منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

تارة يقال : بأنها متعلقة بأمر شخصي خارجي ، ويعبر عنه بالكسر المشاع ، بحيث تكون كل حصة من كل جزء يمكن فرضه للعين مملوكة للفرد ، فالمملوك جزء خيالي فرضي.

وأخرى يقال : بأنها متعلقة بأمر كلي من قبيل الكلي في المعين ـ لامتناع تحقق السريان والشيوع في الأمر الجزئي ـ بان يكون المملوك هو الحصة الخاصة من العين المتحققة في ضمن هذا المعين وهو العين.

ثم ان الاحتمالين في الكلي في المعين ، وهما كونه امرا خارجيان من قبيل الفرد على سبيل البدل ، وكونه أمرا كليا من قبيل الكلي في الذّمّة ، فالمملوك أمر كلي في الذّمّة يتصوران هاهنا.

وان كان الاحتمال الثاني فيه لا مجال له فيما نحن فيه ، بل لا معنى له كما لا يخفى (١). فمن يقول بان الكلي في المعين من مصاديق الكلي في الذّمّة لا وجه له لأن يقول بان ملكية المشاع بنحو ملكية الكلي في المعين. فالاحتمالات في ملكية المشاع ـ على هذا ـ ثلاثة :

وأما الاستيلاء ، فليس المراد منه قطعا خصوص الاستيلاء الخارجي المقولي ، كالاستيلاء على الخاتم بلبسه وعلى الدّابّة بركوبها ، لصدق اليد على الأراضي الواسعة مع عدم تحقق الاستيلاء الخارجي عليها.

فلذلك ذكر المحقق الأصفهاني : بان المراد منه أعم من الاستيلاء المقولي والاستيلاء الاعتباري ، كالاستيلاء على الأعيان الواسعة ، فانه بالبناء العرفي يعتبر الاستيلاء عليها وان لم يكن بمستول عليها حقيقة (٢).

ولكن الإنصاف ان الاستيلاء امر انتزاعي ينتزع عن التصرفات الخارجية

__________________

(١) وجهه ان مقتضى ذلك كون العين مملوكة لصاحبها الأول والشريكان لهما في ذمته ـ لأن الملكية لم تتعلق بأمر خارجي في المعين أصلا ـ ولا يظن وجود قائل بذلك فالتفت.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٣١ ـ الطبعة الأولى.

٦١

في العين ، حتى في مثل لبس الخاتم وركوب الدّابّة ، فالاستيلاء الحاصل على الأعيان الواسعة وغيرها استيلاء انتزاعي لا اعتباري قائم بوجود المعتبر ، بل له وجود حقيقي ، غاية الأمر انه انتزاعي ولا حقيقي مقولي. ففي الاستيلاء احتمالان.

ثم ان الاستيلاء الحقيقي المقولي في مورده لا يمكن تصوره على الحصة المشاعة بأي معنى من المعاني التي ذكرناها لملكية المشاع ، لأنه يكون على العين كلها ، إذ لا وجود للحصة المشاعة متعينا كي يتحقق الاستيلاء عليه خارجا.

وأما الاستيلاء الاعتباري ، فهو خفيف المئونة ، إذ لا يحتاج إلى مئونة خارجية أصلا ، لتقومه بنفس المعتبر وليس له ما بإزاء في الخارج ، فيمكن تحققه على الحصة المشاعة بأي تصوير ذكر لملكيتها ، ويكون شأنه شأن ثبوت الملكية لها الّذي هو ثبوت اعتباري ، فكما يتصور ملكية الحصة المشاعة واعتبارها على جميع الاحتمالات ، كذلك يمكن تصور اعتبار الاستيلاء عليها.

وأما الاستيلاء الانتزاعي ، فتصوره بالنسبة إلى الحصة المشاعة على الاحتمال الأول لملكيتها ممكن ، لأن العقلاء ينتزعون من تصرف الشخصين بالعين تصرفا خارجيا مع استئذان كل واحد منهما من الآخر وبلا مزاحمة ثالث لهما ، استيلاؤهما على العين بنحو يناسب ملكيتهما للعين ، بحيث يكون استيلاء كل منهما ناقصا وبانضمامهما يكون استيلاؤهما استيلاء تاما ، فهو يناسب الملكية بالمعنى الّذي اخترناه.

وأما على الاحتمال الثاني ، فانتزاع الاستيلاء على الحصة المشاعة من التصرفات الخارجية لا يمكن تحققه ، لأن التصرفات الخارجية لا تكون في الكسر المشاع ، لأنها انما تكون في الأمور المفروزة المتعينة ، فهي تقع على العين كلها.

نعم ، التصرفات المعاملية كالبيع والهبة والصلح يمكن تحققها بالنسبة إلى الكسر المشاع. فمنها يمكن انتزاع تحقق الاستيلاء على الكسر المشاع.

ومثله ـ في الكلام ـ الاحتمال الثالث الّذي هو جعل الحصة المشاعة بنحو الكلي في المعين ، ولكنه أمر خارجي على سبيل البدل.

٦٢

هذا كله في مقام الثبوت.

وأما الجهة الثانية ـ وهو مقام الإثبات ـ الّذي يكون الكلام فيه في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة خارجا وعدم تحققه.

فأما على الاحتمال الأول في ملك المشاع ، فلا إشكال في انتزاع الاستيلاء خارجا والحكم بالتنصيف من جهة اليد ، إذ لا يحتاج ذلك إلى أكثر من موضوع المسألة المفروض ، وهو كون العين بيد شخصين أو أكثر يتصرفان فيها. كما ان اعتبار الاستيلاء أيضا متحقق.

