تنجيزي أو تعذيري سواء في المستصحب أو في الاستصحاب نفسه.

ومن هنا يرد إشكال على هذه الصياغة وهو أنّ المستصحب إذا كان قيدا أو شرطا أو جزءا من متعلّق الأمر ، فاللازم عدم جريان الاستصحاب لأنّ ما ذكر لا ينطبق عليها عنوان الحكم أو الموضوع.

وتوضيح ذلك : إذا قيل : ( تجب الصلاة ) فهنا الوجوب تعلّق بالصلاة ، وموضوع الوجوب هو الإنسان البالغ العاقل فيمكن جريان الاستصحاب في الوجوب أو البلوغ أو العقل عند الشكّ بها.

وأمّا بالنسبة للصلاة فهي مركّبة من قيود وشروط وأجزاء ، فالركوع والسجود ونحوهما أجزاء للصلاة ، والطهارة من الحدث والخبث شرط في الصلاة ، والاستقبال قيد أو شرط فيها.

وعلى هذا فلا يمكن جريان الاستصحاب في الطهارة ؛ لأنّها قيد للواجب وليست موضوعا للوجوب ولا حكما أيضا ، فكيف أجرى الإمام استصحاب طهارة الثوب في رواية زرارة الثانية في الفقرة الثالثة منها حيث قال : « تغسله ولا تعيد الصلاة » ، قلت : ولم ذلك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ».

والحال أنّ متعلّق الأمر ليس حكما شرعيّا كالصلاة فإنّها ليست حكما ، بل الحكم هو الوجوب وليست موضوعا للحكم الشرعي ، وإنّما الموضوع هو المكلّف ، فأجزاؤها وقيودها وشروطها لا يجري فيها الاستصحاب ؛ لأنّها تحقّق الامتثال وكيفيّته فقط وليست حكما ولا موضوعا للحكم.

وقد يدفع الإشكال بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط للأمر ، فهو موضوع لعدمه ، فيجري استصحابه لإثبات عدم الأمر وسقوطه.

وهذا الدفع بحاجة من ناحية إلى توسعة المقصود من الحكم بجعله شاملا لعدم الحكم أيضا ، وبحاجة من ناحية أخرى إلى التسليم بأنّ إيجاد المتعلّق مسقط لنفس الأمر لا لفاعليّته على ما تقدّم (١).

__________________

(١) في البحث الدليل العقلي من الحلقة الثانية ، تحت عنوان : مسقطات الحكم.

٢٥٥

وقد يجاب عن هذا الإشكال بما حاصله : أنّ متعلّق الأمر وإن لم يكن بنفسه حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعي ، إلا أنّه باعتبار آخر يكون وجوده دخيلا في الأمر ومن قيوده ، وذلك بأن يقال : إنّ الأمر إن وجد متعلّقه فهو يسقط ، فالأمر بالصلاة يسقط إذا أوجد المكلّف الصلاة ، وأمّا إذا لم يوجد الصلاة فالأمر بها باق ، وعليه فيكون استصحاب الطهارة باعتباره يرجع إلى تحقّق الصلاة بكامل شروطها وقيودها دخيلا في الموضوع ؛ لأنّه إذا كانت الصلاة عن طهارة فالمتعلّق متحقّق فالأمر ساقط.

وبهذا يكون وجود المتعلّق موضوعا لعدم الأمر والوجوب ، فيجري استصحابه لإثبات عدم الأمر وسقوطه.

وهذا من قبيل : الأمر بالعقيقة الذي أخذ فيه عدم إيجاد الأضحيّة ؛ لأنّ من ضحّى يسقط عنه الأمر بالعقيقة ، ولذلك فمن يحجّ ويذبح الأضحيّة يترتّب على ذلك سقوط الأمر بالعقيقة ؛ لأنّه أخذ في موضوع الأمر بها عدم الأضحيّة ، فمن شكّ في أنّه ضحّى أم لا وجرى استصحاب الأضحيّة أو استصحاب عدمها كان لهذا الاستصحاب مدخليّة في سقوط الأمر بالعقيقة أو بقائه ، مع أنّ المستصحب نفسه ليس إلا متعلّقا ؛ لأنّه جزء من أجزاء الحجّ وليس موضوعا ولا حكما.

