مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي

مصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم

المؤلف:

الدكتور ستار جبر حمّود الأعرجي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-78-2
الصفحات: ٢٢٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

من نور يسبّحون الله ويقدّسونه » وذكر أصحاب الكساء عليهم‌السلام (١).

الصيغة الثالثة ـ المناداة :

وقد وردت في القرآن الكريم بطريقتين : فإما بورود فعل النداء تعبيراً عن الحال مع النبي ، وذلك كقوله تعالى : ( وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ... ) (٢) ، فهذا النداء لم يكن ضمن الرؤيا نفسها ، بل حدث بالإلقاء الخفي إليه عليه‌السلام بدليل أنه كان إخباراً له عليه‌السلام بأنه قد صدق الرؤيا ، وكقوله تعالى : ( وَإِذْ نَادَىٰ رَبُّكَ مُوسَىٰ أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (٣) ، أو باستخدام حرف النداء ( يا ) ، ويكون المنادى هو النبي المخاطب المتلقي للوحي ، وكان ذلك لعدة أنبياء ، كقوله تعالى : ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ ... ) (٤) ، و ( يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (٥) ، و ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (٦) ، وقوله تعالى : ( .. يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ) (٧).

الصيغة الرابعة ـ الرؤيا في المنام :

والبحث يتعرض إليها هنا كطريقة من طرق الوحي المباشر بلا واسطة تمشياً مع من ذهب إلى ذلك. وقد قيل إن رؤيا الأنبياء وحي ، واستدلوا على

________________

(١) شرح الأخبار / القاضي النعمان٣ : ٦ / ٩٢٣ ، وتفسير مجمع البيان١ : ١٧٥ نحوه.

(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٤ و ١٠٥.

(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٠.

(٤) سورة مريم : ١٩ / ٧.

(٥) سورة مريم : ١٩ / ١٢.

(٦) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٧) سورة الكهف : ١٨ / ٨٦.

١٢١

ذلك بجواب إسماعيل لأبيه حين أخبره أنه رأى في المنام أنه يذبحه ، وقد ورد ذكر الرؤيا في القرآن ، وأنها استخدمت طريقة للوحي النبوي منسوبة إلى عدّة أنبياء وهم :

١ ـ إبراهيم عليه‌السلام : قال تعالى : ( فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (١).

٢ ـ يوسف عليه‌السلام : قال تعالى : ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (٢).

٣ ـ الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : وذلك كقوله تعالى : ( لَّقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ ) (٣) ، وسيكون لنا مع الرؤيا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وقفة في مبحث الوحي المحمدي ، بوصفها من سور الوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

الصيغة الخامسة : كلمة « قل » وتصريفاتها المنسوبة إلى الله تعالى موجّهة إلى الأنبياء ، وهذا قد ورد مع أغلب الأنبياء عليهم‌السلام ، قال تعالى في شأن آدم عليه‌السلام ( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ .. ) (٤). وقال تعالى في نوح عليه‌السلام : ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ .. ) (٥) ، ولعيسى عليه‌السلام : ( .. قَالَ اللهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ .. ) (٦).

________________

(١) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٢.

(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٤.

(٣) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٧.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ١١٧.

(٥) سورة هود : ١١ / ٤٠.

(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٥٥.

١٢٢

الصيغة السادسة ـ العهد :

ونوردها هنا باعتبار ما تحمله من الإشارة غير الظاهرة إلى حصول نوع من الوحي الخفي ، وقد جاءت الآيات بكون هذا العهد من الله مع عدة أنبياء ، وذلك كقوله تعالى : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) (١). قال ابن عباس : معناه أمرناه وأوحينا إليه أن لا يقرب الشجرة ولا يأكل منها فترك الأمر (٢). وكقوله تعالى : ( وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (٣). وكقوله تعالى : ( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ .. ) (٤). نقل الشيخ الطوسي في تفسير العهد هنا قولين (٥) :

أ ـ إن معناه ما تقدم إليك به وعلمك أن تدعوه به.

ب ـ ما عهد عندك من العهد على معنى القسم.

وإجمال القول في العهد أنه مستجمع للتفسيرات الواردة فيه من أمر وإلزام وإعلام ووصية ، إذ تدخل جميعا ضمن وظيفة النبوة ، ويكون تبليغها بلا شك بطريقة من طرق الوحي الخفي.