وأما على الاحتمالين الأخيرين ، فحيث لا تصرفات خارجية واقعة على الحصة المشاعة تكشف عن اعتبار الاستيلاء عليها ، أو ينتزع عنها الاستيلاء ، لأنها تقع على العين كلها فلا تحقق لليد على الحصة المشاعة ، بل اليد على العين بمجموعها.

نعم ، إذا رؤي منهما التصرفات المعاملية الواقعة على الحصة المشاعة يحكم باستيلائهما على الحصة أو ينتزع عنها ذلك.

ولكنه فرض زائد على موضوع المسألة ـ كما لا يخفى.

ثم انه في صورة عدم ثبوت الاستيلاء على الحصة المشاعة إثباتا أو ثبوتا ، فلا بد من بيان الوجه في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة ـ وهو الجهة الثالثة من جهات البحث ـ :

وقد ذكر للحكم بالتنصيف والملكية المشاعة وجوه :

الوجه الأول : ما في المستند من دلالة رواية يونس بن يعقوب ـ الواردة في المتاع ـ على ذلك ، لقوله عليه‌السلام : « ومن استولى على شيء منه فهو له » ، فانها تدل على ان المستولي على شيء فهو له ، وهذان الشخصان قد استوليا على هذا المال فهو لهما ، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة انه بينهما نصفين.

ويعضده الروايات الدالة على الحكم بالتنصيف فما لو تداعى شخصان مالا

٦٣

وكان بيدهما ولم يكن لأحدهما بينة أو كانت لكليهما (١) ، ثم انه نفي دلالة رواية حفص على ذلك ، فانه بعد ما ذكر توهم دلالتها باعتبار انها تدل على الملازمة بين جواز الشراء ممن بيده المال والشهادة بملكيته ، فكلما جاز الشراء جازت الشهادة بالملكية ، ولا إشكال في جواز شراء العين من هذين الشخصين ، فمقتضى الرواية الدالة على الملازمة هو الحكم بملكيتهما للعين. ذكر : ان هذا غير تام ، لأن الرواية إنما تدل على ان هذا المال الّذي بيديهما بينهما دون غيرهما ، فملكيته لا تتعداهما إلى ثالث ، اما انه لكليهما أو لأحدهما فذلك لا تدل عليه الرواية وأجنبي عن مفادها (٢).

ولا يخفاك ان ما ذكره بجهاته الثلاثة غير تام ..

أما رواية يونس بن يعقوب ، فهي انما تدل على المدعى لو قلنا بأن لهما استيلاء واحدا يرتبط بهما معا ، كما قررناه على الاحتمال الأول لملكية المشاع ، فانه يكون مشمولا للرواية ، لأن هذا المال يكون لهما استيلاء عليه فهو لهما ، لاندراجهما تحت : « من استولى » أما لو قلنا بان لكل منهما استيلاء مستقلا تاما ـ كما عليه صاحب المستند ـ فلا يتم ما ذكره من دلالتها على المدعى ، لأن كلا منهما يكون مشمولا للرواية ـ لا كليهما معا ـ لأن له استيلاء على المال كله ، ومقتضى الرواية ثبوت المال له ، فيتعارضان.

وأما ما ذكره من انه تعضده الروايات الواردة في مقام التداعي ، فلا وجه له ، لما ستعرفه من أن محل الكلام ما لم يكن أي دعوى وتداع في البين ووجود الفرق بين الصورتين.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى رواية حفص ، فالوجه الّذي يرتكز عليه ما ذكره

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٨٨ باب : ١٢ ـ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : ٣.

(٢) المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة ٢ ـ ٥٧٩ ـ الطبعة الأولى.

٦٤

بحيث يخرج عن كونه دعوى جزافية ، هو انه لاحظ بان الحكم بملكية ذي اليد انما هو بلحاظ نفي ملكية الغير باليد ، واستفادة ملكية الشخص ذي اليد تكون بالملازمة ، فمصب الرواية انما هو على نفي ملكية الغير كما يشهد به قول السائل : « فلعله كان لغيره ».

ولكنه غير سديد ، فان الظاهر من الرواية كون الملحوظ هو الحكم بملكية ذي اليد باليد بلا لحاظ نفي ملكية الغير. وأما قول السائل المذكور ، فهو لبيان وجود الشك في ملكية ذي اليد ، إذ لو لم يشك في انه لغيره لا وجه للتوقف في ملكية ذي اليد ، فالحكم بالملكية لا يرجع أولا إلى نفي ملكية الغير ، بل إلى إثبات ملكية ذي اليد وعدم الاعتناء بالشك.

وعلى أي حال فليس تحقيق ذلك بمهم بعد ضعف سند الرواية وعدم دلالتها على حجية اليد على الملكية.

الوجه الثاني : قاعدة العدل والإنصاف. المستفادة من الروايات الواردة في الموارد الجزئية ، ومقتضاها الحكم بالتنصيف والشركة فيما لو دار المال بين شخصين مع عدم المرجح لملكية أحدهما بالخصوص ، لأنه مقتضى الإنصاف ، فان الترجيح بدون مرجح ينافيه.

