مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الأولياء على بعض الغيب بأن ( يلهم الله أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل ) (١).

وما ذُكِرَ بشأن الكِهانة والنجوم والكرامات يحتاج إلى بيان فنقول :

أمّا الكِهانة ـ بالكسر ـ : مصدر قولنا : كهن ـ بالضمّ ـ إذا صار كاهناً ، يُقال : كهن يكهن كهانة ، مثل : كتب يكتب كتابة ، إذا تكهّن ، والحِرفة : الكهانة ـ بالكسر ـ ، وهو عمل يوجب طاعة بعض الجانّ للمتكهّن بحيث تأتيه بالأخبار الغائبة وهو قريب من السحر (٢).

وقد كان في أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام منافقون ، إذا سمعوا إخباره بالغيب نسبوه عليه السلام إلى الكهانة ، أمثال المنافق عمرو بن حريث ونظرائه.

وقد وردت في تراث أهل البيت عليهم‌السلام كثير من الدعوات في التعوّذ من الكهانة والسحر (٣).

وعرّف ابن ميثم البحراني الكهانة في شرح قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ظن العاقل كهانة » فقال : « .. وأمّا الكهانة فهي ضرب من الاطلاع على الأمور الغيبية غير أن الآثار الصادرة عن الكاهن ضعيفة قليلة بحسب ضعف استعداده وقلّته ، ولذلك لا يتمكّن ـ في الغالب ـ من الإخبار بشيء من غير سؤال ، بل يحتاج إلى سؤال باعث له على التلقّي والإعداد لنفسه بالحركة وغيرها مما يدهش الحس ويحير الخيال... كما أن الكاهن يكاد أن لا يكون

________________

(١) مفاتيح الغيب ٣٠ : ١٦٨.

(٢) يُنظر : بحار الأنوار ٥٥ : ٢٥٩.

(٣) لاحظ : فرج المهموم / السيد ابن طاووس : ٥٩.

٢١

تلقّيه للأُمور الغيبية صادقاً ، ويختلف ذلك بحسب اختلاف الاستعدادات » (١).

والظاهر أنّ المراد بالكهانة في قول أمير المؤمنين عليه‌السلام ما هو مقرون بالأمارة باعتبار العادة ، فلا يرد أنّه يتوهّم من ظاهره جواز تصديق الكاهن وهو كفر (٢).

وفي حديث مساءلة الزنديق من الإمام الصادق عليه‌السلام برواية هشام بن الحكم قال : « فمن أين أصل الكهانة ؟ ومن أين يخبر الناس بما يحدث ؟ ».

فأجاب الإمام عليه‌السلام جواباً شافياً نذكره بلفظه ، فقال : « إنّ الكهانة كانت في الجاهلية في كل حين فترة من الرسل ، كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الأمور بينهم ، فيخبرهم عن أشياء تحدث ، وذلك من وجوه شتى : فراسة العين ، وذكاء القلب ، ووسوسة النفس ، وفتنة الروح ، مع قذف في قلبه ، لأن ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويوءديه إلى الكاهن ، ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف ، وأما أخبار السماء فإن الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك ، وهي لا تُحجَب ، ولا تُرجَم بالنجوم ، وإنما مُنِعت من استراق السمع لئلا يقع في الأرض سبب تشاكل الوحي من خبر السماء ، فيُلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله ، لإثبات الحجّة ، ونفي الشبهة ، وكان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه فيختطفها ، ثم يهبط بها إلى الأرض ، فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحق بالباطل ، فما أصاب الكاهن من

________________

(١) شرح مئة كلمة / ابن ميثم البحراني : ٨٥ و ٨٧.

(٢) انظر : شرح كلمات أمير المؤمنين عليه‌السلام / الشيخ عبد الوهاب : ٤٤.

٢٢

خبر مما كان يخبر به ، فهو ما أدّاه إليه الشيطان لما سمعه ، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمنذ مُنِعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة ، واليوم إنّما تؤدي الشياطين إلى كهانها أخباراً للناس بما يتحدثون به وما يحدثونه ، والشياطين تؤدي إلى الشياطين ما يحدث في البعد من الحوادث : من سارق سرق ، ومن قاتل قتل ، ومن غائب غاب. وهم بمنزلة الناس أيضاً ، صدوق وكذوب .. » (١).

ومن هنا يتبيّن الفرق بين علم الكاهن وعلم النبي ، بأخذ الكاهن علمه من الشياطين مع عدم وضوح الرؤيا وامتزاج ذلك بالأوهام والخرافات والأكاذيب أحياناً ، بينما يأخذ النبي علمه من الله عزّوجلّ عن طريق الوحي الصادق ، الخالص من تلك الشوائب كما بيّنه تعالى في القرآن الكريم.

