منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

تتكفل الترجيح من حيث الصدور للروايتين المتعارضتين الواجدتين لمقتضى الحجية في حد أنفسهما ، فتدبر.

واما ما أورده السيد الخوئي من : ان نفس المخالفة ـ على هذا ـ تكون أمارة توجب الظن بنفس الخبر المخالف مع قطع النّظر عن المعارض ، فالتعدي يقتصر فيه على مثل ذلك ولا بأس به (١).

فهو غير وجيه ، لأن كون الرشد في خلافهم ، انما يكون أمارة ظنية على كون الحق في ما خالف العامة ، لا كون الحق هو الخبر المخالف ، لأن المخالف للعامة أعم من مفاد خصوص هذا الخبر وغيره لتنوع الأحكام ، فالمخالفة لا تكون أمارة على صحة خصوص هذا الخبر ، لعدم انحصار المخالفة بمفاده ، فتعليل الأخذ بالمخالف بها انما يتجه باعتبار إيجابها كون المخالف أقرب إلى الحقيقة والواقع من الموافق ـ لكونه أحد مصاديق المخالفة ـ لا باعتبار أنه بنفسه قريب إلى الواقع ، فلا بد من التعدي إلى كل مورد يكون أحد الخبرين اقرب إلى الواقع من معارضه ، وان لم تقم أمارة على قربه في نفسه.

والّذي يتحصل : ان الوجه هو الالتزام بما التزم الشيخ من التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة على القول بالترجيح.

هذا ، ولكن الإنصاف عدم صحة ما أفاده قدس‌سره ، وذلك لأن نفس اخبار الترجيح تصدت للحكم بالتخيير مع تساوي الخبرين في المرجحات المفروضة واحدا بعد واحد ، ولو فهم السائل عموم الترجيح بأيّ مزية لكان ينبغي ان يسأل عن صورة التساوي في مطلق المزايا ـ بهذا العنوان ـ لا التساوي في المرجحات المذكورة في صدر النص ، بل لا معنى لسؤاله عن المرجحات واحدا بعد آخر لو فرض دلالة قوله : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » على الترجيح بكل مزية ، لأنه يفهم منه ذلك فيأخذ بإطلاقه ، فلا موضوع للسؤال حينئذ عن صورة تساويهما

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٢٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٢١

من حيث الشهرة ونحو ذلك. وقد نسب هذا الإشكال إلى صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (١).

يقع الكلام بعد ذلك في اخبار التخيير ، وهي ثمان روايات :

الأولى : ما عن فقه الإمام الرضا عليه‌السلام في حديث : « ... وقد روى ثمانية عشر يوما ، وروى ثلاث وعشرين يوما » ، وبأي هذه الأحاديث أخذ من جهة التسليم جاز » (٢).

الثانية : ما في ذيل مرفوعة زرارة من قوله عليه‌السلام بعد فرض السائل كون الخبرين موافقين للاحتياط أو مخالفين له : « إذا فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » (٣).

الثالثة : رواية الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا عليه‌السلام : « قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟. قال عليه‌السلام : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت » (٤).

الرابعة : مرسلة الكافي حيث قال : « وفي رواية أخرى : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك » (٥).

الخامسة : رواية الحرث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه » (٦).

السادسة : رواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٧٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) مستدرك وسائل الشيعة ٣ ـ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصول الكافي ١ ـ ٦٧ ، باب اختلاف الحديث ، الحديث : ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٧ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٠.

(٥) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٠ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٩.

(٦) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٧ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤١.

٤٢٢

اختلف عليه رجلان من أهل دينه في امر كلاهما يرويه : أحدهما يأمره بالاخذ والآخر ينهاه ، كيف يصنع؟ قال عليه‌السلام : يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه » (١).

السابعة : ما روى عن علي بن مهزيار ، قال : « قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : صلهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلهما الا على الأرض. فوقع عليه‌السلام موسع عليك بأية عملت (٢).

الثامنة : مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه وقد سئل فيها عن استحباب التكبير بعد التشهد الأول ... إلى ان قال عليه‌السلام في الجواب : ان في ذلك حديثين : اما أحدهما : فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير.

واما الآخر : فانه روي : انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ، فأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » (٣).

وقد نوقش في الاستدلال بالأربع الأولى بضعف سندها ـ مع تمامية دلالتها ـ إذ لم يثبت كتاب فقه الرضا كي يصح الاعتماد عليه ، وشذوذ المرفوعة وإرسالها ، وإرسال رواية الحسن بن الجهم ورواية الكافي.

وقد شكك في كون مرسلة الكافي رواية مستقلة غير الروايات الأخرى ، واحتمل انها إشارة إلى بعض هذه الروايات المذكورة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٧ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٥.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٨ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٤.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٧ باب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٣٩.

٤٢٣

ولكنه (١) ، تشكيك لا أساس له ، يدفعه ظهور كلام الكافي في انه رواية مستقلة وعدم ثبوت هذا التعبير في رواية غيرها. فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بها إرسالها ، مع إمكان التشكيك في دلالة رواية الحسن بن الجهم ، فان فرض وثاقة كلا الرجلين ظاهر في فرض اطمئنانه بصدور الخبرين ، ولكن يجهل الواقع منهما ، فتكون أجنبية عن التخيير في مقام الحجية.

واما الرواية الخامسة ـ أعني : رواية الحرث ـ فقد نوقش الاستدلال بها بضعف سندها بالإرسال ، وعدم دلالتها على المدعي ـ أعني : التخيير في مقام التعارض ، كما فهمه الأصحاب ـ بدعوى (٢) ظهورها في حجية اخبار الثقة وجواز العمل بها في نفسها مع قطع النّظر عن مقام المعارضة.