ولكن الإنصاف عدم تمامية الاستدلال بها فيما نحن فيه ، لأنها ـ على تقدير تسليمها ـ انما تتم في صورة العلم بعدم ملكية غير هذين الشخصين ، ودوران ملكية العين بينهما فقط ، فلا بد في الاستدلال بها على المدعى من فرض العلم بعدم ملكية غير من بيدهما المال ، أو ادعاء ان اليد من الأمارات وان الأمارة تثبت اللوازم وحجة في الدلالة الالتزامية فاليد حجة فيها. وقد تقرر في محله انه في صورة وقوع المعارضة بين الأمارتين يسقط عن الحجية خصوص مورد المعارضة من الدلالات ويبقى الباقي على حجيته ، فيسقط في المقام خصوص الدلالة المطابقية التي موضوعها ملكية ذي اليد للمال لكل من اليدين لمعارضتها بالدلالة الالتزامية لليد الأخرى.

٦٥

أما الدلالة الالتزامية على نفي ملكية غير ذوي اليدين فهي باقية على حجيتها ، لعدم كونها موضوع المعارضة.

وكلا الفرضين ممنوعان ..

أما فرض العلم ، فلأنه خلاف الفرض ومحل الكلام ، لأن المفروض تردد الملكية بينهما وبين غيرهما ، لا بينهما بالخصوص. مضافا إلى ان المدعى ثبوت الحكم المذكور لهذه الصورة مطلقا ، والقاعدة لا تشملها بجميع افرادها.

وأما الفرض الثاني ، فقد عرفت عدم ثبوت أمارية اليد ، كما عرفت انها لو كانت فلا تكون حجة في الدلالة الالتزامية ، لأن الأمارات ليست حجة فيها بقول مطلق.

وأما الحكم بعدم ملكية الغير في صورة الحكم بملكية شخص ، فهو ليس لأجل الدلالة الالتزامية ، بل لأجل الملازمة الظاهرية بين ثبوت ملكية الشخص وعدم ملكية غيره ، وهي غير متحققة فيما نحن فيه ، لأن اليد سقطت عن الحجية على الملكية بالمعارض فلا يترتب عليها ما هو أثر الملكية الظاهرية.

الوجه الثالث : الاستدلال بالخبر المرسل الدال على التنصيف في ما لو تداعى في عين اثنان ولا يد لهما عليها (١). ففي الفرض لما كانت يد كل منهما حجة على ملكيته فيتساقطان لمزاحمة كل منهما الأخرى ، إذ لا يمكن اجتماع سببين متزاحمين على مسبب واحد ، لاستحالة اجتماع ملكيتين مستقلتين لعين واحدة ، وإذا سقطت اليدان عن الحجية تكون العين كما لو لم يكن للمتداعيين عليها يد فيشملها المرسل الحاكم بالتنصيف.

وهذا الوجه ـ كأخويه ـ غير وجيه ، لأن مورد الخبر صورة التداعي ووجود الدعوى على الملكية. والمفروض في المقام عدم وجود شيء من ذلك غير اليد ،

__________________

(١) سنن البيهقي ١٠ ـ ٢٥٥ ، إلاّ ان فيها ( ليس لأحدهما بيّنة ).

٦٦

بحيث يكون الشك في ملكيتهما أو عدم ملكيتهما وملكية غيرهما ، لا في ملكيتهما أنفسهما وانه أيهما المالك.

وعليه فلا يتجه الاستدلال بالخبر المذكور ، إذ الحال يفترق بين وجود الدعوى وعدمه ، لأن الدعوى لما كانت بمنزلة الاخبار ، فدعوى كل منهما الملكية كما تكون إخبارا بها تكون اخبارا بلازمها وهو عدم ملكية غيره ـ لأن الاخبار بالشيء اخبار بلازمه ـ فدعواهما بالنسبة إلى نفي ملكية غيرهما معا دعوى بلا معارض. ومن المعلوم الحكم على طبقها ، فملكية الغير معلومة العدم حكما في صورة الدعوى ، فيكون الفرض من موارد قاعدة العدل والإنصاف التي يحكم فيها بالتنصيف المشاع مع عدم المرجح لأحد المتداعيين.

وهذا بخلاف صورة عدم الدعوى ، لعدم العلم بعدم ملكية الغير. والمفروض فيما نحن فيه ذلك. فتعدية الحكم من تلك الصورة إلى هذه بلا ملاك ومستند.

ومن هنا ظهر عدم صحة التمسك بالروايات الدالة على الحكم بالتنصيف في صورة التداعي وكون العين بيد المتداعيين وعدم المرجح ـ كما فعل صاحب المستند كما مر عليك ـ.

وعلى هذا يتضح عدم صحة التمسك بأحد هذه الوجوه.

فالذي ينبغي أن يقال : انه على الاحتمال الأول في ملكية المشاع حيث انه لا إشكال في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة ، فالحكم بملكيتها لأجل اليد وشمول دليل اعتبارها.

وأما على الاحتمالين الأخيرين ، فقد عرفت عدم تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة.

فان قلنا : بان الاستيلاء على تمام العين وان كان استيلاء مستقلا ، إلاّ انه استيلاء ناقص ضعيف بحيث يكون استيلاؤهما بمنزلة استيلاء واحد تام ـ بتقريب ان التصرف إذا خرج عن الاختيار وكان قهريا لم ينتزع عنه عنوان الاستيلاء ،

٦٧

والتصرف منهما وان لم يكن في نفسه قهريا بل باختيارهما ، لكنه حيث يتوقف على الاذن من الطرف الآخر كان قهريا من هذه الجهة ، فيكون استيلاء كل منهما استيلاء ضعيفا لأن فيه جهة غير اختيارية ـ أمكن دعوى وجود بناء العقلاء على ملكيتهما للمال دون غيرهما من دون تعيين الحصة ، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة يكون الحكم هو التنصيف.

