شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

ثلاث ركعات فهو لا يزال في الرابعة ، وإن كان أربع ركعات فقد دخل في الخامسة ، وهنا يجري استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو استصحاب عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة ، وعلى أساس هذا الاستصحاب الثاني سوف يحصل المكلّف على علم تعبّدي بأنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ، وهذا يكفي لتصحيح الصلاة ؛ لأنّه ليس من الأصل المثبت أو اللازم العقلي.

والحاصل : أنّه يوجد لدينا استصحابان :

الأوّل : استصحاب عدم الإتيان بالرابعة.

والثاني : استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة ، ولذلك سوف يحرز تعبدا بأن التشهد والتسليم قد وقعا بعد الرابعة فتكون صلاته صحيحة.

ونلاحظ على هذا الجواب : أنّ الاستصحاب المذكور معارض باستصحاب عدم كونه في الرابعة ؛ لأنّه يعلم إجمالا بأنّه إمّا الآن أو قبل إيجاده للركعة المبنيّة على الاستصحاب ليس في الرابعة ، فيستصحب العدم ويتساقط الاستصحابان.

ويرد على هذا الجواب : أنّ استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة إلى الخامسة لو سلّم جريانه ، فهو معارض باستصحاب عدم دخوله في الرابعة أيضا.

والوجه فيه هو : أنّ المكلّف كما يعلم بأنّه قد دخل في الرابعة إمّا الآن حين الإتيان بالركعة المبنيّة على الاستصحاب وإمّا قبلها ، كذلك يعلم بأنّه لم يدخل في الرابعة إمّا الآن وإمّا قبل الإتيان بهذه الركعة ؛ لأنّه إن كان قد أتى بثلاث ركعات قبل هذه الركعة فهو لم يدخل في الرابعة ، وإن كان قد أتى بأربع ركعات فهو الآن لم يدخل في الرابعة بل في الخامسة ، وحيث إنّه يشكّ فيستصحب عدم إتيانه بالرابعة.

وهذا الاستصحاب يتعارض مع الاستصحاب الذي ذكره السيّد الخوئي ، ومع التعارض يحكم بتساقطهما ، وبعد التساقط لا يحرز أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة ، فتبقى ذمّته مشغولة فتجب الإعادة كما ذكر المحقّق العراقي.

وهذه المسألة ذكر نظيرها السيّد الخوئي عند الشكّ في يوم العيد ، فإنّه بعد يوم الشكّ سوف يحصل له علم بدخول يوم العيد إمّا الآن وإمّا سابقا ، فيستصحب

١٦١

دخول يوم العيد ، لكنّه ذكر أنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب عدم الدخول في يوم العيد إمّا الآن وإمّا سابقا ، فيستصحب عدم الدخول ويتعارض الاستصحابان ويتساقطان.

مضافا إلى أنّنا لو سلّمنا بجريان استصحاب عدم الدخول في الخامسة أو عدم الخروج من الرابعة ، وأنّه لا معارض له ، إلا أنّ هذا الاستصحاب لا يفيد ؛ لأنّه لا يثبت أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الركعة الرابعة إلا بنحو الأصل المثبت ، إذ غاية ما يثبت بالاستصحاب المذكور أنّه لم يدخل في الخامسة أو لم يخرج من الرابعة ، أمّا أنّ التشهّد والتسليم قد وقعا بعد الرابعة فهذا لازم عقلي ؛ لعدم الخروج من الرابعة أو لعدم الدخول في الخامسة وهو من الأصل المثبت ، والذي لا يكون حجّة.

كما يلاحظ على أصل الاعتراض : بأنّ إثبات اللازم العقلي بالاستصحاب ليس أمرا محالا ، بل محتاجا إلى الدليل ، فإذا توقّف تطبيق الاستصحاب في مورد الرواية على افتراض ذلك كانت بنفسها دليلا على الإثبات المذكور.

ويرد على اعتراض المحقّق العراقي : أنّ الأصل المثبت أو اللازم العقلي إنّما لا يكون حجّة لعدم الدليل على حجّيّته ، وأمّا لو فرض قيام الدليل على حجّيّته ، فلا مانع من التعبّد بثبوت اللازم العقلي حينئذ وكونه حجّة.

وليس هناك دليل على استحالة التعبّد باللازم العقلي ليكون كلّ لازم عقلي منتفيا ولا يثبت شرعا ، وعليه فإذا دلّ الدليل في مورد خاصّ على التعبّد باللازم العقلي فيؤخذ به. وهذا مقبول على نحو الكبرى.

وأمّا في مقامنا فقد ذكر المحقّق العراقي بأنّ هذه الرواية تعتبر دليلا خاصّا على ثبوت اللازم العقلي ؛ لأنّ تطبيق الاستصحاب في هذا المورد يتوقّف على ثبوت اللازم العقلي ، فيدور الأمر بين إلغاء الاستصحاب وبين الأخذ به بما له من أثر عقلي ، ثمّ أشكل عليه ولم يقبله.

الرواية الرابعة :

وهي رواية عبد الله بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر : إنّي أعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير ، فيرده عليّ فأغسله قبل أن أصلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « صلّ فيه ولا

١٦٢

تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه » (١).

وهذه الرواية وإن كانت مرويّة عن الأب وهو مجهول ، إلا أنّ الابن كان حاضرا وهذا يعني أنّه سمع المحاورة ، وهذا يكفي ؛ لأنّ عبد الله بن سنان من الرواة الأجلّة.

