شرح الحلقة الثّالثة

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي

شرح الحلقة الثّالثة

المؤلف:

الشيخ حسن محمّد فيّاض حسين العاملي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٣

كذلك ، بل يعلم بارتفاعه في أثنائه ، فلا بدّ من الحديث عن كلّ حالة لنرى ما هو حكمها؟ ولذلك نقول :

ففي الحالة الأولى يحصل للمكلّف علم إمّا بوجوب الجامع بين الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامّة ، أو بوجوب الصلاة التامّة عند ارتفاع العجز ؛ لأنّ جزئيّة المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالجامع ، وإلا كان متعلّقا بالصلاة التامّة عند ارتفاع التعذّر.

وتجري البراءة حينئذ عن وجوب الزائد وفقا لحالات الدوران بين الأقلّ والأكثر.

ويلاحظ : أنّ التردّد هنا بين الأقلّ والأكثر يحصل قبل الإتيان بالأقلّ ، خلافا لحال الناسي ؛ لأنّ العاجز عن الجزء يلتفت إلى حاله حين العجز.

أمّا الحالة الأولى : وهي ما إذا كان التعذّر في جزء من الوقت ، وذلك بأن كان يعلم بأنّه سوف يرتفع عذره في أثناء الوقت ، كما إذا كان عاجزا فعلا عن القيام أو عن قراءة السورة أو عن الطهارة ، ولكنّه يعلم بأنّه سوف يصبح قادرا على القيام أو سوف يتمكّن من التعلّم أو سوف يحصل على الماء أو التراب فيما بعد ، والمفروض أنّه لا يعلم بأنّ هذا الجزء جزئيّته مطلقة أم مقيّدة بحال التمكّن فقط.

فهنا سوف يحصل للمكلّف علم إجمالي من أوّل الأمر دائر بين طرفين ، أحدهما وجوب الصلاة الناقصة حال العجز والصلاة التامّة أيضا بعد ارتفاع العجز ، والآخر وجوب الصلاة التامّة فقط بعد ارتفاع العجز والتعذّر.

والوجه في ذلك : أنّ جزئيّة الجزء المتعذّر عنه إن كانت ساقطة حال التعذّر ـ بأن كان دليل الجزئيّة مختصّا بحال التمكّن فقط ـ فهنا تكليفه إمّا الصلاة الناقصة حال العجز أو الصلاة التامّة بعد ارتفاعه أي يكون مخيّرا بين إحدى الصلاتين ، وهذا معناه أنّه مخاطب بالجامع بين الصلاتين لا بإحداهما بالخصوص.

وإن كانت جزئيّة الجزء المتعذّر عنه ثابتة حتّى في حال التعذّر ـ بأن كان دليل الجزئيّة شاملا لحالتي العجز والتمكّن ـ فهنا تكليفه وجوب الصلاة التامّة فقط تعيينا بعد ارتفاع عذره ؛ لأنّ الصلاة الناقصة ليست مطلوبة في هذه الحالة.

وعليه فيكون المورد من موارد الأقلّ والأكثر ، أي التعيين والتخيير ؛ لأنّ وجوب

١٠١

الجامع يعني كونه مخيّرا بين إحدى الصلاتين كلّ في موردها ، ووجوب الصلاة التامّة فقط يعني كون الواجب عليه تعيينا هو هذه الصلاة ولا تجزي عنها الصلاة الناقصة حتّى في حال العجز.

والحكم في مثل ذلك هو جريان البراءة عن الوجوب التعييني ؛ لأنّه ذو مئونة زائدة ، ولا تجري البراءة عن الوجوب التخييري ؛ إذ لا معنى لجريانها عنه كما تقدّم سابقا ، وبالتالي يكون هذا العلم الإجمالي منحلاّ حكما.

وبهذا يظهر أنّ العاجز عن الجزء الذي يعلم بارتفاعه فيما بعد كالناسي الذي يرتفع نسيانه في الوقت أيضا ، من جهة أنّ حكمهما هو البراءة عن التكليف الزائد والاكتفاء بالصلاة الناقصة.

إلا أنّهما يختلفان في مسألة ، وهي أنّ الدوران بين الأقلّ والأكثر بالنسبة للناسي الذي ارتفع عذره في الأثناء إنّما يحصل بعد الفراغ من الصلاة الناقصة كما تقدّم ؛ لأنّ الناسي لا يلتفت إلى كونه ناسيا إلا بعد الفراغ من الصلاة.

وأمّا الدوران بين الأقلّ والأكثر بالنسبة للعاجز فهو موجود قبل الإتيان بالصلاة الناقصة ؛ لأنّ العاجز يلتفت إلى كونه عاجزا عن الجزء من أوّل الأمر وقبل الشروع في الصلاة.

وهذا الفرق يجعل الناسي أحسن حالا من العاجز ؛ لأنّ الدوران كان بعد امتثال أحد الطرفين فلا شبهة في جريان البراءة عن الطرف الآخر ؛ لأنّه يكون شكّا في الزائد بدوا ، وأمّا هنا فالدوران قبل الامتثال فيمكن أن يقال بوجود علم إجمالي منجّز ، إلا أنّه منحلّ حكما لانهدام ركنه الثالث ، حيث إنّ البراءة لا يعقل جريانها عن الوجوب التخييري.