إلاّ انه يدفع هذه الدعوى ويمنع الاستظهار المذكور من الرواية جهات فيها :

الأولى : تعليق الحكم بالوسعة على وثاقة الكل ، فانه لا يتناسب مع كون المنظور إليه تعدد الواقعة وتعدد الاخبار وان كل خبر يكون مرويا عن ثقة ، إذ لا ترتبط حجية أحدها بوثاقة الراوي للآخر ، بل ملاك الحجية وثاقة الراوي لنفس الخبر سواء كان الراوي لغيره ثقة أو لم يكن كذلك. كما انه لا يمكن ان يحمل على إرادة الحديث الّذي سلسلته ثقات كلهم ، إذ تعدد الواسطة في الخبر في زمان الإمام نادر جدا ، بل الغالب هو الرواية عن الإمام عليه‌السلام رأسا.

مضافا إلى انه لا يتناسب مع فرض السماع من الكل ، إذ هو ظاهر في تعدد الرّواة عرضيا لا طوليا ، إذ لا يصدق على المخبر بذي الواسطة بأنه سمع من افراد السلسلة كما لا يخفى.

وعليه ، فتعليق الحكم على وثاقة الكل ظاهر في تعدد الخبر في الواقعة

__________________

(١) ارتضى هذا التشكيك في الدورة الثانية وشبه قول الكليني المزبور بحكاية أي مجتهد لمدلول النصوص بقوله « روى كذا ».

(٢) أشار إلى ذلك المحقق العراقي والتزم به السيد الخوئي.

٤٢٤

الواحدة ووثاقة الرّواة فيكون من موارد التعارض.

الثانية : ان الظاهر من الرواية كون منشأ الترديد والمشكلة هو وثاقة الكل ، وانه مع عدم وثاقة البعض لا تكون هناك مشكلة ، وهذا انما يتناسب مع موارد التعارض دون غيره ، إذ لا مشكلة في وثاقة الكل في غير مورده ، بل يؤخذ بالجميع.

الثالثة : ظهور قوله عليه‌السلام : « فموسع عليك » في عدم الإلزام بالاخذ بالخبر ، وهذا لا يتناسب مع كون المقصود بيان حجية خبر الثقة ، إذ المناسب لها هو الإلزام بالاخذ والحكم بوجوبه ، ولا معنى لجواز الأخذ بعد عدم وجود المعذر والمنجز في مطلق مواردها غيرها.

ويضاف إلى هذه الجهات الثلاث في الإشكال : انه لم يرد في غير هذا الخبر في لسان رواية الإلزام بالعمل بخبر الواحد ابتداء ، بلحاظ كونه امرا ارتكازيا لا يحتاج إلى بيان ، وانما المسئول عنه غالبا هو مصداق الثقة ، وذلك يضعف حمل الرواية على ما ذكر.

هذا ولكن لا يمكن البناء على دلالتها لوجهين :

أحدهما : انها غير ظاهرة في التخيير بين الخبرين ، بل هي ظاهرة في السعة ، ولعل ذلك يرجع إلى تساقط الاخبار والرجوع إلى الأصل المبيح ، فمدلول هذه الرواية نظير مدلول قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا ».

والآخر : انها واردة في حكم زمان الحضور والتمكن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ، فلا تنفع في إثبات حكم مثل زماننا.

واما الرواية السادسة ـ أعني : رواية سماعة ، فقد نوقش فيها : بأن موردها حيث كان من موارد دوران الأمر بين محذورين ـ للترديد بين الحرمة والوجوب ـ وكان الحكم فيها عقلا هو التخيير ، فقوله عليه‌السلام : « فهو في سعة » بيان وتقرير لهذا الحكم العقلي لا أكثر ، وليس هو حكم بالتخيير بالاخذ بإحدى الروايتين في مقام التعارض.

٤٢٥

إلاّ انه يشكل :

أولا : بأن ما ذكره السائل من ان أحدهما يأمره والآخر ينهاه انما كان على سبيل المثال لمورد الاختلاف بين الروايتين ، لا ان المسئول عنه هو هذا النحو من الاختلاف.

وثانيا : بأنه لو سلم ذلك ، فليس المورد من موارد دوران الأمر بين محذورين ، لأنه انما يكون كذلك مع العلم بأصل الإلزام ، ولم يثبت ذلك للشك في حجية كل من الخبرين ، فيمكن ان يكون الحكم غير الوجوب والحرمة كالإباحة.

فالتحقيق ان يقال : ان السؤال في الرواية ان كان عن العمل ، وانه الفعل والترك ، كان قوله عليه‌السلام : « فهو في سعة » ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام العمل ويكون مرجع ذلك إلى الحكم بالبراءة. وان كان السؤال عن الأخذ بإحدى الروايتين ، كان المزبور ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام الأخذ بإحدى الروايتين فيرجع ذلك إلى التخيير.

وتعيين أحد المعنيين من قوله عليه‌السلام انما يتم بتعيين جهة السؤال ، وحيث انه لم يظهر من الأمر والنهي المفروضين في الخبر إرادة الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي منهما ـ كي يصلح الكلام ، لكون المسئول عنه هو العمل لحصول التحير معه ـ فيمكن حملهما على الأعم من الأمر الوجوبيّ والاستحبابي والنهي التحريمي والتنزيهي ، بقرينة إطلاق الجواب وعدم تقييده بصورة الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي ، ومعه يتعين كون المسئول عنه هو الأخذ بالرواية وكون المراد بالسعة التخيير ، كعدم التحير والضيق في مقام العمل مع دوران الأمر بين الوجوب والكراهة أو الحرمة والاستحباب أو الاستحباب والكراهة كي يحكم بالسعة ، فلاحظ.

