مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ) (١) ، وكذلك قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ) (٢).

وهذه الإشارات التي تضمنت ذكر مواجهة الملائكة للأنبياء أو غيرهم لم تخصص أو تبين المراد بالملائكة بل اكتفت بالتعميم غالباً إلّا ماكان من التعبير بالروح القدس المؤيد به عيسى عليه‌السلام بقوله تعالى : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ... ) (٣) والذي أشارت آيات أخرى إلى أنه نزل بالقرآن الكريم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والمراد به جبرئيل عليه‌السلام ، وقال به الشيخ الطوسي والطبرسي وعلّلا تسميته تعالى له بالروح أنه كان بتكوين الله له روحاً من عنده من غير ولادة والد له فسماه بذلك روحاً ... (٤).

رابعاً ـ المبادئ العامة للوحي النبوي العام :

من كل ما مرّ من البحث في الوحي الإلٰهي إلى الأنبياء عموماً يمكن استخلاص جملة نقاط تمثل مبادئ عامة تطبع الوحي النبوي بطابعها ومنها :

١ ـ أنه لا وحي ولا نبوة بدون الغيب الإلٰهي المصدر ، فلا علم لنبي بالغيب قبل نبوته ولابعدها إلّا من خلال الوحي. وإن علم النبي يكون باصطفائه من بين الناس عموماً ليطلع عليه قال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ

________________

(١) سورة مريم : ١٩ / ١٧.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٤٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٨٧.

(٤) انظر : التبيان ٢ : ٣٠٤ ، والكشاف ١ : ٦٥٣.

١٤١

فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ .. ) (١).

٢ ـ إنّ أعلم الأنبياء والمرسلين بالغيب نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث أطلعه الله عزّوجلّ على علم ما كان وما هو كائن في زمانه وما سيكون إلى يوم القيامة.

وقد ورث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك كلّه أمير المؤمنين الإمام عليّ صلوات الله وسلامه عليه ، ومن ثمّ أولاده المعصومين عليهم‌السلام وكذلك الزهراء البتول عليها‌السلام.

وبهذا يكون أهل البيت عليهم‌السلام أعلم بالغيب من جميع الأنبياء والمرسلين سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٣ ـ إنّ الأنبياء عليهم‌السلام عموماً من البشر ولكنّهم اصطفوا لتبليغ الوحي إلى عموم الناس ، وإن هذا الاصطفاء مرتكز أساساً على قوله تعالى : ( .. الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ .. ) (٢).

٤ ـ إنّ أساس دعوة كل وحي كان لنبي من الأنبياء هو التوحيد ، فلم يبعث نبي إلّا والتوحيد على رأس دعوته ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) (٣).

٥ ـ إنّ اليقين النبوي بمصدر الوحي كان لازماً دائماً للوحي ، حيث يعلم كل نبي يقيناً بأن مصدر ما يلقى إليه هو الله وحده ، وأنّه ليس تحديثاً داخلياً نفسياً أو إلقاءً شيطانياً ، وأن يعلم أيضاً أنّه بهذا الإلقاء للوحي إليه فإنّه يكلف بالنبوة من الله تعالى ، فلا يعتري النبي شك في أن ما يوحى إليه من الله تعالى وأن ذلك أمر يعلمه دون الحاجة إلى إعمال النظر والبحث عن الأدلّة والحاجة

________________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ١٢٤.

(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢٥.

١٤٢

إلى البراهين.

الأمر الذي يؤكّد كذب جميع الأحاديث المروية في الصحاح وغيرها في قصّة بدء نزول الوحي والتي تصور أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بصورة الخائف الوجل الذي لم يعرف الوحي إلّا من طريق ورقة بن نوفل ! وغير ذلك من السخافات التي لا تليق بجلال الأنبياء عليهم‌السلام فضلاً عن أشرفهم وسيّدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٦ ـ أنه لم تخلُ أُمّة من رسول يرسل لدعوتها ، وأن من لوازم مبدأ الثواب والعقاب الإلٰهي أن تكون الحجة قد ألقيت والتعاليم قد بلّغت. قال تعالى : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) (١).

