منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

من إمكان وجود خصوصية للخاص يكون بها ذا أهمية ، أو كونه مورد السؤال ، أو نحو ذلك.

واما في الأخرى ، فالوجه هو تخصيص الخاصّ الأعم بالخاص الأخص ثم تخصيص العام بالباقي ، إذ لا يصلح الخاصّ الأعم لتخصيص العام بمدلوله أجمع لوجود المانع عن حجيته في بعض افراده ، وهو الخاصّ الأخص ، فيخصص به ويبقى حجة في غير مورد الأخص فيخصص به العام ، كما يخصص بالأخص أيضا ويكونان حينئذ كالمتباينين حكما وافرادا.

هذا كله فيما إذا كان كلا الخاصّين ـ الأعم والأخص ـ منفصلين عن العام.

اما لو كان الأخص متصلا ، كما لو قال الآمر : « أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين » ثم قال : « لا تكرم النحويين » ، فهل تنقلب النسبة بين العام والخاصّ المنفصل أو لا؟. التزم الاعلام بانقلاب النسبة باعتبار انعقاد ظهور العام في غير مورد الخاصّ المتصل من أول الأمر ، فتكون نسبته إلى الخاصّ المنفصل نسبة العموم من وجه.

والّذي ينبغي ان يقال : ان من لا يلتزم بانقلاب النسبة بملاك كون المعارضة والنسبة انما هي بين الظهورات وعدم اختلال الظهور التصديقي بالمخصص المنفصل ـ كما عليه صاحب الكفاية ـ لا بد في الفرض من ان يلتزم بانقلابها.

لاختلال المقدمة الثانية التي بنى عليها مذهبه ـ وهي عدم اختلال الظهور بالمخصص المنفصل ـ ، إذ الظهور التصديقي يختل بالمخصص المتصل وينعقد ظهور ثانوي في غير مورد الخاصّ ، فتنقلب نسبة العام إلى الخاصّ المنفصل قهرا لتضيق دائرة ظهوره الّذي هو الملحوظ في باب المعارضة.

واما من يلتزم بانقلاب النسبة اما لأجل كون المخصص وان كان منفصلا يهدم ظهور العام في العموم ، أو من جهة تضييق دائرة حجيته وهي الملاك في المعارضة وملاحظة النسبة ، فلا بد له من التفصيل فيما نحن فيه بين صورة ورود

٣٨١

المخصص المنفصل الأعم قبل حضور وقت العمل ، وصورة وروده بعده.

ففي الصورة الأولى : لا وجه لانقلاب النسبة ، لأن ظهور العام في الباقي بعد تخصيصه بالمتصل انما ينعقد بتمامية مقدمات الحكمة ، وهي انما تنعقد بناء على هذا القول إلى حين زمان العمل لا حين الكلام ، والخاصّ المنفصل حكمه حكم المتصل في كونه بيانا للعام وهادما لظهوره ، فمع وروده قبل زمان العمل لا ينعقد للعام ظهور في الباقي لفقدان إحدى مقدمات ظهوره فيه وهي عدم البيان.

وكذلك حجيته في الباقي لا تتم قبل زمان العمل مع ورود المخصص ، لأنه مانع عن الحجية ، إذ العام لا يكون حجة في العموم الا حين زمان العمل وعدم المخصص.

وفي الصورة الثانية : فحيث انه حين زمان العمل انعقد ظهور العام في الباقي لتمامية مقدماته ، كما انه كان حجة فيه لعدم المانع ، فلا تكون نسبة الخاصّ الوارد بعد ذلك نسبة الخاصّ إلى العام ، بل نسبة العموم من وجه.

وبالجملة : فحيث انه على الالتزام بانقلاب النسبة بلحاظ كون الخاصّ المنفصل كالمتصل في هدمه الظهور ، لم يكن فرق بين كون الخاصّ الأخص متصلا أو منفصلا في عدم انقلاب النسبة إلى حكم الأعم ، وان كان منفصلا كحكم الأخص ، وان كان متصلا في هدمه للظهور ، ففي صورة وروده قبل تمامية مقدمات الحكمة وانعقاد ظهور للعام في الباقي يكون مخصصا للعام بلا كلام.