وقد حرّم فقهاء الشيعة الكهانة ، وأفرد لها محدّثوهم أبواباً صريحة في تحريمها.

وأمّا النجوم ويراد بذلك ( علم النجوم ) ، وهو : « العلم بآثار حلول الكواكب في البروج والدرجات وآثار مقارناتها وسائر أنظارها ونحوه ، والتنجيم : هو الحكم بمقتضى تلك الآثار » (٢).

ويظهر من الكتاب والسنّة صحّة علم النجوم في الجملة ، كقوله تعالى في قصّة إبراهيم عليه‌السلام : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) (٣) ، ولو كان هذا العلم كفراً لما نظر فيه إبراهيم عليه‌السلام ، وقد ورد في أخبار كثيرة ذكرها غير

________________

(١) الاحتجاج / الطبرسي ٢ : ٨١.

(٢) مستند الشيعة / النراقي ١٠ : ٤٠٧.

(٣) سورة الصافّات : ٣٧ / ٨٨ و ٨٧.

٢٣

واحد من علمائنا كالسيد ابن طاوس وغيره أنّه علم الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ، وأنّ أوّل من تكلّم به هو إدريس عليه‌السلام ، وكان ذو القرنين به ماهراً ، وإنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه‌السلام كان أعلم الناس بهذا العلم ، وأنّ أهل البيت عليهم‌السلام كانوا كذلك. وقد قرئ هذا العلم على أساطين العلماء من الفريقين.

وعلم النجوم أمارة تقتضي غالب الظن عند كثير منهم ، وكما أنّ علوم الطب مبنيّة على الأمارات التي تقتضيها التجارب وغالب الظن ، فكذلك القول في علم النجوم.

وقد أفتى بجواز الإخبار عن الأمور المستقبلية استناداً على هذا العلم بعض علمائنا.

قال الشيخ الأنصاري في المكاسب في حديثه عن علم النجوم والتنجيم : « يجوز الإخبار بحدوث الأحكام عند الاتصالات والحركات المذكورة ـ أي في علم النجوم ـ بأن يُحكَم بوجود كذا في المستقبل عند الوضع المعين من القرب والبعد والمقابلة والاقتران بين الكوكبين إذا كان على وجه الظن المستند إلى تجربة محصلة أو منقولة في وقوع تلك الحادثة بإرادة الله عند الوضع الخاص حينئذٍ من دون اعتقاد ربط بينهما أصلاً ، بل الظاهر جواز الإخبار على وجه القطع إذا استند إلى تجربة قطعية » (١).

نعم إذا كان زعم المنجّم ارتباط بعض الحوادث السفلية بالأجرام العلويّة أنّها هي العلّة المؤثّرة في تلك الحوادث بالاستقلال ، أو أنها شريكة في التأثير ، فيكون هذا الزعم باطلاً ، والعلم المبتني على ذلك كفراً. وعلى هذا يحمل ما

________________

(١) المكاسب / الشيخ الأنصاري ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٢٤

ورد من التحذير عن علم النجوم والنهي عن اعتقاد صحّته ، ويحمل عليه أيضاً تحريم بعض الفقهاء له للمحظور من اعتقاد التأثير كما ذهب إلى ذلك الشهيد الأوّل (١). وأما لو لم يكن الأمر كذلك فلا إشكال في تعاطيه أصلاً.

وأمّا الكرامات فقد عرفها بعضهم بأنّها : « أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن لدعوى النبوة » (٢) ، وقد تسمّى بالمعاجز ؛ لأنّ المعجزة أمر خارق للعادة أيضاً ، والتفريق بينهما على أساس اختصاص المعجزة بالأنبياء عليهم‌السلام تصديقاً لدعوتهم ، والكرامة بالأولياء ، غير صحيح ، لاشتهار بل تواتر اطلاق المعاجز على كرامات الأئمة عليهم‌السلام.

قال الشيخ المفيد بشأن ظهور المعجزات على الأئمة عليهم‌السلام : « فأمّا ظهور المعجزات والإعلام ، فإنّه من الممكن الذي ليس بواجب عقلاً ولا ممتنع قياساً ، وقد جاءت بكونه فيهم عليهم‌السلام الأخبار على التظاهر والانتشار ، فقطعت عليه من جهة السمع وصحيح الآثار ، ومعي في هذا الباب جمهور أهل الإمامة.

وبنو نوبخت تخالف فيه وتأباه.

وكثير من المنتمين إلى الإمامية يوجبونه عقلاً كما يوجبونه للأنبياء.