٧ ـ لم يرسل نبي ولا رسول إلى أمة إلّا بلسانها فيلقي عليهم الحجة ويدعوهم إليها بلغتهم ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ .. ) (٢). ولا يراد بقوله تعالى : ( .. بِلِسَانِ قَوْمِهِ ) القوم الذين هو منهم نسبا وإنّما القوم الذين يعيش بينهم ويخالطهم ويبعث إليهم بالنبوة ، وإلّا فإنّ العديد من الأنبياء أرسلوا إلى غير قومهم نسباً وكانوا يدعونهم بلسانهم. فإبراهيم عليه‌السلام دعا عرب الحجاز إلى الحج وأرسل موسى إلى فرعون وأهل مصر وغيرهم.

٨ ـ إنّ الدين الموحى إلى جميع الأنبياء والرسل عليهم‌السلام هو دين واحد ، فلا تناقض بين شريعة وأخرى وإنّما تكمل شريعة ما قبلها ويتّبع بعض الأنبياء

________________

(١) سورة يونس : ١٠ / ٤٧.

(٢) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤.

١٤٣

بعضاً أو تنسخ شريعة ما كان في شريعة قبلها كما نسخ الإسلام ماقبله من شرائع.

٩ ـ إنّ مبدأ الوعد والوعيد الإلهيين للبشر كان قاسماً مشتركاً في جميع الرسالات ، وعد بالثواب على الطاعات ، ووعيد بالعقاب على المعاصي فكان الرسل دوماً كما قال تعالى : ( وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ) (١).

١٠ ـ إنّ الأنبياء عليهم‌السلام يبعثون تَحُفُّ بهم العناية الإلهية ، ويسايرهم التسديد الإلٰهي ، لطفاً بهم وتأييداً لهم في تبليغ رسالاتهم وأماناً لهم من المبطلين والمنكرين للإرادة الإلهية ، فلا يتركون وحدهم في مواجهة بطش الطواغيت من الأُمم ، فإذا ما ضلّت أُممهم وأبت طريق الهداية استنقذوا مع مؤيديهم من العقاب الإلٰهي النازل بالعاصين.

١١ ـ إن كل من ذكر من أنبياء في القرآن الكريم كانوا من الرجال ، وقد دلت ظواهر بعض الآيات على أنه تعالى لم يبعث إلّا رجالاً ، قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ... ) (٢) ، وقال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ... ) (٣).

إلّا أن بعض المفسرين قالوا بنبوة النساء أيضاً ومثلوا لذلك بمريم عليها‌السلام (٤) وأولوا قوله تعالى : ( إِلَّا رِجَالًا ) بأن المراد منه إلّا بشراً من جنسكم وليسوا أناساً بقدرات خارقة خارجة عن البشرية.

________________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٤٨.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٩.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٤٣.

(٤) تبحث هذه المسألة في المبحث الثالث من هذا الفصل ضمن الوحي للنساء مع ذكر مختلف الآراء فيها.

١٤٤



الفصل الثاني

الوحي المحمدي

يحمل الوحي المحمدي بين ثناياه ملامح أعظم معجزة عرفها التاريخ الديني الإنساني صوّرت لنا مراحل ومواقف تاريخية لم يكن لبشر أن يجمع بينها ، أو يتوصل إلى ماهيتها إلّا بوحي إلٰهي مخصوص متميّز عن كل وحي سابق عليه. فالوحي المحمدي جمع بين كل صور الوحي للأنبياء ، ونقل ـ وهو بنفسه وحي إلهي ـ ما كان قبله من وحي ، وقص ما كان من قصص الأنبياء مع أممهم وشعوبهم ، وبين مراحل دعواتهم ، بل نقل حواراتهم ومخاطباتهم مع قطبي نبواتهم : الله تعالى في تلقيهم الوحي عنه ، والناس الذين نقلوا إليهم الوحي الإلٰهي.