الصيغة السابعة ـ التفهيم :

لم يرد ذكر التفهيم بوصفه من أشكال الوحي للأنبياء عليهم‌السلام إلّا إلى

________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١١٥.

(٢) مجمع البيان / الطبرسي ٧ : ٣٢.

(٣) سورة البقرة : ٢ / ١٢٥.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٣٤.

(٥) التبيان ٤ : ٥٢٣.

١٢٣

سليمان عليه‌السلام ، وذلك في قضية الحرث ، قال تعالى : ( وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا .. ) (١).

والفهم : هيئة في الإنسان بها يتحقق معاني ما يحسن ، وأفهمته إذا قلت له حتى تصوره (٢).

واستبعد الجبائي ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن حكم سليمان عليه‌السلام كان عن اجتهاد ، وأنه اجتهد في حكمه في القضية ، وجزم أن ذلك الحكم كان ( وحياً نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به ولم يكن اجتهاداً ) (٣).

وقد أيّد الشيخ الطوسي ما قاله الجبائي مستدلّاً على صحّة ذلك بأن الأنبياء عليهم‌السلام ( يُوحَى إليهم ولهم طريق إلى العلم بالحكم ، فكيف يجوز أن يعملوا بالظن ) (٤) وهو ما يحتمل من الاجتهاد.

ويذهب الراغب الأصفهاني إلى ما يؤكد كون ذلك التفهيم وحياً ، إذ يرى فيه وجوهاً محتملة من التفسير : فإما أنه تعالى جعل له من فضل قوة الفهم ما أدرك به ذلك ، وإما بأن ألقى ذلك في روعه [ وهو شكل من أشكال الوحي دون واسطة ] وإما بأن أوحى إليه وخصه به (٥).

وإجمال القول في هذا التفهيم أنه لايخرج عن نطاق الوحي الإلٰهي وذلك

________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) المفردات / الراغب : ٣٨٦.

(٣) التبيان / الطوسي ٧ : ٢٣٧.

(٤) انظر : التبيان ٧ : ٢٣٧.

(٥) المفردات : ٢٨٦.

١٢٤

بدليلين :

١ ـ أنه لا طريق لأن يكون ذلك اجتهاداً من سليمان ناسخاً لحكم داود ، لأنّه لاطريق للاجتهاد والظن إلى نسخ الوحي الإلٰهي ، إذ لا ينسخ الوحي إلّا بمثله.

٢ ـ أنه تعالى أكد أن حكم سليمان مثلما هو حكم داود عليه‌السلام ، كلاهما واقع ضمن الحكم والعلم الإلهيين ، فهما بوحي نبوي لقوله تعالى : ( وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) (١).

الصورة الثانية للوحي ـ التكليم من وراء حجاب :

كانت هذه الصورة من صور تكليمه تعالى للبشر مثاراً للكثير من الجدل والخلاف بين العلماء والمفسرين لتضمنها ـ فيما يفسره المشبهة من ظاهرها ـ إشارات إلى التجسيم والحلول والرؤية !! ... إلخ.

ولا مجال في هذا البحث للخوض في تلك الاختلافات والمذاهب سيّما وأن المشبهة من الحشوية التي تميّزت بسطحية أفكارها وعدم تعمّقها في مقولاتها ، وما يهمّنا هنا هو بيان خصوصية هذا النوع من الوحي ومميزاته التي يفترق بها عن سائر صور الوحي الأخرى ، لذلك اقتصر البحث على ثلاثة محاور هي :

أوّلاً ـ معنى التكليم والحجاب :

التكليم والكلام من الكَلمْ. قال الراغب : الكَلْمُ : التأثير المدرك بإحدى الحاستين فالكلام مدرك بحاسة السمع والكلم بحاسة البصر (٢).

________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٧٩.

(٢) المفردات : ٤٣٩.

