منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

بوجوب تحصيل الحجة على الحكم للعلم الإجمالي ، فمع الأخذ بذي المزية يعلم بحصول الحجة على الواقع ، اما من جهة انه حجة في نفسه لو ثبت الترجيح ثبوتا ، أو

__________________

هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجج والأدلة على الطريقية.

واما على السببية ، فقد عرفت رجوع التعارض إلى التزاحم ، وقد عرفت تحقيق الحال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم في مباحث اجتماع الأمر والنهي ، فراجع.

ولكن الّذي ذكرناه هناك يرتبط بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في المتزاحمين بناء على كون التزاحم هو التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال مع وجود الإطلاق لكلا الحكمين ، بحيث يرجع التخيير إلى تقييد إطلاق كل منهما بترك امتثال الآخر. وبناء على ما نسب إلى الكفاية من كون التزاحم هو التنافي في المقتضيين مع عدم تكفل الدليلين للحكم الفعلي ، بحيث يكون الأمر بأحدهما المعين أو التخيير بينهما بحكم العقل من باب لزوم تحصيل الفرض الملزم.

واما بناء على كون التخيير بينهما بحكم الشارع ، بدعوى سقوط كلا الدليلين واستكشاف حكم شرعي آخر بالتخيير بينهما. فلم نتكلم فيه ، ولا بأس بتحقيقه بنحو الإجمال فنقول : ان مرجع دوران الأمر بين التعيين والتخيير على هذا المبنى إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحكم الشرعي في المسألة الفرعية.

وقد تقدم في مباحث الأقل والأكثر تحقيقه مفصلا.

وقد قربنا هناك الالتزام بالبراءة على جميع محتملات الوجوب التخييري.

لكن التحقيق انه لو التزمنا في حقيقة الوجوب التخييري انه سنخ وجوب وسط بين الوجوب التعييني والاستحباب. والتزمنا بأن الاختلاف بين الوجوب والاستحباب لا يرجع إلى الاختلاف في البعث والإرادة شدة وضعفا ، بل هما ينتزعان عقلا عن ترخيص المولى في الترك وعدمه ، لأن كل طلب يجب موافقته عقلا إذا لم يرخص المولى في الترك ـ كما عليه المحقق النائيني ـ كان المتعين فيما نحن فيه هو الاحتياط ، وذلك لأن مرجع الوجوب التخييري على هذا المبنى إلى الطلب الّذي حكم الشارع بالترخيص في عدم امتثاله إلى بدل ، فمن ملاحظة ذلك ينتزع العقل الوجوب التخييري للشيء في قبال التعييني المنتزع من الطلب مع عدم الترخيص في الترك مطلقا ، والاستحباب المنتزع عن الطلب مع الترخيص في الترك مطلقا ، فإذا تعلق الطلب بشيء وشك في التخيير بينه وبين غيره ، فمرجع ذلك إلى الشك في ترخيص الشارع في تركه إلى بدل وعدمه.

ومن الواضح ان العقل ـ على هذا المبنى ـ يحكم بلزوم الامتثال والإتيان بمتعلق الطلب ما لم يحرز الترخيص ، فمع عدم إحرازه يتعين موافقته وعدم جواز مخالفته ، فتدبر تعرف.

٤٠١

من جهة الأخذ به لو ثبت التخيير.

واما مع الأخذ بغير ذي المزية ، فلا يعلم بتحصيل الحجة لاحتمال لزوم الترجيح ، فالأخذ بذي المزية متعين بحكم العقل ، فلاحظ.

وبعد هذا لا بد في تحقيق الحال في حكم المتعارضين بحسب المستفاد من النصوص.

وقد التزم الشيخ قدس‌سره بلزوم الترجيح بمقتضى الطائفة الأولى (١).

وأنكر لزومه صاحب الكفاية قدس‌سره والتزم باستحبابه ، وان الوظيفة في الخبرين المتعارضين هي التخيير.

بدعوى : ان اخبار الترجيح قاصرة الشمول للمورد لخروجه موضوعا عنها ، ولو تنزل عن ذلك ، فلا بد من الالتزام بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما دل على التخيير مطلقا.

توضيح ذلك : ان الخبر الجامع لمزايا الترجيح هو المقبولة (٢) ، والمرفوعة (٣) ، وهما ـ مع غض النّظر عما بينهما من الاختلاف في المفاد ، لتقديم الترجيح بصفات الراوي على الشهرة في الأولى وتأخيره عنها في الثانية ـ يختصان بمورد التحاكم وفصل الخصومة. ودلالتها على لزوم الترجيح في مقام الإفتاء محل إشكال ، خصوصا بملاحظة ان ارتفاع الخصومة مع التعارض لا يكون إلاّ بالترجيح ، لأن التخيير لا يحل النزاع كما لا يخفى.

ولا يبقى معها مجال دعوى دلالتها على الترجيح في مقام الفتوى بوحدة الملاك لوجود الفرق الفارق بين المقامين.

ومع التنزل عن ذلك بادعاء عدم الخصوصية لمورد التحاكم ، وان التعرض

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٥٠ ـ الطبعة القديمة.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٥ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١.

(٣) غوالي اللئالي ٤ ـ ١٣٣ ، الحديث : ٢٩٩.

٤٠٢

إليه لأنه مورد السؤال ، فهي ظاهرة في مورد التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام ، ولأجله لم يرجع إلى التخيير مع فقد المرجح. فلا تصلح لتقييد إطلاقات التخيير في زمان عدم التمكن من لقائه عليه‌السلام كزماننا الّذي نحن فيه.