فبالإضافة إلى كون القرآن الكريم بوصفه بناءاً متكاملاً بكل ما فيه هو وحي محمدي أوحِيَ حرفاً حرفاً إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما تحمله هذه الميزة من خصوصية فإنّ الوحي المحمدي نفسه يحتل من القرآن الكريم موقع الصدارة كمّاً ومرتبةً وأفضلية بخصائصه وأشكاله. والأكثر من هذا أن ذكر القرآن الكريم لأي وحي إلى الأنبياء الآخرين يرد دائماً إما مدخلاً للوحي المحمدي ، أو خاتمة للدلالة عليه ، قال تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا

١٤٥

إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ... ) (١) ، فالوحي المحمدي إذن يتمثل بهذه الوحدة الإعجازية المتكاملة : القرآن الكريم ، وهذا الفصل الذي خصص للوحي المحمدي ينقسم إلى ثلاثة مباحث رئيسية ، وهي :

وحي القرآن.

صور الوحي المحمدي وأقسامه.

خصائص الوحي المحمدي.

المبحث الأوّل

وحي القرآن

من الملاحظ في القرآن الكريم أنه يربط غالباً بين وحي القرآن والتنزيل بصيغ ومصاديق متعددة ، يجمع بينها ( النزول ) في التعبير اللغوي القرآني وإن اختلفت في مفاهيمها ، وهذه الأنواع من التنزيل تندرج تحت ثلاثة مصاديق هي :

الصيغة الأولى ـ نزول الملك به :

يعبّر القرآن الكريم عن حالة الالتقاء بين الرسول الملكي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باختلاف أشكالها بالنزول ، والنزول في العربية من : نزل. يقال : نزل فلان عن الدابة ، أو من علو إلى أسفل (٢).

________________

(١) سورة النساء : ٤ / ١٦٣.

(٢) العين / الفراهيدي أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد ( ت / ١٧٥ هـ ، ٧٨٦م ) ٧ : ٣٦٧ مادة « نزل ».

١٤٦

وواضح أن الإشارة إلى هذه الحالة بين الملك والرسول تحمل بين طياتها إشارة إلى مرتبتين مختلفتين يتنزل من إحداهما إلى الأخرى ، وهذا المعنى يفهم منه الشيخ مصطفى عبد الرزاق أن فيه دلالة من خلال ظاهر لفظه على : أنه يمثل صورة مادية للملك ونزوله (١). ويكاد هذا المعنى يتأكد في الوصف القرآني لهذه العملية مرتبطاً بالمصدر المؤكد لفظياً ، قال تعالى : ( ... وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا ) (٢). وقد عبر عن إرسال الملائكة إلى البشر بإنزالهم في مواضع عديدة مما يتأكد معه اقتران هذا المعنى بما يكون من صلة الإلقاء والتلقي بين الملك والنبي ، قال تعالى : ( ... يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... ) (٣) ، وقال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ ... ) (٤). فظاهر الآيات دال على مرتبتين مختلفتين عليا وسفلى ، يتم النزول من الأولى إلى الثانية ، وفي مرتبة العلو نكاد نرصد احتمالات عديدة تمثل معنى الإنزال من خلال الآيات في ذلك وهذه الاحتمالات هي :

١ ـ أن يكون النزول من الله تعالى ، وهو العالي العلي المطلق ، ينزل الوحي والتشريع إلى أنبيائه كما ينزل الملائكة ، قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (٥) ، وقال تعالى : ( مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا

________________

(١) الدين والوحي والإسلام / مصطفى عبد الرزاق : ٥٥.

(٢) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢٥.

(٣) سورة النحل : ١٦ / ٢.

(٤) سورة الأنعام : ٦ / ١١١.

(٥) سورة الحجر : ١٥ / ٩.

١٤٧

بِالْحَقِّ ) (١).

٢ ـ أن يكون النزول اختراقاً للحجب بين العالمين عالم الملأ الأعلى : وهو عالم الملائكة (٢) ، وعالم البشر السفلي. قال تعالى : ( ... وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ ... ) (٣) ، وقال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ ... ) (٤).

٣ ـ ارتباط معنى النزول بالعلو والسفل الماديين ، إذ يرتبط النزول بالسماء كما يرتبط نزول أشياء أخرى من السماء ، قال تعالى : ( ... أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ ... ) (٥).

وعموماً فإنّ نزول القرآن الكريم كان يرد دائماً منسوباً إلى ملك الوحي والذي يعبر عنه القرآن بعدة صيغ تتمثل بالآتي :

١ ـ جبريل عليه‌السلام كما قال تعالى : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ... ) (٦).