والحكم في زماننا كذلك ، إذ مع فرض إمكان العثور على المخصص المنفصل بالفحص لا يكون العام حجة في خصوص الباقي ولا ظاهرا فيه ، إذ زمان العمل بالنسبة إلينا يكون بعد الفحص ، فلاحظ. وقد مرت الإشارة إلى هذا الكلام فيما تقدم من مباحث انقلاب النسبة ، فراجعه.

ثم ان المحقق النائيني قدس‌سره بعد ان اختار انقلاب النسبة في الفرض المذكور ، ألحق به فرضا آخر ، وهو : ما إذا ورد مضافا إلى العام المخصص بالمتصل وإلى الخاصّ المنفصل ، عام آخر مجرد عن الخاصّ المتصل ، نظير : « أكرم العلماء ،

٣٨٢

وأكرم العلماء الا فساق النحويين ولا تكرم النحويين » ، فاختار فيه انقلاب النسبة بين العام المجرد وهو : « أكرم العلماء » ، وبين الخاصّ المنفصل وهو « لا تكرم النحويين » (١).

ونسب إليه السيد الخوئي ـ كما في مصباح الأصول ـ في توجيهه وجهين :

الأول : ان العام الأول قد تخصص بالمخصص المتصل بالعامّ الثاني يقينا ، فيكون مفاد العام الأول عين مفاد العام الثاني المخصص بالمتصل ، ومن الظاهر ان النسبة بينه وبين الخاصّ المنفصل هي العموم من وجه.

الثاني : ان الخاصّ المنفصل مبتلى بالمعارض ، وهو العام المتصل به أخص الخاصّين ، فلا يكون صالحا لتخصيص العام الأول.

ثم أورد على الأول : بأنه لا وجه له بعد ما تقدم من عدم الوجه من تخصيص العام بأحد المخصصين أولا ثم ملاحظة نسبته مع الخاصّ الآخر.

وعلى الثاني : بأنه وان كان تاما في نفسه ، لكنه لا يصلح دليلا لانقلاب النسبة وحصول المعارضة بين العام المجرد وبين الخاصّ المنفصل ، لأنه بعد ابتلاء الخاصّ المنفصل بالمعارض لا بد من معالجة التعارض بينهما ، ثم ملاحظة العام المجرد.

فان التزم بالتساقط ، كان العام بلا معارض في مورد المنافاة فيكون هو المحكم. وان لم يلتزم بالتساقط ، فان أخذ بالعامّ المتصل به أخص الخاصّين ترجيحا أو تخييرا يطرح الخاصّ المنفصل ، فيبقى العام المجرد بلا معارض. وان أخذ بالمخصص المنفصل كذلك يخصص به العام ، لكون نسبته إليه نسبة الخاصّ والعام لا العموم من وجه. فلا تعارض بين العام المجرد والمخصص المنفصل أصلا ، انتهى (٢).

إلاّ انه بعد ملاحظة ما تقدم من المحقق النائيني قدس‌سره من عدم الالتزام بتخصيص العام بأخص الخاصّين أولا ، ثم ملاحظة النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٤٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٣

للأعم ـ فيما لو كانا منفصلين ـ يحصل الاطمئنان بأن نظره في الفرض إلى وجود نكتة يفترق بها عن الفرض السابق. فالإيراد عليه بما تقدم من عدم الوجه في تقديم أحدهما على الآخر لتساوي نسبتهما إلى العام في غير محله ، بل كان اللازم معرفة نكتة الفرق والكلام فيها نفيا أو إثباتا.

ويمكن توجيه الفرق : بأن الخاصّ الآخر المتصل بالعامّ حيث انه بمدلوله المطابقي اللفظي يدل على نفي حكم العام عن مورده ، وبمفهومه اللفظي يدل على تخصيص حكم العام والمراد الجدي منه بغير مورده ، فيعلم بواسطة ذلك ان المراد الجدي في العام المجرد لا يزيد على ذلك ، كما لو كان ذلك مفاد دليل آخر ، إذ لا إشكال مع ورود دليل خارجي يدل على ان المراد الجدي من العام هو المقدار الكذائي في تضييق دائرة العام بالإضافة إلى المراد الجدي.