١٢٥

وإذا أنعمنا النظر في نص الآية المبينة للتكليم في قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ... ) (١) مع الاستعانة بالآيات الأخرى التي يرد فيها ذكر هذا التكليم الخاص ، تتبلور أمامنا ملاحظتان يمكن من خلالها فهم خصوصيته وهما :

١ ـ إن هذه الصورة من التكليم مباينة لجميع الصور والصيغ الأخرى ، فالتكليم من وراء حجاب ، هو وحي أيضاً إلّا أنه أخص من مطلق الوحي ، بدلالة تمييزه تعالى له بالذكر مخصوصاً في مقام بيان بعض من أوحي إليه من الأنبياء في سورة النساء قوله تعالى : ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ ) إلى قوله تعالى : ( وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ) (٢) ، فخصّ التكليم من سائر الوحي لمن ذكر ، وأما من لم يذكر في القرآن من الأنبياء ، فهم وإن كانوا جميعاً قد ( كلمهم الله تعالى بواسطة الوحي ) (٣). إلّا أن هذا التكليم تضمن استماع الصوت بلا واسطة الوحي.

٢ ـ يتأكد من خلال الآيات أنَّ هذا الكلام المكلّم به من وراء حجاب والذي كان لموسى عليه‌السلام هو كلام حقيقي تنتفي عنه أية نسبة إلى الصور البلاغية من استعارة أو تشبيه أو مجاز ... إلخ ، وما يؤكد هذا المعنى الإتيان بالمصدر ( تكليماً ) وهو توكيد لفظي مؤكد لحدوث الفعل ، إضافة إلى أنه مفيد لتحقيق النسبة ورفع توهم المجاز.

كما أن هذا التحديد والتوكيد مبعد لاحتمالات أن يكون الكلام بالإلهام

________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٥١.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٣) مجمع البيان / الطبرسي ٦ : ١٤١.

١٢٦

أو الإشارة أو القذف في الروع أو أي شيء غير التكليم ، فنص الآية واضح الدلالة على أن المراد ( أن هذا الكلام هو من جنس الكلام المعقول لدينا الذي يشتق من التكلم ، على خلاف ما قال به بعض المفسرين والمتكلمين (١) ، وكون التكليم من وراء حجاب من جنس الكلام المعقول لدينا ، لايقصد به أنه من نوع كلامنا ، وإنّما هو تكليم على نحو خاص ، لأنّ الكلام لايصدر عنه تعالى عن حد ما يصدر منا ، بخروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس مع ما ينظم إليه من دلالة اعتبارية وضعية متعارف عليها ، وذلك لأنّه تعالى غني عن ذلك ، فهو أجلُّ شأنا وأنزه ساحة من أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية أو يستكمل بالدعاوى الوهمية الاعتبارية ) (٢). قال تعالى : ( .. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .. ) (٣).

وقد أكد أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام هذا المعنى في قوله : « لا يشبه شيء من كلامه تعالى كلام البشر ، فكلام الله تبارك وتعالى صفته ، وكلام البشر أفعالهم ، فلا تشبه كلام الله بكلام البشر فتهلك وتضل » (٤).

أما الحجاب الذي يكون التكليم من ورائه ، فيكاد يكون أهم أسباب الخلاف في مسائل التجسيم والرؤية ، وتكاد الآراء فيه تتبلور في ما يلي :

١ ـ من المفسرين من ذهب إلى أن المراد بالحجاب في الآية أن يكون الكلام مخصوصاً بالمكلم وحده ، ومحجوباً عن غيره.

________________

(١) انظر : التبيان ٣ : ٣٩٤.

(٢) الميزان / الطباطبائي ٢ : ٣٣١.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ١١.

(٤) انظر : التوحيد / الصدوق : ٢٦٤.

١٢٧

قال السدي : ( من وراء حجاب ) ، أن يحجبه عن إدراك جميع الخلق ، إلّا عن المكلّم الذي يسمعه (١). وأيد الجبائي ذلك ، واستدل عليه بتكليم موسى عليه‌السلام ، فهو تعالى ( حجب ذلك عن جميع الخلق إلّا موسى عليه‌السلام وحده في كلامه إياه أولاً ، فأما كلامه في المرة الثانية ، فإنّه إنّما سمع ذلك موسى والسبعين الذين كانوا معه ، وحجب عن جميع الخلق سواهم ) (٢). ويتوصل الجبائي من ذلك إلى أن الحجاب هنا كان للكلام الذي هو ما حجب عن الناس.

٢ ـ وذهب مفسرون آخرون كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره إلى أن الحجاب في الآية يراد به حجب المتكلم عن النظر إلى الباري تعالى ، فالمكلّم يسمع الكلام ولا يرى المتكلّم (٣).

