مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الله ) (١).

وخلاصة ما نستفيده من ظاهر الآية هو وساطة الملك في التلقّي عنه تعالى ما يشاء إبلاغه إلى عباده ، فيقوم هذا الملك بوحي ما أمِر به ناقلاً كلام الله تعالى ، وهذه الطريقة في الوحي هي أشهر وجوه الوحي الإلٰهي وأكثرها وروداً في القرآن الكريم بل إن القرآن الكريم نفسه أوحِيَ بهذه الطريقة ، قال تعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) (٢).

وعلى هذا فطريقة قيام الملك بتبليغ ما أمره الله تعالى به بما يظهر كونه مصدراً ينسب إليه قيامه بعملية الوحي ، أما ما تدل عليه الآية من دلالات أخرى وأهمها أن تكون هذه الطريقة من وساطة الملائكة هي أحد وجوه الوحي الإلٰهي المتعددة فستكون للبحث معها وقفة في المباحث التالية ضمن مواضيع صور وأشكال الوحي النبوي والمحمدي.

٢ ـ قال تعالى في سورة النجم : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) (٣). وقد اختلف المفسرون في الفاعل المقصود بالفعل أوحى الأولى فقال بعضهم : إن الفاعل هو الله أوحى إلى عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله أو جبريل ، ومن هؤلاء ابن عباس والربيع والحسن وقتادة (٤).

عن ابن عباس قال : ... عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥)

________________

(١) القرآن في الإسلام / السيد محمد حسين الطباطبائي : ١٠٩.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ٨ ـ ١٠.

(٤ ـ ٥) اُنظر : جامع البيان / الطبري ٢٧ : ٢٦.

٨١

وعن الربيع ... قال : ... على لسان جبريل (١).

وعن قتادة والحسن أنهما قالا أوحى إلى عبده : جبريل (٢).

وقال آخرون : إن فاعل أوحى الأولى في الآية هو جبريل عليه‌السلام ، فالمعنى أوحى جبريل إلى عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أوحى.

وقد نقل الطبري في تفسيره الآية عن ابن زيد وغيره هذا الوجه فيها ، واعتبره أولى الأقوال بالصواب ، وقد استدل على ذلك بدلالة افتتاح السورة بالخبر عن جبريل عليه‌السلام والرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد جاء قوله تعالى : ( فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) في سياق ذلك ، ولم يأت ما يدل على انصراف الخبر عنهما لكي يوجه ذلك إلى ما صرف إليه (٣).

وأشار الزمخشري إلى أن المقصود بفاعل أوحى هو جبريل عليه‌السلام ، ولكنه أكد أن الضمير في عبده يعود إلى الله تعالى وإن لم يجر لاسمه ذكر لأنّه لا يَلبِس (٤).

وللآية عند الفخر الرازي وجهان محتملان في فاعل أوحى :

أحدهما : أوحى الله تعالى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ما أوحاه إلى جبريل.

ثانيهما : أوحى إلى جبريل ما أوحى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله دليله الذي به يعرف أنه وحي (٥).

والوجه الأوّل هو الصحيح ، ويدل عليه ـ زيادة على ما سيأتي في صفة

________________

(١ ـ ٢) أيضاً : جامع أحكام القرآن / القرطبي ١٧ : ٨٨.

(٣) جامع البيان ٢٧ : ٢٨.

(٤) الكشاف ٤ : ٢٩.

(٥) مفاتيح الغيب ٢٨ : ٢٨٨.

٨٢

الوحي المحمدي ـ ما رواه الصفّار في الصحيح عن عبد الصمد بن بشير قال : « ذكر عند أبي عبد الله عليه‌السلام بدو الأذان وقصة الأذان في إسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ انتهىٰ إلى السدرة ، فقالت سدرة المنتهىٰ : ما جاوزني مخلوق قبلك ، قال : ثم دنىٰ فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى قال : فدفع إليه كتاب أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ـ إلى أن قال ـ فلما فرغ من مناجاة ربّه رُدّ إلى البيت المعمور ثمّ قصّ قصّة البيت والصلوات فيه ثمّ نزل ومعه الصحيفتان فدفعهما إلى علي بن أبي طالب عليهما السّلام » (١).