وفي الحالة الثانية يحصل للمكلّف علم إجمالي إمّا بوجوب الناقص في الوقت أو بوجوب القضاء إذا كان للواجب قضاء ؛ لأنّ جزئيّة المتعذّر إن كانت ساقطة في حال التعذّر فالتكليف متعلّق بالناقص في الوقت ، وإلا كان الواجب القضاء ، وهذا علم إجمالي منجّز.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان العجز والتعذّر مستوعبا لتمام الوقت ، بأن كان يعلم بأنّه لن يرتفع عجزه عن القيام في هذا اليوم ، بل سوف يستمرّ أيّاما ، فهنا سوف

١٠٢

يحصل للمكلّف العاجز عن القيام علم إجمالي دائر بين طرفين ، أحدهما وجوب الصلاة الناقصة في الوقت ، والآخر وجوب الصلاة التامّة خارج الوقت أي بعد ارتفاع عذره.

والوجه في ذلك : أنّ دليل الجزئيّة إن كان مطلقا حتّى لحالة العجز فلا تكليف عليه بالصلاة أصلا في الوقت ؛ لأنّه غير قادر على الإتيان بالصلاة التامّة فيه ، والمفروض أنّ الصلاة الناقصة لا تكفي ، وإن كان مختصّا بحالة التمكّن فقط فهو مكلّف بالصلاة الناقصة حال العجز في الوقت.

وهذا العلم الإجمالي دائر بين المتباينين فيكون منجّزا لهما ، وبالتالي يجب الاحتياط بالإتيان بالصلاة الناقصة في الوقت والصلاة التامّة خارج الوقت ، فتتحقّق الموافقة القطعيّة حينئذ.

وليعلم أنّ الجزئيّة في حال النسيان أو في حال التعذّر إنّما تجري البراءة عند الشكّ فيها إذا لم يكن بالإمكان توضيح الحال عن طريق الأدلّة المحرزة ، وذلك بأحد الوجوه التالية :

أوّلا : أن يقوم دليل خاصّ على إطلاق الجزئيّة أو اختصاصها ، من قبيل حديث « لا تعاد الصلاة إلا من [ خمسة ] » (١).

وهنا تنبيه ، وحاصله أن يقال : إنّ ما تقدّم من كلام كان بلحاظ الأصول العمليّة حين الانتهاء إليها.

وأمّا مقتضى الأصل اللفظي في المقام فهو يتحدّد وفقا لما يدلّ عليه هذا الدليل ، ومعه لا مجال للأصول العمليّة أصلا ، وهذا واضح ؛ لأنّ الأصول العمليّة تحدّد الوظيفة عند الشكّ في الحكم وعدم وجود دليل عليه ، فمع وجود الدليل المحرز على الحكم الشرعي يؤخذ به ويرتفع موضوع الأصل حقيقة.

فالكلام إذن عن الأصل اللفظي ، وهذا يمكن بيانه بأحد الوجوه التالية :

الوجه الأوّل : أن يقوم دليل من الخارج يدلّ على أنّ هذه الجزئيّة للجزء مطلقة أو أنّ جزئيّة الجزء مختصّة بحال التمكّن والتذكّر فقط ، من قبيل الحديث المشهور « لا تعاد الصلاة إلا من خمس ... » فإنّه يدلّ على أنّ هذه الأجزاء الخمسة تجب إعادة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ : ٣١٢ ، أبواب القبلة ، ب ٩ ، ح ١.

١٠٣

الصلاة فيها أي بسببها ، فإذا لم تكن موجودة كلاّ أو بعضا فالصلاة تجب أن تعاد ، وهذا معنى كون جزئيتها مطلقة وشاملة لحالتي النسيان والتعذّر أيضا.

وأمّا غير هذه الخمس فالصلاة لا تعاد فيها أي أنّه إذا نسيها أو تعذّرت فلا تجب إعادة الصلاة بسببها ، وهذا يعني أنّ جزئيّتها مختصّة بحال التمكّن والتذكّر فقط ، فلا تجب الإعادة ويكتفى بما أتى به من صلاة ناقصة.

ثانيا : أن يكون لدليل الجزئيّة إطلاق يشمل حالة النسيان أو التعذّر فيؤخذ بإطلاقه ، ولا مجال حينئذ للبراءة.

الوجه الثاني : أن يكون لنفس الدليل الدالّ على جزئيّة الجزء إطلاق يشمل حالتي النسيان والعجز ، فهنا يؤخذ بإطلاق هذا الدليل لإثبات كون المركّب الفاقد للجزء غير مأمور به ، وأنّه لا بدّ من الإعادة مع الجزء عند ارتفاع النسيان أو العجز ، من قبيل : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » الدالّ على أنّ جزئيّة الفاتحة مطلقة لجميع الحالات وليست مختصّة بحال دون آخر.

ثالثا : ألاّ يكون لدليل الجزئيّة إطلاق بأن كان مجملا من هذه الناحية ، وكان لدليل الواجب إطلاق يقتضي في نفسه عدم اعتبار ذلك الجزء رأسا.

ففي هذه الحالة يكون دليل الجزئيّة مقيّدا لإطلاق دليل الواجب بمقداره ، وحيث إنّ دليل الجزئيّة لا يشمل حال التعذّر أو النسيان فيبقى إطلاق دليل الواجب محكّما في هاتين الحالتين ودالاّ على عدم الجزئيّة فيهما.

الوجه الثالث : ألاّ يكون هناك دليل من الخارج يدلّ على الإطلاق لهذا الجزء ، ولا يكون نفس دليل الجزئيّة مطلقا أيضا بأن كان مجملا ، فهنا سوف نواجه دليلين هما : دليل جزئيّة الجزء المجمل ، ودليل الأمر بالمركّب الواجب.