وهذا الدفع للإشكال يتوقّف على أمرين :

الأوّل : أن يكون المراد من كون المستصحب حكما أو موضوعا الأعمّ من موضوع الحكم وموضوع عدم الحكم ، وهذا الأمر لا يبعد التسليم به وقبوله.

الثاني : أن يكون الأمر ساقطا إذا امتثل متعلّقه ، بمعنى أنّ امتثال المتعلّق مسقط للأمر. وهذا الأمر قد تقدّم الكلام عنه سابقا ، وقلنا : إنّ الامتثال والعصيان ليسا من مسقطات التكليف ، بل هما يسقطان التكليف عن الفاعليّة والمحرّكيّة لا عن مبادئه وملاكاته. فمن أدّى الصلاة يسقط التكليف عن تحريكه للصلاة لا أنّه يسقط التكليف رأسا ، وأنّه لا خطاب موجّه إليه ولو من ناحية المبادئ والملاكات. ولذلك لا يكون هذا الدفع تامّا.

والأولى في دفع الإشكال رفض هذه الصيغة الثالثة ، إذ لا دليل عليها سوى أحد أمرين :

٢٥٦

فالأحسن في الجواب عن هذا الإشكال هو رفض هذه الصياغة التي نشأ منها الإشكال ؛ لأنّ هذه الصياغة لا دليل عليها سوى أحد أمرين ، وكلاهما غير تامّ.

الأوّل : أنّ المستصحب إذا لم يكن حكما شرعيّا ولا موضوعا لحكم شرعي كان أجنبيّا عن الشارع فلا معنى للتعبّد به شرعا.

والجواب عن ذلك : أنّ التعبّد الشرعي معقول في كلّ مورد ينتهى فيه إلى التنجيز والتعذير ، وهذا لا يختصّ بما ذكر ، فإنّ التعبّد بوقوع الامتثال أو عدمه ينتهي إلى ذلك أيضا.

الأمر الأوّل : أنّ المستصحب إذا لم يكن موضوعا لحكم شرعي ، ولا حكما شرعيّا ؛ فلا معنى لأن يعبّدنا الشارع به ؛ لأنّه والحال هذه يكون أجنبيّا عن الشارع ، والتعبّد الشرعي إنّما يكون فيما إذا كان الشيء ممّا تناله يد الشارع بما هو شارع ، والشارع بهذا اللحاظ لا يجعل إلا الحكم وموضوعه ، فبإمكانه أن يعبّدنا بالموضوع أو بالحكم بقاء ، وأمّا غيرهما فلا تطالهما يد التعبّد ، وبالتالي يكون شمول دليل الاستصحاب لغير الموضوع والحكم لغوا ولا فائدة منه.

وجوابه : أنّ التعبّد الشرعي يعقل في كلّ مورد ينتهى فيه إلى أثر عملي تنجيزي أو تعذيري يترتّب على المستصحب ؛ لأنّ محذور اللغويّة أو مقدّمات الحكمة تفترض أن يكون المستصحب ذا أثر عملي ، إذ لو لم يكن كذلك كان التعبّد به لغوا وبلا فائدة وهو يتنافى مع الحكمة ومقدّماتها.

ثمّ إنّ الأثر العملي التنجيزي والتعذيري لا يختصّ في الموارد التي يكون المستصحب فيها حكما أو موضوعا ، بل يشمل كلّ مورد يترتّب عليه هذا الأثر ، ومنها استصحاب المتعلّق أو قيوده وشروطه وأجزائه ؛ لأنّها ممّا يترتّب عليها الأثر العملي.

فإذا عبّدنا الشارع بتحقّق الامتثال كان لهذا التعبّد أثر عملي تعذيري فيما إذا انكشف فيما بعد خلاف الواقع ، وإذا عبّدنا بعدم تحقّق الامتثال كان له أثر عملي تنجيزي في لزوم الإتيان بالمتعلّق أو بقيوده وشروطه وأجزائه.

الثاني : أنّ مفاد دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا ، فلا بدّ أن يكون المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ ليمكن جعل الحكم المماثل على طبقه.