وهذا الرأي والذي سبقه ليسا بشيء ، لانطلاقهما من أصول فاسدة كما لا يخفى.

٣ ـ وقال السيد الشريف المرتضى أن الحجاب جائز أن يصرف إلى غيره تعالى ممن يجوز عليه ، وينزّه الباري عن مثل ذلك فيجوز أن يكون المراد هنا أنه تعالى يفعل الكلام في جسم محتجب عن المكلم غير معلوم له على التفصيل ( فيسمع المخاطب الكلام ولايعرف محله على طريق التفصيل ) (٤).

٤ ـ ورأي آخر قال به السيد الشريف المرتضى أيضا بأن الحجاب جائز أن يراد به البعد والخفاء ونفي الظهور وعبارة عما تدل عليه الدلالة ، فكأن

________________

(١) التبيان ٩ : ١٧٧.

(٢) انظر : أمالي المرتضى ٢ : ٢٠٦ ، ومجمع البيان ٩ : ٣٧.

(٣) انظر : الإنصاف / الباقلاني : ٩٥.

(٤) أمالي المرتضى ٢ : ٢٠٥.

١٢٨

المراد في الآيه بالتكليم من وراء الحجاب أن يكون بأن ينصب لهم تعالى أدلة تدلّهم على ما يريده أو يكرهه منهم فيكون من حيث نصب الدلالة على ذلك مخاطباً ومكلّماً (١).

٥ ـ ما ذهب إليه الشيخ الطوسي ونقله عن غيره بأن الحجاب هنا لا يراد به الحجاب بالذات وإنّما المراد أن التكليم الواقع هو بمنزلة المسموع من وراء حجاب (٢).

٦ ـ ومن المفسرين من فهم من الحجاب أنه واسطة بين المتكلم والمكلَّم ، فيكون الوحي من وراء حجاب هو الوحي بواسطة ، إلّا أن الواسطة هنا لا توحي ولا يكون الكلام قائماً بها كقيام الكلام بالمتكلم وإنّما هي ( حجاب احتجب سبحانه به فكلمه من ورائه بما يليق بساحة قدسه من معنى الاحتجاب ) (٣).

٧ ـ اكتفى بعض المفسرين ببيان أن الحجاب في الآية إنّما يرجع إلى الخلق ( المكلّم ) دون الخالق ، مدفوعاً بذلك إلى تنزيهه تعالى عن الجسميات (٤).

فالصحيح إذن هو أن ( الحجاب ) في الآية الشريفة دليل صارخ على عدم الرؤية ، وأنه لا يمكن إدراكه تعالى بأية صورة حسية تؤدي إلى تجسيمه وتشبيهه بشيء من خلقه. خلافاً لمن لم يقدّروا الله حقّ قدره فشبّهوه تعالى

________________

(١) أمالي المرتضى ٢ : ٢٠٦.

(٢) انظر : التبيان ٩ : ١٧٧.

(٣) انظر : الميزان ١٦ : ٣٢ و ١٨ : ٧٣.

(٤) انظر : الأسماء والصفات / البيهقي : ١٩٣.

١٢٩

ووصفوه بصفات المخلوقين ! وأما ما يسمعه المُكَلّم من الكلام فيكون بفعله تعالى الكلام في جسم محتجب على المكلم فهو يسمع الكلام ولا يعرف محله على طريق التفصيل ، فيقال : إنه كلم من وراء حجاب فهو تعالى لا يحجبه حجاب ولا يستر بستر مادي ، ... عن محمد بن زيد ، عن الإمام الرضا عليه‌السلام قال : « ... احتجب بغير حجاب محجوب ، واستتر بغير ستر مستور ، عرف بغير رؤية ، ووصف بغير صورة » (١) وأحاديث أهل البيت عليهم‌السلام في هذا المعنى كثيرة جداً.

ثانياً ـ المخصوص بالتكليم والحجاب :

تبين لنا مما سبق أن التكليم من وراء حجاب هو وحي خاص تميز عن مطلق الوحي للأنبياء عليهم‌السلام ، أما من خص بهذه المرتبة من الوحي فإنّ الآيات الكريمة ظاهرة باختصاص موسى عليه‌السلام بذلك ، قال تعالى : ( ... وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا ... ) (٢) ، وقال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ... ) (٣).