أمّا دليل الأمر بالمركّب الواجب فهو من قبيل قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) الدالّ بإطلاقه على وجوب إقامة الصلاة بأركانها المقوّمة لها في جميع الحالات ، وهذه الأركان المقوّمة للصلاة هي : ( تكبيرة الإحرام والفاتحة والركوع والسجود والتسليم ) ، فهذه تجب إقامتها مطلقا في جميع الحالات ، سواء كان الجزء موجودا أم لا وسواء نسيه أو عجز عنه أم لا.

وأمّا دليل الأمر بالجزء فهو مقيّد لإطلاق الأمر بالصلاة الشامل للصلاة مع هذا الجزء وللصلاة من دونه ، ويخصّصه بالصلاة المقيّدة بهذا الجزء.

١٠٤

ولكن حيث إنّ دليل الجزئيّة مجمل فيقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهو جزئيّة الجزء في حال التمكّن منه وفي حال تذكّره فقط لا مطلقا ، إذ لا إطلاق فيه.

وعليه فيكون إطلاق الأمر بالصلاة مقيّدا بحال التمكّن من هذا الجزء وفي حال تذكّره فقط ، وأمّا في غير هاتين الحالتين أي في حالة التعذّر والنسيان فلا يكون إطلاق الأمر بالصلاة مقيّدا بالجزء ؛ لأنّ المقدار الثابت تقيّده بذلك الجزء هو حالتا التذكّر والنسيان ؛ لأنّهما القدر المتيقّن لدليل الجزئيّة المجمل.

وفي غير هاتين الحالتين يشكّ في أصل وجود المقيّد للإطلاق ، وفي مثل ذلك يتمسّك بالإطلاق ؛ لأنّه حجّة ولا يرفع اليد عمّا يكون حجّة إلا بحجّة أخرى ، والمفروض أنّ الحجّة الأخرى وهي التقييد لم تثبت فالإطلاق إذن مستحكم في المقام ، فيثبت بمدلوله المطابقي وجوب إقامة ماهيّة الصلاة ، أي الصلاة بأركانها المقوّمة لها ، وهذا يدلّ بالالتزام على أنّ الجزء ليس جزءا في حالتي النسيان والعجز ؛ لأنّه منفي بالإطلاق.

وهذا يعني أنّه شامل للموردين ، ولازمه سقوط جزئيّة الجزء في حالتي التعذّر والنسيان ، ووجوب الإتيان بالمركّب الفاقد لهذا الجزء في الحالتين المذكورتين. وهذا المعنى نتيجته الاختصاص لا الإطلاق.

* * *

١٠٥
١٠٦

الاستصحاب

١ ـ أدلّة الاستصحاب

٢ ـ الاستصحاب أصل أو أمارة؟

٣ ـ أركان الاستصحاب

٤ ـ مقدار ما يثبت بالاستصحاب

٥ ـ عموم جريان الاستصحاب

٦ ـ تطبيقات

١٠٧
١٠٨

أدلّة الاستصحاب

الاستصحاب قاعدة من القواعد الأصوليّة المعروفة ، وقد تقدّم في الحلقة السابقة الكلام عن تعريفه والتمييز بينه وبين قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع (١).

والمهمّ الآن استعراض أدلّة هذه القاعدة ، ولمّا كان أهمّ أدلّتها الروايات فسنعرض فيما يلي عددا من الروايات التي استدلّ بها على الاستصحاب كقاعدة عامّة :

الاستصحاب من أهمّ القواعد الأصوليّة المتأصّلة والمعروفة عند الأصحاب ، وإن اختلفت كلمات القدماء عن المتأخّرين في التعبير عنه.

والاستصحاب هو الحكم بإبقاء ما كان أو مرجعيّة الحالة السابقة ، أي أنّ ما وجد سابقا يحكم ببقائه لاحقا عند الشكّ به.

وأمّا الفرق بين الاستصحاب وغيره من القواعد كقاعدتي اليقين والمقتضي والمانع فقد تقدّم الكلام عنه في الحلقة السابقة وخلاصته أن يقال :

أوّلا : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين ، وهو من جهتين :

الأولى : من حيث المتعلّق ، فإنّ اليقين والشكّ في الاستصحاب يختلف متعلّقهما بلحاظ الزمان ، فاليقين متعلّق بالزمان السابق والشكّ متعلّق بالزمان اللاحق ، بخلاف اليقين والشكّ في قاعدة اليقين ، فإنّ متعلّقهما واحد أي أنّ نفس ما تعلّق به اليقين موضوعا وزمانا هو أيضا ما تعلّق به الشكّ ، بمعنى أنّ الشكّ سرى إلى اليقين فصار اليقين مشكوكا.

__________________

(١) بحث الأصول العمليّة من الحلقة الثانية ، تحت عنواني : تعريف الاستصحاب ، والتمييز بين الاستصحاب وغيره.

١٠٩

الثانية : من حيث الملاك ، فإنّ الملاك في الاستصحاب هو أنّ الغالب فيما وجد أن يبقى ، بينما الملاك في قاعدة اليقين هو أنّ الغالب في اليقين أن يكون صحيحا ومطابقا للواقع.

ثانيا : الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع ، وهو من جهتين أيضا :

الأولى : من حيث المتعلّق ، فإنّ المتعلّق في الاستصحاب متّحد ذاتا بين اليقين والشكّ بالنسبة للقضيّة ، بينما المتعلّق في قاعدة المقتضي والمانع متعدّد ذاتا ، فإنّ اليقين متعلّق بالمقتضي والشكّ متعلّق بالمانع.

الثانية : من حيث الملاك ، فملاك الاستصحاب غلبة ما يوجد يبقى ، بينما ملاك القاعدة غلبة عدم وجود المانع أو غلبة وجود المقتضى عند وجود المقتضي.