والمعتزلة بأسرها على خلافنا جميعاً فيه سوى ابن الأخشيد ، ومن اتبعه يذهبون فيه إلى الجواز.

وأصحاب الحديث كافة تجوزه لكل صالح من أهل التقى والإيمان » (٣).

________________

(١) الدروس / الشهيد الأوّل ٣ : ١٦٥.

(٢) معجم ألفاظ الفقه الجعفري / الدكتور أحمد فتح الله : ٣٤٦ ( الكرامة ).

(٣) أوائل المقالات : ٦٨ ـ ٦٩ / ٤٢.

٢٥

وتحت عنوان : ( القول في ظهور المعجزات على المنصوبين والخاصة والسفراء والأبواب ) ، قال : « إنّ ذلك جائز لا يمتنع فيه عقل ولا سنّة ولا كتاب ، وهو مذهب جماعة من مشايخ الإمامية ، وإليه يذهب ابن الإخشيد من المعتزلة ، وأصحاب الحديث في الصالحين والأبرار.

وبنو نوبخت من الإمامية يمنعون ذلك ويوافقون المعتزلة في الخلاف علينا فيه ، ويجامعهم على ذلك الزيدية والخوارج المارقة عن الإسلام » (١).

وقد بيّن الشيخان : فضل الله الزنجاني والواعظ الجرندابي في تعليقاتهما على أوائل المقالات جواز ظهور الكرامات على الأولياء والأبرار عند أكثر الفرق ، كما جوزه من المعتزلة غير أبي بكر الأخشيد المذكور في كلام الشيخ المفيد ، أبو الحسين البصري المعتزلي.

وأكثر محققي الأشعرية كالجويني والغزالي وفخر الدين الرازي وغيرهم على الجواز.

وأثبت الفلاسفة المسلمون ذلك أيضاً بحجج عقلية كابن سينا في الشفاء والإشارات وغيرهما.

وأما الزيدية فالمذكور في كلام الشيخ المفيد أنّهم يوافقون المعتزلة في نفي صدور الكرامات على الأولياء والصالحين ، وكأنّه كان في بعض متقدّميهم ذلك ، وإلّا ففي كلام المتأخرين منهم جوازه ، فقد نقل الشيخ فضل الله الزنجاني كلام السيد أبي الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني أحد أئمة الزيدية في كتابه الكبير في علم الكلام المسمى بـ ( الشامل ) أنّه قال بعد

________________

(١) أوائل المقالات : ٦٩ / ٤٣.

٢٦

ذكره امتناع ظهور الخوارق على الأولياء عند المعتزلة ، ووجوب ظهورها على الأئمة عليهم‌السلام عند الإمامية ما هذا لفظه : « وذهب الشيخ أبو الحسن والمحققون من الأشعرية كالغزالي والجويني وصاحب النهاية وغيرهم إلى جواز ظهورها عليهم ، وهو الذي ذهب إليه أئمة الزيدية ومن تابعهم من علماء الدين » (١).

وذكر ابن عابدين من العامة في حاشية ردّ المحتار عن التفتازاني أنّه نقل عن النسفي حين سُئل عن ما يُحكى أنّ الكعبة كانت تزور واحداً من الأولياء ، هل يجوز القول به ؟ فقال : « نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنّة » (٢).

وقال ابن عابدين في مكان آخر : « والحاصل أنّه لا خلاف عندنا في ثبوت الكرامة » (٣).

وأما عن بني نوبخت فليس كلهم على المنع من ذلك ، إذ بيّن الواعظ الجرندابي في تعليقاته على أوائل المقالات ما يدل أنّ بعض النوبختيين المتأخرين يوافقون في ظهور الإعلام والمعجزات على الأئمة عليهم‌السلام ، إذ نقل عن الشيخ الجليل أبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت قوله في كتابه ( الياقوت ) : « وظهور المعجزات على أيدي الأئمّة عليهم‌السلام جائز ، ودليله قصة مريم وآصف وغير ذلك ». ثم نقل عن العلّامة الحلي في شرحه لكتاب الياقوت قوله : « إنّه غير مستحيل ولا قبيح فجاز إظهاره. أما عدم قبحه ، فلأن جهة القبح هو الكذب ، وهو منتفٍ هاهنا ، إذ صاحب الكرامة لا يدّعي النبوة ، فانتفى وجه

________________

(١) تعليقات الشيخ فضل الله الزنجاني على أوائل المقالات : ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٢) حاشية ردّ المحتار / ابن عابدين ٣ : ٦٠٥.

(٣) حاشية ردّ المحتار ٣ : ٦٠٦.