فالتكليم من وراء حجاب كان ـ في تلك الآيات الشريفة ـ لموسى عليه‌السلام بلا خلاف ، ولا يمنع هذا من أن يختص غيره بذلك ، كما هو الحال في تكليم نبينا الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عن الإمام علي الهادي عليه‌السلام أنه سئل عن الآية ( أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ) فقال : « كما كلّم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكما كلّم موسى عليه‌السلام من النار » (٤) ، وكذلك التكليم

________________

(١) التوحيد / الصدوق : ٩٨.

(٢) سورة النساء : ٤ / ١٦٤.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٤) تفسير القمي ٢ : ٢٧٩.

١٣٠

الواقع منه تعالى للملائكة كما في قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) (١) ، فالملائكة يُكَلَّمون بمثل ما كلّم موسى على الطور ، وكما كلّم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله عند سدرة المنتهى (٢).

وفي الرواية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه سئل عن آدم عليه‌السلام : أنبيٌّ مرسل هو ؟ فأجاب صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نعم نبي مكلَّم ». وقد تأول بعض المفسرين هذا الحديث فقالوا إن خصوصية التكليم تبقى لموسى عليه‌السلام ، ( لأن تكليم آدم كان في الجنّة ) (٣).

ويبدو أن ما يدفع المفسرين إلى القول بحصول التكليم لغير موسى دلالة الآيتين الكريمتين :

١ ـ قوله تعالى : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ) (٤). فيستدلون بالعموم في قوله : ( مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ) وإن موسى لم يذكر وحده.

٢ ـ قوله تعالى : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ) (٥). إذ يستدل المفسرون بهذه الآية على أنه تعالى كلّم نبينا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله عند سدرة المنتهى ، وتكليمه تعالى لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة المعراج أخص وأعلى مرتبة من تكليمه لموسى عليه‌السلام.

لأنّ تكليم موسى تمثل فيه الحجاب الذي يمثل نوعاً من أنواع الواسطة

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٣٠.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٤٧٦.

(٣) جامع أحكام القرآن ٣ : ٢٦٤.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٣.

(٥) سورة النجم : ٥٣ / ٨ ـ ١٠.

١٣١

في التكليم ، إذ يسمع موسى الكلام من وراء ذلك الحجاب ، بينما انعدمت الوسائط بين الله تعالى ورسوله في تكليمه له ليلة المعراج.

وهنا تبقى خصوصية التكليم من وراء حجاب لموسى كما تثبت خصوصية التكليم دون حجاب ولا واسطة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا ما يقودنا إلى البحث في خصائص التكليم لموسى عليه‌السلام ، وهو ما سنعبِّر عنه ( بالوحي الموسوي ) ونحاول استشفاف أهم خصائص هذا الوحي أما تكليم نبينا ليلة المعراج فسيكون البحث فيه ضمن المبحث الثاني من هذا الفصل وهو ( الوحي المحمدي ).

خصائص الوحي الموسوي ( التكليم ) :

تتأكّد من خلال الآيات الكريمة ، وما أدلى به المفسرون حولها جملة خصائص تميز الوحي الموسوي يمكن تلخيصها في الآتي :

١ ـ إنّ هذا التكليم من أعلى مراتب الوحي الإلٰهي للبشر ، فقد ذكره تعالى في مقام التفاضل بين الأنبياء عليهم‌السلام ، فكان نعمة أنعم بها تعالى على موسى فكلمه وعلمه الحكمة من غير واسطة ، وهذا سبب كونه من أعلى مراتب الوحي ، ( لأنّ من أخذ العلم من العالم المعظم كان أجل رتبة ممن أخذه ممن دونه ) (١).

٢ ـ إنّ هذا التكليم ( الوحي ) كان طريق وحي الشريعة الموسوية المتكاملة دون باقي أشكال الوحي التي أوحي بها إلى موسى كالإلهام والقذف في الروع والتي كانت حالات وحي بأمور مخصوصة بظرف وقوعها ، وقد عبر

________________

(١) مجمع البيان / الطبرسي ٩ : ٤٧٦.

١٣٢

تعالى عن هذه الشريعة ومستودعها بعدة صيغ مثل :

الكتاب : قال تعالى : ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١).