واما الاخبار الأخرى الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فكونها من اخبار ترجيح أحد المتعارضين على الآخر محل إشكال ، بل الظاهر انها من باب تمييز الحجة عن اللاحجة ـ فيخرج عن باب التعارض ، لاشتراط اشتمال كلا الخبرين على مقتضى الحجية في تحققه ـ بدعوى : ان الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للعامة بنفسه لا يكون حجة ، كما تشير إلى ذلك هذه الاخبار المتضمنة لكون مثل هذا الخبر زخرفا وباطلا ونحوهما ، لا انه لا يكون حجة فعلا بواسطة المعارض الأقوى.

والّذي تحتمله عبارة الكتاب في تقريب هذه الدعوى أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للعامة بملاحظة وجود الخبر الموافق للكتاب أو الخبر المخالف للعامة الموثوق بصدوره ، يحصل الاطمئنان بوجود خلل ، اما في صدوره ، أو جهته ، أو ظهوره ، فيحصل العلم بعدم حجيته في مورد المعارضة ، هذا امر ارتكازي أرشدت إليه الروايات الدالة على ان مثل هذا الخبر زخرف ، أو انه لم نقله ، ونحو ذلك ، مما يدل على عدم حجية الخبر في نفسه في هذا المورد.

الثاني : ان عدم حجية مثل هذا الخبر انما هو باعتبار دلالة هذه الاخبار على ذلك بلحاظ لسانها المذكور ، لا باعتبار الاطمئنان الخارجي ، لعدم حجيته كي تكون دلالتها إرشادية ولا يختص ذلك بمورد المعارضة ، لظهورها في ان مجرد المخالفة للكتاب والموافقة للعامة هي الموجبة لعدم حجية الخبر وكونه باطلا وزخرفا بلا خصوصية لمورد المعارضة.

الثالث : انه يحصل الاطمئنان بواسطة هذه الاخبار بعدم حجية الخبر المخالف

٤٠٣

للكتاب أو الموافق للعامة في مورد المعارضة ، فالاطمئنان يحصل من هذه الاخبار ، لا انه حاصل من الخارج والاخبار مرشدة إليه.

والّذي تحصل : ان اخبار الترجيح لا تشمل موضوعا مورد الخبرين المتعارضين الّذي نحن فيه. ولو تنزل عن ذلك وقيل بشمولها لما نحن فيه ، فلا بد من التصرف فيها بحملها على الاستحباب ، إذ تقييد مطلقات التخيير بها يستلزم تخصيصه بالفرد النادر ـ لندرة كون الخبرين متساويين في جميع المزايا ـ وهو مستهجن ، فطريق الجمع هو حمل اخبار الترجيح على الاستحباب لا اللزوم. هذا محصل ما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله (١).

وقد نوقش في كلامه بجهاته ..

اما ما ذكره في كون المقبولة واردة في مورد التحاكم فلا تشمل غيره من الموارد ..

فوجه المناقشة فيه : ان صدر الرواية في المقبولة وان كان ظاهرا في كون الترجيح في مقام الحكومة ، إلاّ ان ما بعده ظاهر في كون الترجيح بين الروايتين بلا لحاظ هذا المقام بل مطلقا.

واما ما ذكره من ظهورها في مورد التمكن من لقاء الإمام عليه‌السلام فيختص الحكم بذلك ..

فوجه المناقشة فيه (٢) : انه بمناسبة الحكم والموضوع يعلم بعدم الفرق في الترجيح بين زمان الحضور وغيره ، إذ من المعلوم انه لا وجه لكون الشهرة أو غيرها مرجحا في زمان دون آخر كما لا يخفى.

واما ما ذكره في غيرها من اخبار الترجيح وانها من باب تمييز الحجة عن

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٤٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) سيأتي في تحقيقه ـ دام ظله ـ عدم صحة هذه المناقشة ورجوع جميع نصوص المقام إلى تمييز الحجة عن اللاحجة. فراجع.

٤٠٤

اللاحجة.

فقد نوقش فيه : بأن بعض الاخبار وان كانت ظاهرة في التمييز ، إلاّ ان هناك غيرها مما هو ظاهر في مقام ترجيح الحجة على الحجة ، لا في مقام التمييز.

فلا بد ان تحمل هذه الاخبار على إرادة المخالفة لنص الكتاب كالمخالفة بنحو التباين الكلي ، إذ من المعلوم وجدانا تخصيص كثير من عمومات الكتاب بالأخبار ، فيكون هذا العلم قرينة على هذا الحمل وتحمل الاخبار الأخرى الظاهرة في الترجيح على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب ، كالمخالفة بنحو العموم والخصوص ونحوه ، فدلالة هذه الاخبار تامة ، بعد الجمع المذكور.

وهذا الجواب هو المناسب للاحتمال الثاني لكلامه رحمه‌الله ، لا ما أجيب به من : بطلان دعوى حصول الاطمئنان ، لوجود خلل في الخبر الموافق للعامة لموافقتنا لهم في كثير من الأحكام ، فلعل ما يؤديه الخبر من موارد الموافقة (١) ، فان هذا الجواب انما يتناسب مع الاحتمال الأول والثالث كما لا يخفى ، فلاحظ.

واما ما ذكره من انه مع الالتزام بشمول هذه الاخبار موضوعا لما نحن فيه ، لا بد من حملها على الاستحباب لاستلزام تقييد مطلقات التخيير بها إرادة الفرد النادر من المطلق ..

فوجه المناقشة فيه : ان ذلك انما يلزم مع الالتزام بالترجيح بغير موافقة الكتاب ومخالفة العامة من المرجحات المنصوصة وغيرها. اما مع الالتزام بالترجيح بخصوصهما دون غيرهما ، فموارد التخيير كثيرة لكثرة موارد التساوي في الخصوصيات ، فلاحظ.