٢ ـ الروح الأمين قال تعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) (٧). وقد أجمع المفسرون تقريباً على أن المراد بالروح الأمين هنا هو جبريل عليه‌السلام ، ومنهم جمع من أوائل المفسرين كابن عباس والحسن

________________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٨.

(٢) التبيان / الطوسي ٨ : ٥٧٩.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٨.

(٤) سورة الفرقان : ٢٥ / ٢١.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ١٢٤.

(٦) سورة البقرة : ٢ / ٩٧.

(٧) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩٣.

١٤٨

وقتادة والضحاك وابن جريج وغيرهم (١). وقال المفسرون في وصفه بالأمين : إنه أمين الله لا يغيره ( الوحي ) ولا يبدله (٢).

٣ ـ الرسول الكريم : قال تعالى : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (٣). ويلاحظ هنا ما يتسق مع الآية الأولى في وصف الملك ( بالأمين ).

٤ ـ الروح القدس : قال تعالى : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (٤). والقدس هنا يقصد به الطهارة والنزاهة ، فالمقصود بوصفه بالروح القدس أنه روح طاهرة عن قذارات المادة ، نزيهة عن الخطأ والغلط والضلال (٥).

ومما يلاحظ أيضاً في القرآن الكريم أنه في حالة الوحي يرد ذكر الروح بمصداقين هما :

الأوّل : وصف الملك الذي يلقي الوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، ودل عليه ما سبق من وصفه بالروح الأمين والروح القدس ، وفي هذا الوصف بالروح عدة آراء : فإما أنه تحيا به الأرواح بما ينزل من البركات ، أو لأنّ جسمه روحاني ، أو أن الحياة أغلب عليه فكأنه روح كله ، أو أنه يحيا به الدين (٦).

________________

(١) التبيان / الطوسي ٨ : ٦٢.

(٢) مجمع البيان / الطبرسي ٤ : ٢٠٤.

(٣) سورة التكوير : ٨١ / ١٩ ـ ٢١.

(٤) سورة النحل : ١٦ / ١٠٢.

(٥) الميزان ١٢ : ٣٤٦.

(٦) التبيان ٨ : ٦٢ ، ومجمع البيان ٤ : ٢٠٤.

١٤٩

الثاني : وصف ما نزل به على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وألقاه عليه : بالروح ، قال تعالى : ( يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ... ) (١). وقال تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ ) (٢). وقد اختلف في معنىٰ الروح الوارد في الآيتين وفي غيرهما ، فمنهم من يرى أن المراد بالروح هنا هو الوحي وهو ما اختاره الشريف الرضي (٣) ، وقيل : إنّ المراد النبوة. وهو ما نقله الشيخ الطوسي عن بعض المفسرين (٤).

وذهب مفسرون آخرون إلى أن المراد بالروح هو الروح المصاحبة للأنبياء فهي روح تتنزل مع الملائكة (٥) ، والأقرب إلى المراد بالروح في الآيتين هو الوحي ، لأنه خص بمن اصطفاه الله تعالى ، وعلق نزوله على بعض الناس دون بعض بمشيئته تعالى ، ومما قيل في سبب وصفه بالروح عدة معان كقولهم : إن السبب أن الناس يحيون به من موت الضلالة ، وينشرون من مدامن الغفلة ، أو لأنّه تحيى به القلوب الميتة بالجهل ، أو أنه يقوم في الدين مقام الروح من الجسد (٦).

وفي الروح معانٍ أخرى مختلفة باختلاف ورودها في القرآن الكريم

________________

(١) سورة النحل : ١٦ / ٢.

(٢) سورة المؤمن : ٤٠ / ١٥.

(٣) انظر : تلخيص البيان في مجازات القرآن / الشريف الرضي : ١٠٥ و ١١٠.

(٤) انظر : التبيان ٩ : ٦٢.

(٥) الميزان / الطباطبائي ١٧ : ٣١٨.

(٦) انظر : تلخيص البيان / الشريف الرضي : ٢١١.

١٥٠

لا نطيل البحث بذكرها يمكن الرجوع إليها في مظانها (١).