هذا ، ولكن الإنصاف انها غير تامة الدلالة ، لورودها في مورد التمكن من لقاء المعصوم عليه‌السلام ، مع ان قوله : « فهو في سعة ... » متفرع على قوله : « يرجئه » ،

٤٢٦

ظاهر في عدم العمل بكلا الخبرين والرجوع إلى الأصل العملي ، لا لزوم العمل بأحد الخبرين. واما لفظ الأمر والنهي فهما ظاهران في الإلزاميين كما حقق في محله ، بل يمكن جعل قوله : « فهو في سعة » قرينة على ذلك.

واما الرواية السابعة ـ أعنى : رواية علي بن مهزيار ـ فقد ناقش السيد الخوئي الاستدلال بها : بأن مورد الرواية والتخيير في نافلة الفجر بين الإتيان بها في المحمل والإتيان بها على الأرض ، وظاهر حكم الإمام عليه‌السلام بجواز الإتيان بها في المحمل وعلى الأرض والتخيير بين الصورتين ، ان التخيير واقعي ، لأنه لو لم يكن الحكم الواقعي هو التخيير لكان الأنسب للإمام عليه‌السلام ـ بمقتضى مقامه ـ بيان الحكم الواقعي لا التخيير بين الحديثين.

وعليه ، فالحكم بالتخيير ليس ناظرا إلى التخيير بين الحديثين ، بل لأن الحكم الواقعي هو التخيير ، فلا دلالة للرواية على المدعى (١).

ولكن الخدشة في هذه المناقشة ظاهرة ، فان المورد ليس من موارد التخيير ، للعلم بجواز الصلاة على الأرض ، وانما المشكوك جوازها في المحمل ، فلا يظهر الأمر في : « صلهما في المحمل » في تعينه ، بل في الإباحة لأنه في مقام توهم الحظر ، فالامر دائر بين جواز الصلاة فيه وعدم جوازها ولا يكون مثل هذا من موارد التخيير ، وليس دائرا بين جوازها في المحمل فقط وجوازها على الأرض فقط كي يظهر الحكم بالتخيير في كونه بيانا للحكم الواقعي ، فظاهر الحكم بالتخيير هو التخيير في المسألة الأصولية والأخذ بإحدى الروايتين.

ويؤيده قوله عليه‌السلام : « موسع عليك بأية عملت » ، فانه ظاهر في الحكم بالتوسعة في مقام العمل بالرواية ، وان السائل في سعة بأي رواية عمل لا في الإتيان بأي الكيفيتين شاء.

وأما دعوى : كون الأنسب مع هذا السؤال هو بيان الحكم الواقعي لو كان

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٢٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٧

غير التخيير لا الحكم بالتخيير بين الحديثين.

فمندفعة : بأن إغماض الإمام عليه‌السلام عن بيان الحكم الواقعي في المسألة الخاصة ببيان حكم كلي في المسألة الأصولية الكثيرة الابتلاء ، يمكن ان يكون لمصلحة هناك في نفسه كالمصلحة في عدم الابتداء ببيان الحكم.

مضافا إلى إمكان دعوى (١) ، عدم كون المسئول عنه هو الوظيفة الواقعية بالنسبة إلى الصلاة ، وانما هو حكم الاختلاف بين الاخبار في المورد. فالجواب المناسب هو بيان الحكم لمقام المعارضة لا بيان الوظيفة العملية الفرعية.

واما الرواية الثامنة ـ أعني : مكاتبة الحميري ـ فقد ناقش السيد الخوئي الاستدلال بها أيضا : بأنه لا تعارض بين الحديثين المفروضين في الرواية ، إذ بينهما عموم مطلق ، ومقتضى القاعدة هو الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد الّذي مقتضاه عدم استحباب التكبير بعد التشهد الأول ، وانما حكم الإمام عليه‌السلام باستحباب التكبير والتخيير بين الإتيان به وعدمه ، لأنه ذكر في نفسه ، والذّكر مستحب في الصلاة في جميع أحوالها (٢).

إلاّ ان ما ذكره من ان حكم الإمام عليه‌السلام بالتخيير واستحباب التكبير باعتبار انه ذكر في نفسه غير وجيه ..

اما على القول بأن للصلاة اجزاء مستحبة كما لها اجزاء واجبة ـ فالقنوت ، مثلا جزء للصلاة إلاّ انه مستحب ـ فواضح ، لأن سؤال السائل عن كون التكبير بعد التشهد الأول في نفسه وبعنوانه الخاصّ من اجزاء الصلاة المستحبة ، فالحكم بالتخيير من باب استحباب الذّكر في نفسه لا تتلاءم مع السؤال ، إذ ليس الذّكر من اجزاء الصلاة المستحبة حتى على هذا القول ، لعدم ثبوت المحل الخاصّ له.

واما على القول بأن المستحبات في الصلاة ليست اجزاء لها ، بل هي

__________________

(١) هذه الدعوى خلاف الظاهر كما لا يخفى.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٢٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٨

مستحبات استقلالية ظرفها الصلاة ـ كما يلتزم به السيد الخوئي بلحاظ ان فرض الجزء المستحب للواجب خلاف فرض كونه واجبا ـ فلان المسئول عنه هو استحباب التكبير بعنوانه في هذا المحل الخاصّ بحيث يؤتى به في ذلك المحل بداعي أمره المختص به ـ نظير الإتيان بالقنوت في محله الخاصّ بداعي أمره ، وعدم صحة الإتيان به بداعي الأمر بالقنوت في غير ذلك المحل ـ فالحكم باستحبابه من باب انه ذكر لا يجدي في الإتيان به بداعي الأمر بخصوصية محله ، إذ لا محل للذكر بخصوصه.