وان قلنا : بان استيلاء كل منهما استيلاء مستقل تام ـ كما عليه صاحب المستند فانه ذكر انه لا مانع من تحقق استيلاءين كذلك على عين واحدة ـ بحيث لو كان وحده لدل على ملكية المستولي وحده للعين ، فلا محيص عن القول بسقوط اليدين عن الحجية للتزاحم.

ولا وجه حينئذ للحكم بالتنصيف والملكية المشتركة المشاعة ، فتدبر جيدا.

الجهة التاسعة : في الحجية اليد مع شك ذيها في الملكية.

وقد حررت هذه المسألة على نحوين :

الأول : يرتبط بتكليف نفس ذي اليد بالنسبة إلى ما في يده لو شك في ملكيته له ، فهل يترتب آثار الملكية بملاك اليد أو لا؟

الثاني : يرتبط بتكليف الغير بالنسبة إلى ما في يد الشاك المصرح بعدم العلم ، فهل يترتب على ما في يده آثار ملكيته له مع تصريحه بعدم علمه بملكيته للمال ، أو تختص حجية اليد بصورة دعواه الملكية أو سكوته.

وقد حرر المسألة بهذا النحو صاحب المستند قدس‌سره. كما حررها بالنحو الأول المحقق الأصفهاني قدس‌سره. ولا يختلف الحال فيما هو المهم على التقديرين.

والعمدة في ثبوت دعوى الاختصاص ـ كما عليه صاحب المستند ـ خبرا جميل بن صالح وإسحاق بن عمار.

أما صحيحة جميل بن صالح : « رجل وجد في بيته دينارا. قال : يدخل منزله

٦٨

غيره؟ قلت : نعم كثير. قال : هذه لقطة. قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال : يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا. قال : فهو له » (١) ، فقد قرب صاحب المستند الاستدلال بها على المدعى ـ بعد ان بين قصور أدلة اعتبار اليد عن شمول هذه الصورة ـ بأنه عليه‌السلام حكم فيما هو في داره الّذي لا يعلم انه له مع كونه في يده على ما مر ومستوليا عليه أنه ليس له. وأيضا علل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنه ليس لغيره.

فالصدر يدل على عدم حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد في صورة التردد (٢).

ويرد عليه ما أفاده السيد الطباطبائي قدس‌سره في ملحقات العروة من : ان عدم إدخال شخص غيره يده في صندوقه لا يلزم منه ارتفاع الشك في كون الدينار له أو لغيره ، ولا يوجب العلم بعدم كونه لغيره ، إذ يمكن ان يكون الشك من جهة كونه عارية أو أمانة أو غيرهما ، أو من جهة وضع غيره للدينار في صندوقه اتفاقا ، ولا ينافي ذلك ما هو المفروض من عدم إدخال شخص غيره يده عادة (٣).

فالذيل يدل على عدم الاختصاص ، لأنه حكم بملكية ذي اليد مع تحقق الشك لديه في ان الدينار له أو لغيره.

ولكنه قدس‌سره أورد على استدلال صاحب المستند بالصدر : بأنه لم يصرح فيه بأنه لا يعلم انه له أو لغيره ، بل الظاهر علمه بأنه ليس له ، فهو أجنبي عما نحن فيه.

ولكن ما ذكره رحمه‌الله غير واضح الوجه ، إذ لا ظهور في الرواية ولا قرينة على ما ادعاه من فرض العلم بعدم كون الدينار له ، بل الموارد الغالبة على خلافه ، فان الغالب فيما لو وجد الشخص في داره مالا حصول الشك في كونه له أو

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ ـ ٣٥٣ باب ٣ من أبواب اللقطة ، الحديث : ١.

(٢) المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة ٢ ـ ٥٧٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الطباطبائي الفقيه السيد محمد الكاظم. العروة الوثقى ٣ ـ ١٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٦٩

لغيره ، والعلم بعدم ملكيته انما يكون في موارد خاصة ـ ليس في الرواية ما يدل على المورد منها ـ كما لو كان صاحب الدار عارفا بمقدار ما يملكه من المال ، أو كان ما وجده نحوا من المال يخالف نحو ما يملكه عادة.

وقد أورد المحقق الأصفهاني رحمه‌الله على الاستدلال بصدر الرواية على المدعى بما يرجع إلى ان عدم حكم الإمام عليه‌السلام في المورد بملكية ذي اليد انما كان لأجل معارضة غلبة اليد المالكية بغلبة أخرى.

وذلك لأنه مع كثرة الداخلين يكون احتمال كون المال لذي الدار معارضا بالاحتمالات الكثيرة التي موضوعها كون المال لغيره ، يكون ضعيفا ، فلا غلبة في صورة وجود الداخل ، فينتفي ملاك حجية اليد على الملكية (١).

ولكن ما ذكره قدس‌سره عجيب ، لأنه جار في جميع موارد الشك في ملكية ذي اليد التي يدور الأمر بين ملكيته وملكية غيره غير المعين ، لتعدد الاحتمالات المعارضة لاحتمال كون المال لذي اليد وكثرتها ، كما لا يخفى.

وأما احتمال انه مع تعدد الداخل للدار أو الواضع في الصندوق يتعدد الاستيلاء على الدار وعلى الصندوق ، ومعه تكون اليد معارضة بيد أخرى ، دون صورة التفرد.

فهو وان لم يبعد بالنسبة إلى الصندوق ، إذ قد يتعارف إذن صاحب الصندوق لغيره في الاستفادة من صندوقه بوضع المال ، لكنه بعيد بالنسبة إلى الدار ، إذ دخول الناس في دار الغير ولو كان كثيرا لا يحقق الاستيلاء على الدار.