والآن نريد أن نتحدّث عن أدلّة الاستصحاب ، وهي ثلاثة :

١ ـ حجّيّة الاستصحاب من باب إفادته للظنّ.

٢ ـ حجّيّة الاستصحاب من باب السيرة العقلائيّة.

٣ ـ حجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار والروايات.

أمّا حجّيّة الاستصحاب من باب إفادته للظنّ فهي تتوقّف على أمرين :

أوّلا : أنّ الحالة السابقة تفيد الظنّ ببقائها.

ثانيا : أنّ مثل هذا الظنّ حجّة شرعا.

إلا أنّ كلا الأمرين غير تامّ ؛ وذلك لأنّ الحالة السابقة بمجرّد حدوثها لا تفيد الظنّ ببقائها ، بل يختلف ذلك بحسب تلك الحالة ونوعيّتها ، وهل هي ممّن له قابليّة البقاء أو لا؟

وأمّا الظنّ المستفاد من الحالة السابقة الحادثة فهو إمّا أن يكون ظنّا نوعيّا ، وإمّا أن يكون ظنّا شخصيّا ، والأوّل يحتاج إلى حجّيّة مطلق الظنّ ، والذي لم يتمّ كما تقدّم في محلّه ، والثاني يحتاج إلى دليل خاصّ وهو غير ثابت.

وأمّا حجّيّة الاستصحاب من باب السيرة العقلائيّة فهي تتوقّف على أمرين أيضا :

الأوّل : إثبات أنّ العقلاء يبنون على بقاء الحالة السابقة من باب الاستصحاب لا من ملاك آخر.

الثاني : إثبات عدم الردع الكاشف عن الإمضاء.

١١٠

أمّا الأوّل فقد يسلّم به رغم وجود احتمالات كثيرة في تفسير هذا البناء غير احتمال بقاء الحالة السابقة ، إلا أنّها لا تضرّ ما دام هذا البناء منعقدا بالفعل عندهم على أساس الظنّ الناشئ من ذلك ، لا على أساس الاطمئنان أو الاحتياط كما ادّعى البعض.

وأمّا الثاني فقد يناقش في إمضاء الشارع لهذه السيرة ، بمعنى أنّ الآيات الناهية عن العمل بالظنّ تردع عن العمل بالسيرة العقلائيّة المنعقدة على الاستصحاب ، ومعها لا تكون مثل هذه السيرة حجّة.

وأمّا حجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار والروايات فهي العمدة في المقام ، ولذلك سوف نستعرض أهمّ الروايات التي استدلّ بها الأصحاب على هذه القاعدة فنقول :

الرواية الأولى :

رواية زرارة : قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : « يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء » ، قلت : فإن حرّك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلا فإنّه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما تنقضه بيقين آخر » (١).

وتقريب الاستدلال : أنّه حكم ببقاء الوضوء مع الشكّ في انتقاضه تمسّكا بالاستصحاب.

الاستدلال بهذه الرواية على الاستصحاب واضح ؛ لأنّ الإمام عليه‌السلام قد حكم فيها ببقاء الوضوء الذي كان على يقين منه على حاله عند الشكّ في ارتفاعه وانتقاضه ، مستندا في ذلك على الاستصحاب حيث عبّر عن ذلك بقوله : « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » ، الدالّ على أنّ الوضوء يحكم ببقائه وعدم انتقاضه بسبب كونه متيقّنا به في السابق ، ومجرّد الشكّ به لا يوجب ارتفاعه وانتقاضه.

إلا أنّه توجد بعض الإشكالات ، من قبيل احتمال كون المقصود منها قاعدة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

١١١

المقتضي والمانع ؛ لأنّ الشكّ في بقاء الوضوء إنّما يكون لأجل الشكّ في وجود المانع والرافع له كالنوم مثلا.

والصحيح : أنّ الوضوء من الأفعال التي لها استمراريّة ودوام ؛ لأنّ المقصود به الطهارة لا خصوص الغسل والمسح ، وعليه فيكون الشكّ متعلّقا بنفس ما تعلّق به اليقين ، أي أنّه تيقّن بالوضوء وشكّ في الوضوء أيضا.

وقد يستشكل أيضا بأنّه لما ذا لم يستصحب عدم النوم فإنّه أصل موضوعي مقدّم على استصحاب نفس الوضوء والذي هو مسبّب عن عدم النوم؟

والصحيح : أنّ الأصل السببي ليس حاكما ومقدما على الأصل المسبّبي دائما ، وإنّما إذا كانا متخالفين فقط دون المتوافقين ، وسيأتي تفصيل ذلك في باب التعارض.

وبهذا يظهر أنّ دلالة الرواية على الاستصحاب واضحة.

يبقى أنّ هذه الرواية هل تدلّ على الاستصحاب في باب الوضوء خاصّة أو أنّها تعمّ جميع الأبواب أيضا؟

وظهور التعليل في كونه بأمر عرفيّ مركوز يقتضي كون الملحوظ فيه كبرى الاستصحاب المركوزة لا قاعدة مختصّة بباب الوضوء ، فيتعيّن حمل ( اللام ) ـ في اليقين والشكّ ـ على الجنس لا العهد إلى اليقين والشكّ في باب الوضوء خاصّة.

وقد تقدّم في الحلقة السابقة (١) تفصيل الكلام عن فقه فقرة الاستدلال وتقريب دلالتها وإثبات كلّيّتها فلاحظ.