ومفادها : أنّه أعاره الثوب وهو طاهر ، ثمّ شكّ في نجاسته من جهة أنّه يشرب الخمر ونحوه ، وهنا حكم الإمام بالطهارة معلّلا ذلك بأنّك قد أعرته إيّاه وهو طاهر.

وأمّا دلالتها على الاستصحاب فيقال في تقريبها :

ولا شكّ في ظهور الرواية في النظر إلى الاستصحاب لا قاعدة الطهارة ، بقرينة أخذ الحالة السابقة في مقام التعليل ، إذ قال : « فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر » ، فتكون دالّة على الاستصحاب.

نعم ، لا عموم في مدلولها اللفظي ، ولكن لا يبعد التعميم باعتبار ورود فقرة الاستدلال مورد التعليل ، وانصراف فحواها إلى نفس الكبرى الاستصحابيّة المركوزة عرفا.

وهذه الرواية واضحة الدلالة في الاستصحاب ؛ وذلك لأنّه قد أخذ الحالة السابقة في التعليل ، أي بملاحظة كونه أعاره إيّاه وهو طاهر ولم يستيقن أنّه نجّسه ، فينبغي له الحكم ببقاء الطهارة ، ولا ينتقض يقينه بالطهارة بمجرّد الشكّ في أنّه نجّسه بسبب شربه للخمر ما دام لم يستيقن أنّه قد أصابه الخمر.

وليست ظاهرة في قاعدة الطهارة ؛ لأنّه لا يشترط في البناء على الطهارة أن يكون هناك حالة سابقة متيقّنة ، فسواء كان هناك يقين سابق بالطهارة أم لا فعند الشكّ في النجاسة العرضيّة يبني على الطهارة.

إلا أنّ الإمام هنا أورد الحالة السابقة في تعليله للحكم بالطهارة ، وهذا يدلّ على كون النكتة في حكمه هو وجود هذه الحالة السابقة ، وهذا يتناسب مع الاستصحاب لا قاعدة الطهارة.

يبقى أنّ هذه القاعدة المستفادة من الرواية قد يقال باختصاصها بالمورد ، إلا أنّ الصحيح إمكان تعميمها وذلك بملاحظة أمرين :

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ : ٥٢١ ، أبواب النجاسات ، ب ٧٤ ، ح ١.

١٦٣

الأوّل : أنّ هذه الفقرة وردت في التعليل والتعليل يعمّم حكم المورد لكلّ حالة من هذا القبيل.

الثاني : أنّ هذه الفقرة تتطابق بالمفاد والمدلول مع ما تقدّم من كبرى ( لا تنقض اليقين بالشك ) مع الاختلاف بالألفاظ ، وهذا يعني الإشارة إلى قاعدة مركوزة عرفا ، وهي ما تقدّمت الإشارة إليها من كونها كبرى الاستصحاب فالاستدلال تامّ.

هذا هو المهمّ من روايات الباب ، وهو يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب.

وبعد إثبات هذه الكبرى يقع الكلام في عدّة مقامات :

إذ نتكلم في روح هذه الكبرى وسنخها من حيث كونها أمارة أو أصلا.

وكيفيّة الاستدلال بها.

ثمّ في أركانها.

ثمّ في مقدار وحدود ما يثبت بها من آثار.

ثمّ في سعة دائرة الكبرى ومدى شمولها لكلّ مورد.

ثمّ في جملة من التطبيقات التي وقع البحث العلمي فيها.

فالبحث إذن يكون في خمسة مقامات كما يلي :

وبهذا ينتهي الكلام عن أدلّة الاستصحاب التي كان مهمّها هو الروايات ، فإنّ ما ذكرناه منها يكفي لإثبات كبرى الاستصحاب ، فلا حاجة للتطويل بذكر سائر ما ذكروه من أدلّة وروايات.

وبعد ذلك يقع البحث في عدّة أمور :

١ ـ كون الاستصحاب أمارة أو أصلا.

٢ ـ كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب على الأحكام الشرعيّة.

٣ ـ مقدار ما يثبت بالاستصحاب من الآثار واللوازم الشرعيّة والعقليّة والتكوينيّة.

٤ ـ الموارد التي تشملها قاعدة الاستصحاب ، وهل هو يجري في مطلق الشبهات أو خصوص الحكميّة أو الموضوعيّة؟

٥ ـ بعض التطبيقات التي وقع الخلاف أو الشكّ فيها.

* * *

١٦٤

الاستصحاب أصل أو أمارة

١٦٥
١٦٦

الاستصحاب أصل أو أمارة

قد عرفنا سابقا (١) الضابط الحقيقي للتمييز بين الحكم الظاهري في باب الأمارات والحكم الظاهري في باب الأصول ، وهو : أنّه كلّما كان الملحوظ فيه أهمّيّة المحتمل كان أصلا ، وكلّما كان الملحوظ قوّة الاحتمال وكاشفيّته محضا كان المورد أمارة.

تقدّم في الجزء السابق الفرق بين الأمارات والأصول ، وتوضيحه مختصرا أن يقال : إنّ الأحكام الظاهريّة يجعلها الشارع في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات عند اشتباهها وعدم تمييز المكلّف لها.