الصيغة الثانية ـ النزول على القلب :

يذكر القرآن الكريم في أكثر من موضع أن محل نزول الوحي على النبي من قبل الملك هو القلب ، قال تعالى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) (٢).

وقال تعالى : ( ... مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) (٣).

وقد اختلف المفسرون في فهمهم للمراد بالقلب في الآيات التي اقترنت بلفظ النزول عليه ، وذلك في رأيين :

الأوّل : من المفسرين من يرى أن المراد هنا هو القلب هذا العضو البدني ، وإن من خواصه أن يكون مدركاً وحافظاً ، فالزمخشري يرى أن المراد هو القلب في كونه منشأ الفهم ، وأداة الإدراك ، فإنزاله على القلب يراد به تحفيظه وتفهيمه فيثبت فيه بحيث لا ينساه ، وهو يستدل بكونه نازلاً بالعربية ـ كما أشارت إليه الآيات ـ على إرادة هذا المعنى ، فتنزيله بالعربية دليل تنزيله على قلبه بهذا المعنى ( لأنك تَفهَمه وتُفَهِّمه قومك ، ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك ) (٤).

________________

(١) انظر : جامع البيان / الطبري ١٤ : ٥٣ ـ ٥٤ ، وشرح عقائد الصدوق / المفيد : ٢٢٥ ، التبيان / الشيخ الطوسي ٦ : ٢٥٩.

(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ٩٧.

(٤) الكشاف / الزمخشري ٣ : ١٢٧.

١٥١

وأكد الطبرسي هذا المعنى بذهابه إلى أن استعمال القلب هنا تم على سبيل التوسع والبلاغة ، فالمراد بالنزول على القلب عنده : ( إن الله تعالى يسمعه جبريل عليه‌السلام فيحفظه ، وينزل به على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقرأه عليه فيعيه ويحفظه بقلبه فكأنه نزل به على قلبه ) (١).

وهذا ما فهمه مفسرون آخرون ، فالمراد بالقلب هو القلب الحقيقي من حيث أنّه جعله وعاء للوحي فإنّ الله تعالى ( لقنه حتى تلقنه ، وثبته على قلبه ) (٢).

ومن المفسرين من ربط بين القلب بهذا المعنى وكونه المرتبة الأدنى بعد الروح في عملية التلقي ، فاستعمال القلب في الآيات يراد به التنزل عليه من حيث هو موضع تتنزل عليه المعاني الروحية التي تنتقل إليه بعد تنزلها على الروح لما بينهما من تعلق (٣).

الثاني : إن استخدام القلب هنا لا يراد به هذا العضو الجسماني ، وإنّما يمثل إدراكات النبي النفسية المتلقية للوحي ، بمعنىٰ استبعاد أي دور للحواس الظاهرة في عملية تلقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للوحي عن الملك ، لقوله تعالى : ( عَلَىٰ قَلْبِكَ ) ولم يقل ( عليك ) ، وفيه دلالة على أن المتلقي الحقيقي من النبي للوحي هو ( نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية ) (٤).

والحقيقة أن استخدام القلب هنا فيه دلالة مهمة ، تتمثل في أن الوحي

________________

(١) و (٢) مجمع البيان ٤ : ٢٠٤.

(٣) الميزان / الطباطبائي ١٥ : ٣١٧.

(٤) انظر : الميزان ١٥ : ٣٠٦.

١٥٢

يجمل بين طياته معاني الخفاء ، والإلقاء السريع بما يعز على إدراك غير الموحى إليه ، والمعاني الملقاة بهذه الصورة من الوحي لا يمكن للأعضاء الحسية مجاراة السرعة التي تلقى بها ، كما أن تلك الحواس أمر مشترك بين النبي وغيره فإذا كانت ذات دور في تلقي الوحي فلم لم يدركها غيره وفي هذا النطاق من الخفاء يدخل كل ما له صلة بالوحي.