قد يستشكل على عموم هذه القاعدة بأنّها مختصّة بباب الوضوء استنادا إلى أنّ ( اللام ) للعهد لا للجنس ، حيث إنّ الإمام عليه‌السلام ذكر « وإلا فإنّه على يقين من وضوئه » فاليقين هنا متعلّق بالوضوء ، ثمّ ذكر « ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ » فأشار إلى اليقين المذكور سابقا والمعهود بذكره اللفظي وأنّه يحرم نقضه بالشكّ ، فتكون الرواية دالّة على الاستصحاب في باب الوضوء فقط أو في باب الطهور لو حملنا الوضوء على الطهور ، وليس فيها دلالة على عموم القاعدة لكلّ الأبواب الفقهيّة.

والجواب عن ذلك : أنّ تعليله بالقول « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » إشارة إلى شيء مرتكز عند العقلاء ويبنون عليه في حياتهم العمليّة من عدم نقض ما هو متيقّن

__________________

(١) تحت عنوان : أدلّة الاستصحاب.

١١٢

بالشكّ ؛ لأنّ هذا التعليل لبقاء الحكم بالوضوء لدى السائل يفترض كون هذا الأمر مقبولا عنده بما هو إنسان عرفي ، وهذا يعني ارتكازيّة الاستصحاب في حياة العقلاء.

وهذه الارتكازيّة توجب إلغاء خصوصيّة المورد وعدم اختصاص القاعدة بباب الوضوء ، ولذلك تكون ( اللام ) فيها للجنس لا للعهد ، وهذا أيضا يفترض أوّلا ثبوت السيرة العقلائيّة على العمل بالاستصحاب كما ليس ببعيد ، وبذلك تكون القاعدة عامّة لكلّ الأبواب.

وهناك تفصيلات أخرى في الرواية من جهة فقه الرواية أو من جهة كيفيّة الاستدلال بها على القاعدة ، أو من جهة كلّيّة القاعدة ودلالة الرواية على الاستصحاب دون غيره ونحو ذلك ، وقد تقدّم الكلام عنها في الحلقة السابقة فلتراجع.

الرواية الثانية :

وهي رواية أخرى لزرارة كما يلي :

١ ـ قلت : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ، فعلّمت أثره إلى أن أصيب له من الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ، ونسيت أنّ بثوبي شيئا ، وصليت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : « تعيد الصلاة وتغسله ».

٢ ـ قلت : فإنّي لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : « تغسله وتعيد الصلاة ».

٣ ـ قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : « تغسله ولا تعيد الصلاة ».

قلت : ولم ذلك؟ قال : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ».

٤ ـ قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟

قال : « تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك ».

٥ ـ قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟

قال : « لا ، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك ».

١١٣

٦ ـ قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟

قال : « تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ » (١).

وتشتمل هذه الرواية على ستّة أسئلة من الراوي مع أجوبتها ، وموقع الاستدلال ما جاء في الجواب على السؤال الثالث والسادس ، غير أنّا سنستعرض فقه الأسئلة الستّة وأجوبتها جميعا ؛ لما لذلك من دخل في تعميق فهم موضعي الاستدلال من الرواية.

وهذه الرواية تدلّ على الاستصحاب على أساس الفقرتين الثالثة والسادسة ، حيث صرّح الإمام عليه‌السلام فيهما باليقين والشكّ اللذين هما ركنا الاستصحاب.

وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أنّ راويها زرارة لا يسأل عادة إلا من المعصوم ، ولذلك لا مجال للتشكيك في سندها المؤيّد بمضمونها الناطق صريحا بأنّها صادرة من المعصوم.

وهي تشتمل على فقرات ستّة وأجوبتها ، وإنّما ذكرت بطولها هنا لما في الحديث عن فقراتها من فائدة ومدخليّة في فهم وتعميق الاستدلال بفقرتي الرواية الدالّتين على الاستصحاب ، ولذلك سوف نستعرض فقه الاسئلة الستّة وأجوبتها.

ففي السؤال الأوّل : يستفهم زرارة عن حكم من علم بنجاسة ثوبه ثمّ نسي ذلك وصلّى فيه ، وتذكّر الأمر بعد الصلاة ، وقد أفتى الإمام بوجوب إعادة الصلاة لوقوعها مع النجاسة المنسيّة ، وغسل الثوب.

أمّا السؤال الأوّل : فكان عمّن علم بالنجاسة تفصيلا وعلم بمكانها تفصيلا أيضا ولكنّه لم يطهّر الموضع من أجل عدم وجود الماء لديه ، فكان تأخيره لذلك عن عذر مقبول شرعا ، ثمّ إنّه بعد أن وجد الماء نسي أن يطهّر موضع النجاسة وصلّى بالثوب النجس ، ثمّ بعد الفراغ من الصلاة تذكّر أنّه صلّى بالثوب النجس.

وهنا حكم الإمام عليه‌السلام ببطلان الصلاة ووجوب إعادتها بعد غسل الثوب وتطهيره من النجاسة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤٣٢ / ١٣٣٥. الاستبصار ١ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ / ٦٤١.

١١٤

وهذا ممّا لا كلام لنا فيه وهو متناسب مع القواعد والأصول أيضا ؛ لأنّ شرطيّة الطهارة للثوب أو البدن تشمل الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، وكلاهما مفقود هنا ؛ لأنّ الثوب نجس واقعا ، ولم يدخل في الصلاة بالثوب الطاهر ظاهرا أيضا ، بل بثوب نجس ، غاية الأمر كونه عن نسيان فلا إثم عليه لذلك ، لكنّه لم يحقّق الشرطيّة المطلوبة.