التوراة : قال تعالى : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ .. ) (٢).

الألواح : قال تعالى : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (٣).

الصحف : قال تعالى : ( أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ) (٤).

وقال تعالى : ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ ) (٥).

٣ ـ يقين موسى عليه‌السلام بأن ما يسمع من الكلام هو كلام الله تعالى ، فالثابت من ظاهر الآيات الواردة في ذكر هذا التكليم أننا لم نجد موسى عليه‌السلام وهو يُكَلَّم حين سمع النداء قد سأل ربه إن كان ما يسمعه هو كلامه ، بل تيقّن أنّه كلامه تعالى ، وقد أعلمه بذلك ، فقال تعالى : ( .. يَا مُوسَىٰ * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (٦) ، فلم يسأل موسى عن مصدر ما يسمع بل امتثل للأمر بتقديس الموضع مما يشير إلى أن النداء نفسه بقوله تعالى : ( إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ) وفي آية أخرى : ( إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (٧) فهم منه

________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٥٣.

(٢) سورة المائدة : ٥ / ٤٤.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٥.

(٤) سورة النجم : ٥٣ / ٣٦.

(٥) سورة الأعلى : ٨٧ / ١٩.

(٦) سورة طه : ٢٠ / ١١ ـ ١٢.

(٧) سورة القصص : ٢٨ / ٣٠.

١٣٣

موسى أن الموقف موقف الحضور ومقام المشافهة (١).

ولكن المفسرين اختلفوا في مصدر هذا اليقين الموسوي بأن ما سمعه هو كلام الله تعالى ونداؤه ، فالشيخ الطوسي يذهب إلى أن يقين موسى متأتٍّ من معجزة أظهرها الله تعالى (٢).

واستعان الزمخشري بالرواية فيما نقل عن موسى عليه‌السلام في فهم سبب يقينه بذلك ، فقد روي أن موسى قال : « أنا عرفت أنّه كلام الله بأنّي أسمعه من جميع الجهات الستّ ، وأسمعه بجميع أعضائي » (٣).

إلّا أن من المفسرين من يرى أن اليقين بمصدر الوحي أنّه من الله هو قاسم مشترك في جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنّهم عموماً في أول ما يوحى إليهم بالنبوة ، ويكلفون بالرسالة ، لا يخالجهم شكّ في أن الذي يوحى إليهم هو من الله سبحانه وتعالى : ( من غير حاجة إلى إعمال نظر أو التماس دليل أو إقامة حجّة ) (٤). أو يخلق فيهم علماً ضرورياً أنّه ربّهم يوحي إليهم أو يكلمهم.

٤ ـ إنّ حالة التكليم من وراء حجاب لم تكن حالة مستمرة من الوحي طيلة نبوة موسى عليه‌السلام وتبليغه شريعته ، بل حصل بحدود ما بيَّنه القرآن الكريم مرّتين ، وهما :

المرّة الأولى : كانت دون مواعدة سابقة معه ، إذ فوجئ موسى بها حين آنس النار فيما قصة تعالى بقوله : ( إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ

________________

(١) الميزان / الطباطبائي ١٤ : ١٣٩.

(٢) التبيان ٧ : ١٤٤.

(٣) الكشاف ٢ : ٥٣١.

(٤) الميزان ١٤ : ١٣٨.

١٣٤

نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ) (١). وفي هذه المرة أعطي موسى بينات ونعما عديدة :

فمنها : أنه تعالى بلغه اصطفاءه له للاستماع للوحي والكلام ، قال تعالى : ( وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَىٰ ) (٢).

ومنها : أنه تعالى وهبه معجزة العصا ، واليد البيضاء ، قال تعالى : ( ... قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ) (٣) ، وقال تعالى : ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ ) (٤).

ومنها : أنه تعالى أرسله إلى فرعون ، وكلفه بالنبوة قال تعالى : ( اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ) (٥).

ومنها : أنه تعالى شدَّ أزره بأخيه هارون يحمل معه عبء التبليغ قال تعالى : ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ) إلى قوله تعالى : ( قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ ) (٦).

ومنها : تذكيره بحفظه تعالى له واصطفائه منذ ولادته قال تعالى : ( وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ

________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٠ ـ ١٢.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٣.

(٣) سورة طه : ٢٠ / ١٩ ـ ٢٠.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ٢٢.