فحقيقة الحكم الظاهري كونه حكما مجعولا لحلّ هذا التزاحم من تقديم الأهمّ بنظر الشارع ، ولذلك فالحكم الظاهري حكم طريقي لا حقيقي ، أي أنّه طريق للكشف عن الأهمّ واقعا بنظر الشارع.

وعلى هذا الأساس فإنّ الأهمّيّة التي يلاحظها الشارع تتصوّر على أنحاء ثلاثة :

الأوّل : أن يلحظ قوّة المحتمل ونوعيّة الحكم المحتمل كأن يلحظ الشارع أهمّيّة ملاكات الإلزام فيجعل الاحتياط أو يلحظ نوع الأحكام الترخيصيّة بأن كانت ملاكاتها هي الأهمّ فيجعل البراءة ، وهذا ما يسمّى بالأصول العمليّة المحضة ، فالأهمّيّة هنا لوحظت على أساس المرجّح الكيفي.

الثاني : أن تلحظ قوّة الاحتمال والكاشفيّة بأن يلحظ الشارع كثرة المطابقة للواقع في هذا الكاشف ، فموارد الإصابة فيه أكثر من موارد الخطأ ولذلك يكون المرجّح هنا كمّيّا ، فيجعل الحجّيّة له من هذا الباب ، كخبر الثقة مثلا الذي جعلت له الحجّيّة على أساس كثرة الإصابة في أخبار الثقات فالملاحظ هو المرجّح الكمّي ، ولا مدخليّة

__________________

(١) في مباحث التمهيد من الجزء الأوّل للحلقة الثالثة ، تحت عنوان : الأمارات والأصول.

١٦٧

للكيفيّة فإنّ خبر الثقة كما يحكي عن الوجوب يحكي عن الحرمة ويحكي عن الإباحة والحلّيّة وما إلى ذلك ... وهذا ما يسمّى بالأمارات.

الثالث : أن تلحظ قوّة الاحتمال وقوّة المحتمل معا أي يلحظ المرجّحين الكمّي والكيفي ، ويكون جعل الحكم الظاهري على أساس هذين الأمرين معا ، أي أنّ هذا النحو ليس فيه كثرة المطابقة للواقع بحيث تكون هي ملاك الأهمّيّة ، وليس فيه نوع واحد من الأحكام يحكي عنه دائما بحيث تكون نوعيّة المحتمل هي الملاك ، وإنّما فيه من المرجّحين ، كما هو الحال في قاعدة الفراغ حيث لوحظ فيها كثرة الإصابة ؛ لأنّ الأغلب صحّة العمل عند الشكّ في صحّته بعد الفراغ منه ولوحظ فيها أنّ هذا العمل قد فرغ منه بحيث لو لم يفرغ منه فلا ترجيح لهذه القاعدة ، وهذا ما يسمّى بالأصول المحرزة أو التنزيليّة.

وعلى هذا نريد أن نعرف من أي قسم يكون الاستصحاب ، فهل هو أمارة أو أصل محض أو أصل محرز؟

وهذا يتطلّب أن نعرف حقيقة الاستصحاب وما هو الملاك الموجود فيه وما هو المحتمل وما هو الكاشف لنرى على أي أساس جعلت له الحجّيّة.

وعلى هذا الضوء إذا درسنا الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب واجهنا صعوبة في تعيين هويّتها ودخولها تحت أحد القسمين ؛ وذلك لأنّ إدخالها في نطاق الأمارات يعني افتراض كاشفيّة الحالة السابقة وقوّة احتمال البقاء مع أنّ هذه الكاشفيّة لا واقع لها ـ كما عرفنا في الحلقة السابقة (١) ـ ولهذا أنكرنا حصول الظنّ بسبب الحالة السابقة.

بعد أن عرفنا ملاك الأصل والأمارة نبحث في أنّ الكبرى المجعولة في دليل الاستصحاب هل تدخل في نطاق الأصول أو أنّها تدخل في نطاق الأمارات؟

والجواب : أنّه يوجد صعوبة في تحديد هويّة هذه الكبرى.

ووجه الإشكال هو : أنّنا إذا قلنا بأنّ هذه الكبرى داخلة في الأمارات فهذا يعني افتراض قوّة الاحتمال ووجود الكاشفيّة الظنّيّة في أنّ الحالة السابقة إذا وجدت فهي تبقى ، وهذا معناه ملاحظة الشارع للمرجّح الكمّي ، أي أنّ الأغلب هو وجود الظنّ بالبقاء عند الحدوث.

__________________

(١) تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

١٦٨

إلا أنّ هذه الكاشفيّة الظنّيّة لا واقع لها في الاستصحاب ؛ لأنّ أغلبيّة البقاء ليست مسلّمة مضافا إلى أنّ البقاء ليس مظنونا ، ولذلك ننكر إفادة الحالة السابقة بمجرّد حدوثها للظنّ بالبقاء ؛ لأنّ هذا يختلف باختلاف الحالة السابقة ، فمن الحالات السابقة إذا حدثت يعلم ببقائها ، ومنها إذا حدثت يعلم بارتفاعها.

وأمّا تعامل الناس على أساس البقاء عند الحدوث فهو إمّا لأجل الغفلة أو لأجل العادة والألفة.

ومن هنا يشكل إدخال الاستصحاب في الأمارات ؛ لعدم إحراز الظنّ بالبقاء عند الحدوث.