وفي السؤال الثاني : سأل عمّن علم بوقوع النجاسة على الثوب ففحص ولم يشخّص موضعه ، فدخل في الصلاة باحتمال أنّ عدم التشخيص مسوّغ للدخول فيها مع النجاسة ما دام لم يصبها بالفحص.

وقوله : « فطلبته ولم أقدر عليه » إنّما يدلّ على ذلك ، ولا يدلّ على أنّه بعدم التشخيص زال اعتقاده بالنجاسة ، فإنّ عدم القدرة غير حصول التشكيك في الاعتقاد السابق ، ولا يستلزمه ، وقد أفتى الإمام بلزوم الغسل والإعادة لوقوع الصلاة مع النجاسة المعلومة إجمالا.

وأمّا السؤال الثاني : فكان عمّن علم بأنّ النجاسة قد أصابت الثوب ولكنّه لم ير الموضع الذي وقعت عليه النجاسة ، فهنا يوجد لديه علم إجمالي بنجاسة الثوب وشكّ في المكان الذي تنجّس من الثوب ، ثمّ إنّه قد فحص عن الموضع فلم يقدر على العثور عليه لكي يطهّره بخصوصه ، فاعتقد نتيجة ذلك أنّه يجوز له الصلاة بهذا الثوب ما دام قد فحص عن مكان النجاسة ولم يعثر عليها ، مع أنّه يجب عليه في هذه الحالة الاجتناب عن الصلاة بهذا الثوب لعلمه بوقوع النجاسة عليه ، فإنّ الجهل بالموضع تفصيلا لا يضرّ ولا يزيل العلم بوقوع النجاسة على الثوب.

وهنا حكم الامام عليه‌السلام بوجوب الإعادة وغسل الثوب كالسؤال السابق ولنفس النكتة أيضا.

ولا يتوهّم هنا أنّ قوله : « فطلبته فلم أقدر عليه » يدلّ على زوال اليقين السابق بالنجاسة ، حيث إنّه بعد أن فحص لم يعثر على النجاسة فزال اعتقاده بها فصلّى لأجل ذلك ، وبالتالي تكون الفقرة دالّة على قاعدة اليقين.

بل الصحيح أنّ قوله هذا إنّما يدلّ على أنّه قد سوّغ لنفسه الصلاة بهذا الثوب لأجل أنّه فحص ولم يعثر على الموضع ، فبرّر صلاته بالثوب النجس بأنّه قد فحص عن الموضع ليطهّره فلم يعثر عليه.

١١٥

وليس في هذا القول دلالة على زوال اعتقاده السابق بوقوع النجاسة ، وإلا لكان المناسب لذلك أن يعبّر عنه بقوله : « فلم أره » فإنّه يحتمل الوجهين.

وأمّا عدم الإصابة للموضع تفصيلا فليس فيه دلالة على قاعدة اليقين لا بالمطابقة ولا بالاستلزام ، بل غاية ما يستفاد منه أنّه حاول بالفحص العثور على الموضع لكنّه لم يقدر على ذلك ، وهذا معناه العلم الإجمالي بأصل النجاسة والشكّ في موضعها.

وفي السؤال الثالث : افترض زرارة أنّه ظنّ الإصابة ففحص فلم يجد فصلى فوجد النجاسة ، فأفتى الإمام بعدم الإعادة ، وعلّل ذلك بأنّه كان على يقين من الطهارة فشكّ ولا ينبغي نقض اليقين بالشكّ.

وهذا المقطع هو الموضع الأوّل للاستدلال ، وفي بادئ الأمر يمكن طرح أربع فرضيّات في تصوير الحالة التي طرحت في هذا المقطع.

وأمّا السؤال الثالث : فكان عمّن ظنّ أنّ ثوبه قد أصابته النجاسة ففحص عن ذلك فلم يجد شيئا ، ولذلك دخل في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ منها وجد النجاسة على ثوبه.

وهنا حكم الإمام بصحّة الصلاة ووجوب غسل الثوب للأعمال اللاحقة ، وعلّل ذلك بقاعدة الاستصحاب ؛ وذلك لأنّه كان على يقين بالطهارة أوّلا ثمّ شكّ في زوالها بسبب الظنّ في إصابة الثوب للنجاسة فلم يفحص ولم يجد النجاسة فصار شاكّا في أنّ ثوبه هل لا يزال طاهرا أم لا؟

فهنا لا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ ، وهذا الحكم بعدم لزوم إعادة الصلاة كان تطبيقا لقاعدة الاستصحاب بشكل واضح وجلي.

وأمّا الحكم بلزوم غسل الثوب فمن أجل أنّه صار متيقّنا من نجاسته بعد أن فرغ من الصلاة ووجد النجاسة عليه ، وهذه الفقرة هي الموضع الأوّل للاستدلال على الاستصحاب ، ولذلك لا بدّ من تنقيح الكلام فيها واستعراض ما يحتمل أن يقال فيها ، ومن هنا توجد احتمالات أربعة يمكن افتراضها بادئ الأمر منشؤها أمران :

الأوّل : قوله : « فنظرت ولم أر شيئا » حيث إنّه يحتمل فيه القطع بعدم الإصابة ويحتمل فيه مجرّد عدم العلم بالإصابة.

الثاني : قوله : « فصلّيت فرأيت فيه » حيث إنّه يحتمل فيه رؤية النجاسة التي ظنّها

١١٦

قد وقعت أوّلا قبل الدخول بالصلاة ، ويحتمل فيه أيضا رؤية نجاسة أخرى غيرها.

وعليه فتكون الاحتمالات المتصوّرة أربعة :

١ ـ القطع بعدم الإصابة ثمّ رؤية النجاسة المظنون إصابتها.