فهنا يمكن الجمع بين عناصر الرأيين بالقول : إن القلب هنا بمعنى الأداة المدركة التي يعبر عنها في القرآن أحياناً باللب ، قال تعالى : ( ... وَمَا يَذَّكَّرُ إلّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (١) ، وقال تعالى : ( ... أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (٢) ، فكأن القلب المدرك لما ينزل عليه من الوحي هو النفس النبوية القدسية الصقيلة بالفطرة والاصطفاء والاستعداد الخاص لتنعكس عليها نصوص الوحي مكثفة تحتمل معاني وعلوماً ليس للأدوات الحسية أن تدركها بكثافتها المرادة ، وهي تحمل شرائع وتعاليم متكاملة تنظم حياة مجتمعات كاملة.

كما أن هذا النزول نزول بالمعاني لا بالألفاظ ، بدلالة الآية : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ) (٣).

الصيغة الثالثة ـ نزول الوحي مفرقاً :

مما يتميز به الوحي المحمدي عن جميع ما سبقه من وحي إلى الأنبياء عموماً ميزة النزول المتدرج المتفرق في وحي استمر مدة ثلاثة وعشرين عاماً

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٦٩.

(٢) سورة الزمر : ٣٩ / ١٨.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٥٣

تفصل بين أول ما نزل من الوحي وآخر ما نزل منه.

فالقرآن الكريم وهو نص الوحي الإلٰهي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة هذه المدة تميَّز عن جميع كتب الأنبياء السابقين ، فافترقت شريعته عن شرائعهم بهذه الميزة الفريدة إذ جاءت متدرجة متفرقة طيلة مدة التشريع.

فما وصل إلينا من ذكر شرائع من سبق من الأنبياء مستفاداً من القرآن الكريم والأخبار يصوّر لنا بما لا يقبل الشك والجدل أن كلاً منها نزلت على صاحبها ، وحده متكاملة في وقت واحد وأحياناً في موقف واحد ، وهذا الحال ينطبق على شريعة نوح التي عبَّر عنها القرآن الكريم بما أوصى به ، وكذلك على ما كان من شرائع إبراهيم المعبّر عنها بالكتاب ، والصحف وشريعة موسى النازلة دفعة واحدة وعبّر عنها بالتوراة ، والألواح والكتاب والنازلة دفعة واحدة في موقف التكليم على طور سيناء ، كما ينطبق على شريعة عيسى المعبّر عنها بالإنجيل (١).

قال تعالى : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) (٢). ومما يؤكّد هذا التفريق الواقع في الوحي المحمدي ويثبته ويعلّله هو طعن بعض الكفار من قريش أو اليهود خاصّة في الوحي المحمدي ( القرآن ) بسبب هذا النزول المتفرق مما يرونه دليلاً على عدم صدوره عنه تعالى ، فهم يرون أن ما يدل على إلهية شريعة ما هو نزولها وحدة واحدة متكاملة ، قال تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ

________________

(١) مفاتيح الغيب ٢٤ : ٧٨.

(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ١٣.

١٥٤

فُؤَادَكَ ... ) (١).

وما يُستفاد من القرآن الكريم أن نزوله ثم في شكلين :

الشكل الأوّل ـ النزول المتفرّق :

قال تعالى : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ) (٢) ، ودلالة ظاهر هذه الآية مع ما يوضحها ويعاضدها من روايات تؤكد أن القرآن الكريم نزل منجماً متفرقاً في سنين طويلة تمثل مدة بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكونه نزل مفرقاً أنه نزل آية آية وسورة سورة ، حيث كان يوحى إليه في كل مرة من مرات الوحي بعدد من الآيات أو سورة متكاملة أو بعدّة سور وذلك في مدّة ثلاث وعشرين سنة (٣) ، وقيل غير ذلك.

ويبدو أن الخلاف في مدّة رسالته صلى‌الله‌عليه‌وآله هو سبب هذا الخلاف في مدة نزول الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا ما أكده بعض الباحثين (٤) وهو يرتبط بعمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حين بعث وهو ما اختلفوا فيه أيضاً ، والصحيح أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بُعث لأربعين سنة ، فمكث بمكّة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه ، ثم أُمِر بالهجرة فهاجر عشر سنين ، ومات نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ابن ثلاث وستون سنة (٥).

والحق أن الدلائل متعددة في القرآن الكريم على هذا النزول المتفرق له

________________

(١) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٢.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٦.