(٥) سورة طه : ٢٠ / ٢٤.

(٦) سورة طه : ٢٠ / ٣٦.

١٣٥

فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ) (١).

المرّة الثانية : كانت عن مواعدة مع موسى ، وكانت في الوضع نفسه الذي تقدس بكونه موضع التكليم والتجلي ، قال تعالى : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) إلى قوله تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ... ) (٢).

وفي هذه المرة سأل موسى ربه الرؤية ، وأثبت له تعالى استحالتها وشاهد تجليه تعالى للجبل ، قال تعالى : ( قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ... ) (٣).

وفيها أخبر بتفضيله على الناس في زمانه جميعاً بالرسالة ، وباستماعه كلامه تعالى مما لم يكن لأحد من البشر قبله ، قال تعالى : ( قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي .. ) (٤).

وفيها أعطي الألواح التي فيها شريعته ، وكلف تبليغها إلى بني إسرائيل قال تعالى : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) (٥).

٥ ـ إن هذا التكليم مرتبة من مراتب القرب من الله تعالى عبر عن كيفيتها

________________

(١) سورة طه : ٢٠ / ٣٧ ـ ٣٩.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٢ ـ ١٤٣.

(٣) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.

(٤) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٤.

(٥) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٥.

١٣٦

بصورتين إضافة إلى صيغة التكليم هما :

أ ـ النداء : كقوله تعالى : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ ) (١).

ب ـ المناجاة : كقوله تعالى : ( وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) (٢). وفي قوله تعالى ( نَجِيّاً ) قيل : إن معناه أنه تعالى اختصه بكلامه بحيث لم يسمعه غيره ، إذ يقال ناجاه مناجاة : إذا اختصه بإلقاء كلامه إليه (٣).

إلّا أن من المفسرين من يفهم المناجاة هنا فهماً مادياً مرتبطاً بالمكانية فكأنّه تعالى قربه منه مكاناً ، فعن ابن عباس وسعيد بن جبير : أنه قرب حتى سمع صريف القلم (٤).

واعتمد مجاهد في فهمه للمناجاة والقرب بهذه الحدود المادية على المعنى الذي يراه للحجاب الذي يكلّم من ورائه كما تشير آية الشورى ، فإنّ معنى قوله تعالى : ( وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ) عنده : أنه تعالى قربه إلى ما ( بين السماء الرابعة أو قال السابعة ) سبعون ألف حجاب ، حجاب نور وحجاب ظلمة .. فما زال يقرب موسى حتى [ بَقيَ ] بينه وبينه حجاب وسمع صريف القلم قال : ( رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ). (٥)

ولا شك أن قيام الحجاب في هذا التكليم مانع من صرف المناجاة

________________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٣٠.

(٢) سورة مريم : ١٩ / ٥٢.

(٣) التبيان / الطوسي ٧ : ١١٨.

(٤) جامع البيان / الطبرسي ١٦ : ٧١.

(٥) جامع البيان ١٦ : ٧١.

١٣٧

والقرب إلى المعاني المادية وجعلهما مرتبطين بمكان بين السماوات واستماع لصريف القلم ، والمناجاة والقرب في حقيقة الأمر هنا تعبير عن الاختصاص الذي أنعم به على موسى عليه‌السلام فقُرِّب ونُوجِيَ بأن خُصَّ من دون البشر باستماع الكلام. وإلّا فلو كان الأمر صعوداً إلى سماوات واستماع لصريف قلم لكان ذلك معراجاً إلى السماء وليس في الآيات ظاهرها ولا باطنها ما يدل على مثل ذلك ، فلزم أن يكون ذلك مفهوماً منه معنى الاختصاص بسماع الكلام.

الصورة الثالثة ـ الوحي بواسطة الملك :

وهذه الصورة هي التي عبّرت عنها آية الشورى بقوله تعالى : ( .. أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) (١).

تفترق هذه الصورة إذن عن سابقتيها بوساطة الرسول الذي يوحي بإذنه تعالى بما يكلم به عباده. هذا هو المدلول العام للآية فهي لم تتطرق إلى حقيقة هذا الرسول ، إن كان يراد به الرسول البشري ، أم الرسول الملكي.