وفي حديث أبي بصير عن الصادق عليه‌السلام بعدما سأله عن الآية فقال عليه‌السلام في حديثه : « .. فقال الله تبارك وتعالى : يا محمد ، قال : لبيك ربّي ، قال : من لأُمتك من بعدك ؟ فقال : الله أعلم ، قال : علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين.

قال : ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يا أبا محمد والله ما جاءت ولاية عليّ عليه‌السلام من الأرض ولكن جاءت من السماء » (٢) وغيرها من الأحاديث الكثيرة الأُخرى التي لا تدع مجالاً للشك في أن من أوحى هو الله عزّوجلّ وأن الموحَى إليه في سورة النجم هو الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله وبلا واسطة.

ثالثاً ـ وحي مظاهر الطبيعة :

ينطلق المفسرون في إثباتهم أن من الوحي ما هو منسوب إلى بعض مظاهر الطبيعة من آية الشورى التي بيَّنت طرق تكليمه تعالى للبشر ، وما

________________

(١) بصائر الدرجات : ٢١٠ ـ ٢١٢ / ١ و ٦ باب (٥).

(٢) أصول الكافي ١ : ٤٤٢ ـ ٤٤٣ / ١٣ باب مولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتاب الحجّة.

٨٣

اعتمدوه من تلك الطرق هو ما ورد في قوله تعالى منها : ( أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) (١) ، واتّفقوا أنه تعالى كَلَّم عباده من وراء حجاب فيما قصه من تكليمه موسى عليه‌السلام في طور سيناء ، وقد فهم المفسرون الحجاب على أنه النار التي تجلى منها تعالى ، أو الشجرة التي سمع موسى الكلام من جهتها. إذ قال تعالى : ( فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٢).

ونسبة الكلام ( الوحي ) إلى الشجرة أو النار بكونهما حجابا احتجب تعالى به عن عبده قول يستبعد أية إشارة أو فهم خاطئ يوحي بالحلول أو التجسيم أو تحيُّزه تعالى في مكان ، فليس المقصود بوجود الحجاب أنه حجاب له تعالى ، أو لمحلِّ كلامه أو لمن كلَّمه ، ويرى الشريف المرتضى أن ما أريد بالحجاب في الآية ( أنه تعالى ربما يفعل كلاما في جسم محتجب عن المكلم غير معلوم على سبيل التفصيل ، فيسمع المخاطب الكلام ولا يعرف محله على طريق التفصيل ) (٣).

ويؤكد الشيخ الطوسي هذا المعنى وأن الكلام فُعِلَ في الشجرة ، وهذا وجه كونها حجاباً ولذلك قيل : إن الكلام والنداء سمعه موسى عليه‌السلام من ناحية الشجرة ، واستُبعدَ أي احتمال للتجسيم ، فليس المقصود أنه تعالى كان

________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٥١.

(٢) سورة القصص : ٢٨ / ٢٩ ـ ٣٠.

(٣) أمالي المرتضى ٢ : ٢٠٥.

٨٤

في الشجرة ، لأنّه لا يحويه مكان ولا يَحِلّ في جسم فتعالى الله عن ذلك (١).

ويتفق الزمخشري مع المرتضى ، والشيخ الطوسي في فهمهما للحجاب الذي يكلم العبد من ورائه ، فالحجاب ـ الذي كان في حالة تكليم موسى عليه‌السلام هو الشجرة ـ كان بديلاً عن أية واسطة بين الله تعالى وعبده ، فكان وجود الحجاب استبعاداً للواسطة في التكليم من خلال جعله تكليماً مباشراً يسمع العبد فيه الكلام ويعيه.

وهذا الكلام يخلقه تعالى في بعض الأجرام فيسمعه المُكَلَّم دون أن ينظر إلى المُكَلِّم ، وكان تكليمه تعالى لموسى من ذلك النوع إذ كلَّمه ( من غير واسطة كما يُكلَّم الملك ، وتكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في اللَّوح ) (٢).