والّذي ينبغي ان يقال : ان الاستيلاء كما عرفت منتزع عن التصرف الخارجي الاختياري ، فإذا لم يكن وضع الشيء في دار إنسان بعلمه واختياره لم يعد عرفا مستوليا على ذلك المال.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٣٣ ـ الطبعة الأولى.

٧٠

نعم ، إذا وضعه بنفسه أو بإذنه كان مستوليا عليه وان غفل بعد ذلك عنه.

فمع عدم إحراز استيلائه وان هذه العين التي يشك في ملكيتها الآن هو كان قد وضعها في هذا المكان ليكون مستوليا عليها عرفا ، أو وضعها غيره بلا علمه واختياره فلا يكون مستوليا عليها لعدم تحقق منشأ الاستيلاء عليها منه أصلا.

لا يصح الحكم بملكيته لعدم إحراز يده على المشكوك فلا ملاك للحكم بملكيته.

ومن هذا القبيل مورد الصدر ـ أعني : الدينار الموجود في الدار ـ فانه بعد ان كان يدخل إلى الدار غيره كان استيلاؤه على الدينار الموجود فيها غير محرز ، لاحتمال كونه من غيره ولم يكن وجوده في الدار عن اختياره ، فلا يكون مستوليا عليه. فلذلك لم يحكم عليه‌السلام بملكية صاحب الدار للدينار ، بل حكم بأنه لقطة.

وأما مع إحراز استيلائه كان الحكم بملكية المشكوك متعينا لتحقق ملاكه.

ومنه مورد الذيل ، وهو الدينار الموجود في الصندوق ، لأنه إذا لم يكن أحد غيره يدخل يده في الصندوق يتعين كون الواضع للدينار صاحب الصندوق ، فيكون الدينار بيده وتحت استيلائه ، فالحكم بملكيته على طبق قاعدة اليد.

فالمتعين في المقام التفصيل بين صورة إحراز الاستيلاء فيحكم بملكية ذي اليد ـ إذ لا يبعد بناء العقلاء على ذلك ـ وبين عدم إحرازه فلا يحكم بالملكية لعدم تحقق ملاكها.

والتفصيل في الرواية بين صورة دخول غيره الدار وعدمه وبين إدخال غيره يده في الصندوق وعدمه ، إنما هو لأجل ما ذكرناه.

هذا ، ولكن الإنصاف ان ذيل رواية جميل لا دلالة له على حجية اليد على ملكية ذي اليد نفسه ، إذ هي ظاهرة في انحصار الاستيلاء بذي اليد بنحو يطمئن بكون المال له وعدم احتمال كونه لغيره احتمالا معتدا به ، إذ المراد من وضع أحد شيئا

٧١

في الصندوق ليس وضعه من دون علمه وباستيلاء خاص به ، بل وضعه فيه بواسطته وبطريقه بحيث يكون الواضع مباشرة هو صاحب الصندوق ، وذلك بقرينة تقابل وضع شيء مع إدخال أحد يده في الصندوق. وحينئذ فإذا نفي إدخال أحد يده في الصندوق مع نفي وضع صاحب الصندوق مال الغير فيه ، يتعين بحكم العادة كون المال لصاحب الصندوق وكون التردد في غير محله وأشبه بالوسوسة ، فقوله عليه‌السلام : « فهو له » ليس حكما تعبديا ، بل هو اخبار عن نتيجة نفي الأمرين. فتدبر.

وأما رواية إسحاق بن عمار الموثقة : « عن رجل نزل في بعض بيوت مكة ، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : فاسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها. قلت : فان لم يعرفوها. قال : يتصدق بها » (١). فقد قرب صاحب المستند دلالتها على ما ذهب إليه : بأنه لا شك ان الدراهم كانت في تصرف أهل المنزل على ما عرفت ، ولو انهم قالوا لا نعلم انها لنا أو لغيرنا فيصدق انهم لا يعرفونها فلا يحكم بملكيتها لهم (٢).

والمهم في رد الاستدلال بها أمران :

الأول : عدم وضوح تحقق الاستيلاء على المدفون.

والثاني : ورودها في الكنز ، وهو ذو أحكام خاصة لا ترتبط بالقواعد الكلية والأصول العامة. فلا يتجه الاستدلال بها على الاختصاص.

والحاصل : أن الظاهر تحقق بناء العقلاء على حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد نفسه مع إحراز استيلائه ويده ، وإلا فلا ملاك للحكم بملكيته خارجا. فتدبر.

الجهة العاشرة : في حجية يد المسلم على التذكية.

وثمرة الكلام انما تظهر في ما لم تكن على المشكوك تذكيته أمارة على التذكية

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ ـ ٣٥٥ باب ٥ من أبواب اللّقطة ، الحديث : ٣.

(٢) المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة ٢ ـ ٥٧٨ ـ الطبعة الأولى.

٧٢

من سوق المسلمين أو أرض الإسلام أو تصرف المسلم بل لم يكن إلاّ في يد المسلم من دون انضمام تصرفه المتوقف على التذكية إليها ، أو سوق المسلمين أو غير ذلك من الأمارات الدالة على التذكية ، كما لو وجد اللحم في يد المسلم وهو في الطريق ولم يعلم انه ذاهب به ليأكله أو ليلقيه وينبذه.

فان قلنا : بأمارية يد المسلم بنفسها جاز ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم ، وإلا فلا يجوز ترتيبها ما لم ينضم إليها التصرف المتوقف على التذكية.