(٣) انظر : مجمع البيان ١٠ : ٥١٨.

(٤) السيرة النبوية / د. جواد علي : ١٢٦.

(٥) اُنظر : أُصول الكافي / ثقة الإسلام الكليني ١ : ٤٣٩ باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتاب الحجّة.

١٥٥

فيلاحظ أن الآية السابقة قوله تعالى : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ) (١). مشفوعة بآيات أخرى دالّة على التفريق ومن ذلك :

١ ـ تعهده تعالى بحفظ الوحي ( القرآن ) وجمعه قال تعالى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) (٢) ، ولا شك أن التعهد بجمعه إشارة تؤكّد كونه نزل منجماً متفرّقاً.

٢ ـ رده تعالى على الطاعنين في هذا التفريق بقولهم فيما حكاه تعالى عنهم ( لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) فأثبت تعالى أنه أنزله على غير هذه الحال بتنزيله مفرقاً للحكمة المذكورة في آخر الآية وذلك قوله تعالى : ( ... كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) (٣) ، أي كذلك أُنزل متفرّقاً (٤).

٣ ـ ما يستفاد من لفظ التعبير عن النزول بصيغتين هما :

أ ـ التنزيل : الذي يدل على نزوله متفرقاً كما استفاده جمع من المفسرين (٥).

وهو ما يؤكده القرآن الكريم في أنه لا يعبر بصيغة التنزيل إذا كان الحديث في مقام البيان عن القرآن كوحدة متكاملة بمعنى الكتاب كاملاً دفعة واحدة ، قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ ... ) (٦) ، وقال

________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٦.

(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ١٦ ـ ١٧.

(٣) سورة الفرقان : ٢٥ / ٣٢.

(٤) الكشاف ٣ : ٩٠.

(٥) اُنظر : الميزان ١٥ : ٢٠٩.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

١٥٦

تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (١).

ب ـ الإنزال : بما يدل على كون المقصود إنزاله دفعة واحدة يشمل الكتاب كله ، ومما يؤكد هذا قوله تعالى : ( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ ) (٢) ، وقوله تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (٣).

ومما لا شك فيه أن في هذا النزول المتفرق طيلة ثلاث وعشرين سنة حِكَما وأسرارا دلّت على بعضها آيات الكتاب واستفاد المفسرون بعضاً آخر منها ، كأن يتسنّى للرسول من قراءته وتلاوته وبيان ما فيه من أحكام وتشريع وعقائد شيئاً فشيئاً ، وهو ما عبَّر عنه قوله تعالى : ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ) (٤). وفي هذا المجال فإنّ الله تعالى في هذه الحكمة إنّما ينظر إلى الناس باعتبارهم الهدف الرئيسي من تنزيل القرآن بقصد هدايتهم ... (٥).

ومما استفاده المفسرون من وجوه في نزوله متفرّقاً نواحٍ متعدّدة يمكن إجمالها فيما يأتي (٦) :

١ ـ إنّ هذا النزول نجوماً وجه من أوجه إعجازه ، فلو كان في مقدور البشر لاستطاعوا أن يأتوا بمثله متفرقاً.

________________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢.

(٣) سورة القدر : ٩٧ / ١.

(٤) سورة الإسراء : ١٧ / ١٠٦.

(٥) انظر : تاريخ القرآن / الصغير : ٤١.

(٦) مجمع البيان / الطبرسي ١٠ : ٥١٨.

١٥٧

٢ ـ إن الوحي كان ينزل بحسب الوقائع والأحداث كجواب على أسئلة المسلمين أحياناً ، كما ينزل أحياناً أخرى حين يستشكل على الرسول مسائل لم ينزل بها سابق وحي.

٣ ـ ضرورة التدرّج في نزول الأحكام والتعاليم من الأسهل إلى السهل ومن السهل إلى الأصعب ، مجاراة لرسوخ تعاليم الدين الجديد في قلوب المؤمنين شيئاً فشيئاً ، ولما في الأحكام من ناسخ ومنسوخ يقتضي النزول مفرقاً لبيان كل منهما ، حيث ينزل بحسب الوقائع المقتضية ثم ينسخ الحكم أو الآية لانتفاء ضرورتها ، أو لأنّ ما أريد من نزولها قد تحقّق أو تسهيلاً على المكلّفين.