وقد استنكر السيد محمد حسين الطباطبائي قول من قال بأن الشجرة كانت محلاً للكلام بدلالة أن الكلام عَرَض يحتاج إلى محلِّ يقوم به ، فالشجرة رغم أنها كانت مبدأ للتكليم والنداء إلّا أن الكلام كان كلامه تعالى ، وهو [ أي الكلام ] ( لم يكن قائماً بها كقيام الكلام بالمتكلم منا ، فلم تكن إلّا حجاباً احتجب سبحانه به فكلّمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه ) (٣).

وهذا الفهم لكون الشجرة حجابا ينطبق أيضا على ما قال به مفسرون آخرون من نسبة الوحي إلى النار مستدلين بقوله تعالى : ( فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ

________________

(١) التبيان ٨ : ١٤٦.

(٢) الكشاف ٢ : ١١١ و ٣ : ٤٧٥.

(٣) الميزان ١٦ : ٣٢.

٨٥

أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا .. ) (١).

فقد قيل فيما روي عن ابن عباس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير ، والحسن أنه تعالى ظهر لموسى بآياته وكلامه من النار (٢).

جدير بالذكر أنه في حديث المفضل ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام (٣) ، وحديث مخرمة بن ربعي ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً (٤) ، انّ ( البقعة المباركة ) هي كربلاء ، ومثلهما حديث أُمّ سلمة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥).

________________

(١) سورة النمل : ٢٧ / ٨.

(٢) انظر : التبيان / الطوسي ٨ : ٧٧.

(٣) مختصر بصائر الدرجات : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٤) تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي ٦ : ٣٨ / ٨٠ (٢٤) باب (١٠).

(٥) دلائل الإمامة / الطبري الصغير : ١٨٠.

٨٦



الباب الثاني

الوحي مِنْ حَيث المتلقِّي

توطئة :

يرد ذكر الوحي في القرآن الكريم على أنه يلقى ـ إلى عدة أنواع من المتلقين تجمعها ثلاثة محاور رئيسية تتمثل بـ : ـ

١ ـ الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

٢ ـ الوحي إلى الملائكة.

٣ ـ الوحي إلى الموجودات الأخرى ويدخل ضمنه :

أ ـ البشر العاديون.

ب ـ الحيوانات.

ج ـ الجمادات.

من هنا فإنّ هذا الباب سيعتمد هذه التقسيمات في عرض فصوله.

ولتميز الوحي إلى الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وخصوصيته من بين عموم الوحي الإلٰهي بما يتضمنه من استجماعه لكل صور الوحي ، واتحاد معجزته ووحيه في القرآن الكريم ، وعموم شريعته صلى‌الله‌عليه‌وآله للعاملين كافة ، وغيرها من وجوه اختصاصه ، فقد أفردنا له فصلاً خاصّاً به ، ومن هنا كانت لدينا ـ في هذا

٨٧

الباب ـ ثلاثة فصول ، وهي :

الفصل الأوّل : الوحي النبوي العام.

الفصل الثاني : الوحي المحمدي.

الفصل الثالث : الوحي إلى الموجودات الأخرى.

٨٨

الفصل الأوّل

الوحي النبويّ العام

الوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم‌السلام

قبل الخوض في تفاصيل الوحي إلى الأنبياء ـ وسيصطلح عليه في أثناء البحث بالوحي النبوي ـ لابدَّ من التعرض باختصار للمعاني اللغوية للنبي والرسول وما يتبعه من بيان الفرق بينهما باختلاف الآراء.

أوّلاً ـ معنى النبي والرسول لغة واصطلاحاً :

١ ـ المعنى اللغوي :

أ ـ النبي : قيل : إن أصله في العربية بالهمز : نَبِيء ، ولا يشترط في النبيء أن يكون نبيّاً ، إذ يطلق النبيء على مدّعي النبوة كذباً ، وهو إمّا من الإنباء ، وهو الإخبار المفيد لما له شأن مهم (١) وإمّا من النَبْوة والنَبَاوَة وهي : الارتفاع ، فسمّي نبيّاً لرفعة محلِّه عن سائر الناس (٢).

وقال القاضي المعتزلي عبد الجبّار بن أحمد ( ت / ٤١٥ هـ ، ١٠٢٤م ) : وإذا كان مهموزاً فهو من الإنباء والإخبار (٣).