٢ ـ القطع بعدم الإصابة ثمّ رؤية نجاسة أخرى.

٣ ـ عدم العلم بالإصابة ثمّ رؤية النجاسة المظنون إصابتها.

٤ ـ عدم العلم بالإصابة ثمّ رؤية نجاسة أخرى.

الفرضيّة الأولى : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص وعدم الوجدان ، وحصول القطع عند الوجدان بعد الصلاة بأنّ النجاسة هي نفس ما فحص عنه ولم يجده أوّلا.

وهذه الفرضيّة غير منطبقة على المقطع جزما ؛ لأنّها لا تشتمل على شكّ لا قبل الصلاة ولا بعدها ، مع أنّ الإمام قد افترض الشكّ وطبّق قاعدة من قواعد الشكّ.

الفرضيّة الأولى : أن يفرض حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة بعد أن فحص ولم ير شيئا ، فدخل في الصلاة ثمّ بعد الفراغ من الصلاة وجد نجاسة وعلم يقينا بأنّها نفس النجاسة التي ظنّ أنّها قد أصابت الثوب.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين ، يقين قبل الصلاة بعدم النجاسة ، ويقين بالنجاسة بعد الصلاة ، ولا يوجد شكّ أبدا ، ولذلك من المستبعد أن تكون هي المقصودة من سؤال زرارة لعدم انسجامها مع جواب الإمام حيث إنّه قد طبّق قاعدة من قواعد الشكّ ـ سواء كانت هي الاستصحاب أو قاعدة اليقين ـ وهذا التطبيق يفترض وجود الشكّ إمّا قبل الصلاة وإمّا بعدها وإما في أثنائها ، مع أنّه لا وجود للشكّ أصلا بناء على هذه الفرضيّة ، وعليه فتكون ساقطة إثباتا وإن كانت محتملة ثبوتا.

الفرضيّة الثانية : أن يفرض حصول القطع بعدم النجاسة عند الفحص كما سبق ، والشكّ عند وجدان النجاسة بعد الصلاة في أنّها تلك النجاسة أو نجاسة متأخّرة.

وهذه الفرضيّة تصلح لإجراء الاستصحاب فعلا في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلّف على يقين من عدم النجاسة قبل ظنّ الإصابة فيستصحب ، كما أنّها تصلح

١١٧

لإجراء قاعدة اليقين فعلا في ظرف السؤال ؛ لأنّ المكلّف كان على يقين من الطهارة بعد الفحص وقد شكّ الآن في صحّة يقينه هذا.

الفرضيّة الثانية : أن يفرض حصول اليقين بعدم إصابة النجاسة بعد الفحص عنها وعدم وجدانها ، ولذلك دخل في الصلاة ، ثمّ بعد الفراغ منها رأى نجاسة واحتمل أن تكون عين النجاسة التي ظنّ إصابتها للثوب أو تكون نجاسة أخرى غيرها متأخّرة عن الصلاة أو في أثنائها.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين وشكّ ، اليقين الأوّل بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة ، واليقين الثاني بعدم وجود النجاسة بعد الفحص وقبل الصلاة ، والشكّ بعد الفراغ من الصلاة بأنّ النجاسة الموجودة هل هي نجاسة سابقة على الصلاة أو أنّها نجاسة طرأت عليه حين أو بعد الصلاة؟

ولذلك يكون جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ منسجما مع هذه الفرضيّة المشتملة على الشكّ ، إلا أنّ هذه الكبرى كما يحتمل فيها أن تكون كبرى الاستصحاب ، كذلك يحتمل فيها أن تكون ناظرة إلى قاعدة اليقين.

والوجه في ذلك : أنّنا إذا لاحظنا اليقين السابق على ظنّ الإصابة فهو يقين راسخ بطهارة الثوب ، ثمّ حصل الظنّ بالإصابة واليقين بعدمها ثمّ الصلاة ، ثمّ رؤية النجاسة المحتمل سبقها على الصلاة وتأخّرها عنها ، فالشك هنا معناه أنّ النجاسة إن كانت سابقة على الصلاة فهذا يعني أنّ طهارة الثوب قد انتقضت قبل الدخول في الصلاة ، فيكون قد صلّى بثوب نجس واقعا فصلاته باطلة.

وإن كانت متأخّرة عنها أو في أثنائها فطهارة الثوب قبل الصلاة لم تنتقض برؤية النجاسة بعد الفراغ ، وهذا معناه أنّه قد صلّى بثوب طاهر فصلاته صحيحة.

فيشكّ الآن بعد الفراغ من الصلاة في صحّة صلاته وبطلانها ، بسبب الشكّ في انتقاض طهارة الثوب المتيقّنة ، فيكون حكم الإمام بعدم الإعادة مستندا إلى استصحاب طهارة الثوب المتيقّنة سابقا قبل ظنّ الإصابة ؛ لأنّ اليقين لا ينتقض بالشكّ ، فيكون ظرف جريان الاستصحاب هو حين السؤال.

ويمكن أيضا أن يكون ظرف جريان هذا الاستصحاب هو حين ظنّ الإصابة ؛ لأنّه عند ما ظنّ الإصابة شكّ في انتقاض طهارة الثوب المتيقّنة فيستصحب بقاءها ، وأمّا

١١٨

حين الصلاة فلا يحتاج إلى الاستصحاب ؛ لأنّه بعد أن فحص ولم يجد شيئا حصل له العلم بعدم الإصابة وبعد الفراغ من الصلاة حصل له اليقين بالنجاسة المحتمل تقدّمها وتأخّرها عن الصلاة.