وحيث تعين محل الكلام ، فعدم أمارية اليد على التذكية ـ بحيث تكون أمارة في قبال أرض الإسلام وسوق المسلمين وتصرف المسلم واضح ، لعدم الدليل عليها أصلا ، لأن الاخبار واردة في بيان أمارية سوق المسلمين وأرض الإسلام ، وأما يد المسلم فلا دليل على أماريتها.

نعم ، هناك خبر واحد وارد في يد المسلم وهو خبر إسماعيل بن عيسى الآتي ـ إلا أن الحكم بالحلية فيه مرتب على تحقق التصرف المتوقف على التذكية من المسلم دون مجرد كونه في يده ، وكون التصرف موردا ولا يخصص الوارد ، فلا يدل أمارية اليد بما هي يد.

وعلى هذا ، فلا حاجة إلى صرف الكلام إلى مرحلة الثبوت وتحقيق وجود ملاك الأمارية في يد المسلم وغير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن.

نعم ، لا بأس في التعرض إلى أمرين :

الأمر الأول : ان حجية سوق المسلمين وأرض الإسلام وتصرف المسلم على التذكية ، هل مرجعه إلى أصالة الصحة في فعل المسلم أو أنه جعل مستقل لأمارات مستقلة لا يرتبط بأصالة الصحة؟.

ذهب صاحب الجواهر قدس‌سره إلى ان مرجع الجميع إلى أصالة الصحة في فعل المسلم. ولأجل ذلك حكم بعدم أمارية اليد المجردة عن التصرف المتوقف

٧٣

على التذكية (١).

ويورد عليه بما أفاده المحقق الهمداني قدس‌سره في مصباحه من : أن أصالة الصحة في فعل الغير المسلم انما تثبت صحة العمل الصادر من المسلم المشكوك في صحته للشك في وجود بعض شرائطه ـ مثلا ـ ولا تثبت وجود المشكوك وتحققه خارجا ، فهي في المقام تثبت صحة البيع أو صحة الصلاة بمشكوك التذكية ، أما أنها تثبت التذكية المشكوكة كي تصح صلاة المشتري فيه فلا ، فلا وجه لإرجاع أمارية هذه الأمور إلى أصالة الصحة.

ولا يخفى ان البحث المذكور بحث علمي صرف ، ولا أثر له في مقام العمل.

الأمر الثاني : ان اليد على تقدير ثبوت أماريتها على التذكية ، فهل هي أمارة مستقلة منفصلة عن سوق المسلمين ، أو ان سوق المسلمين أمارة على التذكية باعتبار أماريته على يد المسلم لا باعتباره نفسه ، فهو أمارة على الأمارة؟.

والأثر العملي في هذا الكلام ظاهر ، فانه لو كان سوق المسلمين أمارة مستقلة على التذكية للحكم بما في يد الكافر الموجود في سوق المسلمين بالتذكية.

بخلاف ما لو لم يكن أمارة مستقلة ، بل كان أمارة على الأمارة للعلم بعدم تحقق يد المسلم التي هي الأمارة في الفرض ، فلا أثر لسوق المسلمين. نعم ، في صورة الشك بتحقق يد المسلم بان شك في كون ذي اليد مسلما أو كافرا يحكم بمسلميته بمقتضى السوق ، وهذا معنى أمارية سوق المسلمين.

وقد ذهب المحقق الهمداني قدس‌سره إلى الثاني مستظهرا ذلك من رواية إسماعيل بن عيسى ( موسى خ ) : « عن الجلود الفراء يشتريها الرّجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟. قال عليه‌السلام : عليكم أنتم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشتركين يبيعون ذلك. وإذا رأيتم

__________________

(١) النجفي الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام ٨ ـ ٥٦ ـ الطبعة الحديثة.

٧٤

يصلون فيه فلا تسألوا عنه ».

ووجه الاستظهار : انه عليه‌السلام في فرض الشراء من السوق فصل في مقام وجوب السؤال عن ذكاة الجلد بين كون البائع مشركا فيجب السؤال وكونه مسلما فلا يجب ، مما يكشف عن ان السوق بنفسه لا عبرة فيه ، بل انما يعتبر باعتبار كشفه عما هو أمارة وهو يد المسلم ولذلك لم يعتبر في صورة العلم بيد الكافر في مورد الرواية ، إذ لا موضوع لأمارية السوق حينئذ (١).

وفيه ما لا يخفى ، فانه لا ظهور ولا قرينة في الرواية المذكورة على كون المورد من موارد سوق المسلمين ، وكون الملحوظ فيها أماريته وعدمها ، بل ذيل الرواية الّذي يقتضي إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية تصرف المسلم بالصلاة يدل على عدم لحاظ السوق أصلا ، وإلا لكان المناسب إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية بيع المسلمين لإحراز يدهم وتصرفهم.

فالإنصاف ان هذه الرواية لا تدل على ما ذهب إليه الفقيه الهمداني رحمه‌الله ، فتبقى عمومات اعتبار سوق المسلمين في الحكم بالتذكية سالمة عن المخصص. وبذلك يكون السوق أمارة بنفسه على التذكية.

الجهة الحادية عشرة : في أمارية يد الكافر على عدم التذكية. ويلحق بهذا البحث الكلام في أمارية أرض الكفر وسوق الكفار على عدم التذكية.

فهل أن يد الكافر بنفسها أمارة على عدم التذكية ، أو انها ليست بأمارة ، والحكم بعدم التذكية في موردها لأصالة عدم التذكية؟ ومثلها أرض الكفر وسوق الكفار.