هذا مجمل المناقشة المذكورة في كلمات الاعلام قدس‌سرهم لكلام صاحب الكفاية رحمه‌الله ، إلاّ ان المقام يستدعي زيادة في التحقيق والدقة ، فلا كفاية بالنحو الّذي أنهى به صاحب الكفاية ومجيبوه الكلام ، فلا بد من تحقيقه من

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٠٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٥

استعراض الاخبار الواردة في المورد والانتهاء بما يقتضيه الذوق والصناعة منها ، فنقول ـ وبه الاعتصام ـ : الاخبار على طوائف خمس :

الأولى : ما ظاهره لزوم الترجيح ببعض المزايا ، كالشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة (١).

الثانية : ما ظاهره جواز التخيير والأخذ بأيهما شاء (٢).

الثالثة : ما ظاهره لزوم الاحتياط ، يعني الأخذ بالأحوط (٣).

الرابعة : ما ظاهره لزوم التوقف (٤).

الخامسة : ما ظاهره لزوم الترجيح بأحدث الخبرين (٥).

اما طائفة الترجيح بالشهرة ونحوها ، فهي اخبار كثيرة ..

والجامع منها للمرجحات خبران : مقبولة عمر بن حنظلة ، ومرفوعة زرارة المروية في غوالي اللئالي.

اما مقبولة ابن حنظلة (٦) ، فمع الغض عن سندها ـ وان عبر عنها بالمقبولة (٧) ـ لا تصلح للدلالة على الترجيح في مورد تعارض الخبرين لجهات :

الأولى : ان الجري العرفي في حل المخاصمات لا يتناسب والتحاكم عند رجلين يرتضيهما كلا المتداعيين ، إذ لا تنحل الخصوصة مع اختلافهما ، ففرض التحاكم عند

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٤ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٢٩.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٧ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٠.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١١١ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٥ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١.

(٥) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٩ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٧.

(٦) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٥ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١.

(٧) وذلك لأنه لو كان المراد بها ثبوتها عند الأصحاب يعني انجبار ضعف سندها بالشهرة والاعتبار ، لكان ذلك وجها لاعتبارها سندا. ولكن مقبوليتها انما كانت باعتبار صفوان بن يحيى وهو كما قيل من الأصحاب الإجماع ، أي الّذي أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم وذلك غير مسلم عند الكل حتى من يلتزم بانجبار ضعف الرواية بالشهرة. ( المقرر ).

٤٠٦

رجلين في الرواية لا يعلم له وجه بحسب المجرى العرفي. ولو أريد ـ كما هو الظاهر من النص ـ الرجوع إلى ما يتفقان عليه ، فمع الاختلاف لا يكون كل منهما حجة في حكمه ، فلا معنى للسؤال عن الترجيح.

الثانية : ان المفروض في الرواية (١) ، والمسلم عند الفقهاء ، انه لا حق لمجتهد الحكم على خلاف ما حكم به مجتهد آخر ، فكيف يتصور ثبوت حكمين منهما مختلفين؟! ، بل لا بد لأحدهما من إمضاء حكم الآخر الّذي قد حكم أولا.

الثالثة : انه مع صلاحية كل منهما لفصل الخصومة ، لا يتصور عدم عثوره على الرواية المعارضة لما استند إليه ، مع فرض كون الحاكم الآخر من الرّواة ، كما هو الشأن في المجتهدين في زمان الحضور ، إذ عدم عثوره عليها يعني تقصيره في الفحص ، ومعه لا يجوز له القضاء والحكم ، ومع عثوره عليها كيف يحكم على إحداهما بلا ملاحظة ما هو الحكم عند التعارض؟!.

الرابعة : انه من المتسالم عند الفقهاء انه لا حق للمتخاصمين الفحص عن مستند حكم الحاكم ، بل لا بد من التعبد به كيف ما كان ، فكيف يفرض امر الإمام عليه‌السلام لهما بالفحص عن المستند؟!.

الخامسة : ان الرواية أولا وآخرا انما تدل على ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، لا إحدى الروايتين على الأخرى ، كما يدل عليه قوله عليه‌السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما .. » وقوله عليه‌السلام : « فيؤخذ به ( يعني بالمجمع عليه ) من حكمهما ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور » ، وقوله عليه‌السلام : « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب .. ».

السادسة : انه لو سلم كونها في مقام ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى ، فهي ظاهرة في مقام عدم كون التعارض بين السندين ـ كما هو مفروض البحث ـ ، بل التعارض في مقام آخر.

__________________

(١) بقوله عليه‌السلام : الرادّ عليه كالرادّ على الله.

٤٠٧

وقد تمسك السيد الخوئي لذلك بإطلاق المشهور على أحد الخبرين ، فان لفظ الشهرة لغة بمعنى الوضوح المساوق للاطمئنان والعلم العادي.

وهذا يعني : ان المشهور مقطوع الصدور وغيره مقطوع عدم الصدور ، واستشهد لذلك بقوله عليه‌السلام : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » ، فان نفي الريب ظاهر في حصول العلم بالمجمع عليه ، وقوله هذا ظاهر في كونه إشارة إلى امر ارتكازي عرفي ، وبقوله : « امر بيّن رشده وامر بيّن غيّه .. » ، فان تطبيق بيّن الرشد على المجمع عليه ظاهر في كونه مجزوم الحجية ، ومعه فإذا كان كلا الخبرين مشهورين كانا مقطوعي السند فلا تعارض بين السندين (١).

إلاّ انه يشكل : بان المراد بالشهرة لو كان هو الشهرة في روايته عن شخص الإمام عليه‌السلام بحيث يكون الراوي عن الإمام متعددا ، كان ما ذكر في محله ، لأنه يكون من قبيل المتواتر.

وان كان هو الشهرة عن شخص راو عن الإمام عليه‌السلام بحيث يتحد الراوي عن شخص الإمام مباشرة ويتعدد الرواية عن هذا الراوي ، لم يتم ما ذكر ، إذ لا يحصل الاطمئنان بصدور الخبر بل يكون كغيره من الاخبار. ولا دليل (٢) على إرادة الأول ، إذ إطلاق الشهرة على النحو الثاني متعارف.