وإدخالها في نطاق الأصول يعني أنّ تفوّق الأحكام المحتملة البقاء على الأحكام المحتملة الحدوث في الأهمّيّة أوجب إلزام الشارع برعاية الحالة السابقة ، مع أنّ الأحكام المحتملة البقاء ليست متعيّنة الهويّة والنوعيّة ، فهي تارة وجوب ، وأخرى حرمة ، وثالثة إباحة ، وكذلك الأمر فيما يحتمل حدوثه ، فلا معنى لأن يكون سبب تفضيل الأخذ بالحالة السابقة الاهتمام بنوع الأحكام التي يحتمل بقاؤها.

وأمّا إذا قلنا بأنّ هذه الكبرى تدخل في الأصول ، فهذا يعني افتراض قوّة المحتمل ونوع الحكم الذي يحكي عنه الاستصحاب ، بمعنى أنّ الحالة السابقة كان يوجد فيها نوع واحد من الأحكام ، ولذلك رجّح الشارع الحكم بالبقاء تبعا لأهمّيّة هذا النوع ، على أساس المرجّح الكيفي.

إلا أنّ هذا غير صحيح ؛ لأنّ الحالة المحتملة البقاء ليس لها هويّة محدّدة ومشخّصة من جهة نوعيّة الحكم ؛ لأنّها تارة تكون وجوبا ، وأخرى حرمة ، وثالثة إباحة ورابعة ...

إلى آخره. فلا يمكن أن يكون الترجيح وملاحظة الأهمّيّة بنظر الشارع قائما على أساس الاهتمام بنوعيّة الحكم المحتمل ؛ لأنّه ليس واحدا ، نظير الحالة المحتملة الحدوث ابتداء ، فإنّها تختلف من حيث نوعيّة الأحكام المحتمل ثبوتها ، ولذلك لا يدخل في الأصول لعدم نوعيّة الحكم المحتمل.

وبعبارة أخرى : أنّ ملاك الأصل ـ وهو رعاية أهمّيّة المحتمل ـ يتطلّب أن يكون نوع الحكم الملحوظ محدّدا ، كما في نوع الحكم الترخيصي الملحوظ في أصالة

١٦٩

الحلّ ، ونوع الحكم الإلزامي الملحوظ في أصالة الاحتياط ، وأمّا إذا كان نوع الحكم غير محدّد وقابلا للأوجه المختلفة فلا ينطبق الملاك المذكور.

وبتعبير آخر : أنّ الملاك في الأمارات هو ملاحظة أهمّيّة الكاشف والاحتمال ، وهذا غير محرز في الحالة السابقة ، والملاك في الأصول هو ملاحظة أهمّيّة نوع الحكم المحتمل وهذا يعني افتراض نوع واحد من الأحكام ، كملاحظة نوع الحكم بالترخيص في البراءة أو ملاحظة نوع الحكم بالإلزام في الاحتياط ، وأمّا إذا كان الحكم مختلفا ومتعدّدا كما هو الحال في الحالة السابقة التي تحتمل أوجها متعدّدة من الأحكام فلا يحرز وجود الملاك ، فلا تدخل في الأصول كما لا تدخل في الأمارات.

ومن هنا نواجه مشكلة في هويّة الاستصحاب لا بدّ من حلّها لوجود ثمرات تترتّب على ذلك من أهمّها ثبوت اللوازم العقليّة والتكوينيّة أو عدم ثبوتها.

وحلّ الإشكال : أنّه بعد أن عرفنا أنّ الأحكام الظاهريّة تقرّر دائما نتائج التزاحم بين الأحكام والملاكات الواقعيّة في مقام الحفظ عند الاختلاط ، فبالإمكان أن نفترض أنّ المولى قد لا يجد في بعض حالات التزاحم قوّة تقتضي الترجيح لا بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ نفس الاحتمال ، وفي مثل ذلك قد يعمل نكتة نفسيّة في ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

وحلّ الإشكال هو : أنّنا عرفنا سابقا أنّ الأحكام الظاهريّة سواء الأمارات أم الأصول مجعولة في مقام التزاحم الحفظي عند اختلاط الملاكات والأحكام وعدم تمييزها من أجل إبراز ما هو الأهمّ من هذه الملاكات بنظر الشارع.

إذن فالأحكام الظاهريّة تعالج مسألة التزاحم الحفظي. وعليه فكما يمكن الترجيح بلحاظ قوّة المحتمل ونوع الحكم كما في الأصول ، وكما يمكن الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشف كما في الأمارات ، كذلك يمكن أن نفترض الترجيح بشيء آخر لا بنوع المحتمل ولا بقوّة الاحتمال ، وإنّما على أساس وجود نكتة نفسيّة ذاتيّة تقتضي بنظر الشارع ترجيح أحد الحكمين على الآخر عند التزاحم بينهما.

وبتعبير آخر : إذا لم توجد ملاكات الترجيح بلحاظ المحتمل ولا بلحاظ الاحتمال ، فبالإمكان أن يلجأ الشارع إلى الترجيح على أساس نكات نفسيّة وذاتيّة رآها أنّها تكفي وتصلح لأن تكون ملاكا لترجيح أحد الحكمين على الآخر ، فليس الأمر

١٧٠

محصورا بالملاكين السابقين للترجيح ولبيان الأهمّ ، بل يوجد ملاك آخر أيضا من الممكن أن يفرض الترجيح على أساسه ، ولذلك نقول :

ففي محلّ الكلام حينما يلحظ المولى حالات الشكّ في البقاء لا يجد أقوائيّة لا للمحتمل إذ لا تعيّن له ، ولا للاحتمال إذ لا كاشفيّة ظنّيّة له ، ولكنّه يرجّح احتمال البقاء لنكتة نفسيّة ولو كانت هي رعاية الميل الطبيعي العامّ إلى الأخذ بالحالة السابقة.