وعليه ، فلا إشكال في كون التخيير بين الأخذ بالحديثين انما هو بلحاظ استحباب التكبير في نفسه وعدمه.

واما عدم مناسبة ذلك لكون النسبة بينهما العموم المطلق ، فيمكن توجيهه : بحمل الرواية العامة المطلقة على كون موردها التكبير بعد التشهد الأول ، بحيث تكون نصا في استحبابه بعده ـ كما هو الحال في كل عام ومطلق بالنسبة إلى مورده ـ فيحصل التعارض بينهما وان كانت النسبة العموم من وجه ، لتساويهما من حيث الظهور بالنسبة إلى مورد التنافي.

ويشهد لذلك الحكم المذكور من الإمام عليه‌السلام مع التفاته عليه‌السلام إلى ان مقتضى الجمع العرفي هو التقييد وانه لا تنافي بينهما عرفا ، وعدم سؤال السائل عن ذلك وتقبله الجواب.

ويمكن الاستشهاد لذلك من نفس الرواية ، حيث عبر عليه‌السلام : « ان في ذلك حديثين اما أولهما ... » ، والمشار إليه هو التكبير بعد التشهد الأول ، وهو ظاهر في ان المطلق وارد فيه ، فتأمل (١).

والمتحصل : ان هذه الرواية لا إشكال فيها من جهة دلالتها. نعم ، المناقشة

__________________

(١) إشارة إلى المناقشة في هذا الاستظهار ، لإمكان إرادة ان ما ورد مما تتكفل حكم هذا المورد حديثان ، فلا دلالة له على كون مورد المطلق مورد السؤال.

٤٢٩

التي يمكن فرضها فيها وفي سابقتها ما ذكره المحقق الأصفهاني (١) ، من عدم الإطلاق فيها ، لاختصاصها بمورد المستحبات ـ لا خصوص موردها كما قد يظهر من السيد الخوئي لعدم احتمال الخصوصية بهذا المقدار وإلاّ لأشكل الأمر في كثير من الأحكام ، لاستفادة كثير من الأحكام من المطلقات التي يرد كثير منها في مورد خاص ـ فلا يمكن التعدي منها إلى مورد كون مدلول الخبرين المتنافيين إلزاميا لعدم الجزم بعدم الخصوصية ، خصوصا بملاحظة ذهاب المشهور إلى حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات ، كما بيّن في مسألة قاعدة التسامح في أدلة السنن.

واما ما ذكره السيد الخوئي بعد كل هذا من : عدم الدليل للتخيير في مقام الإفتاء ، مع عدم المرجح في كلام العلماء ، مما يضعف الاعتماد على الاخبار المسوقة له (٢).

فهو ليس بوجه ، إذ أكثر القدماء التزموا بالتعدي إلى غير المرجحات المنصوصة من المزايا ، وهذا يعني ـ كما أشرنا إليه ـ عدم وجود مورد يتكافأ فيه الخبران في المزايا والقرب إلى الواقع ، فلعل عدم حكمهم بالتخيير من جهة فقدان المورد له.

واما الحكم بالتساقط لو كان ، فلم يظهر كونه في مورد التعارض بنحو التباين ، بل يمكن ان يكون في مورد التعارض بالعموم من وجه ، وسيأتي الكلام فيه ، وان المشهور على عدم جريان الاخبار العلاجية في مورده.

والّذي يتحصل : انه يمكن الجزم بثبوت التخيير بين الروايتين المتعارضتين ، وبملاحظة الروايات الخمس الأولى مع ضعف سندها لبلوغها حد الاستفاضة.

وبملاحظة ما ورد في ديباجة الكافي من اسناد التخيير إلى الإمام عليه‌السلام رأسا بعنوان انه من مقوله لا بنحو الرواية ، بعنوان انه مما روى عنه ـ كي

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٣٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٢٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٠

يشكل بإرسالها ـ فإنه ظاهر في ثبوت التخيير لديه بواسطة الخبر الموثوق لديه ، بحيث يصحح نسبة القول إلى الإمام عليه‌السلام ، بل حتى مع فرض حصول الجزم بصدوره لديه يكون ذلك قرينة على المدعى لقرب العهد من الإمام عليه‌السلام ، ودقة الكليني في الحديث بحيث يعلم بان أسباب حصول الجزم لديه من الأسباب المتعارف حصول القطع بها أو الوثوق.

وبملاحظة ما يستفاد من الاخبار الثلاثة الأخيرة ، وان نوقش في دلالة بعضها ، وباختصاص الآخر في المستحبات.

وبثبوت الحكم بالتخيير من الصدر الأول إلى الآن.

فانه بملاحظ مجموع ذلك يحصل الجزم بأن التخيير بين المتعارضين ثابت في الجملة ، وانه مما له الأساس في الأدلة ، لكن قد عرفت المناقشة في أكثر هذه النصوص من حيث الدلالة والسند ، وبذلك لا يظهر للتخيير وجه صحيح يمكن الاعتماد عليه (١).

__________________

(١) وجملة القول في المقام : انه لم يثبت لدينا ما دل على الترجيح بالشهرة أو بموافقة الكتاب أو غير ذلك ، كما لم يثبت لدينا ما دل على التخيير ، فلا بد من الرجوع إلى القاعدة. وتحقيق الحال بإجمال : انه قد عرفت منّا في مبحث حجية خبر الواحد التوقف في حجية الخبر إلاّ إذا كان مفيدا للاطمئنان والوثوق.

وعليه ، فإذا كان ملاك الحجية هو حصول الاطمئنان الشخصي لم يتصور تحقق التعارض بين الخبرين ، لأن التعارض لا يكون إلاّ إذا كان كل من الخبرين جامعا لشرائط الحجية في نفسه ومع قطع النّظر عن المعارضة ، ومن الواضح استحالة تحقق الاطمئنان بأمرين مختلفين متباينين.