فالسر فيما يستفاد من العام المتصل به الخاصّ الأخص ، ليس نفي الحكم عن مورد الخاصّ وإثبات الحكم لغير مورده فقط ، إذ الخاصّ المتصل ـ على هذا ـ انما يخصص العام المتصل به ولا يرتبط بالعامّ المجرد ، ولا يكون بين العام المجرد والمحفوف بالخاص تناف لتوافقهما في الحكم ، وان كان أحدهما أضيق دائرة فلا يقتضي انقلاب النسبة.

بل السر ، هو : ان ما يستفاد منه بالمفهوم اللفظي انما هو تخصيص المراد الجدي بغير مورده فيضيق قهرا حجية العام المجرد ويحصر دائرة المراد الجدي فيه فتنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ المنفصل قهرا ـ وبهذا الاعتبار الحق قدس‌سره هذا الفرض بفرض اتصال الخاصّ الأخص في انقلاب النسبة ـ

وهذا بخلاف ما إذا كان الخاصّ الأخص منفصلا ومستقلا في الكلام ، إذ بتقديمه لا يدل على تخصيص حكم العام بغير مورده ، بل لا يتكفل سوى نفي حكمه عن مورده ، واختصاص حكم العام بغير مورده يكون بواسطة تمامية مقدمات الحكمة ، ومع صلاحية الخاصّ الأعم في نفسه للتخصيص لكون نسبته نسبة

٣٨٤

الخصوص المطلق كان مانعا عن انعقادها. وقد أشير إلى هذه النكتة في أجود التقريرات (١) ، فلاحظ.

واما الإيراد الثاني ، فهو تام لو كان المحقق النائيني قد ساق الوجه دليلا على المعارضة وانقلاب النسبة في الفرض ، إلاّ ان سوقه بنحو الدليل انفرد به السيد الخوئي في تقريره دون المرحوم الكاظمي ، فانه ذكره دفعا لتوهم قد يذكر (٢) ، فلاحظ والأمر سهل.

الكلام في روايات ضمان العارية

وقد تعرض الاعلام بعد هذا المبحث إلى الكلام في روايات ضمان العارية ، وتكلموا في الجمع بينها ، وفي انقلاب النسبة بين بعضها.

والّذي ذكره السيد الخوئي ـ كما في مصباح الأصول ـ ان الروايات على أصناف خمسة.

الأول : ما يدل على نفي ضمان العارية مطلقا (٣).

الثاني : ما يدل على نفي ضمان العارية في غير الدرهم ، وإثباته فيه (٤).

الثالث : ما يدل على نفي ضمان العارية في غير الدينار ، وإثباته فيه (٥).

الرابع : ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة ، وإثباته في عاريتهما (٦).

الخامس : ما يدل على نفي الضمان في غير مورد الاشتراط ، وإثباته في

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٥١٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٤٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) وسائل الشيعة ١٣ ـ ٢٣٧ باب ١ ، من أبواب أحكام العارية الحديث : ١٠.

(٤) وسائل الشيعة ١٣ ـ ٢٤٠ باب ٣ ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : ٣.

(٥) وسائل الشيعة ١٣ ـ ٢٣٩ باب ٣ ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : ١.

(٦) وسائل الشيعة ١٣ ـ ٢٤٠ باب ٣ ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : ٤.

٣٨٥

مورده (١).

ثم ذكر بعد ذلك : ان نسبة ما يدل على ثبوت الضمان مع الشرط مع سائر المخصصات نسبة العموم من وجه ـ لإمكان ان يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم أو الدينار أو الذهب أو الفضة ، وإمكان ان تكون عارية أحدهما بلا اشتراط ـ ومقتضى القاعدة ـ كما عرفت ـ تخصيص العام بجميع هذه المخصصات.