ولا يخرج الحكم المجعول على هذا الأساس عن كونه حكما ظاهريّا طريقيّا ؛ لأنّ النكتة النفسيّة ليست هي الداعي لأصل جعله ، بل هي الدخيلة في تعيين كيفيّة جعله.

وفي مقامنا نقول : إنّ الشارع عند ما يجعل الاستصحاب ويتعبّدنا ببقاء الحالة السابقة لا يكون ترجيحه لبقاء الحالة السابقة قائما على أساس أهمّيّة نوع الحكم المحتمل ؛ لأنّه لا يوجد نوع واحد من الأحكام ؛ لأنّ الحالة السابقة تتناسب مع جميع الأحكام ، ولا يكون ترجيحه لبقاء الحالة السابقة على أساس قوّة الاحتمال والكاشف ؛ لأنّه لا يوجد كاشفيّة ظنّيّة مفادها أنّ كلّ ما يوجد فهو يبقى.

وهذا يعني أنّ الشارع قد رجّح بقاء الحالة السابقة على أساس ملاكات ونكات نفسيّة ذاتيّة رآها موجودة عند النوع الإنساني ، ولعلّها هي ( الميل العرفي والطبع العامّ على الأخذ بالحالة السابقة ).

إلا أنّ هذه النكتة النفسيّة الذاتيّة النوعيّة لا تجعل الاستصحاب يثبت لنا أحكاما واقعيّة ، بل لا يخرج الحكم المجعول أي نفس الاستصحاب عن كونه حكما ظاهريّا طريقيّا ، أمّا كونه حكما ظاهريّا فلأنّ المفروض فيه الشكّ في الحكم الواقعي ، وأمّا كونه طريقيّا فلأنّه مجعول في مقام التزاحم الحفظي بين الملاكات الواقعيّة فهو طريق إليها.

وأمّا ما ذكر من النكتة النفسيّة فهي وإن كانت دخيلة في كيفيّة جعل الاستصحاب من حيث إنّها المرجّح لأهمّيّة احتمال البقاء ، إلا أنّها ليست هي الداعي والغرض والملاك لجعل الاستصحاب ، إذ الغرض من جعله هو علاج التزاحم الحفظي بين الملاكات ، وهذه النكتة دورها تعيين وترجيح أحد الاحتمالين أي بقاء الحالة السابقة لا ارتفاعها.

١٧١

وعلى هذا الأساس يكون الاستصحاب أصلا ؛ لأنّ الميزان في الأصل الذي لا تثبت به اللوازم على القاعدة عدم كون الملحوظ فيه قوّة الاحتمال محضا سواء كان الملحوظ فيه قوّة المحتمل أو نكتة نفسيّة ؛ لأنّ النكتة النفسيّة قد لا تكون منطبقة إلا على المدلول المطابقي للأصل فلا يلزم من التعبّد به التعبّد باللوازم.

وعلى هذا نعرف أنّ الاستصحاب أصل عملي ، ولكنّه ليس أصلا عمليّا محضا وليس أمارة أيضا ، بل هو برزخ بينهما ، والسرّ في ذلك هو أنّ الاستصحاب من جهة يشبه الأمارات ؛ لأنّه لا يوجد فيه نوع واحد من الأحكام وإنّما يثبت به أحكام متعدّدة ومختلفة ، ومن جهة أخرى يشبه الأصول ؛ لأنّه لا يثبت به لوازمه غير الشرعيّة.

ومن هنا يمكننا أن نعطي ضابطا آخر للأصول والأمارات وهو : إن كان الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال والكاشف فقط كان الحكم الظاهري المجعول إمارة ، وتثبت لوازمه الشرعيّة وغيرها ؛ لأنّ قوّة الكاشف والاحتمال نسبته إلى المدلول المطابقي والالتزامي على حدّ واحد.

وإن لم يكن الترجيح بلحاظ قوّة الاحتمال ، بل كان بلحاظ نوعيّة الحكم المحتمل أو كان بلحاظ نكات نفسيّة نوعيّة فيكون الحكم الظاهري المجعول أصلا عمليّا ، ولا تكون لوازمه غير الشرعيّة حجّة.

والاستصحاب من القسم الثاني ؛ لأنّ الترجيح فيه لم يكن على أساس قوّة الاحتمال إذ لا ظنّ بالبقاء دائما ، ولا على أساس نوعيّة الحكم المحتمل ؛ لأنّه لا يوجد فيه نوع واحد ، وإنّما على أساس النكتة النفسيّة ، وهذه النكتة لا تجعل لوازم الاستصحاب غير الشرعيّة حجّة ؛ لأنّه بالإمكان أن يتعبّدنا الشارع بالمدلول المطابقي فقط دون اللوازم الأخرى ما دام لا يوجد كاشفيّة في البين.

كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب :

وقد يتوهّم أنّ النقطة السابقة تؤثّر في كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب ، وبالتالي في كيفيّة علاج تعارضه مع سائر الأدلّة.