واما قوله : « لا ريب فيه » ، فلا يصلح شاهدا لما ذكر ، إذ يمكن ان يكون المراد

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤١٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) قرّب دام ظله في الدورة الثانية إرادة الشهرة بالمعنى الأول أعني الشهرة في الطبقة الأولى الرواية عن الإمام عليه‌السلام ببيان انه مضافا إلى كونه ظاهر النص لظهور قوله « قد رواهما الثقات عنكم » في ذلك ان الشهرة في الطبقات اللاحقة المتوسطة مع وحدة الراوي عن الإمام عليه‌السلام لا يستلزم ترجيحا في جانب السند إذ هو لا يزيد على السماع من الراوي عن الإمام عليه‌السلام مباشرة فغاية الأمر يقطع برواية زرارة مثلا عن الإمام عليه‌السلام اما صدور الحديث عنه عليه‌السلام فلا يرتبط بالشهرة مع ان النقل عن الإمام عليه‌السلام بوسائط كان قليلا في تلك العصور ، ولذا إن ثبت إرادة الشهرة عن الإمام عليه‌السلام مباشرة كان ذلك مستلزما للقطع بصدور النص فلا يرتبط بترجيح جانب السند بالشهرة فتدبر.

٤٠٨

به نفي الريب عنه بالنسبة إلى غير المشهور لا في نفسه ، وذلك بقرينة تثليث الأقسام فيما بعد وإطلاق المشتبه على غير المشهور ، فانه يقتضي كونه مشكوك الصدور لأنه مما يعلم عدم صدوره.

فالأولى في الاستدلال على المدعى بما يفرضه الراوي من معرفة كلا الحكمين حكميهما من الكتاب والسنة ، فانه ظاهر في ان مستنديهما هما الكتاب والسنة ـ وهما امران قطعيان بلا إشكال ـ ، وانه لا إشكال من ناحية الصدور ومنشأ الحكمين ، وانما الاختلاف نشأ من جهة الاختلاف في الاستظهار من الكتاب والسنة. فالترجيح (١) ، بعد هذا لا يكون في مقام السندين ، بل في مقام آخر غيرهما ، إذ لا شك في السندين.

ثم انه (٢) بعد ان لم يعين إرادة النحو الثاني من لفظ المشهور ، بل كان اللفظ مطلقا ، استفيد من إطلاقه إمكان إرادة كلا النحوين ، ومع هذا ـ أعني : إرادة كلا النحوين من المشهور بمقتضى الإطلاق ـ لا بد من ان لا يفرض الترجيح في مقام السند وبلحاظ التعارض فيه ، إذ بعض افراد المشهور لا تعارض فيه في مقام السند للقطع بصدور أحدهما.

وبالجملة : فالمقبولة لا تصلح للتمسك بها على المدعى لا بلحاظ سندها ولا دلالتها.

والعجب ان الشيخ رحمه‌الله ، قد أشار إلى بعض جهات الإشكال فيها ، ثم التزم بصراحتها في لزوم الترجيح بين الروايتين ، وأتعب نفسه الزكية في الجمع الدلالي بينها وبين المرفوعة (٣).

واما مرفوعة زرارة ، فالكلام حول دلالتها لا يغني ولا يسمن من جوع.

__________________

(١) هذا بالنسبة إلى الترجيح بما بعد الشهرة.

(٢) هذا بالنسبة إلى الترجيح بالشهرة.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٤٧ ـ الطبعة القديمة.

٤٠٩

لضعف سندها ، حتى انه ضعّفها سندا من لا عادة له بتضعيف الاخبار والقدح بسندها ، وهو صاحب الحدائق.

واما الاخبار الأخرى ..

فاما ما يتكفل الترجيح بخصوص مخالفة العامة وطرح الموافق لهم ، فهو وان كان متعددا وتام الدلالة إلاّ انه مخدوش السند ، لروايته عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح ، إلاّ انه نقل عن النراقي التشكيك في صحة نسبة هذه الرسالة إلى شخص الراوندي ولم تثبت شهادة غيره بصحة نسبتها إليه بمستند قطعي ، ـ حتى صاحب الوسائل ، فانه يذكر طرقا أربعة يتوصل بها إلى إثبات نسبة الكتاب إلى صاحبه ـ.

ومن هنا يظهر الوجه في ما نقل عن المحقق الحلي من : انه لا وجه للترجيح بمخالفة العامة ـ وثبوت مسألة علمية كهذه ـ برواية رويت عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، إذ بعد ان عرفت الشك في ثبوت الروايات المنسوبة إلى القطب ، فلا يبقى ما يصلح للدلالة على الترجيح بمخالفة العامة الا المقبولة ، وقد عرفت ما فيها وما في الاستدلال ، بها ، فكيف يستند إليها في مثل هذه المسألة المهمة ، فلا وجه لما أنكر عليه المتأخرون بدعوى : وجود الروايات على ذلك البالغة حد الاستفاضة المعتبرة سندا ودلالة. وقد أناط اللثام عن ذلك المحقق الأصفهاني (١).

واما ما يتكفل الترجيح بموافقة الكتاب وطرح المخالف له.

فمنه ما هو ظاهر في عدم حجية المخالف للكتاب في نفسه ، إلاّ انه قد عرفت حمله على إرادة المخالفة لنص الكتاب ، كالمخالفة بنحو التباين الكلي ، بقرينة العلم بثبوت تخصيص وتقييد بعض عمومات ومطلقات الكتاب بالأخبار.

ومنه ما قد يظهر ـ كما ادعي ـ في مقام الترجيح في مورد أصول الدين لا فروعه.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٦٧ ـ الطبعة الأولى.