واما ما دل على نفي الضمان في غير الدرهم وإثباته فيه ، وما دل على نفى الضمان في غير الدينار وإثباته فيه ، فهما بمنزلة دليل واحد ، لأن العقد الإيجابي من كل منهما يقيد العقد السلبي من الآخر ، لأنه ينافيه وأخص منه ، فيجمع بينهما كذلك ويكونان بمنزلة دليل واحد ، وتقع المعارضة بعد ذلك بينه وبين ما دل على نفى الضمان في غير عارية الذهب والفضة وإثباته فيهما ، لأن النسبة بين العقد السلبي لهذا الدليل وبين العقد الإيجابي لما دل على نفي ضمان غير عارية الذهب والفضة هي العموم من وجه ـ لأن العقد السلبي لهذا الدليل مفاده نفي الضمان عن غير عارية الدرهم والدينار سواء كان ذهبا أو فضة أو غيرهما.

والعقد الإيجابي لذاك مفاده إثبات ضمان عارية الذهب والفضة سواء كان درهما أو دينارا أو غيرهما من غير المسكوك ـ ويدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ، ومقتضى القاعدة هو التساقط ، إلاّ انها غير تامة هاهنا ، لأن رفع اليد عن إطلاق دليل ثبوت ضمان عارية الذهب والفضة في مورد المعارضة بالتساقط ـ يلزم تخصيصه بالفرد النادر ـ لأن إعارة الدينار والدرهم نادرة لعدم الانتفاع بها مع بقاء عينها غالبا وهو مستهجن.

هذا محصل ما أفاده السيد الخوئي في المقام (٢) ، وهو بعينه ما أفاده الشيخ ، الا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٣ ـ ٢٤٠ باب ٣ ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : ٣.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول ٣ ـ ٣٩٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٦

انه قدس‌سره لم يتعرض لذكر أدلة نفي الضمان في غير مورد الاشتراط أصلا (١).

إلاّ انه لا بد من التعرض إلى جهات أغفلها السيد الخوئي في كلامه :

الجهة الأولى : الجمع بين المخصصات أنفسها ، لأنها ـ على النحو الّذي ذكره متنافية في مفادها. فان المدلول الإيجابي لما دل على نفي الضمان في غير عارية الاشتراط ينافي المدلول السلبي لباقي الأدلة المخصصة ، وهي ما دل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم ، وما دل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة ، وما دل على نفي الضمان في غير عارية الدينار. وهكذا المدلول السلبي لأدلة ضمان العارية مع الاشتراط ، فانه ينافي المدلول الإيجابي للأدلة الأخرى المذكورة.

وذلك لأن أدلة ضمان العارية مع الاشتراط تقتضي بمدلولها الإيجابي ضمان العارية مع الاشتراط ، سواء كانت العارية درهما أو غير درهم ، دينارا أو غير دينار ، ذهبا وفضة أو غيرهما ، وذلك ينافي المدلول السلبي لأدلة نفي ضمان غير عارية الدرهم ، لأنها تقتضي بمدلولها السلبي نفي ضمان غير عارية الدرهم ، سواء اشترط الضمان أم لم يشترط ، فيتنافيان في عارية غير الدرهم مع الاشتراط ، فان أحدهما يثبت الضمان فيه والآخر ينفيه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المدلول السلبي لأدلة نفي ضمان غير عارية الدينار ، ولأدلة نفي ضمان غير عارية الذهب والفضة.

وتقتضي أيضا بمدلولها السلبي نفي الضمان مع عدم الاشتراط ، سواء كانت العارية درهما أو غير درهم ، دينارا أو غيره ، ذهبا أو فضة أو غيرها.

وذلك ينافي المدلول الإيجابي لما دل على ثبوت الضمان في هذه الموارد ، إذ هو بإطلاقه يدل على ثبوته ولو مع عدم الاشتراط ، فيحصل التنافي في عارية الدرهم أو الدينار أو غيرهما من أنواع الذهب والفضة مع عدم الاشتراط.

ومع وجود التنافي بين نفس المخصصات لا يتجه تخصيص العام الفوق بها

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٦٠ ـ الطبعة القديمة.