الشكل الثاني ـ النزول جملة واحدة :

وذلك بنزوله بالشكل الذي هو عليه بين الدفتين بمجموع ما فيه من سور وآيات تمثّل النص الموحى الملقى من قبل جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طيلة فترة نزوله. وفي الكتاب الكريم ما يدلّ على نزوله بهذه الصورة جملة واحدة ، قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (١) ، وقال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (٢).

ومن المفسرين من يرى أن هذا النزول المقصود في هذه الآيات وأمثالها يقصد به نزوله قبل أن يلقى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمصاديق مختلفة في ذلك : فعن ابن عباس أنه قال : ( أُنزِل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم كان ينزله جبريل على

________________

(١) سورة القدر : ٩٧ / ١.

(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٨٥.

١٥٨

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ... ) (١) ، إلّا أن الظاهر من دلالة الآية السابقة التي عبرت بلفظ الإنزال وما يشير إلى نزوله دفعة واحدة أن القرآن أنزل حقيقة وهو جملة واحدة بكل ما يضمه من نصوص الآيات.

المبحث الثاني

صور الوحي المحمدي وأقسامه

من المميزات الهامّة التي تطبع الوحي المحمدي أن جميع ما وصف من صور تكليمه تعالى ووحيه الملقّى إلى نبي من أنبيائه قد كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مثله إن لم يكن بمرتبة أعلى منه.

فالوحي المحمدي اشتمل على كلّ صور الوحي التي تعرّض لها القرآن وذكرها إجمالاً أو تفصيلاً ظاهرا أو بحاجة إلى تأويل.

وإذا كان لنا أن نجمل ذكر الصور التي أوحي بها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمكن أن يكون ذلك بالصور الآتية :

الصورة الأولى ـ الرؤيا الصادقة :

تمثّل الرؤيا الصادقة جانباً مهماً من جوانب التلقّي الغيبي في نبوات الأنبياء عليهم‌السلام ، إذ كان تلقّي الوحي عن طريق المنامات وجهاً من وجوه الوحي التي كانت للعديد من الأنبياء عليهم‌السلام وترد هنا أشهر رؤيتين يتعرّض لهما القرآن.

تتمثّل الرؤيا الأولى برؤيا إبراهيم عليه‌السلام ، وهي أساس مهمّ في نبوته ونبوة

________________

(١) مجمع البيان / الطبرسي ١٠ : ٥١٨.

١٥٩

ابنه إسماعيل ، وهو موضوع الرؤيا. والثانية رؤيا يوسف عليه‌السلام التي مهّدت لتفاصيل مهمّة في حياته النبوية التي ارتبطت بتلك الرؤيا ليس في بدايتها فحسب بل في مراحل حياته في أغلبها بما أُوتي من نعمة أسبغها عليه تعالى في تأويله الرؤيا والأحلام.

ولا يختلف نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الجانب عن غيره من الأنبياء عليهم‌السلام ، وقد ثبتت الرؤيا النبويّة الصادقة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله في حالات عديدة ذكرها القرآن ، وأشهر تلك الرؤى ما كان من رؤياه في فتح مكّة ودخول المسلمين إليها ، قال تعالى : ( لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ... ) (١). فهذه الرؤيا جعلها تعالى مقياساً لموقف مهمّ من مصاديق نبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذ جعل تصديقها تثبيتاً وترسيخاً لمبادئ هذه النبوّة ، قال تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) (٢).

فقد روى الفريقين ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى في منامه بني أُميّة وهم ينزون على منبره الشريف نزو القردة فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكاً حتّىٰ فارق الحياة ، وأنزل الله تعالى في ذلك ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) أي : بنو أُميّة (٣).

________________

(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٧.

(٢) سورة الإسراء : ١٧ / ٦٠.

(٣) الكشف والبيان ( تفسير الثعلبي ) ٦ : ١١١ ، والتفسير الكبير / الفخر الرازي مج ١٠ ج ٢٠ ص ٢٣٨ ، والدر المنثور / السيوطي ٥ : ٣١٠ ، وتفسير القمي ١ :

١٦٠