٤١٠

واما ما يظهر منه الترجيح ـ لا تمييز الحجة عن اللاحجة ـ في مورد الفروع ـ لا الأصول ـ المحمول على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب ، كالمخالفة بالعموم والخصوص ، فهو (١) أربع روايات : المقبولة ، والمرفوعة ، ورواية عن رسالة القطب ، ورواية عيون الاخبار عن الإمام الرضا عليه‌السلام. اما الأوليان ، فعدم صحة الاعتماد عليهما ظاهر مما تقدم وكذلك الثالثة. واما رواية عيون الاخبار ، فهي وان كانت بالمقدار الّذي يذكر منها شاهدا وافية الدلالة ، إلاّ انه بملاحظة صدرها (٢) ، يتضح عدم كونها واردة في مقام تعارض الخبرين بل في مقام آخر ، فلا تصلح للاستدلال.

وبذلك يتحصل : انه لا يمكن التمسك بشيء من الاخبار على الترجيح ، فتدبر.

واما التوقف ، فالذي يتمسك به له روايتان : أحدهما : المقبولة.

والأخرى : رواية سماعة بن مهران المروية في الاحتجاج : « قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ والآخر ينهانا؟.

قال : لا يعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل. قلت : لا بد ان نعمل بواحد منهما؟ قال : خذ بما فيه خلاف العامة » (٣).

والأولى : مع ما عرفت ما فيها ، وان موردها الحكمان لا الروايتان ، حدد فيها

__________________

(١) بل التحقيق انه لا بد من حمل النص الوارد في ترجيح الموافق على المخالف للكتاب على تمييز الحجة من اللاحجة ، لا ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى ، وذلك أولا لما تقرر في محله من ان لفظ المخالفة لا يظهر منه المخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه ، اما المخالفة بنحو الإطلاق أو التقييد أو العموم والخصوص فهو مما لا يعد مخالفة عرفا.

وثانيا ان الغالب في الروايات المتعارضة هو ما يرد منها في أبواب العبادات ، وليس في الكتاب الكريم عمومات أو إطلاقات بالنسبة إليها ، فلا يتصور المخالفة من هذه الجهة لعدم الموضوع ، فلا معنى لحمل الاخبار المتكفلة للترجيح عليها. بل لا بد من حملها على المخالفة بالتباين ومثله يكون الخبر ساقطا عن الحجية في نفسه فتدبر.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨١ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٢١.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٨٨ باب : ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٢.

٤١١

التوقف بلقيا الإمام عليه‌السلام ، فهي تختص بزمان الحضور لا الغيبة كزماننا.

والثانية : ضعيفة السند ، مع معارضتها بالمقبولة ، لكون الحكم فيها بالتوقف من أول الأمر والحكم بالترجيح بعد عدم إمكانه ، والحكم في المقبولة بالتوقف ، بعد فقد المرجح. مضافا إلى تحديد التوقف بلقيا الإمام عليه‌السلام ، فهي مختصة أيضا بزمان الحضور.

واما الاحتياط ، فروايته مرفوعة زرارة ، وقد عرفت ما في الاستدلال بها ، فلا نعيد.

واما ما ظاهره لزوم الترجيح بالأحدثية ، فهو روايات :

الأولى : رواية الحسين بن مختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « قال : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيها كنت تأخذ؟. قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك الله تعالى » (١).

الثانية : رواية أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وهي توافق في المضمون الرواية الأولى ، لكن زيد فيها : « أبى الله إلاّ ان يعبد سرا اما والله لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم أبى الله لنا في دينه الا التقية » (٢).

الثالثة : رواية محمد بن مسلم قال : « قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟. قال : ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » (٣).

الرابعة : رواية المعلى بن خنيس : « قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟. قال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ، فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد الله ( عليه

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٧ باب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٧.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٩ باب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ١٧.

(٣) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٧ باب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤.

٤١٢

السلام ) : انا والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم » (١).

وهذه الروايات لا تصلح للدلالة على المدعي.

اما الأوليان (٢) ، فالمفروض فيهما هو القطع بصدور كلام الحديثين ، لأن

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٧٨ باب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٨.

(٢) تحقيق الكلام في هاتين الروايتين من حيث مدلولهما ، ان يقال : أن ظاهرهما ـ كما أشير إليه في المتن ـ كون الحكمين المختلفين صادرين من نفس الإمام عليه‌السلام مشافهة ، فالالتزام بالاخذ بالمتأخر لا يرتبط بترجيح سند إحدى الروايتين المتعارضتين على الأخرى وتعيين صدورها. فهما أجنبيتان عن محط الكلام ، لكن لو تم مدلولهما وسندهما ، أشكل الأخذ بهما على ظاهرهما ، وذلك لأن مرجع مفادهما إلى بيان ان الحكم السابق ليس حكما واقعيا يلزم الأخذ به ، وانما هو حكم صوري اقتضت المصلحة بيانه موقتا.

وبما ان مطلق الروايات المتكفلة للحكمين المختلفين في زمان الصدور ، إذ لا تصدر الروايتان منهما في آن واحد عادة ، بل تكون أحدهما متقدمة زمانا على الأخرى ، فمقتضى هذه النصوص ان إحدى هاتين الروايتين ـ وهي السابقة ـ صدرت لغير الحكم الواقعي ، فإذا علم بالسابقة من الروايتين كانت معلومة البطلان ، وان اشتبه الحال كما في الروايتين الصادرتين من امام واحد ، كان المورد من اشتباه الحجة باللاحجة ، لأن أحدهما الواقعية المعينة معلومة البطلان ولكنها غير مميزة.

وعلى هذا لا يبقى للتعارض مورد أصلا ، وهو خلاف النصوص الأخرى التي تفرض للتعارض موضوعا ، وخلاف الضرورة من الصدر الأول إلى الآن ، فان وجود التعارض بين الروايات هو من الأمور المفروغ عنها بين الكل ، فمدلول هذه النصوص مما يصطدم مع الضرورة فلا يمكن الركون إليه.