٢٧

القبح » (١).

وفي عبارة العلامة الحلي رحمه‌الله : ( إذ صاحب الكرامة لا يدّعي النبوة ) جواب لشبهة المعتزلة في أنّ الكرامة لغير النبي تبطل دلالة المعجزة على النبوة ، بمعنى أنّه لو ظهرت الكرامة للولي لاشتبهت بمعجزة النبي ، وحينئذٍ لا يتميز النبي عن غيره !

ومن الواضح أنّ صاحب الكرامة من الأولياء والصالحين لا يدّعي النبوة وإنّما هو رجل محقٌّ في أقواله وأفعاله ، ولن تظهر الكرامات على أحد إلّا وهو مستحق لها ، ومحق في دينه واتباعه لنبيه ، لامتناع ظهور الكرامات على الكذابين. ولا يُشتبه ذلك بالساحر الذي قد يوجد بعض الأشياء التي تترتب عليها آثار غريبة تشبه الكرامات من دون استناد إلى الأمور المحسوسة ولا إلى الشرعيات كالآيات والدعوات المأثورة ، لأنّه باطل في نفسه مع عدم تدين الساحر أصلاً ، وإمكان نقض سحره ، ولا يجوز فعله إلّا إذا توقّف عليه واجب أهم من السحر نفسه (٢).

وفي تفسير القمي في قوله تعالى : ( إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا ) (٣) ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : « فهي الكرامات » (٤).

إنّ للروح الإنسانية منازلَ عديدة أشرفها منزلة عين اليقين ومتى ما وصل الإنسان إلى تلك المنزلة كانت له قدرة من الله عزّوجلّ على أفعال غريبة وآثار

________________

(١) تعليقات الواعظ الجرندابي على أوائل المقالات : ١٧٦.

(٢) انظر : إرشاد السائل / السيد الكلبايكاني : ١٨٤ مسألة (٦٧٦) ، ونحوه في هداية العباد / له أيضاً ١ : ٣٤٢ مسألة (١٧٠٣).

(٣) سورة النبأ : ٧٨ / ٣١.

(٤) تفسير القمّي ٢ : ٤٠٢ ، وعنه في بحار الأنوار ٨ : ١٣٤ ، و ٦٧ : ٢٨٢.

٢٨

عجيبة بإذن الله تبارك وتعالى كمصافحة الملائكة والمشي على الماء وغير ذلك.

وأما من رفض حب الدنيا ، وطلقها ثلاثاً لا رجعة له فيها ، وتمحص في عالم الغيب تمحيصاً دقيقاً بحيث لو انكشف له الغطاء لما ازداد يقيناً ، فهو الأولى من جميع الأولياء بأن تصافحه ملائكة السماء ويمشي على الماء ، وتظهر منه الكرامات الكثيرة والمعاجز الجليلة. الأمر الذي تواتر من طرق الفريقين بحق مولى المتقين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، وما ردّ الشمس بعد أن طفلت للمغيب عليه بغريب.

ونكتفي بهذا القدر لنعود إلى أصل الموضوع فنقول : إنّ قَصْرُ تعليم الغيب للعباد على الاصطفاء من بينهم دال على أن هذا العلم مَنٌّ و ( لطف ) إلٰهي خاص ، وليس واجباً أن ينعم به كل بشر فيكون منفياً إذا تحقق في أحدهم دون الجميع.

وما ينبئ به واقع الحال أن الخاصة الذين اصطفاهم الله تعالى لعلم غيبه هم الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، وقد وردت أحاديث كثيرة متواترة في عدم اختصاص قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ .. ) (١) بالأنبياء والرسل ، وإنما تشمل أوصيائهم عليهم‌السلام.

منها : ما ورد في الصحيح جدّاً عن حمران بن أَعْيَن الثقة في سؤاله من الإمام الباقر عليه‌السلام : « أرأيت قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ) ؟ فقال أبو جعفر عليه‌السلام ( إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) وكان ـ والله ـ محمد صلّى الله عليه وآله ممّن ارتضى ، وأمّا قوله : ( عالم الغيب.. ) فإن الله تبارك وتعالى عالم بما غاب عن

________________

(١) سورة الجنّ : ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧.

٢٩

خلقه ، فما يقدّر من شيء ويقضيه في علمه قبل أن يخلقه وقبل أن يقبضه إلى الملائكة فذلك يا حمران علم موقوف عنده ، إليه فيه المشيئة فيقبضه إذا أراد.. فأمّا العلم الذي يقدّره الله ويمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ثمّ إلينا » (١).