٣٨٧

أجمع ـ حكم به في مصباح الأصول (١) ـ ، لما أشرنا إليه من عدم صلاحية الخاصّ للتخصيص مع ثبوت المعارض له في بعض مدلوله ، بل لا بد من علاج التعارض بينها ثم يخصص العام بها بعد العلاج.

وعليه ، فهي صالحة للتخصيص في مورد عدم التنافي ، إذ هي متساقطة في الجمع ومورد التنافي ، فلا حجية لها فيه.

فالمقدار الخارج من العام هو موارد عارية الدرهم والدينار والذهب والفضة مع الاشتراط ، إذ هذا المقدار هو المتفق عليه في دلالة المخصصات المزبورة ، وغيره موضع التنافي.

إلاّ ان ما ذكرناه من الجمع والنتيجة انما يتم بناء على ما أفاده من تصنيف الروايات إلى هذه الأصناف الخمسة بالنحو المذكور سلبا وإيجابا.

واما على ما هو الصحيح في مفادها ، فلا يتم ذلك ، إذ مفادها ليس كما قرره ( حفظه الله ) ، فان ما دل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم أو الدينار أو الذهب والفضة وإثباته فيها صرح فيه بأن ثبوت الضمان فيها أعم من صورة الاشتراط وعدمه.

وعليه ، فلا معارضة بين مدلولها الإيجابي والمدلول السلبي ، لما دل على نفى الضمان في غير صورة الاشتراط ، إذ يكون المدلول الإيجابي لهذه الأدلة أخص مطلقا من المدلول السلبي لذلك الدليل ـ للتصريح بثبوت الحكم في مورد المنافاة والنص عليه ، فلا تكون دلالته على ثبوت الحكم فيه بالإطلاق أو العموم كي يتعارض الإطلاقان أو العمومان ، بل بالنص والتعيين ، وقد تقرر في محله ان نسبة الدليل العام مع ذكر الافراد تعيينا تكون أخص من العام الآخر ـ ، فيخصص به عموم المدلول السلبي لدليل اعتبار الشرط في ثبوت الضمان ، وترتفع المنافاة حينئذ.

واما المنافاة بين المدلول السلبي لهذه الأدلة والمدلول الإيجابي لذلك الدليل

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٨

والمعارضة بينهما ، فهي منتفية أيضا ، لأن استثناء ضمان عارية الدراهم والدنانير كان بعد استثناء صورة الاشتراط من العام ، فيكون استثناء عارية الدراهم والدنانير من اختصاص الضمان بصورة الاشتراط ، المستفاد من العام واستثناء صورة الاشتراط ، فالاستثناء كان من مفاد المجموع من المستثنى والمستثنى منه ، وهو اختصاص الضمان بصورة الاشتراط.

ويشهد له ـ مضافا إلى الظهور العرفي للكلام ـ نفي الفرق في عدم الضمان بين صورتي الاشتراط وعدمه ، فانه تأكيد لمفاد الاستثناء من المجموع.

وعليه ، فلا مدلول لأدلة ضمان عارية الدرهم والدينار كي ينافي ويعارض المدلول الإيجابي لدليل الضمان في صورة الاشتراط. وهكذا الحال لو قلنا بأن استثناء عارية الدرهم والدينار من أصل العام لا المجموع ، فانه وان ثبت المدلول السلبي ـ وهو المستثنى منه ـ إلاّ انه ورد عليه استثناء ان أحدهما المدلول الإيجابي للضمان في صورة الاشتراط ، فلا تتجه دعوى المعارضة ، لأن المدلول السلبي ضيق الدائرة من أول الأمر بواسطة المدلول الإيجابي ، فلا يصلح للمعارضة لعدم شموله لمورد المدلول الإيجابي. وبعبارة أخرى : ان ذلك يكون من قبيل استثناء الأمرين معا ، ولا يعقل في هذا الحال تنافي المستثنى منه مع المستثنى وتعارضه معه ، فلاحظ.