ومع الغض عن هذا الإشكال ، نقول : ان لزوم الأخذ بالأحدث لا وجه له الا التقية ..

اما في الحكم السابق وارتفاعها فعلا ، فيتعين الأخذ باللاحق لارتفاع العارض.

واما في الحكم اللاحق لاقتضاء التقية رفع اليد عن الحكم الواقعي.

ومن الواضح اختصاص هذا بما إذا كان أحد الحكمين موافقا للتقية ، دون ما إذا لم يكن أحدهما كذلك ، فإطلاق الحكم بلزوم الأخذ بالأحدث في الروايتين مما لا يظهر له وجه.

هذا ، مضافا إلى ان التشريع الناسخ للتشريع السابق وان كان للإمام عليه‌السلام ومن صلاحياته ، إلاّ انه لم يكن يتصدى خارجا إليه ، بل كان بيانه الحكم من باب انه الحكم الواصل إليهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما يشير إليه التعبير في الروايتين المزبورتين بـ : « حدثتك بحديث » ، كما انه لا يحتمل في حقهم عليهم‌السلام فلا بد وان يكون ناشئا عن ملاحظة ظروف

٤١٣

المفروض انه هو الّذي يحدث المخاطب لا انه يروى عنه فالمخاطب يسمع الحديث مباشرة منه ، فليس التنافي بين السندين بل يكون بحسب الظهور ، فيحمل الأول السابق على التقية كما يشير إليه ذيل رواية الكناني ، وهذا هو الّذي يفهمه المخاطب بالحديثين بحسب المتعارف.

واما الثالثة ، فهي أيضا ظاهرة في كون الخبرين مقطوعي الصدور للتعبير : « بأنه يجيء منكم خلافه » ، فمجيء خلاف ما حدث به عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله منسوب إليهم مباشرة ، وهو لا يتناسب مع عدم الجزم بصدوره منهم ، كما ان ظاهر السؤال هو المفروغية عن صدورهما معا لا التشكيك في أحدهما ، وانما الإشكال في مخالفتهم عليهم‌السلام للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله مع ما صدر منهم من انهم لا يفتون بما يخالف سنة الرسول ، ويؤيده تقرير الإمام عليه‌السلام

__________________

التقية التي تحيط بهم أو بالسائل.

وعلى هذا الأساس يكون مقتضى القاعدة هو الأخذ بالحكم الأحدث ولو لم يبيّن ذلك في النصوص ، وذلك لأنه اما ان يكون الحكم السابق موافقا للتقية ، فبيان خلافه متأخرا يكشف عن زوال التقية ، فيلزم الأخذ به. واما ان يكون اللاحق هو الموافق للتقية ، فيلزم الأخذ به للتقية. فالحكم اللاحق يلزم الأخذ به ، اما للتقية أو لأنه الحكم الواقعي ، لكن لا يخفى ان هذا هو حكم من كان في زمن التقية ، فلا يشمل من كان في غير زمن التقية ، كزماننا الّذي نحن فيه ، بل المستفاد من هذه النصوص هو لزوم الأخذ بما يخالف العامة بالنسبة إلى من هو في هذه الأزمنة لأنه هو الحكم الواقعي ، فلا يستفاد من هذه النصوص امر زائد على اخبار الترجيح بمخالفة العامة.

وهذا البيان أولى مما ذكره المحقق الأصفهاني قدس‌سره من اختصاص هذه النصوص بزمن التقية وهو زمن الحضور ، فلا تتكفل حكم زمن الغيبة ، فالمرجع فيه الاخبار العلاجية الأخرى.

فانه يرد عليه : ان الاخبار العلاجية نصّ بالنسبة إلى زمن الحضور فانه القدر المتيقن منها ، إذ لا يحتمل انها تتكفل بيان حكم زمن الغيبة خاصة. وعليه فتكون معارضة لهذه الاخبار ، وهذا بخلاف ما بيناه من استفادة الأخذ بمخالف العامة في غير زمن الغيبة من نفس الاخبار بلا احتياج إلى الرجوع إلى الاخبار العلاجية في ذلك ، ولعل مراده ما ذكرناه.

٤١٤

له ورفع ما في ذهنه بأن الحديث ينسخ ، مشيرا إلى انهم عليهم‌السلام اطلع من غيرهم بنسخ أحاديث الرسول في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيبينونه الآن.

واما الرابعة ، فعدم صلاحيتها للدلالة على المدعى من جهة ظهورها في لزوم الأخذ بالحديث حتى يبلغ عن الحي خلافه ، فانه ظاهر في اختصاص لزوم الأخذ بالأحدث بزمان الحضور بلحاظ معرفة الأئمة عليهم‌السلام ما يقتضيه أحوال زمانهم من التقية وعدمها ، ويشهد له قوله بعد ذلك : « انا والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم » الظاهر في كون اختلاف الحكم باعتبار اقتضاء حال زمان الحكم له ، وهذا يختص في زمان الحضور وان ما يقوله الإمام الحي لا بد من الأخذ به وان خالف حكمه حكم الإمام السابق ، لأن تفاوت حكمهم عليهم‌السلام بتفاوت حال الزمان الّذي هم فيه من حيث لزوم التقية وعدمها ، ولأنهم عليهم‌السلام يلحظون في أحكامهم ما يقتضيه الحال ، فلاحظ.

واما ما ظاهره ان الوظيفة هي التخيير ، فسيأتي الكلام فيه بعد التكلم في مقامين :

المقام الأول : انه مع التنزل عن المناقشات في سند بعض روايات الترجيح (١) ، فالقدر المتيقن هو لزوم الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، لدلالة الاخبار المروية عن رسالة القطب عليه.