ومنها : ما ورد في الاحتجاج عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام في حديث طويل جاء فيه : « .. وألزمهم الحجّة بأن خاطبهم خطاباً يدلُّ على انفراده وتوحيده ، وبان لهم أولياءه تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله ، وعرّف الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ).

قال السائل : من هؤلاء الحجج ؟

قال : هم رسول الله صلّى الله عليه وآله ، ومن حلَّ محلِّه من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه ، وفرض على العباد طاعتهم مثل الذي فرض عليهم منها لنفسه.. » (٢).

ومنها : حديث محمد بن الفضل الهاشمي ، عن الرضا عليه‌السلام : « .. ثم نظر الرضا عليه‌السلام إلى عمرو بن هذّاب وقال : إن أنا أخبرتك بأنّك ستُبلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك ، كنت مصدّقاً لي ؟

قال : لا ، فإنّ الغيب لا يعلمه إلّا الله !

________________

(١) بصائر الدرجات : ١٣٣ / ١ ، وأصول الكافي ١ : ٢٥٦ / ٢ باب نادر فيه ذكر الغيب من كتاب الحجّة.

(٢) الاحتجاج / الطبرسي ١ : ٣٧٥ ، وعنه في تفسير نور الثقلين / الحويزي ٥ : ٤٤٤ / ٥٩.

٣٠

قال عليه‌السلام : أو ليس الله يقول : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) فرسول الله صلّى الله عليه وآله عنده مرتضىً ، ونحن ذرية ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما شاء من غيبه ، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وإنّ الذي أخبرتك به يابن هذّاب لكائن إلى خمسة أيام .. » (١).

وقد تحقّق الخبر على طبق ما أخبر به عليه‌السلام كما في تتمّة الحديث.

وقد ورد في بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ الحرف ( من ) في قوله تعالى : ( مِن رَّسُولٍ ) ليست بيانية ، فيكون المعنى إلّا من ارتضاه الرسول للوصاية والإمامة بأمر الله تعالى كما في تفسير القمّي (٢).

ويؤيّده ما رواه فرات الكوفي عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال ـ مبيّناً أبرز مصاديق الآية ـ : « عليّاً المرتضى من الرسول صلّى الله عليه وآله » (٣).

وكذلك في حديث سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه ، عن أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام ، قال : « يا سلمان أما قرأت قوله تعالى حيث يقول : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) ؟

فقلت : بلى ياسيدي.

فقال عليه‌السلام : ياسلمان أنا المرتضى من الرسول الذي أظهره الله على غيبه » (٤).

وكذلك ما ورد بسند صحيح جدّاً في قصّة التوقيع الخارج من الناحية المقدّسة في إعلام الشيخ الجليل الثقة القاسم بن العلاء الأذربيجاني رضي‌الله‌عنه

________________

(١) الثاقب في المناقب / ابن الحمزة الطوسي : ١٨٩ / ١٧١ (١).

(٢) تفسير القمّي ٢ : ٣٩٠.

(٣) تفسير فرات الكوفي : ٥١١.

(٤) نوادر المعجزات / الطبري : ١٨.

٣١

في قرب أجله وتحديد موعده ، واعتراض عبد الرحمن بن محمد ـ صديق القاسم ـ حين اطلع على أصل التوقيع ، واحتجاجه بقوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ) « فضحك القاسم وقال له : أتمّ الآية : ( إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) ، ومولاي عليه‌السلام هو الرضا من الرسول » (١).

نعم اختصاص الوحي بالأنبياء دون أوصيائهم لا إشكال فيه ، وأمّا الاصطفاء فهو للأنبياء والرسل والأوصياء ، وهذا الاصطفاء لنفر من البشر لابدّ له من علة اقتضت التخصيص بلطف إلٰهي لم يلتزم المساواة بين العباد ، بل فرق في إسباغه على هؤلاء النفر الذين تمثلت فيهم استعدادات خاصة سمت بها نفوسهم عن مستوى النفوس البشرية الأخرى في التنزه عن الأدران والعصمة عن الخطايا والأخطاء والنسيان والكذب والافتراء والهوى والزيغ ، فعاد علم الغيب أمراً إلهياً بالاختصاص ، لا دخل فيه للكسب والسعي في النظر والتعلم والاستدلال.

ولا سبيل إليه باجتهاد الفكر وإعمال العقل وإنعام النظر ، ولا وصول إليه بالترقي الروحي أو الأخلاقي.