________________

(١) الوحي المحمدي / محمد رشيد رضا : ٤١.

(٢) المفردات : ٤٢٨.

(٣) شرح الأصول الخمسة : ٥٦٧ تحقيق د. عبد الكريم عثمان ط ١ ، ( ١٣٨٤ هـ ،

٨٩

والنبيّ بالتشديد قراءة الجميع وهو أبلغ من النبيء بالهمز ، لأنّه ليس كلّ منبَّأ فهو نبيّ ، ويبدو أنّ الاستعمال اللغوي للمهموز يميل إلى الاختصاص بالمدّعين للنبوة والمتنبئين بالغيب ، ولقولهم « مسيلمة نبيء سوء » شيء من الدلالة على ذلك.

ويدلّ خبر حمران بن أعين على اختصاص النبيء بمدّعي النبوة ، فقد روى حمزة الزيات أحد القراء المشهورين ، عن حمران بن أعين قال : « جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : السلام عليك يا نبي الله فهمز ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لست بنبيء الله ولكنّي نبيّ الله » (١).

ب ـ الرسول : على وزن فعول بمعنى مفعول أي مُرسَل ، فرسول الله : الذي أرسله الله (٢) فهو لفظ متعدٍّ ، فلابدَّ فيه من مُرسِلٌ ومُرسَلٌ إليه ، وجمعه رسل ، ورسل الله تعالى نوعان :

فمرّة يُراد بها الملائكة ، كقوله تعالى : ( .. إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ .. ) (٣) ، وقوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (٤) ، ومرّة يراد بها الأنبياء ( الرسل ) من البشر كقوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) (٥) ، وقوله تعالى : ( مَّا يُقَالُ لَكَ

________________

٩٦٥م ) ، مكتبة وطنية.

(١) الكامل في ضعفاء الرجال / ابن عدي ٢ : ٤٣٧ ، في ترجمة حمران بن أعين الشيباني الثقة الثبت الجليل ، أخرجه عنه من عدّة طرق.

(٢) الكامل في ضعفاء الرجال ٢ : ٤٣٧.

(٣) سورة هود : ١١ / ٨١.

(٤) سورة التكوير : ٨١ / ١٩.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

٩٠

إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ... ) (١) ، فالرسول هو الذي أرسله الله إلّا أنّه حين الإطلاق لا يحمل إلّا على رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

٢ ـ المعنى الاصطلاحي :

أمّا في الاصطلاح فقد اختلفوا في الفرق بين الرسول والنبي على قولين ، وهما :

أحدهما : عدم الفرق بينهما.

وهو ما اختاره القاضي عبد الجبار المعتزلي (٣) ، ونقل الفخر الرازي اتّفاق عموم المعتزلة على ذلك (٤) ، وسيأتي أن بعض أقطاب المعتزلة المتأخرين ممن قال بالقول الآخر.

والآخر : إثبات الفرق بينهما :

واختلفوا هنا في تسمية الفرق على ثلاثة أقوال ، وهي :

أ ـ إن كل من نزل عليه الوحي من الله تعالى على لسان ملك من الملائكة وكان مؤيّداً بنوع من الكرامات الناقضة للعادات فهو نبي ، ومن حصلت له هذه الصفة ، وخص ـ إضافة إليها ـ بشرع جديد أو بنسخ بعض أحكام شريعة كانت قبله فهو رسول ، وهذا هو قول العامة (٥).

ب ـ إنّ الرسول هو من كان يجمع إلى المعجزات الكتاب المنزل عليه ،

________________

(١) سورة فصلت : ٤١ / ٤٣.

(٢) مجمع البيان / الطبرسي ٧ : ٩١.

(٣) شرح الأصول الخمسة / القاضي عبد الجبّار المعتزلي : ٥٦٧.

(٤) مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ٢٣ : ٥٠.

(٥) الفَرق بين الفِرق / عبد القاهر البغدادي : ٣٣٢.

٩١

والنبي هو من لم ينزل عليه كتاب ، وإنما أُمِر بدعوة الناس إلى شريعة من قبله ، وهو ما ذهب إليه الزمخشري المعتزلي (١). ووافقه عليه محمد بن أبي بكر الرازي (٢).