واما الترجيح بغيرهما من الشهرة أو صفات الراوي ، فلم يرد ذلك الا في المقبولة والمرفوعة ، وقد عرفت عدم نهوض الأولى دلالة والثانية سندا ، ومع التنزل والالتزام بدلالة الأولى وانجبار ضعف سند الثانية بعمل الأصحاب ـ كما ادعاه الشيخ ـ فلا بد من الالتزام بلزوم الترجيح بالشهرة وصفات الراوي من الأعدلية والأوثقية وغيرهما مما ذكره لكنه يقع الكلام في الجمع بين الروايتين المذكورتين للتنافي الحاصل بينهما ، إذ قدم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة في المقبولة ،

__________________

(١) وهي روايات رسالة القطب الراوندي.

٤١٥

وأخر في المرفوعة ، فيحصل التعارض بينهما في مورد تعارض الخبرين ، وكان أحدهما مشهورا والآخر راويه أعدل ، إذ مقتضى المرفوعة تقديم المشهور منهما ، ومقتضى المقبولة تقديم المروي عن الأعدل.

وقد ذكر الشيخ رحمه‌الله وجوها ثلاثة للجمع :

الأول : ان الترجيح بالصفات في المقبولة انما كان في مورد تعارض الحكمين لا الروايتين ، فهي غير ناظرة فيه إلى تعارض الروايتين بخلاف المرفوعة ، فالمقدم يكون هو الخبر المشهور بمقتضى المرفوعة ولا تعارضها المقبولة أصلا.

الثاني : ان مقتضى دلالة المرفوعة على لزوم الأخذ بالمشهور عند معارضته للشاذ هو الأخذ في المورد بالمقبولة لأنها أشهر من المرفوعة ، ومعه يكون المقدم هو الخبر المروي عن الأعدل دون المشهور.

الثالث : انه لم يثبت من المشهور تقديم الخبر المشهور على غيره ولو كان أصح منه سندا ، فلم يثبت عمل الأصحاب بالمرفوعة في الفرض كي يحصل التعارض بينها وبين المقبولة ، فالمحكم يكون هو المقبولة ويقدم الخبر الأصح سندا على المشهور (١).

ولا يخفى اختلاف النتيجة على الوجوه ، إذ هي على الوجه الأول غيرها على الوجهين الآخرين.

اما الوجه الأول ، فهو تام بلا إشكال.

واما الثالث ، فهو عجيب بعد دعوى انجبار ضعف سند المرفوعة بعمل الأصحاب بها ، إذ عمل الأصحاب بها انما يثبت بعملهم بها في المورد الّذي تفترق به عن المقبولة ـ إذ في مورد اتفاقها معها لا يعلم كون عملهم بمضمونها ، إذ قد يكون بمضمون غيرها الموافق لها ـ ، والمورد الّذي تفترق به المرفوعة عن المقبولة هو هذا بالخصوص ، فمنع عمل المشهور بها فيه لا يتناسب مع دعوى عمل المشهور بها.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٤٧ ـ الطبعة القديمة.

٤١٦

واما الثاني ، فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من جهات :

الأولى : انه لم يثبت شهرة المقبولة رواية ، إذ يمكن ان يكون التعبير عنها بالمقبولة من جهة كون راويها صفوان بن يحيى ، وهو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما صح عنهم ـ كما أشرنا إليه ـ لا من جهة شهرتها رواية.

الثانية : ان الحكم بترجيح المقبولة استنادا إلى المرفوعة يتوقف على كون جعل الحكم في المرفوعة بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية ، وتنقيح الملاك بحيث يكون الحكم الّذي تتكفله شاملا لها.

الثالثة : ان الالتزام بترجيح المقبولة بواسطة المرفوعة وطرح المرفوعة يستلزم المحال ، لأن الالتزام بالمرفوعة في ترجيح المقبولة يستلزم طرح المرفوعة كما لا يخفى ، فيلزم من الأخذ بالمرفوعة طرحها ، وهو محال لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال (١).

إلاّ ان ما ذكره أخيرا لا نعرف له وجها ، وذلك لأن المرفوعة بإطلاقها تقتضي الأخذ بالمشهور سواء كان المعارض له الشاذ أصح منه سندا أو لم يكن كذلك ، فهي تشمل المقبولة وتشمل الخبر المعارض بالأصح سندا ، فشمولها للمقبولة يستلزم طرحها بالنسبة إلى الخبر المعارض بالأصح ، فالأخذ بها في بعض مدلولها يستلزم طرحها في البعض الآخر لمدلولها ، فلا يكون ذلك مما يلزم من وجوده عدمه ، لاختلاف مورد الأخذ والطرح ، فتدبر.

نعم ، الوجه الّذي يؤخذ على الشيخ ، هو عدم التزامه بترجيح المقبولة بمقتضى مدلولها أيضا ، لأنها أيضا تقتضي ترجيح المشهور على الشاذ ، والمفروض أيضا ان جعل الحكم فيها بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية ، ولكن سريان الحكم إليها بتنقيح الملاك ، إذ هو الملاك في ترجيح المقبولة بمدلول المرفوعة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٦٥ ـ الطبعة الأولى.

٤١٧

كما عرفت ، فلاحظ.

والمتحصل مما ذكرناه : انه يلتزم بالترجيح بالشهرة والصفات بلا تعارض.

المقام الثاني : انه بناء على الترجيح ، هل يجوز التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها في مقام الترجيح ، أو لا يجوز ذلك ، بل يلزم الاقتصار على المنصوص منها؟. التزم الشيخ بلزوم التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة مما يوجب أقربية ذي المزية إلى الواقع من معارضه ، واستند في ذلك إلى وجوه أربعة :

الأول : ظهور الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة ، في انه باعتبار ما فيهما من الطريقية إلى الواقع وإيجابهما أقربية الخبر إليه بلا مدخلية لخصوصيتهما في الترجيح أصلا.