والثمرة في هذا الكلام تظهر في موارد :

منها : ما لو تعارض سوق المسلمين ويد الكافر ، بان كان اللحم بيد كافر بائع

__________________

(١) الفقيه الهمداني الشيخ آغا رضا مصباح الفقيه ـ ١٤١ ـ كتاب الطهارة ـ الطبعة القديمة.

٧٥

في سوق المسلمين ، فانه بناء على ان الحكم بعدم تذكية ما في يد الكافر لأجل أمارية يده على عدم التذكية ، تتعارض الأمارتان ـ أعني سوق المسلمين ويد الكافر ـ وبناء على ان الحكم المذكور من جهة أصالة عدم التذكية يكون السوق مقدما على اليد ، لأنه إمارة وهي واردة على الأصل كما لا يخفى.

ومنها : ما لو اجتمعت يد الكافر ويد المسلم ويتصور ذلك فيما لو كانت يد الكافر على جزء من الحيوان ويد المسلم على جزء آخر ، لأن الحكم بالتذكية أو عدمها إنما يكون بالنسبة إلى مجموع الحيوان لا إلى خصوص الجزء الموجود في اليد إذ التذكية التي تكون اليد أمارة عليها أو على عدمها إنما هي تذكية الحيوان كله لا تذكية هذا الجزء خاصة الّذي تحت اليد. فتدبر ـ فانه على القول بأمارية يد الكافر تتعارضان. وعلى القول بعدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على أصالة عدم التذكية.

ومنها : ما لو كانت الذبيحة فعلا بيد كافر وكانت قبلا بيد مسلم فانه بناء على أمارية يد الكافر تكون متعارضة مع يد المسلم لأنها حين حدوثها كانت أمارة على التذكية حدوثا وبقاء ، فتتعارض الأمارتان. وبناء على عدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على الأصل.

وقد استدل لأمارية يد الكافر وأرض الكفر وسوق الكفار بأمور :

الدليل الأول : مصحح إسحاق بن عمار : « لا بأس في الصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت : فان كان فيها غير أهل الإسلام؟. قال عليه‌السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (١).

والاستدلال بها على المدعى من وجوه :

الوجه الأول : مفهوم الشرط ، حيث انه عليه‌السلام علق عدم البأس على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ ـ ١٠٧٢ باب : ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث : ٥.

٧٦

كون الغالب على الأرض المسلمين ، فيدل التعليق على ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين وبذلك يثبت المدعى.

ولكنه كما ترى ، فان ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين بمقتضى التعليق أجنبي عن أمارية سوق الكفّار الّذي هو المدعى ، فانه موضوع آخر وغاية ما يقتضيه التعليق هو ثبوت البأس في هذا المورد ، أما ملاكه فلا تتكفل بيانه الرواية ، فقد يكون الملاك هو أصالة عدم التذكية لتحقق موضوعها وعدم الأمارة على خلافها ، لكون المفروض عدم غلبة المسلمين ، فلا سوق لهم كي يرد على الأصل المذكور. فترتيب البأس على ارتفاع الغلبة قد يكون لأجل ارتفاع الرافع لموضوع الأصل.

الوجه الثاني : مفهوم الوصف ، حيث انه عليه‌السلام علق الحكم بنفي البأس على الغلبة الموصوفة بغلبة المسلمين ، ومقتضاه ثبوت البأس عند الغلبة الموصوفة بغلبة غير المسلمين. فيكون المراد : إذا كان الغالب عليها غير المسلمين ففيه بأس.

وظاهر ذلك استناد ثبوت البأس إلى غلبة غير المسلمين لا إلى أمر آخر ، لأن موضوع ثبوت البأس وعدمه في الموردين هو الغلبة ، والاختلاف في الحكم انما كان من جهة الاختلاف في الوصف.

وهذا الوجه غير سديد ، لما حقق في محله من عدم حجية مفهوم الوصف وعدم اعتباره شرعا.

الوجه الثالث : ان الظاهر كون الإمام عليه‌السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين ـ أعني : التذكية وعدمها ـ لا أنه في مقام بيان حكم طرف دون آخر. وحيث انه جعل المناط في الحكم بالتذكية هو غلبة المسلمين يكون ذلك قرينة منه على اعتبار الغلبة في الطرف الآخر ، فان المناط ثبوتا في التذكية وعدمها هو الغلبة. فاستفادة اعتبار غلبة الكفار في الحكم بعدم التذكية ليس من جهة المفهوم ، كي يقال بان الوصف غير المعتمد على موصوف لا مفهوم له ، بل من جهة قرينة المقام ، وهي

٧٧

كونه عليه‌السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين لا إعطاؤه في طرف ، وإيكال السائل إلى جهله في طرف آخر.

وهذا الوجه ـ كأخويه ـ لا يجدي لإثبات المدعى ، لأن ما يرتكز عليه من كون الإمام عليه‌السلام بصدد بيان الضابط للطرفين غير مسلم لأن المسئول عنه والّذي كان الإمام بصدد بيان حكمه ليس إلاّ ما كان مصنوعا في أرض الإسلام. أما ما كان في أرض الكفر أو سوق الكفار ، فلا ظهور في الخبر على انه عليه‌السلام كان بصدد بيان حكمه. فجعل الضابط في طرف هو الغلبة لا يستفاد منه كونه هو الضابط في الطرف الآخر لقرينة المقام. فالتفت.

الدليل الثاني : رواية إسماعيل بن عيسى المتقدمة.