ومن هنا يثبت انتفاء علم الغيب عن غيره تعالى إلّا بتعليمه هو عزّ وجلّ وهذا الاختصاص فيمن يُلقى إليه الغيب وحياً مرتبط إذن باستعداد فطري اختص به الأنبياء عليهم‌السلام يتمثّل في العصمة ، فهم ( يجب أن يكونوا معصومين أي : لا يخطئون في تلقي الوحي من العالم العلوي ، وفي إبقاء ما تعلموه وفي تبليغه .. ) (٢) لأنّ إطْلاعهم عليه خارج عن كل ما يدخله في إطار الكسب أو السعي.

________________

(١) كتاب الغيبة / الشيخ الطوسي : ٣١٠ ـ ٣١٢ / ٢٦٣.

(٢) القرآن في الإسلام / الطباطبائي : ١٠٦.

٣٢

وهذا الاصطفاء لا يكون من أجل الإطْلاع على ما يتضمنه الوحي من إلقاء لمعارف غيبية وحسب وإنّما الأمر مَنوط بتوافر معنى الرسالة والإرسال فالآيات الكريمة تَقْصُر طريق الاطْلاع على الغيب بالرسالات والتعاليم الموحاة إلى الأنبياء عليهم‌السلام بدلالة قوله تعالى : ( لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ .. ) (١) ، ويؤكد ذلك أيضا قوله تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ .. ) (٢).

فالآية تؤكّد اقتصار إلقاء الوحي ، وهو معنى الروح المراد هنا ، على الرسالة وتعاليم الأنبياء عليهم‌السلام ( من خلال شأنها المتمثِّل بالإنذار ) (٣).

ثالثاً ـ حكمته وغاياته :

يحمل الوحي بين ثنايا ما يلقي به من معارف ، بوصفه ظاهرة خارقة لحدود عالَمين مختلِفَين ورابطة بينهما ، حكمة كبيرة تمثل أساسا من أسس العلاقة بين الله سبحانه وعباده ، فمعارف الوحي الملقاة إلى الأنبياء عليهم‌السلام لتبليغها إلى البشر تهدف إلى الإنذار والتبشير ، وهؤلاء الأنبياء هم المنذِرون المبشِّرون ، قال تعالى : ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (٤).

والإرسال لهؤلاء المصطفين إلى سائر البشر لتبليغهم الأحكام والأوامر

________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ٢٨.

(٢) سورة غافر : ٤٠ / ١٥.

(٣) الميزان / الطباطبائي ١٧ : ٣١٨.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ٤٨.

٣٣

الإلهية إنّما هو لطف إلٰهي وتحقيق لمفهوم العدالة الإلهية بل ( إن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي الإلٰهي على جماعة من البشر هم الأنبياء عليهم‌السلام ) (١).

هكذا توالت النبوات ، مبشرة بالهداية الإلهية وداعية الإنسان إلى صراط مستقيم ، لتنتشله من براثن المادية وأهواء النفس وغرائزها ، قال الإمام علي عليهم‌السلام : « وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكروهم منسي نعمته ، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ، ويثيروا لهم دفائن العقول » (٢). فوظيفة الرسل في حقيقتها استخراج مكنون الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، لأنّ غاية الوحي الإلٰهي في ختام الدعوة الدينية عموماً هي الدعوة إلى دين الفطرة الذي يتمثل بما هو ( مكنوز في فطرة الناس ، وإنّما حجبهم عنها ما ابتلوا به من الشرك والمعصية مما يوجب عليهم غلبة الشقوة ونزول السخط الإلٰهي ) (٣).

وهدف الوحي فيما يريد اثباته على الناس هو الاحتجاج عليهم بوجود البشارة والإنذار والبيان والأحكام ، والمعارف والأوامر ( لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٤) لجهلهم ما يجب عمله من أصول الإيمان وما تصح به الأنفس وتتزكى من صالح الأعمال (٥).

رابعاً ـ أهميته :

من خلال إحاطة الموحي بسنن الوجود ونواميسه وتنظيمه لأسس

________________

(١) الميزان / الطباطبائي ٢ : ٣٣٠.

(٢) النبوة / الشيخ محمد حسن آل ياسين : ٥.

(٣) الميزان ٧ : ٣٩.

(٤) سورة النساء : ٤ / ١٦٥.

(٥) الوحي المحمدي / محمد رشيد رضا : ٣١.

٣٤

الحياة البشرية في علاقة الإنسان بالله وبأفراد نوعه تتجلى لنا أهمية الوحي في العقيدة الإنسانية الدينية ، وذلك أمر ظاهر من خلال توافر هذا الوحي على عناصر مؤكدة لضرورته يمكن إجمالها في الآتي :

١ ـ إنّه أساس العقيدة عند الإنسان ، لأنّه يمثل ( جوهر الرسالة ، بما يوحي الله فيه من عقيدة وتشريع ، وما يكلف به النبي من دعوة الناس إلى الدين ) (١).