ج ـ وقالت الإمامية بالفرق بين الرسول والنبي على أساس آخر غير ما ذُكر وأصله الاعتماد على الطريقة التي يُتلقى بها وحي الله عزّوجلّ ، وهذا القول مأخوذ عن أهل البيت عليهم‌السلام بروايات كثيرة ، نذكر بعضها اختصاراً.

عن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث جاء فيه : « .. الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلاً فيكلمه ، فيراه كما يرى الرجل صاحبه ، وأما النبي فهو الذي يؤتى في منامه نحو رؤيا إبراهيم عليه‌السلام ونحو ما كان يرى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنهم من يجتمع له الرسالة والنبوة ، وكان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ممن جمعت له الرسالة والنبوة » (٣).

وعن بريد العجلي ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام : « الرسول تأتيه الملائكة ظاهرين وتبلغه الأمر والنهي عن الله تعالى ، والنبي الذي يوحى إليه في منامه ليلاً أو نهاراً ، فما رأى فهو كما رأى.. » (٤).

وهناك روايات أخرى كلها بهذا المعنى كروايتي زرارة عن الإمام الباقر عليه‌السلام (٥) ورواية الحسن بن العباس بن معروف عن الإمـام

________________

(١) الكشاف / الزمخشري ٣ : ١٨.

(٢) مسائل الرازي / محمد بن أبي بكر الرازي : ٣٢٤.

(٣) الاختصاص / الشيخ المفيد : ٣٢٩.

(٤) بصائر الدرجات : ٣٨٨ / ١ باب (١) ، والخرائج والجرائح / القطب الراوندي ٢ : ٨٣٢.

(٥) بصائر الدرجات : ٣٨٨ / ٢ و ٣ باب (١) ، وأصول الكافي ١ : ١٧٦ / ١ باب الفرق بين النبي والرسول والمحدث من كتاب الحجّة.

٩٢

الرضا عليه‌السلام (١) وغيرها كثير (٢).

قال الشيخ المفيد : « واتفقت الإمامية على أن كل رسول فهو نبي ، وليس كل نبي رسولاً ، وقد كان من أنبياء الله عزّوجلّ حفظة لشرائع الرسل وخلفائهم في المقام » (٣).

ويؤكّد السيد الطباطبائي الفرق بين الرسول والنبي مستدلّاً بالروايات السابقة إلّا أنه يعارض الآراء التي فرقت بينهما من حيث الأمر بالتبليغ أو اتِّباع الشريعة السابقة أو الاستقلال بشريعة ، وذلك لأنّه ثبت ( أن الشرائع الإلهية لا تزيد على خمس هي شرائع : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسىٰ ، ومحمد صلّى الله عليه وآله ، وقد صرّح القرآن برسالات جمع كثير من غير هؤلاء .. ) (٤) ويقرر أن وجه الاختلاف بينهما متمثل في أن ( للرسول شرف الوساطة بين الله سبحانه وبين خلقه فهو مرسل برسالة خاصة زائدة على أصل النبوة ، وللنبي شرف العلم بالله وبما عنده ، فهو قد بعث لينبئ الناس بما عنده من الغيب ) (٥).

ومن هنا يتبين بطلان قول الحشوية والمعتزلة في بيانهم نوع الفرق ، فضلاً عن بطلان القول بعدم الفرق بين المصطلحين ، لتوافر الدلائل المتعددة في

________________

(١) أصول الكافي ١ : ١٧٦ / ٢ باب الفرق بين النبي والرسول والمحدث من كتاب الحجّة.

(٢) بصائر الدرجات : ٣٨٨ باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم‌السلام وفيه عدّة أحاديث ، وأصول الكافي ١ : ١٧٦ باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث عليهم‌السلام من كتاب الحجّة وفيه عدّة أحاديث.

(٣) أوائل المقالات / الشيخ المفيد : ٤٥ / ٨.

(٤) الميزان ١٤ : ٢٩١.

(٥) الميزان ٢ : ١٤٥.