فإن افترضنا أنّ الاستصحاب أمارة ، وأنّ المعوّل فيه على كاشفيّة الحالة السابقة ، كان الدليل هو الحالة السابقة على حدّ دليليّة خبر الثقة ، ومن هنا يجب أن تلحظ النسبة بين نفس الأمارة الاستصحابيّة وما يعارضها من أصالة الحلّ مثلا ،

١٧٢

فيقدّم الاستصحاب بالأخصّيّة على دليل أصالة الحلّ ، كما وقع في كلام السيّد بحر العلوم انسياقا مع هذا التصوّر.

قد يقال : إنّ تحديد هويّة الاستصحاب من كونه أصلا أو أمارة يؤثّر على كيفيّة الاستدلال بالاستصحاب وعلى كيفيّة علاج التعارض بينه وبين الأدلّة الأخرى ؛ لأنّه يوجد لدينا فرضيّتان :

الفرضيّة الأولى : أن يكون الاستصحاب أمارة فالاستدلال على الحكم الشرعي به يختلف عمّا لو كان أصلا ؛ لأنّه لو كان أمارة فيكون الدليل على الحكم الشرعي هو نفس الاستصحاب كخبر الثقة ، ولو كان أصلا فالدليل على الحكم الشرعي هو الأدلّة والروايات الدالّة على الاستصحاب لا الاستصحاب نفسه ؛ لأنّه يكون حكما شرعيّا تعبّديّا ، هذا من ناحية كيفيّة الاستدلال.

وأمّا من ناحية التعارض بينه وبين سائر الأدلّة وعلاج هذا التعارض ، فقد يقال أيضا ـ كما عن السيّد بحر العلوم والإمام الخميني ـ : إنّ الاستصحاب لو كان أمارة بحيث كان الملحوظ فيه قوّة الاحتمال والكاشفيّة عن الحالة السابقة ، فيكون الدليل هو نفس الحالة السابقة ، لأنّها هي الكاشفة عن البقاء ، كما هو الحال في خبر الثقة ، فإنّ الدليل هو كونه ثقة ؛ لأنّ الوثاقة هي الحيثيّة الكاشفة عن الصدق والمطابقة للواقع.

وحينئذ يجب أن تلاحظ النسبة بين نفس الحالة السابقة وبين دليل أصالة الحلّ والبراءة ، كما هو الحال بالنسبة لخبر الثقة حيث تلحظ النسبة بين خبر الثقة وبين الأدلّة الدالّة على أصالة الحلّ والبراءة وغيرهما عند التعارض.

وفي هذه الحالة يتقدّم الاستصحاب بمعنى الحالة السابقة ؛ لأنّه أخصّ من دليل أصالة الحلّ والبراءة ، إذ دليل أصالة الحلّ يشمل كلّ مورد شكّ في حليّته وحرمته سواء كان له حالة سابقة أم لا ، بينما الحالة السابقة التي هي الأمارة الكاشفة لا تجري إلا إذا كان هناك حالة سابقة مشخّصة ، فتكون أخصّ من دليل أصالة الحلّ فتقدّم لذلك.

وإن افترضنا الاستصحاب أصلا عمليّا وحكما تعبّديّا مجعولا في دليله فالمدرك حينئذ لبقاء المتيقّن عند الشكّ نفس ذلك الدليل ، لا أماريّة الحالة السابقة ، وعند التعارض بين الاستصحاب وأصالة الحلّ يجب أن تلحظ النسبة بين دليل

١٧٣

الاستصحاب ـ وهو مفاد رواية زرارة مثلا ـ ودليل أصالة الحلّ ، وقد تكون النسبة حينئذ العموم من وجه.

الفرضيّة الثانية : أن يكون الاستصحاب أصلا عمليّا فهذا يعني أنّه حكم ظاهري تعبّدي مجعول من الدليل الدالّ عليه ، فيكون الدليل الدالّ على الحكم الشرعي ليس الاستصحاب نفسه أو الحالة السابقة ، وإنّما الدليل الدالّ على الاستصحاب.

ولذلك عند التعارض بين الاستصحاب وغيره من الأمارات والأصول لا بدّ أن تلحظ النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب ـ والتي هي الروايات المتقدّمة الذكر كصحيحة زرارة وغيرها ـ وبين الدليل الدالّ على أصالة الحلّ أو البراءة أو خبر الثقة نفسه ؛ لأنّ التعارض إنّما يكون بين الأدلّة لا بين المؤدّى والمحكي فيها مباشرة.

وحينئذ ، فإذا لاحظنا النسبة بين دليل أصالة الحلّ وبين دليل الاستصحاب ، وجدنا أنّها العموم والخصوص من وجه ؛ وذلك لأنّ دليل أصالة الحلّ يفيد حلّيّة كلّ مشكوك الحلّية والحرمة ، سواء كان له حالة سابقة أم لا ، ودليل الاستصحاب يفيد جريان الاستصحاب في كل مورد له حالة سابقة ، سواء كانت الحالة السابقة هي الحلّيّة أو الحرمة أو شيئا آخر غيرهما كالعدالة والطهارة ونحو ذلك ، فيجتمعان في مشكوك الحلّيّة والحرمة الذي له حالة سابقة ويقع التعارض بينهما ، ولا يتقدّم أحدهما على الآخر بنفسه. نعم ، إذا وجدت المرجّحات الأخرى في أحدهما فيقدّم.