وأيد ذلك : بأن الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن وجود بعضها ، وانما سأل عن حكم صورة تساوي الروايتين في جميع المزايا المنصوصة وغيرها ، حتى قال : « لا يفضل أحدهما على الآخر » ، وهذا كاشف عن فهمه كون كل من هذه الصفات وما شابهها مزية مستقلة توجب الترجيح.

الثاني : تعليله عليه‌السلام في المقبولة الأخذ بالمشهور بأن : « المجمع عليه لا ريب فيه » ، إذ المراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذ ـ لا النفي مطلقا بحيث يكون قطعيا من جميع الجهات ، إذ لا معنى معه لفرضهما مشهورين لامتناع القطع بهما بجميع جهاتهما ـ فيكون المعنى : ان الريب والاحتمال الموجود في الخبر الشاذ غير موجود في المشهور. ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة ان كل خبرين كان في أحدهما احتمالا لا يوجد في الآخر ، بحيث يكون اقرب من ذلك بعدم هذا الاحتمال كان الآخر مقدما.

الثالث : تعليلهم عليهم‌السلام لتقديم الخبر المخالف للعامة بأن : « الحق والرشد في خلافهم » ونحوه ، إذ من المعلوم ان هذه القضايا غالبية لا دائمة ـ لاتفاقنا معهم في بعض الأحكام ـ فكأن التعليل ناظر إلى ان ما يخالفهم اقرب إلى الواقع من

٤١٨

موافقتهم لغلبة مخالفتهم ، فيتعدى إلى كل مزية توجب أقربية ذيها من غيره بمقتضى التعليل.

الرابع : قوله عليه‌السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ، فانه يدل بإطلاقه على انه إذا دار الأمر بين امرين في أحدهما ريب وليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب بل نفيه بالإضافة (١).

وقد ناقشه المحقق الخراسانيّ في الوجوه الثلاثة الأول دون الرابع ـ ولعله لوضوح المناقشة فيه ، إذ لم يرد هذا التعبير في اخبار الترجيح ، بل هو وارد في اخبار البراءة والاحتياط ، فلا يصلح للاستشهاد به على المدعى فيما نحن فيه ـ اما المناقشة في الوجه الأول : فبأنه لم يعلم كون تمام الملاك في الترجيح بالأصدقية والأوثقية هو ما فيها من جهة الطريقية والكشف عن الواقع ، لاحتمال دخالة خصوصية في الترجيح خصوصا بملاحظة الترجيح بما لا يحتمل الترجيح به إلاّ تعبدا ، كالأفقهية لعدم جهة الطريقية فيها.

واما المناقشة في الوجه الثاني : فبأن المشهور في الصدر الأول يكون مما لا ريب فيه في نفسه لحصول الاطمئنان بصدوره ، ولا بأس بالتعدي إلى غير الشهرة من كل ما يوجب الاطمئنان بالصدور دون كل مزية.

ونظيرها المناقشة في الوجه الثالث ، بدعوى : ان الخبر الموافق يحصل الاطمئنان والوثوق بوجود خلل في جهة من جهاته فتنتفي حجيته ، ولا بأس بالتعدي إلى كل ما كان كذلك دون كل مزية وان لم توجب الاطمئنان (٢).

والتحقيق : ان ما ذكره في مناقشته الوجه الأول وجيه ، إلاّ انه ترك المناقشة فيما ساقه الشيخ تأييدا لكلامه ، وهو عدم سؤال السائل عن صورة انتفاء بعض الصفات دون بعض.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٥٠ ـ الطبعة القديمة.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٤٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤١٩

ووجه المناقشة في ذلك : انه لم يعلم ان السائل فهم مرجحية هذه الصفات وغيرها ، واما قوله : « لا يفضل أحدهما على الآخر » فلعله يكون ناظرا إلى عدم التفاضل في هذه الصفات المذكورة دون كل مزية.

واما مناقشته في الوجهين الآخرين فلا تمكن الموافقة عليها.

اما المناقشة في الوجه الثاني : فلأن إرادة عدم الريب في نفسه المساوق لحصول الاطمئنان والوثوق بالصدور ممنوعة ، لأن المفروض هو الحكم بلزوم الأخذ الفعلي بالمشهور للعلة المذكورة ، ولا يخفى ان مجرد القطع بالسند لا يوجب لزوم الأخذ فعلا بالخبر قبل تمامية جهاته الأخرى من جهة الصدور والدلالة.

ومع فرض تماميتها فيهما فعلا يأتي محذور فرض الخبرين مشهورين كما لا يخفى.

فلا بد من إرادة عدم الريب بالإضافة إلى الخبر المعارض ـ إذ إرادة عدم الريب في نفسه من جميع الجهات غير ممكنة ، لفرضهما بعد ذلك مشهورين ويمتنع العلم بمطابقتهما كليهما للواقع ـ فيكون المعنى ـ كما عرفت ـ ان الريب الثابت في ذلك الخبر ليس موجودا في هذا الخبر ، وهو لا يلازم الاطمئنان بموافقة الخبر الواقع ، بل قد يقارنه أحيانا ، إذ قد يكون مما فيه الريب في نفسه كشأن كل خبر.

واما المناقشة في الوجه الثالث : فلأنك قد عرفت ان المخالفة في نفسها لا توجب الوثوق بالرشد دائما ـ لكثرة الاتفاق بيننا وبين العامة ـ ولذلك كانت هذه الاخبار من اخبار الترجيح ، وانما هي أمارة غالبية توجب أقربية المخالف للواقع من الموافق. ومن هنا يندفع ما ذكره من احتمال إرادة رجحان نفس المخالفة وان لها موضوعية وخصوصية في نفسها.

هذا كله مع ان بعض هذه المناقشات ترجع إلى بيان عدم دلالة الاخبار على الترجيح من حيث الصدور ، لاستلزام المرجح المذكور فيها الوثوق بالصدور وهذا خلف المفروض ، إذ المفروض الكلام في التعدي بعد الالتزام بكون هذه الروايات

٤٢٠