فلا موضوع لبحث الترجيح والتخيير على ما سلكناه في حجيّة خبر الواحد.

نعم ، إذا كان أحد الخبرين موافقا للعامة يمكن دعوى حصول الوثوق بالخبر الآخر ، لما عرفت من ان الدلالة قطعية وكذا الجهة لفقدان احتمال التقية ، واما السند فيتحقق الوثوق به بلحاظ وثاقة الراوي.

ومعه لا يحصل الوثوق في الرواية الأخرى ، لعدم جريان أصالة الجهة فيها بعد ملاحظة وجود الرواية المخالفة.

وبذلك يمكن ان يقال : ان الترجيح بمخالفة العامة الوارد في بعض النصوص انما هو على

٤٣١

........................................

__________________

القاعدة ، فلا مانع من الالتزام به.

ثم انه بناء على الالتزام بالتخيير في مورد التعارض يقع الكلام في جهتين :

الجهة الأولى : في ما يفتي به المجتهد الّذي ورد لديه الخبران المتعارضان.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى : انه يصح له ان يفتي بما اختاره من الخبرين ، لأن اختياره يستلزم قيام الحجة على الحكم ، فيصح له الإفتاء به استنادا إلى الحجة. كما ان له ان يفتي بالتخيير في المسألة الأصولية ، بأن يسوّغ للمقلد الأخذ بأحد الخبرين ويعمل بما يأخذ به منهما ولو كان على خلاف ما اختاره المجتهد.

واما التخيير في المسألة الفرعية فلا وجه للإفتاء به ، لعدم الدليل على التخيير في المسألة الفرعية ، لأن كل حجة تقوم على ثبوت مدلولها بنحو التعيين. فالحكم الظاهري الثابت في حق المقلد هو أحدهما المعين بحسب ما يختاره من الحجة ، فلا منشأ للتخيير فيها ، فان التخيير الثابت تخيير في الحكم لا في العمل.

وما ذكره قدس‌سره واضح لا كلام لنا فيه.

الجهة الثانية : في ان التخيير بدوي أو استمراري؟

ذهب صاحب الكفاية إلى : انه استمراري تمسكا بالاستصحاب ، لو لم نقل بأنه قضية الإطلاقات.

ودعوى : ان موضوع التخيير هو المتحير ، ولا تحير بعد اختيار أحدهما ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق أو الاستصحاب لاختلاف

الموضوع.

مندفعة : بان التحير بمعنى تعارض الخبرين والتردد فيهما باق على حاله ولم يزل بالاختيار ، وبمعنى آخر من الحيرة في مقام الوظيفة العملية لم يؤخذ في موضوع الأدلة الدالة على التخيير.

هذا ما أفاده في الكفاية في هذا المقام.

والتحقيق : ان متعلق الشك قبل الاختيار يختلف عنه بعد الاختيار ، فان متعلق الشك قبل الاختيار هو حجية كل من الخبرين تعيينا أو تخييرا أو عدم حجية أحدهما ، فأخبار التخيير تثبت حجية كل منهما بنحو التخيير والبدلية.

وبعد اختيار أحدهما يعلم انه حجة عليه ولا يحتمل زوالها ، بل يقطع بأن ما أخذ به حجة إمّا تعيينا أو تخييرا.

وانما يشك في انه هل له إلغاء حجية ما أخذ به بترك الأخذ به والأخذ بغيره ، أو لا؟ ومن الواضح ان هذا الشك يختلف عن الشك الأول ، بل هو في طول الحكم بالتخيير الثابت للشك الأول ، فلا يمكن التمسك بالإطلاقات لأن موضوعها الشك الأول ، كما لا معنى للتمسك

٤٣٢

ثم انه مع احتمال الترجيح بذي المزية يتمسك بإطلاقات التخيير في إثبات حجية غير ذي المزية ، وبذلك ينفي ما يقتضيه الأصل من تعيين الأخذ بذي المزية ، كما عرفت في ما سبق.

نعم ، الاحتياط يقتضي الأخذ بذي المزية لو لم يكن مخالفا للاحتياط في المسألة الفرعية ، لاحتمال تعينه دون غيره ، خصوصا إذا كان موافقا لحجة أخرى من عام ونحوه.

نعم ، لو كان مخالفا للاحتياط في المسألة الفرعية ، كما لو كان مدلوله الإباحة ومدلول الآخر الوجوب ، كان الأحوط الأخذ بالآخر لموافقته للاحتياط عملا كما لا يخفى.

يبقى الكلام في امر وهو : انه على القول بالترجيح هل يلتزم بالترتيب بين المرجحات وتقديم بعضها على الآخر في مقام التزاحم أو لا؟

توضيح ذلك : ان ..

من المرجحات : ما يرجع إلى مقام أصل الصدور ، بمعنى انه يوجب تقوية صدور الخبر في قبال الآخر ، وذلك كالأوثقية والأصدقية ونحوهما ، فان مجيء الخبر عن الموثق انما يقوي أصل صدوره عن المعصوم عليه‌السلام. اما كون صدوره لغير تقية وغيرها ، فلا يرتبط بوثاقة الراوي وصدقه كما لا يخفى.

ومنها : ما يرجع إلى مقام جهة الصدور ، بمعنى انه على تقدير الصدور يبقى احتمال صدوره لغير بيان الحكم الواقعي وهو التقية ، كمخالفة العامة فانها ترتبط بجهة الصدور لا بأصله ، إذ المخالفة للعامة لا تقتضي صدوره ، بل تقتضي انتفاء

__________________

بالاستصحاب لأن الحكم المشكوك غير الأول.