وهذا التوهّم باطل فإنّ ملاحظة نسبة الأخصّيّة والأعمّيّة بين المتعارضين وتقديم الأخصّ من شئون الكلام الصادر من متكلّم واحد خاصّة ، حيث يكون الأخصّ قرينة على الأعمّ بحسب أساليب المحاورة العرفيّة.

ولمّا كانت حجّيّة كلّ ظهور منوطة بعدم ثبوت القرينة على خلافه ، كان الخبر المتكفّل للكلام الأخصّ مثبتا لارتفاع الحجّيّة عن ظهور الكلام الأعمّ في العموم ، وليست الأخصّيّة في غير مجال القرينيّة ملاكا لتقديم إحدى الحجّتين على الأخرى ، ولهذا لا يتوهّم أحد أنّه إذا دلّت بيّنة على أنّ كلّ ما في الدار نجس ، ودلّت أخرى على أنّ شيئا منه طاهر قدّمت الثانية للأخصّيّة ، بل يقع التعارض إذ لا معنى للقرينيّة مع فرض صدور الكلامين من جهتين.

ويرد على هذا القول : أنّ التقديم بملاك الأخصّيّة والأظهريّة أو التخصيص

١٧٤

والتقييد ، إنّما يكون فيما إذا كان هناك كلام صادر من متكلّم واحد ، دون ما إذا كان الكلام صادرا من متكلّمين أو من جهتين مختلفتين ، وهذا يعني أنّه يشترط وحدة المتكلّم إمّا شخصا وإمّا نوعا.

أمّا شخصا فواضح ، وأمّا نوعا فكالأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، فإنّ كلام أوّلهم كلام آخرهم.

وعليه فيجب إحراز هذا الأمر ليتمّ التقديم بملاك القرينيّة العرفيّة ، حيث يكون الأخصّ ونحوه من القرائن العرفيّة قرينة على تحديد المراد من العامّ بحسب الفهم العرفي العامّ ، وبحسب ما هو متعارف عليه في المحاورات.

والوجه في ذلك : هو أنّ حجّيّة كلّ ظهور فرع انعقاد ظهور للكلام وعدم وجود قرينة على خلافه ، فما لم ينعقد للكلام ظهور فلا يمكن التمسّك بحجّيّته ، وإذا كان هناك قرينة على خلافه فلا يكون ما ظهر منه سابقا على القرينة حجّة.

وعليه فيكون الكلام الأخصّ ونحوه رافعا لحجّيّة الكلام الأعمّ في العموم ؛ لاختلال شرط الحجّيّة.

ثمّ إنّ هذا التقديم بملاك الأخصّيّة ونحوها إنّما هو بملاك القرينيّة فقط ، ولذلك إذا لم يكن أحد الكلامين قرينة على الآخر فلا يكون الأخصّ مقدّما على الأعمّ ، من قبيل ما إذا قامت بيّنتان إحداهما تثبت نجاسة تمام ما في الدار بينما الأخرى تثبت طهارة أحد المواضع من الدار ، فهنا وإن كانت النسبة بين البيّنتين هي العموم والخصوص المطلق إلا أنّ الخاصّ لا يتقدّم على العامّ ؛ لأنّه ليس قرينة على تحديد المراد من العامّ ؛ لأنّ العامّ صادر من جهة والخاصّ صادر من جهة أخرى لا تتّحد مع الجهة الأولى لا شخصا ولا نوعا ، ولذلك يكون بين البيّنتين تعارض ، ولا مجال للجمع العرفي بينهما ؛ لأنّ مجال الجمع العرفي هو ما يكون قرينة أو ما يصلح للقرينيّة ، وهذا يستلزم صدور الكلام من متكلّم واحد ليكون كلامه مفسّرا بعضه للبعض الآخر.

وعلى هذا ففي المقام سواء قيل بأماريّة الاستصحاب أو أصليّته ، لا معنى لتقديمه بالأخصّيّة الملحوظة بينه وبين معارضه ، بل لا بدّ من ملاحظة النسبة بين دليله وما يعارضه من دليل الأصل أو دليل حجّيّة الأمارة ، فإن كان أخصّ قدّم بالأخصّيّة ؛

١٧٥

لأنّ مفاد الأدلّة كلام الشارع ، ومتى كان أحد كلاميه أخصّ من الآخر قدّم بالأخصّيّة.

وبناء عليه نقول : إنّ الاستصحاب سواء قلنا بأنّه أمارة أو أصل ، لا مجال لأن تلحظ النسبة بينه وبين ما يعارضه من أدلّة ليقال بتقديمه بملاك الأخصّيّة ، بل على كلا التقديرين لا بدّ أن تلحظ النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب وبين الدليل الدالّ على الأصل المعارض له أو الأمارة المعارضة له ، فإن كان أخصّ قدّم بملاك الأخصّيّة ، وإلا فلا. فهنا دعويان :

الأولى : عدم ملاحظة النسبة بين نفس الاستصحاب أو الحالة السابقة وبين ما يعارضه.

الثانية : لزوم ملاحظة النسبة بين الدليل الدالّ على الاستصحاب وبين الدليل الدالّ على معارضه.

أمّا الأولى فلأنّ الاستصحاب أو الحالة السابقة ليست كلاما صادرا من الشارع ، وإنّما هو دليل لإثبات المنجّزيّة أو المعذّريّة مستفاد من الأدلّة الدالّة عليه.