وفي حدود الآية المذكورة اختار الشيخ الطوسي : أنه الرسول البشري الذي يكون الواسطة بينه تعالى وبين المكلّفين ، فإضافة إلى الوحي بالكلام من وراء حجاب والوحي الذي يأتي به الملك قال الشيخ الطوسي : إنَّ منه ما يكون ( بتأدية الرسول إلى المكلّفين من الناس ) (٢) ، واختاره القرطبي المالكي والزمخشري أيضاً (٣).

ومما يجب أن يقال هنا : إن كل رسول ونبي أُرسل إلى أمة من الأمم يمكن

________________

(١) سورة الشورى : ٤٢ / ٥١.

(٢) التبيان ٩ : ١٧٧.

(٣) جامع أحكام القرآن ١٦ : ٥٤ ، والكشاف ٣ : ٤٧٥.

١٣٨

أن ينقل إليهم ما يوحيه تعالى إليه بإذنه ، ولكن من التأويل البعيد أن يكون المراد تحديداً بالرسول في قوله تعالى : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ) هو الرسول البشري المبعوث إلى أمة معينة. ومما يستدل به على كون ذلك بعيداً :

إنّ هذه الآية في سورة الشورى في مقام بيان طرق التكليم ( الوحي ) الإلٰهي للبشر على سبيل الحصر والتحديد الحاسم ، بدليل استخدام أداة الحصر ( إلّا ) مما يعني أنه لايمكن أن يكون هناك وحي إلهي إلّا وهو واقع ضمن أحد هذه الصور.

فإذا كان المراد بالصورة الأولى بالوحي هو الإلهام والقذف في الروع .. إلخ ، وبالصورة الثانية خصوص التكليم من وراء حجاب مما كان لموسى عليه‌السلام ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما انتفى فيه الحجاب ، فإن القول بأن المراد بالرسول في قوله عن الصورة الثالثة ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ) بأنه مخاطبة الأنبياء لأممهم أو قراءة قراء الوحي على الناس يخرج من طرق الوحي ـ لأنّ الآية في مقام الحصر ـ أهم تلك الصور على الإطلاق وأكثرها وروداً في الوحي الإلٰهي إلى الأنبياء عليهم‌السلام وهي الوحي بنزول الملك والتي لايمكن أن تضرب الآية عنها صفحاً ولا تشملها بالتحديد ، وهي الطريقة التي نزل بها أساس ما وصل إلينا من وحي الهي على الإطلاق ، وهو القرآن الكريم.

إلّا أن من الممكن أن يكون احتمال شمول الآية لكلا النوعين من الرسل وارداً ، خصوصاً إذا علمنا أن هناك من يقرأ ( فيوحى ) على صيغة المبني للمجهول فيدخل حينئذٍ كلا الاحتمالين بحيث يصبح المراد بالرسول

١٣٩

رسولان (١) : رسول ملكي يأخذ الوحي منه تعالى ويؤديه إلى الرسول الإنساني ، والرسول الإنساني الذي لايوحي وإنّما يبلّغ بكلام واضح.

وهذه الحالة من الوحي بإرسال الرسول الملكي لا تكون إلّا للأنبياء عليهم‌السلام فهي مخصوصة بهم لا تكون لغيرهم ولم يرد في القرآن الكريم ما يدل على حدوث المواجهة بين النبي البشري والملائكة إلّا في حالات معدودة بالنسبة إلى الأنبياء ـ ما عدا الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ومن هذه الحالات نجد :

١ ـ نزول الملائكة على إبراهيم عليه‌السلام قال تعالى : ( وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ .. ) (٢) ، وقال تعالى : ( وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ ) (٣).

٢ ـ مواجهتهم لوطاً عليه‌السلام قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ) (٤).

٣ ـ نزولهم على زكريا عليه‌السلام قال تعالى : ( فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ .. ) (٥).

٤ ـ ما كان مع غير الأنبياء وذلك في حالة مريم عليها‌السلام ، حيث تمثل لها الملك المعبر عنه بالروح في صورة بشرية في قوله تعالى : ( .. فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا

________________

(١) انظر : الميزان ١٤ : ٤١٠.

(٢) سورة هود : ١١ / ٦٩.

(٣) سورة الحجر : ١٥ / ٥١ ـ ٥٢.

(٤) سورة هود : ١١ / ٧٧.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٣٩.

١٤٠