ولعل هذا هو مراد من ذهب إلى ان موضوع التخيير هو التحير والمفروض زواله.

وبالجملة : التخيير على هذا بدوي لا استمراري ، ولا حاجة إلى التطويل بعد الإشارة إلى نكتة المنع ، فتدبرها فانها لا تخلو عن دقة.

٤٣٣

احتمال الصدور للتقية الموجود في غيره المعارض له.

ومنها : ما يرجع إلى المضمون ومفاد الخبر ، كالشهرة في الفتوى ـ وهو واضح ـ.

فيقع الكلام في : انه مع التزاحم بين المرجح الصدوري وغيره ، هل يقدم الخبر ذو المرجح الصدوري. أو غيره ، أو لا يقدم أحدهما على الآخر ، فيرجع إلى التخيير أو التساقط؟

ذهب الشيخ قدس‌سره إلى تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي (١).

وذهب الميرزا حبيب الله الرشتي قدس‌سره ـ تبعا للوحيد البهبهاني قدس‌سره (٢) ـ إلى تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري (٣).

وذهب المحقق الخراسانيّ رحمه‌الله إلى عدم تقديم أحدهما على الآخر ولزوم الرجوع مع التزاحم إلى مطلقات التخيير (٤).

اما تقريب الشيخ لمدعاه : فهو : ان الرجوع إلى المرجح الجهتي انما يكون بعد فرض العلم بصدور كلا الخبرين كالمتواترين ، أو تكافؤ احتمال الصدور فيهما معا ، وذلك لتفرع مقام الجهة على مقام الصدور ، فان الصدور لتقية انما يفرض بعد فرض أصل الصدور كما لا يخفى.

وعليه ، فمع وجود المرجح الصدوري لأحد الخبرين لا يكون احتمال الصدور في كل منهما متكافئا ، والمفروض عدم العلم بصدورهما ، فلا يبقى مجال لتحكيم المرجح الجهتي.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٦٨ ـ الطبعة القديمة.

(٢) الوحيد البهبهاني المحقق محمد باقر. الفوائد الحائرية ـ ٢١٥ ـ الفائدة : ٢١.

(٣) الرشتي المحقق ميرزا حبيب الله. بدائع الأفكار ـ ٤٥٥ ـ المقام الرابع في ترتيب المرجّحات.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٥٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٣٤

وناقش في ذلك صاحب الكفاية مدعيا قصور الأدلة عن الالتزام بالترتيب وتقديم بعض المرجحات على بعض مع التزاحم ، بيان ذلك : انه بناء على الالتزام بالتعدي لغير المرجحات المنصوصة ـ كما عليه الشيخ ـ فالمرجح هو الأقربية إلى الواقع أو الظن بالصدور ـ على الخلاف في ملاك التعدي ـ وهذه المرجحات ليست مرجحات بعنوانها الخاصّ ، بل بعنوان إيجابها الأقربية أو الظن.

وعليه ، فمع تزاحم المرجحين يلاحظ الأقرب إلى الواقع أو المظنون صدوره فيؤخذ به ان كان وإلاّ فالمرجع مطلقات التخيير. واما بناء على عدم التعدي والاقتصار فيه على المنصوص من المرجحات ، فما قد يستدل به على الترتيب هو المقبولة ونحوها ، إلاّ انه لكثرة إطلاقات الترجيح الخالية عن الترتيب والواردة مورد البيان ، لا بد ان تحمل المقبولة على عدم كونها واردة لبيان حكم تزاحم المرجحات وعدم كونها ناظرة إلى ذلك المقام ، بل هي لبيان ان هذا مرجح وذلك مرجح لا أكثر ، لعدم صلاحيتها لتقييد المطلقات. وعليه فمع التزاحم لا دليل على الترتيب في تقديم أحدهما على الآخر فالمرجع هو مطلقات التخيير.

واما ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة عن مقام الصدور ، فقد ناقش فيه : بأنه انما يتم ويجري في الترتيب المدعى لو التزم بكون المرجح الجهتي مرجحا للخبر في ذلك المقام بخصوصه ـ أعني : مقام جهة الصدور ـ ولكنه غير صحيح ، بل هو راجع إلى مقام الصدور وترجيح صدور أحد الخبرين على الآخر ـ وان لم يوجب تقوية احتمال صدوره ـ وذلك لامتناع التعبد بالصدور مع الالتزام بصدوره عن تقية ، فلا يمكن الالتزام بأن الموافقة للعامة تدل على كون صدور المتعبد به لتقية ، للغوية التعبد حينئذ لعدم ترتب الأثر المرغوب. فالمرجحات كلها ترجع إلى مقام واحد ، وهو مقام الصدور ، فلا تفرع لبعضها على بعض.

لكن الإنصاف يقضي بعدم ورود ما ذكره صاحب الكفاية على الشيخ ، وان نظر الشيخ إلى جهة أغفلها صاحب الكفاية في مقام الإيراد. توضيح ذلك : ان احتمال

٤٣٥

التقية وعدمه متفرع على أصل الصدور ، بمعنى انه انما يثبت بعد فرض الصدور ، فمحتمل التقية وغيره انما هو الكلام الصادر واقعا دون غيره ، وموضوع الترجيح الجهتي هو عدم احتمال التقية. فالترجيح انما يترتب على غير محتمل التقية على تقدير صدوره ، فمع وجود ما يرفع موضوع هذا المرجح ، وهو أصل الصدور تعبدا ، ينفي الترجيح به ، لارتفاع موضوعه بالحكومة ، والمرجح الصدوري في الخبر الموافق للعامة بتحكيمه يرفع موضوع المرجح الجهتي في الخبر المخالف ـ وهو أصل صدوره ـ دون العكس ، لأن المرجح الجهتي في الخبر المخالف وان كان يرجع إلى مقام الصدور ـ يعني يرجح صدور ذيه من غيره ـ إلاّ انه بتحكيمه لا يرتفع موضوع المرجح الصدوري في الخبر الموافق ، لعدم كون موضوعه أصل الصدور كما لا يخفى. فتقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي لأجل حكومته عليه.