٩٣

الكتاب الكريم على وجود التفاضل والاختلاف بين المرتبتين ، كما أن دلائل عديدة تشير إلى الاختلاف من وجوه متعددة من ضمنها عموم شريعة الرسول وخصوص نبوة النبي ، ومن ضمنها أيضاً أن الرسول من له شرع خاص به مستقل عمن سبقه أو مكمِّل له. والنبي قد لا يأتي بشرع جديد أصلاً بل يتبع شريعة من قبله كأنبياء بني إسرائيل ، كما أن التبليغ وعدمه يشكلان فرقاً آخراً مهماً بين المرتبتين. ومما يستدل به على هذا التفريق ، وثبوته ما رواه عبد الرحمن بن كثير الهجري ، عن إمامنا الباقر عليه‌السلام في أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، خمسة منهم أولو العزم (١) ، وما رواه أبو ذر الغفاري رضي‌الله‌عنه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « .. قلت : يا رسول الله كم النبيون ؟ قال : « مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي ، قلت : كم المرسلون منهم ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ثلاثمائة وثلاثة عشر جمّاء غفيراء » (٢).

وهذه الوجوه وغيرها من اعتبارات أخرى ، مما يتميز بها بعض الأنبياء دون بعض كما يتميز بها بعض الرسل دون سائر الأنبياء عليهم‌السلام.

والتفاضل بين الأنبياء أمر أيدته الآيات الكريمة في ظواهرها كما دلّت عليه آيات أخرى بصورة غير مباشرة ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ .. ) (٣).

________________

(١) بصائر الدرجات : ١٤١ / ١ باب نادر ، وأصول الكافي ١ : ٢٢٤ / ٢ باب أن الأئمّة ورثوا علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجميع الأنبياء والأوصياء من كتاب الحجّة ، وعنه في بحار الأنوار ١١ : ٤١ / ٤٣.

(٢) الخصال / الشيخ الصدوق : ٥٢٣ ـ ٥٢٤ / ١٣ أبواب العشرين فما فوقه ، ومعاني الأخبار له أيضاً : ٣٣٢ ـ ٣٣٣ / ١ باب معنى تحية المسجد ، وفيه : ( جمّاً غفيراً ).

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٣.

٩٤

واستجماعاً لصورة هذا التفاضل نجده ظاهراً من حيث عدة اعتبارات :

فإننا نجد تفاضلاً باعتبار طريقة الوحي كأفضلية موسى عليه‌السلام باختصاصه بالتكليم المباشر من وراء حجاب ، قال تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ) (١) ، وقال تعالى : ( ... وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) (٢) ، وأفضلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتكليم المباشر دون حجاب وذلك في قوله تعالى : ( فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) (٣).

وهناك التفاضل باعتبار عموم الرسالة والشريعة ففضل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة إلى عموم البشر ، قال تعالى : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا .. ) (٤) ، وأرسل أغلب الأنبياء عليهم‌السلام إلى أممهم خاصة أو شعوبهم أو مدنهم ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا .. ) (٥) ، ( كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) (٦).

ومنها التفاضل من حيث الإتيان بالتشريع ، فمن الرسل من يأتي بشريعة جديدة متكاملة تنسخ شريعة من قبله أو تكملها كموسى وعيسىٰ ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي جاء بخاتمة الشرائع وأكملها ، ومنهم من لا يأتي بشريعة بل يتبع شريعة

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٤.

(٣) سورة النجم : ٥٣ / ١٠.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٥٨.

(٥) سورة النمل : ٢٧ / ٤٥.

(٦) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٢٣ ـ ١٢٥.

٩٥

من سبقه أو كان في عصره ، وهذا كسائر الأنبياء عليهم‌السلام مثل لوط الذي كان في عهد إبراهيم عليه‌السلام. وهكذا يفترقون من حيث هذا الاعتبار فإنّ منهم من شرع ، ومنهم من لم يشرع (١).

ومنها أيضاً التفاضل من حيث المعجزات والكرامات المصاحبة للاصطفاء والنبوة ، فمنهم من انفرد بمعجزة واحدة على قدر ما يستوعبه عصره من وجوه خرق القوانين والعادات الطبيعية تكون وقتية محدّدة باستمرار نبوته كموسى وعيسىٰ عليهما‌السلام ، ومنهم من كانت معجزته مستمرة وباقية حتى بعد نبوته كمعجزة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله الخالدة إلى يوم القيامة وهي القرآن الكريم.