٢ ـ إنّ الوحي هو الطريق الوحيد الذي بدونه لا تستطيع البشرية أن تتوصل إلى حقائق ما وراء المادة ، في قبال ( إمكاننا أن نتوصل إلى حقائق علوم الكون والحياة بالمنطق التجريبي والرياضي ) (٢). فالوحي هو الطريق إلى تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهزه الله بها أن ينال علمه (٣).

٣ ـ إنّه ما من تفسير لما يظهر على أيدي الأنبياء عليهم‌السلام من ظواهر خارقة وما تحمله رسالاتهم من خصائص وأبعاد إلّا بالوحي ، فإننا ( لا نجد ديناً من الأديان يخلو من فكرة الوحي مهما اختلفت المنازع في تصويره ، فالتخلي عن فكرة الوحي تقويض للدين من أساسه لاسيما الأديان السماوية ) (٤).

من مجمل هذه الأمور وما يرتبط بها من مفاهيم ومصاديق متفرعة يأخذ

________________

(١) انظر : الوحي / د. حسيب السامرائي : ٢٩ ، مجلة كلية الآداب ، بغداد ـ العدد ٢١ ، مجلد٢ ، ( ١٩٧٦ ـ ١٩٧٧ م ) ، مطبعة دار الجاحظ.

(٢) انظر : مقدّمة ( تثبيت دلائل النبوة ) للقاضي عبد الجبّار المعتزلي / د. عبد الكريم عثمان.

(٣) الميزان ٧ : ٢٧٥.

(٤) الوحي ، مجلة كلية الآداب / السامرائي : ٢٩ ـ ٣٠.

٣٥

الوحي بعده الديني الواسع ليتمثّل أساساً لأي دين سماوي ، فإنّه ( ما من دين سماوي إلّا ويعتمد على الوحي والإلهام ، فمنهما صدر وبما لهما من إعجاز وعلى تعاليمهما تأسست قواعده وأركانه ) (١).

خامساً ـ طرق الوحي الإلٰهي وأنواع متلقيه :

اعتماداً على نص الوحي الإلٰهي المعجز ، متمثلاً في القرآن الكريم بوصفه مصدقاً وحيداً موثوقاً لا يعتريه شك ، ومصدر بيَّن ـ بصورة جلية مجملة أحياناً ومفصلة أخرى ـ طُرُقَ إلقاء هذا الوحي وأنواع من يُلقى إليهم ، مع ملاحظة جهة العموم في لفظ الوحي هنا بشموله جميع أنواع الوحي الإلٰهي الوارد ذكره في القرآن الكريم على أنه ملقى منه تعالى إلى أنواع متعددة من المخلوقات بالإضافة إلى معنى الوحي الخاص بالوحي إلى الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، اعتمادا على كل ذلك يمكن استشفاف طرقه وأنواع متلقيه ، ففي مورد طرق هذا الوحي تقدم الآية (٥١) من سورة الشورى أوضح تفصيل لطرق إلقاء الوحي فيما يخص البشر ، إذ هي تبيّن طرق تكليمه تعالى لعباده بنصها على أنه : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (٢). فعبر تعالى في هذه الآية عن الوحي بالتكليم للتعميم في تناول مجمل أقسام الوحي إلى البشر لتتضمن :

١ ـ الوحي المباشر دون وساطة بل بالإلهام والقذف في الرُوع.

________________

(١) في الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيقه / د. إبراهيم مدكور : ٦٩.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٥١.

٣٦

٢ ـ الوحي بالتكليم من وراء حجاب.

٣ ـ الوحي بواسطة ملك الوحي المرسل إلى الأنبياء.

وتندرج تحت كل من هذه الطرق والأقسام أشكال متعدّدة ستتبيّن لنا خلال البحث.

أما في الوحي إلى غير البشر فلا نجد في القرآن الكريم ما يبين على سبيل التفصيل الظاهر الدلالة طرق هذا الوحي ، كالوحي إلى الحيوانات ومظاهر الطبيعة ، إلّا أنّ المفسرين حاولوا أن يستفيدوا ذلك من خلال مقابلة الآيات وربطها ببعضها وتفسير بعضها بدلالة البعض الآخر ، فكانت الاحتمالات في الوحي إلى غير البشر تدور في إطار : التسخير والإلهام الغريزي وما يقع ضمن ذلك ، وسيمرُّ بنا في المباحث القادمة تفصيلها.