وهذا الوجه وان كان يتلاءم مع ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة على مقام الصدور ، إلاّ انه لا يرتبط بما ذكره في صدر كلامه من اختصاص الترجيح بالمرجح الجهتي بالمتكافئين في الصدور علما أو تعبدا ، لجريانه ولو مع عدم التكافؤ كما لا يخفى. ولذلك فهو لا يصلح لأن يكون تقريبا لكلام الشيخ ، وان كان تاما في نفسه ووجها للتقديم المدعى.

والّذي يمكن تقريب عبارة الشيخ به هو : ان احتمال التقية في الخبر الموافق للعامة ، لا يكون في نفسه موجبا لطرح الخبر ، بل انما يطرح به الخبر مع قيام الأمارة المعتبرة على تأييده ، والخبر المخالف يكون أمارة على التقية في الخبر الموافق ، فان الظن بصدوره ظن بالتقية في مقابله ، إلاّ انه لا يجدي في طرحه ما لم يثبت التعبد به.

وحينئذ ، فاما ان تغلب الأمارة المخالفة ، أو تغلب الموافقة ، أو لا يغلب إحداهما على الأخرى. فمع غلبة المخالفة لا يبقى مجال لاحتمال التقية في الموافقة ، لنفي الصدور من أصله ، فلا مجال للترجيح بعدم وجود هذا الاحتمال. ومع غلبة الموافقة تنتفي أمارية المخالفة ، فلا يكون احتمال التقية في نفسه موجبا للطرح. واما مع

٤٣٦

تساويهما وتكافئهما في السند ، فتصل النوبة حينئذ إلى الترجيح بمخالفة العامة ، فالمرجح الجهتي انما يفرض مع التكافؤ ، لأنه مع عدمه لا مجال للترجيح به ، اما لغلبة ذي المرجح أو لغلبة معارضه. ومع وجود المرجح الصدوري في إحداهما يرتفع التكافؤ فلا مجال للمرجح الجهتي ، وهو : أي : المرجح الجهتي ـ وان رجع إلى مقام الصدور ، بمعنى انه موجب لترجيح التعبد بصدور ذيه دون غيره ، إلاّ انه في وجوده لما كان متفرعا على أصل الصدور كان المرجح الصدوري رافعا لموضوعه ، فيكون حاكما عليه كما تقدم تقريبه.

وهذا الوجه وان لم تحرز تماميته ، إلاّ انه يتلاءم مع عبارة الشيخ أولا وآخرا ، ولا تهمنا مناقشته بعد ما عرفت ان أساس التقديم الّذي ينظر إليه الشيخ ـ وهو الحكومة ـ تام في نفسه ، فلا يتجه عليه ما أورده المحقق الخراسانيّ ، إذ ذلك لا يتوقف على رجوع المرجح الجهتي إلى مقام الجهة ترجيحا ، بل هو تام على الالتزام برجوعه إلى مقام الصدور ـ كما يلتزم به الشيخ ـ لأنه يبتني على تفرع المرجح الجهتي على مقام الصدور موضوعا لا ترجيحا ولا محذور فيه.

كما انه لا يبتني على استظهار الترتيب من المقبولة ونحوها ، كي يقال بأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة ، وانها ليست ناظرة إلى صورة التزاحم بين المرجحات ، فانه لا تزاحم بينهما بناء على الحكومة أصلا. كما انه لا يتنافى على القول بالتعدي ، لأن مخالفة العامة انما توجب الأقربية أو الظن بفرض عدم احتمال التقية على فرض الصدور ، والمرجح الصدوري ينفيه كما عرفت فلا مجال له.

واما ما ادعاه الميرزا الرشتي قدس‌سره خلافا للشيخ وجزم به بنحو عجيب وأنكر على الشيخ بتعبير غريب ، فمحصله : انه يستفاد من الروايات ان المرجح الجهتي انما يكون في مقطوعي الصدور ، وذلك يستلزم بالبداهة تحكيمه في ظنيهما ، وذلك لأن ظنية الصدور واحتمال عدمه ان لم يكن موجبا لطرح الخبر فلا يكون موجبا للتعبد به ، فتقديم ذي المزية الجهتية على غيره في فرض القطع

٤٣٧

بالصدور وانسداد باب احتمال عدم الصدور ، يستلزم لا محالة تقديمه على ما يكون ظنيا في صدوره.

وتقريب ما ادعاه يتضح ببيان شيء ، وهو : ان كل خبر وان كان يشتمل على مقامات ثلاثة : مقام الصدور وجهته والدلالة ، إلاّ ان التعبد مع احتمال المخالفة للواقع من هذه الجهات الثلاث تعبد واحد مفاده لزوم الأخذ به ، والبناء على انه الواقع ، وعدم الاعتناء بما يوجب الخلل فيه صدورا أو جهة أو دلالة ، وليس التعبد يتعدد بتعدد المقامات ويستلزم كل منها إلغاء احتمال الخلل في مقام معين بخصوصه ، ومع كون الخبر قطعيا من بعض الجهات فالتعبد به يرجع إلى إلغاء احتمال الخلل في غيرها.