من مجمل هذه الوجوه في التفاضل وغيرها نستشف أن النبوة في ذاتها مرتبة واحدة مستوية ، وخصلة مشتركة في جميع هؤلاء البشر المخصوصين. فالنبوة هي فضيلة الجميع ، وأنهم إنّما يتفاوتون في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والألطاف والمعجزات المتباينة ، وهذا ما دل عليه ظاهر آية التفضيل نفسها فقد جاء الخصوص فيها بقوله تعالى : ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ) وقال تعالى : ( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ). فالآية نبّهت أولاً إلى أنهم مشتركون جميعاً في مرتبة الإرسال بالنبوة ثم خصّ بعضهم بالتكليم والرفع درجات :

فإذا كان موسى كلّم فإنّ الأنبياء جميعا كلّموا أيضاً إلّا أنّ موسى خصَّ من

________________

(١) مجمع البيان / الطبرسي ٣ : ٣٥٨.

٩٦

بينهم بالكلام من وراء حجاب ، وكلّم الآخرون بالوحي إلهاما أو بواسطة الرسول الملكي.

وأمّا الرفع درجات فقد ذهب المفسرون إلى أنّها مرتبة مخصوصة بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ رفعه الله تعالى بذلك على سائر الأنبياء والرسل فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة لما اختصّه تعالى بمعاجز كثيرة تسع عدّة مجلّدات فضلاً عن معجزته صلى‌الله‌عليه‌وآله الخالدة إلى يوم القيامة وهي القرآن الكريم.

من خلال هذا الافتراق بين الرسل والأنبياء نستشفّ أنّ في القرآن تفريقاً بين طائفين من الأنبياء عليهم‌السلام هما :

١ ـ الأنبياء عموماً ممن بعث إلى الأُمم والشعوب والبلدان والقبائل.. إلخ :

وهؤلاء غالبية الأنبياء عليهم‌السلام إذ اختصت نبواتهم بحدود تلك الأُمم والشعوب وقد عدّوا بعشرات الآلاف وهو مدلول ما تقدّم برواية عبد الرحمن ابن كثير الهجري ورواية أبي ذرّ الغفاري ، ولا شكّ أنّ القرآن الكريم لم يرد فيه ذكر لمثل هذا العدد الهائل أو تحديد حتّى لما يقرب منه ، إلّا أنّه من السهل تصوّر مثل هذا العدد إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أمرين تقرّهما الآيات :

أوّلهما : أنّه ما من أُمّة إلّا ولها رسول يدعوها إلى شريعته تعالى ، قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ .. ) (١).

________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٤٧.

٩٧

ثانيهما : أنّ القرآن صرَّح أنّ من الأنبياء من لم يرد ذكره وقصصه فيه ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ) (١).

٢ ـ الرسل ذوو الشرائع الكبرى :

وهؤلاء تميَّزوا عن سائر الأنبياء عليهم‌السلام بأنّ لكلّ منهم شريعة إلهيّة عامّة بعث بها فتعدّت رسالته حدود أُمّته وزمانه ، ومن المفسّرين من يرى اختصاص هؤلاء بوصفه تعالى بـ ( الرسل أولي العزم ) ، إذ قال تعالى : ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ .. ) (٢).

ومن ذهب إلى اختصاصهم بهذا الوصف دون غيرهم استدلّ بأنَّ ( من ) في الآية جاءت للتبعيض ، وقد اختلفوا في عددهم فقيل خمسة ، وقيل ستة ، وقيل تسعة واثني عشر وثمانية عشر (٣).

وهناك رأي آخر قال : بأن المقصود بأولي العزم هم الأنبياء جميعاً فلم يبعث الله رسولاً إلّا إذا كان ذا عزم وحزم .. وأولو ( من ) هنا بأنها جاءت للتبيين ، وليست للتبعيض ، ومن هؤلاء المفسرين ابن عباس (٤).