٢٥٧

الأمر الثاني : أنّ يدّعى أن مفاد دليل الاستصحاب عبارة عن جعل الحكم المماثل على وفق المستصحب ظاهرا ، أي أنّ الشارع يجعل حكما مماثلا لمفاد دليل الاستصحاب ، فإن كان المستصحب حكما شرعيّا أو موضوعا لحكم شرعيّ أمكن جعل الحكم المماثل على وفق ذلك ؛ لأنّ الشارع يمكنه جعل الموضوع والحكم بلحاظ كونه مشرّعا دون غيرهما ، وأمّا إذا لم يكن المستصحب حكما ولا موضوعا لحكم فلا يمكن التعبّد الاستصحابي عندئذ ؛ لعدم إمكان جعل الحكم المماثل على وفق المستصحب.

والجواب عن ذلك : أنّه لا موجب لاستفادة جعل الحكم المماثل بعنوانه من دليل الاستصحاب ، بل مفاده النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، إمّا بمعنى النهي عن النقض العملي بداعي تنجيز الحالة السابقة بقاء ، وإمّا بمعنى النهي عن النقض الحقيقي إرشادا إلى بقاء اليقين السابق ، أو بقاء المتيقّن السابق ادّعاء.

وعلى كلّ حال فلا يلزم أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، بل أن يكون أمرا قابلا للتنجيز والتعذير لكي يتعلّق به التعبّد على أحد هذه الأنحاء.

وجوابه : أنّ جعل الحكم المماثل بعنوانه الخاصّ لم يرد في أدلّة الاستصحاب ، فلا يمكن استفادته منها بالخصوص ، وعليه فإمّا أن يدّعى أنّ جعل الحكم المماثل هو المستفاد من جعل الحكم الظاهري عموما ، وهذا ما تقدّم سابقا عدم صحّته ، وإمّا أن يدّعى ذلك في خصوص الاستصحاب ، وهذا لا يمكن المساعدة عليه ؛ لأنّ أدلّة الاستصحاب مفادها عدم نقض اليقين بالشكّ ، لا جعل الحكم المماثل بعنوانه.

وعدم نقض اليقين بالشكّ يوجد فيه ثلاثة احتمالات كلّها لا تتناسب مع جعل الحكم المماثل ، وهي :

١ ـ أن يكون المراد النهي الحقيقي أي الحرمة التكليفيّة ، وهي لا يمكن أن تتوجّه نحو النقض الحقيقي لليقين ، بل إلى النقض العملي بلحاظ كاشفيّة اليقين ، من أجل تنجيز الحالة السابقة بقاء ، أي الآثار التي كانت مترتّبة على الحالة السابقة ( المتيقّن ) حدوثا فهي لا تزال ثابتة بقاء.

٢ ـ أن يكون المراد الإرشاد إلى عدم القدرة على نقض اليقين ، فاليقين السابق لا يزال باقيا على حاله تعبّدا ، ولذلك لا يتمكّن المكلّف من نقضه ، وعليه فيكون الشاكّ

٢٥٨

فعلا كالمتيقّن ، وهذا إنّما يتمّ على مباني الميرزا ومدرسته من جعل العلميّة والطريقيّة لا جعل الحكم المماثل.

٣ ـ أن يكون المراد الإرشاد إلى بقاء المتيقّن السابق على حاله تعبّدا وادّعاء ، فيكون المستصحب كالمتيقّن ، وهذا يجعل الاستصحاب أصلا تنزيليّا أو أصلا محرزا.

وعلى هذه الاحتمالات الثلاثة لا يستفاد جعل الحكم المماثل ليلزم أن يكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم ، بل المستفاد من دليل الاستصحاب على جميع هذه الوجوه أن يكون المستصحب أمرا قابلا للتنجيز أو التعذير ، لكي يصحّ أن يتعلّق به التعبّد الشرعي بعدم جواز النقض حقيقة أو حكما ، ولا يختصّ ذلك بكون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.

وبهذا ينتهي الكلام عن الركن الرابع من أركان الاستصحاب ، وبه أيضا ينتهي الكلام عن أركان الاستصحاب.

* * *

٢٥٩
٢٦٠