وأمّا إذا لاحظنا اليقين الحاصل من الفحص بعد ظنّ الإصابة فسوف يختلف الحال ؛ لأنّ الشكّ بأنّ هذه النجاسة سابقة على الصلاة أو متأخّرة عنها ، معناه أنّ النجاسة لو كانت موجودة قبل الصلاة فيقينه بعدم الإصابة الحاصل من الفحص وعدم الوجدان غير صحيح بل مخطئ ، إذ المفروض أنّ النجاسة موجودة قبل الصلاة بعد ظنّ الإصابة ، ولا يمكن اجتماع النجاسة وعدمها في وقت واحد.

وأمّا لو كانت طارئة حين الصلاة أو بعدها فاليقين بعدم الإصابة قبل الصلاة على حاله ، أي أنّه صحيح غير مخطئ ، غاية الأمر يكون قد ارتفع وانتقض بطروّ النجاسة.

وعليه فيحتمل أن يكون تطبيق الإمام لكبرى اليقين والشكّ يراد به قاعدة اليقين والتي يكون الشكّ فيها هادما لليقين ، والشكّ هنا على أحد الفرضين يكون هادما لليقين فيحتمل كون نظر الإمام إليه.

وحيث إنّ كلا الأمرين محتمل في نفسه ثبوتا فالاستدلال بهذا المقطع بناء على هذه الفرضيّة يحتاج إلى استظهار الأمر الأوّل دون الثاني ، واستظهاره يحتاج إلى دليل يدلّ عليه من نفس السؤال ، وهذا غير ممكن ؛ لأنّ السؤال يحتمل الأمرين معا ، فيكون مجملا غير صالح للاستدلال.

الفرضيّة الثالثة عكس الفرضيّة السابقة ، بأن يفرض عدم حصول القطع بالعدم عند الفحص ، وحصول القطع عند وجدان النجاسة بأنّها ما فحص عنه.

وفي مثل ذلك لا يمكن إجراء أي قاعدة للشكّ فعلا في ظرف السؤال لعدم الشكّ ، وإنّما الممكن جريان الاستصحاب في ظرف الفحص والإقدام على الصلاة.

الفرضيّة الثالثة : أن يفرض عدم حصول اليقين بعدم الإصابة عند الفحص عنها وعدم وجدانها ، بل كانت الإصابة لا تزال محتملة ، ثمّ صلّى وبعد الفراغ وجد النجاسة وتيقّن أنّها نفس النجاسة التي كانت مظنونة قبل الدخول في الصلاة.

وهذه الفرضيّة تشتمل على يقينين وشكّ ، اليقين الأوّل هو اليقين بطهارة الثوب قبل ظنّ الإصابة ، واليقين الثاني هو اليقين بالنجاسة بعد الفراغ من الصلاة وأنّها نفس

١١٩

النجاسة التي ظنّ إصابتها للثوب قبل الدخول في الصلاة ، والشكّ حين ظنّ الإصابة والفحص وعدم الوجدان للنجاسة وحين الصلاة إلى أن فرغ منها.

وعليه فيكون جواب الإمام الذي طبّق فيه إحدى قواعد الشكّ منسجما مع هذه الفرضيّة ، إلا أنّ الكلام في أنّ هذه القاعدة هل هي قاعدة الاستصحاب أو أنّها قاعدة اليقين؟

والجواب : أنّ هذه القاعدة هي الاستصحاب لا قاعدة اليقين ، والوجه في ذلك هو : أنّ قاعدة اليقين تفترض وجود شكّ سرى إلى اليقين وهدمه ، والشكّ المتصوّر على هذه الفرضيّة هو الشكّ في إصابة النجاسة للثوب حين ظنّ النجاسة ؛ لأنّه بقي شاكّا ومحتملا للإصابة حتّى بعد الفحص وعدم الوجدان ، إلا أنّ هذا الشكّ لا يمكن أن يكون هادما لليقين بطهارة الثوب السابق على ظنّ الإصابة ، إذ حتّى على فرض اليقين بالنجاسة حين ظنّ الإصابة والفحص لا ينهدم اليقين ، بل ينتقض ويرتفع حكمه كما هو واضح.

وأمّا الاستصحاب فهو يجري حين ظنّ الإصابة وبعد الفحص واحتمال الإصابة وفي أثناء الصلاة ؛ لأنّه في كلّ هذه الفترة كانت النجاسة مشكوكة ، فيستصحب بقاء طهارة الثوب إلى حين الفراغ من الصلاة ورؤية النجاسة.

ومجرّد العلم بأنّ هذه النجاسة كانت موجودة قبل الدخول في الصلاة لا يمنع من جريان الاستصحاب لتوفّر كلا ركنيه حينها.

نعم ظرف جريان الاستصحاب هو حين الفحص والدخول في الصلاة ، لا في ظرف السؤال ؛ إذ لا شكّ عنده حينه.

وتصحيح الإمام للصلاة مبني على أنّ شرطيّة الطهارة للثوب تشمل الطهارة الظاهريّة أيضا لا خصوص الواقعيّة ، وهنا المكلّف حينما دخل في الصلاة كان ثوبه طاهرا بالاستصحاب ، فالشرطيّة متحقّقة.

نعم بعد رؤية النجاسة ينتقض هذا الاستصحاب لانهدام ركنيه ، فيحتاج إلى تطهير الثوب للأعمال اللاحقة التي يراد الإتيان بها بهذا الثوب.

الفرضيّة الرابعة عكس الفرضيّة الأولى ، بافتراض الشكّ حين الفحص وحين الوجدان.

١٢٠