وقرب المحقق الأصفهاني قدس‌سره دلالتها على أمارية يد الكافر : بأنها ـ بمقتضى الأمر بالسؤال ـ تدل على وجوب الاجتناب عما كان بيد الكافر ، فيدور الأمر بين ان يكون منشأ ذلك أصالة عدم التذكية ، أو عدم الأمارة الرافعة وهي يد المسلم أو يد الكافر. وحيث ان الظاهر كون المنشأ هو الثالث تحفظا على ظهور كون الإسناد إلى ما هو له ، كان ذلك دليلا على أماريتها ، لأنها لا تكون بنفسها حجة على عدم التذكية إلاّ إذا كانت أمارة (١).

ولكن الإنصاف انها لا تدل على المدعى ، لأن الظاهر ان وجوب السؤال هو الّذي تدل عليه الرواية وهو وجوب شرطي لا نفسي. فيرجع مفادها إلى انه إذا أريد ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم الّذي هو بيد المشرك فلا بد من الفحص ، ولا يكفي في ترتيب الآثار كونه بيد المشرك. بخلاف ما إذا كان بيد المسلم فان ترتيب آثار التذكية جائز بمجرد كونه بيد المسلم بلا فحص وسؤال. فينتزع من هذا حجية يد المسلم وأماريته دون يد المشرك ، ولا ينتزع منه أمارية يد المشرك على

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٤٤ ـ الطبعة الثانية.

٧٨

العدم ، لأن مرجع وجوب السؤال إلى عدم الاعتناء بيد المشرك وعدم ترتيب آثار التذكية عليها ، وهذا لا يدل إلاّ على عدم الأمارية لا على الأمارية على العدم.

وبالجملة : حيث كان الأمر في الرواية بالسؤال وظهور ذلك في كون وجوبه شرطيا ـ بمعنى انه شرط لترتيب آثار التذكية ـ لا يكون في الرواية أي دلالة على أمارية يد الكافر ، بل انما تدل على عدم أماريته.

نعم ، لو كان الحكم في الرواية بوجوب الاجتناب ، لأمكن ادعاء ظهور استناده إلى يد الكافر ، فيدل على حجيته على العدم.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الحكم بوجوب السؤال ، ووجوب الاجتناب مستلزم له ، وهو ـ أعني : وجوب السؤال ـ لا يدل إلاّ على عدم الاعتناء بيد الكافر في مقام ترتيب آثار التذكية.

وهذا انما ينفي الأمارية على التذكية ، لا انه يثبت الأمارية على عدمها.

كما يقرر مثل هذا الكلام في وجوب التبين عند اخبار الفاسق المستفاد من آية النبأ ، فانه يقال : انه وجوب شرطي مرجعه إلى عدم جواز ترتيب آثار الواقع المخبر به عند اخبار الفاسق الا بعد السؤال والعلم بصحته وهذا انما يدل على عدم حجية خبر الفاسق لا على حجيته على عدم وقوع المخبر به.

الدليل الثالث : انه من المسلم عند الأصحاب انه إذا كانت الذبيحة بيد الكافر في سوق المسلمين أو أرضهم ، فهي محكومة بعدم التذكية.

وهذا دليل على اعتبارهم يد الكافر أمارة بحيث تعارض أمارية السوق ، فيتساقطان ويرجع إلى أصالة عدم التذكية. وإلاّ فنفس أصالة عدم التذكية لا تجدي ، لأنها محكومة للسوق لأنه أمارة بلا معارض.

وفيه : ان تسليمهم ليس بحجة بحيث يمكن التمسك به في قبال القواعد المقررة ، لأنهم بين ..

من لا يرى السوق والأرض أمارة مستقلة ، بل هما أمارة على الأمارة ـ كما

٧٩

عرفت عن الفقيه الهمداني ـ ففي صورة العلم بيد الكافر تنتفي أمارية السوق أو الأرض.

ومن يرى رجوع هذه الأمارات إلى أصالة الصحة في فعل المسلم كما عرفت عن صاحب الجواهر ـ وهي غير جارية في صورة العلم بكون اليد يد كافر.

ومن يرى تخصص عموم أمارية السوق بيد الكافر ، لرواية إسماعيل بن عيسى ، فلا يكون تسليمهم بذلك حجة على من لا يرى رأيهم ـ بل ليس بناء منهم على أمارية يد الكافر ـ فيلتزم بعدم الاعتناء بيد الكافر في سوق المسلمين.

هذا ، مضافا إلى ان تسليمهم لا يدل على بنائهم على أمارية يد الكافر ، بل يمكن أن يكون لأجل انتفاء ملاك أمارية سوق المسلمين بالنسبة إلى يد الكافر وهو الغلبة ـ وستأتي الإشارة إليها عن قريب ـ. كما يلتزمون بسقوط خبر الواحد عن الحجية عند معارضته للشهرة مع التزامهم بحجية الخبر وعدم حجية الشهرة. بتوجيه : ان الشهرة توجب عدم الوثوق بصدق الخبر الّذي هو ملاك حجيته ـ وان أورد عليهم بان الملاك خبر الثقة لا الخبر الموثوق به ـ.

وبالجملة : فمن الممكن ثبوتا تصور التزام الأصحاب بتقدم اللاحجة على الحجة لبعض الوجوه.

والمتحصل : انه لا دليل على أمارية يد الكافر وأرض الكفار وسوقهم على عدم التذكية ، وليس الثابت إلا عدم حجيتها.

الجهة الثانية عشرة : في ان يد المسلم نفسها أو مع اقترانها بالتصرف ، هل هي حجة على التذكية مطلقا أو تختص بغير المستحل للميتة بالدباغ؟.

قد ذكر المحقق الأصفهاني (١) : ان الكلام يكون تارة في مقام الثبوت. وأخرى

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٤٧ ـ الطبعة الأولى.

٨٠