والصحيح في هذا ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام كما تقدّم برواية عبد الرحمن بن كثير الهجري من أن أُولي العزم خمسة ، وكذلك رواية سماعة ابن مهران قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله ( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ

________________

(١) سورة المؤمنون : ٢٣ / ٧٨.

(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ٣٥.

(٣) انظر : الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ١٦ : ٢٢٠.

(٤) انظر : مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ٢٨ : ٣٥.

٩٨

مِنَ الرُّسُلِ ) ؟ قال : نوح ، وإبراهيم ، وموسىٰ ، وعيسىٰ ومحمد صلى الله عليه وآله وعلى جميع أنبيائه ورسله. قلت : كيف صاروا أُولي العزم ؟ قال : لأن نوحاً بعث بكتاب وشريعة فكل من جاء بعد نوح عليه‌السلام أخذ بكتابه وشريعته ومنهاجه ، حتىٰ جاء إبراهيم عليه‌السلام بالصحف وبعزيمة ترك كتاب نوح لا كفراً به ، وكل نبي جاء بعد إبراهيم جاء بشريعة إبراهيم ومنهاجه بالصحف ، حتّىٰ جاء موسى عليه‌السلام بالتوراة وشريعته ومنهاجه وبعزيمة ترك الصحف فكل نبي جاء بعد موسى أخذ بالتوراة وشريعته ومنهاجه ، حتىٰ جاء المسيح عليه‌السلام بالإنجيل وبعزيمة ترك شريعة موسى ومنهاجه ، حتّىٰ جاء محمد صلّى الله عليه وآله فجاء بالقرآن وشريعته ومنهاجه ، فحلاله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، فهؤلاء أولو العزم من الرسل » (١).

وفي حديث ابن أبي يعفور ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « سادة النبيّين والمرسلين خمسة وهم أولو العزم من الرسل وعليهم دارت الرحا : نوح وإبراهيم وموسىٰ وعيسىٰ ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى جميع الأنبياء » (٢).

ويؤيّد ذلك بقوّة ويعاضده ان لكلّ من هؤلاء الخمسة عليهم‌السلام خصوصية بين سائر الأنبياء عليهم‌السلام من جميع وجوه التفاضل السابق ذكرها. فنوح عليه‌السلام هو صاحب أوّل شريعة متكاملة على الأرض ، وإبراهيم هو أبو الأنبياء عليهم‌السلام ، ومن شريعته ظهرت ملامح أصول الشرائع السماوية بعده ، وموسى وعيسىٰ

________________

(١) المحاسن / البرقي : ٢٦٩ ـ ٢٧٠ / ٣٥٩ ، وأصول الكافي ٢ : ١٧ / ٢ باب الشرائع من كتاب الإيمان والكفر.

(٢) أصول الكافي ١ : ١٧٥ / ٣ باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم‌السلام من كتاب الحجّة.

٩٩

ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله هم أصحاب الديانات السماوية الثلاثة الكبرى وهي أسس التشريع الذي تدين به معظم البشرية اليوم.

وقد عبَّر القرآن الكريم عن الوسائل التي ورد فيها التشريع المنسوب إلى الأنبياء بعدة صيغ ، منها :

أوّلاً ـ الكتب : وقد نسبت في القرآن الكريم إلى عدة أنبياء وذكرت بأسمائها أحياناً كالتوراة والإنجيل والزبور ، وعم ذكرها أحيانا أخرى بالكتب وهؤلاء الأنبياء هم :

أ ـ نوح عليه‌السلام وهو أول من جاء بكتاب كما تقدّم برواية سماعة بن مهران عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام آنفاً ولها شاهد من القرآن الكريم قال تعالى : ( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) (١).

ب ـ إبراهيم عليه‌السلام قال تعالى : ( .. فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ .. ) (٢).

ج‍ ـ داود عليه‌السلام نسب إليه الزبور ، قال تعالى : ( وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ) (٣).

د ـ موسى عليه‌السلام وقد وردت نسبة الكتاب له في نحو من عشر آيات (٤) ، وكتابه هو التوراة الذي خص بالذكر أيضاً في آيات عدة (٥) ، ومنها قوله تعالى :

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٣.

(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٤.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٤) انظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ٥٩٢.

(٥) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ٥٨ وما بعدها.

١٠٠