وأمّا الثانية فلأنّ النسبة تلحظ بين الكلامين الصادرين من متكلّم واحد ، وهنا الدليل الدالّ على الاستصحاب كرواية زرارة كلام صادر من الشارع ، والدليل على أصالة الحلّ كرواية ( كلّ شيء حلال حتّى تعلم أو تعرف ... ) كلام صادر من الشارع أيضا ، فيصحّ أن يكون أحدهما قرينة على الآخر لو كان أخصّ منه فيقدّم عليه لملاك الأخصّيّة.

وكذا يمكن أن تلحظ النسبة بين نفس الاستصحاب وبين نفس أصالة الحلّ أو البراءة.

* * *

١٧٦

أركان الاستصحاب

١٧٧
١٧٨

أركان الاستصحاب

وللاستصحاب على ما يستفاد من أدلّته المتقدّمة أربعة أركان وهي :

اليقين بالحدوث ، والشكّ في البقاء ، ووحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، وكون الحالة السابقة في مرحلة البقاء ذات أثر عملي مصحّح للتعبّد بها.

وسنتكلّم عن هذه الأركان فيما يلي تباعا إن شاء الله تعالى.

هناك أربعة أركان للاستصحاب بمعنى أنّ جريانه متوقّف على هذه الأربعة ، فلو اختلّ واحد منها لم يجر الاستصحاب ، لذلك لا بدّ من بسط الحديث حول هذه الأركان لنرى مدى دلالة الروايات عليها ، وأنّه هل يمكن استفادتها من الأدلّة المتقدّمة أم لا؟

وهذه الأركان على ما ذكر المشهور هي :

١ ـ اليقين بالحدوث ، فلا بدّ أن يكون هناك يقين بحدوث الحالة السابقة ، أي كون الحالة السابقة متيقّنة.

٢ ـ الشكّ في البقاء ؛ لأنّه لو كان البقاء معلوما أو كان الارتفاع معلوما فلا معنى للاستصحاب.

٣ ـ وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، أو وحدة الموضوع الذي يتعلّق به الشكّ واليقين ؛ لأنّه لو كان مختلفا وكان لكلّ منهما متعلّق يختلف عن الآخر لم يجر الاستصحاب.

٤ ـ وجود أثر عملي يصحّح التعبّد ببقاء الحالة السابقة عند استصحابها ، إذ لو لم يكن هناك أثر عملي لكان جريان الاستصحاب لغوا لا فائدة منه ، فلا بدّ من كون المستصحب إمّا حكما أو موضوعا لحكم أو جزء موضوع ونحو ذلك ممّا يكون له أثر عملي.

وتفصيل الكلام في هذه الأركان أن يقال :

١٧٩

أ ـ اليقين بالحدوث

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوّم للاستصحاب ، ومعنى ذلك أنّ مجرّد ثبوت الحالة السابقة في الواقع لا يكفي لفعليّة الحكم الاستصحابي لها ، وإنّما يجري الاستصحاب إذا كانت الحالة السابقة متيقّنة ؛ وذلك لأنّ اليقين قد أخذ في موضوع الاستصحاب في ألسنة الروايات ، وظاهر أخذه كونه مأخوذا على نحو الموضوعيّة لا الطريقيّة إلى صرف ثبوت الحالة السابقة.

ذهب المشهور إلى أنّ اليقين بالحدوث ركن مقوّم للاستصحاب ، وهذا معناه لزوم كون الحالة السابقة متيقّنة ، ومجرّد حدوث الحالة السابقة واقعا لا يكفي لجريان الاستصحاب والتعبّد بالبقاء فعلا ، والوجه عندهم في استفادة هذا الركن هو ظاهر أخذ اليقين في لسان الأدلّة التي دلّت على كبرى الاستصحاب ، كصحاح زرارة ثلاث المتقدّمة حيث ورد فيها « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » أو « ... وقد أحرز الثلاث ».

فهذه الروايات أخذت عنوان اليقين ، وظاهر أخذ اليقين عنوانا أنّه مأخوذ على نحو الموضوعيّة أي كونه جزءا من الموضوع ، فيكون الموضوع مركّبا من الحدوث واليقين ولا يكفي الحدوث فقط ؛ لأنّ الظاهر من أخذ القيد أو العنوان كونه دخيلا في الموضوع واقعا بنفسه ، لا بما هو طريق كاشف ومرآة حاكية عن المتعلّق الذي هو حدوث الحالة السابقة ، فإنّه وإن كان ممكنا ولكنّه على خلاف الظاهر.

وعلى هذا فلا بدّ من اشتراط اليقين بالحدوث ولا يكفي الظنّ بالحدوث أو نفس الحدوث الواقعي من دون يقين به.

نعم ، في رواية عبد الله بن سنان المتقدّمة علّل الحكم الاستصحابي بنفس الحالة السابقة في قوله : « لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر » لا باليقين بها ، وهو ظاهر في ركنيّة المتيقّن لا اليقين.

وتصلح أن تكون قرينة على حمل اليقين في سائر الروايات على الطريقيّة إذا تمّ الاستدلال بالرواية المذكورة على الكبرى الكلّيّة.

إلا أنّ كلام المشهور يواجه مشكلة ، وهي أنّه ورد في صحيحة ابن سنان تعليل الحكم المستصحب بأنّه كان على طهارة أي بنفس الحدوث لا باليقين بالحدوث ، كما

١٨٠