وعليه ، فان كان الخبر مقطوع الصدور كان احتمال الخلل فيه أقل لأنه يكون من جهتين فقط ، فتقديم ذي المزية الجهتية على الآخر مع قلة احتمال المخالفة فيه يستلزم بالبداهة تقديمه على الآخر مع كثرة احتمال الخلاف فيه ، كما إذا كان ظني الصدور لكون احتمال الخلاف فيه من جهاته الثلاث. ثم انه قدس‌سره أضاف إلى ذلك : ان الموافق للعامة يدور امره بين عدم الصدور رأسا ، كما لو كان ظنيا ، لدلالة الاخبار على إلغائه وعدم صدقه ، وبين الصدور للتقية ، كما لو كان قطعي الصدور ، لدلالة الاخبار على ان ما سمع منهم يشبه قول العامة فهو تقية.

ويشكل هذا الأخير ـ بما ذكره المحقق الخراسانيّ ـ بامتناع الدوران المذكور ، لاحتمال ان يكون الخبر الموافق صادرا لبيان الحكم الواقعي ـ كما لو كان الحكم الواقعي موافقا لقول العامة ـ والمخالف ليس بصادر أصلا ، أو انه صادر لكنه لم يرد به ظاهره ، ولزوم حمله على التقية أو البناء على عدم صدوره انما يتم في فرض كون المعارض المخالف قطعيا بجميع جهاته ، إذ يتعين معه كون الموافق اما غير صادر أو صادرا للتقية ، ومع عدم قطعيته بجهاته كلها ـ كما هو الفرض ـ لا دليل على دوران

٤٣٨

الموافق للعامة بين عدم صدوره أو صدوره للتقية (١).

واما ما ذكره أولا من الملازمة البديهية ، فالمناقشة فيه واضحة ، وذلك لأنه مع القطع بصدور كلا الخبرين يكون احتمال المخالفة للواقع في الخبر الموافق للعامة أقوى من المخالف ، لانتفاء احتمال التقية فيه ووجوده في الموافق ، فاحتمال المخالفة في المخالف أضعف منها في الموافق ، لانحصاره فيه في مورد الدلالة وجهة الصدور من غير احتمال التقية ، بخلاف الموافق فانه في مورد الدلالة وجهة الصدور مع احتمال التقية ، واما مع عدم القطع بصدورهما ، فيزيد في الخبر المخالف احتمال المخالفة في الصدور ، والخبر الموافق وان كان كذلك أيضا ، إلاّ انه مع وجود المرجح الصدوري فيه يكون احتمال المخالفة في الصدور أضعف منه في الخبر المخالف. فلعل جهة تقديم المخالف على الموافق مع القطع بالصدور لأجل أضعفيّة احتمال المخالفة فيه من الموافق ، وذلك ليس موجودا مع الظن بالصدور ، لعدم أقوائية احتمال المخالفة في الموافق لضعف احتمالها فيه في جانب الصدور بوجود المرجح وقوته في المخالف ، فلا يستلزم تقديم المخالف من القطعيين تقديمه من الظنيين ، وليس هو من الأمور البديهية كما ادعاه.

وللميرزا المذكور كلام آخر ذكره في الكفاية وأورد عليه ، لكن لا يهمنا ذكره.

والمتحصل هو : لزوم الالتزام بما التزم به الشيخ من تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي ، فتدبر.

هذا كله في صورة ما إذا كانت النسبة بين الخبرين المتعارضين هما التباين.

واما لو كان بينهما العموم من وجه ، فهل تشملهما الاخبار العلاجية الدالة على الترجيح أو التخيير أو لا ، فيرجع فيهما إلى الأصل الأولي وهو التساقط؟

والتحقيق في المقام ان يقال : انه ..

تارة : يلتزم بأن لكل خبر تعبد واحد يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف فيه في

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٣٩

مقاماته الثلاثة : الصدور وجهته والمدلول ، ومعناه هو التعبد بمفاد هذا الخبر ومضمونه والإلزام بالاخذ به.

وأخرى : يلتزم ـ كما عليه الأكثر ـ بثبوت تعبدات ثلاثة في كل مقام تعبد ، فهناك تعبد بصدور الخبر ، وتعبد بأنه لبيان الحكم الواقعي ، وتعبد بمدلوله وظاهره ، وهذه التعبدات عرضية ويترتب عليها جمعا الأثر ، لا طولية ، لعدم الأثر لكل منها بخصوصه.

فان قلنا بالثاني ، فلا يتصور التبعيض في حجية السند في الصدور ، لأن المتعبد به في هذا المقام ـ وهو الصدور ـ امر واحد بسيط غير قابل للتعدد لوحدة متعلقه وهو الكلام.

نعم ، التبعيض في حجية المدلول ممكنة بتعدد المدلول ، فيمكن صدور التعبد ببعضه دون الآخر.

إلاّ انه قد عرفت فيما تقدم ان التعارض في مقام الصدور انما يحصل مع عدم إمكان العمل بمدلول كل من المتعارضين ، بحيث يكون التعبد بصدور كل منهما لغوا فيحصل التعارض بينهما.

ومع كون التعارض في المقام ـ الفرض ـ في بعض المدلول دون الآخر ، فلا يحصل التعارض في مقام الصدور بينهما ، لإمكان العمل بمدلول كل منهما ببعضه ، وهو كاف في رفع لغوية التعبد بصدور كل منهما ، لوجود العمل على طبقه ولو بلحاظ بعضه.

وبالجملة : فعلى هذا الالتزام لا يمكن تصور التبعيض في حجية الصدور مع عدم ثبوت التعارض في هذا المقام الّذي هو موضوع الأحكام ، فلا تصل النوبة إلى الكلام في شمول الاخبار العلاجية وعدمها.

وبهذا البيان تعرف ما في دعوى السيد الخوئي ( حفظه الله ) ـ كما في مصباح الأصول ـ ، لإمكان التبعيض في حجية الصدور ـ مع التزامه بهذا الالتزام ـ منظّرا

٤٤٠