أما من حيث أنواع من يُلقى إليهم الوحي الإلٰهي فإن آيات القرآن الكريم ناطقة بتعدّدهم واختلاف طرق وطبيعة نوع الوحي إلى كلّ منهم ، إذ يرد ذكر الوحي الإلٰهي في القرآن الكريم على أنّه يُلقى إلى الأنواع التالية :

١ ـ الأنبياء والرسل عموماً ، قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) (١).

٢ ـ الملائكة ، قال تعالى : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

٣٧

الَّذِينَ آمَنُوا ... ) (١).

٣ ـ الحواريين ، قال تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ) (٢).

٤ ـ الأسباط من أنبياء بني إسرائيل كما اشارت الآية (١٦٣) من سورة النساء المذكورة في النوع الأوّل.

٥ ـ البشر العاديين كأُمّ موسى عليه‌السلام ، قال تعالى : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) (٣).

٦ ـ الوحي إلى المخلوقات الأخرى ، كقوله تعالى : ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) (٤).

٧ ـ مظاهر الطبيعة من الجمادات وغيرها ، كقوله تعالى : ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا .. ) (٥).

وستكون لنا في المباحث القادمة في الرسالة وقفة متأنية مع طرق الوحي الإلهي وأنواعه وأقسامه وأنواع المتلقين له وطبيعة نوع كل وحي من تلك الأنواع وعناصره المميزة.

________________

(١) سورة الأنفال : ٨ / ١٢.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ١١١.

(٣) سورة القصص : ٢٨ / ٧.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ٦٨.

(٥) سورة فصلت : ٤١ / ١٢.

٣٨

الفصل الثاني الوحي الشيطاني

أوّلاً ـ حقيقة الشيطان :

لا بدّ من فهم حقيقة الشيطان لتصوّر الوحي الشيطاني والتعرّف على ما يحيط به من مفاهيم واستكناه كيفياته وأشكاله والاطّلاع على ما يمتلكه من قدرات عجيبة في التأثير في النفس الإنسانية ومسيرتها في الحياة.

هذا التأثير للشيطان يظهر جليّا في العديد من النصوص القرآنية التي تقرن بين النفس والشيطان من خلال ما تشير إليه من أشكال إغوائه وتزيينه الذنوب ، ودعوته الإنسان إلى المعاصي ، وفي كلّ هذه الموارد تكون النفس هي محلّ تأثيره وإلقاءاته.

والملاحظ أنّ القرآن الكريم يعبّر عن الشيطان بصيغ متعدّدة :

١ ـ فمرة يعبّر عنه ب‍ ( إبليس ) ( بمعنى اليائس في اللغة ) وقد ورد ذلك في نحو عشر آيات (١) ، كان أغلبها يدور في إطار قصّة اختيار آدم عليه‌السلام للخلافة في الأرض واستكبار إبليس عن السجود له عصياناً للأمر الإلٰهي واستنانه بذلك الخطيئة الأولى بما استحقّ به الرجم واللعنة إلى يوم الدين ، ونلاحظ أيضاً أنّه يسمّى إبليس دائما في المواضع التي يراد التعريف به بذاته بما هو شخص معين بحيث لا ينصرف الذهن إلى غيره بالذات ، قال تعالى : ( وَإِذْ قُلْنَا

________________

(١) انظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ٣٤.

٣٩

لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (١) ، وقال تعالى : ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ... ) (٢).

٢ ـ ويعبر عنه أيضاً باسم الشيطان ( أي المتمرد لغة والأصل : الحبل الطويل ) وأحيانا بصيغة الجمع ( الشياطين ) وقد ورد ذلك في أكثر من سبعين موضعاً (٣).

ونراه تعالى يسميه بالشيطان كلما أراد بيان أن صفاته الإغواء والإغراء على المعاصي وإضلال الناس بإلقاء أحابيله عليهم لصرفهم عن الحق ، ثم نجده تعالى يحذِّر العباد من الوقوع في فتنته : قال تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ .. ) (٤) ، وقال تعالى : ( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ... ) (٥) ، وقال تعالى بصيغة الجمع : ( إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ... ) (٦) ، فنلاحظ أن تسميته بالشيطان خرجت به عن التخصيص بإبليس بالذات ، كما أن استعمال صيغة الجمع خرجت به عن مثل هذا التخصيص إضافة إلى شمولها أتباعه وجنوده ومن هم من ذريته وكذلك أولياءه ممن هم من غير جنسه كشياطين الإنس ، قال تعالى : ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٤.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٧٥.

(٣) انظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ٣٨٢ ـ ٣٨٣.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٩١.

(٥) سورة النساء : ٤ / ٦٠.

(٦) سورة الأعراف : ٧ / ٢٧.

٤٠