واما عارية الذهب والفضة ، فاستثناؤها وان كان مستقلا ومن العموم رأسا بلا استثناء لصورة الاشتراط أصلا ، إلاّ انه حيث ينفي الفرق بعد الاستثناء بين صورتي الاشتراط وعدمه ، يستظهر منه بأن ثبوت الضمان مع الاشتراط في غيرهما من المفروغ عنه ، فالمدلول السلبي ـ وهو العموم ـ وان كان عاما لغيرهما مع الاشتراط ، إلاّ انه بقرينة نفي الفرق بعد استثنائهما بين صورة الاشتراط وصورة عدمه يعلم بأن المراد منه غير صورة الاشتراط ، وان الضمان في صورة الاشتراط مفروغ الثبوت ، فتدبر.

وعليه ، فيكون المقدار الخارج من العام الفوق بواسطة هذه المخصصات هو

٣٨٩

موارد عارية الدرهم وعارية الدينار وعارية الذهب أو الفضة ولو مع عدم الاشتراط ، ومورد عارية غيرها مع الاشتراط.

وهذا وان كان يوافق مقتضى ما أفاده السيد الخوئي في الجمع من تخصيص العام الفوق بجميع هذه المخصصات. إلاّ انه لا يتأتى إلاّ بناء على ما عرفت من مفاد الأدلة ، لا بناء على ما ذكره من مفادها ، فان الجمع بناء على ما أفاده كما سبق لا كما أفاده.

الجهة الثانية : دفع التفصي المذكور عن استلزام رفع اليد عن إطلاق المدلول الإيجابي ـ لما دل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة بواسطة التساقط ، لمعارضته بالمدلول السلبي لما دل على ضمان عارية الدرهم والدينار ، لتخصيص المطلق بالفرد النادر المستهجن عرفا ـ : بأنه لا استهجان في ذلك بعد فرض كون المتكلم أثبت الحكم بدليل منفصل لهذا الفرد النادر ، فلا يستهجن ان يكون ذلك الدليل المنفصل قرينة على إرادة الفرد النادر من المطلق.

إذ لم يتعرض ـ في مصباح الأصول ـ إلى ذلك مع سبق التفصي ، وكان الأنسب التعرض لدفع التفصي لا ذكر ما ذكره الشيخ وإهمال ما ذكر من التفصي عنه.

وحاصل الإشكال على ما ذكر : ان الإشكال ليس من جهة استهجان ترتيب الحكم على الفرد النادر كي يتفصى عنه بما ذكر ، بل من جهة استعمال المطلق وإرادة الفرد النادر منه ، واستهجانه يرتبط بالقواعد العربية ، فلا ينتقض بثبوت الحكم للفرد النادر بدليل منفصل مع كون إرادته بلفظه لا بواسطة المطلق.

الجهة الثالثة : في بيان مناسبة التعرض لهذه المسألة في ذيل صورة وجود عام فوق وعام آخر متصل بأخص الخاصّين وخاص أعم منفصل ـ فانه أهمل ذكر هذه الجهة مع لزوم التعرض إليها ، لوضوح كون المسألة فقهية ، فلا بد من ذكر مناسبة ذكرها في مثل هذا المجال من مجالات علم الأصول ـ

٣٩٠

والوجه في ذكرها هاهنا هو : وجود عام فوق ، وهو ما دل على نفي ضمان العارية مطلقا. وخاص أخص متصل بعام آخر ، وهو ما دل على نفي الضمان الا في الدراهم والدنانير. وخاص أعم ، وهو ما دل على ثبوت الضمان في الذهب والفضة.

إلاّ ان الكلام في تلك الصورة لا يجري هاهنا ، إذ مع الالتزام في تلك الصورة بما التزم به المحقق النائيني من انقلاب النسبة بلحاظ دلالة الخاصّ الأخص على تخصيص المراد الجدي بغير مورده ، لا يمكن الالتزام به هنا ، لأن ذلك انما يتم لو كان الخاصّ الأعم منفصلا. وفي المقام ليس كذلك ، إذ هو أيضا متصل بالعامّ ، فان الدليل لم يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة فقط ، بل دل على نفي الضمان في العارية إلاّ فيهما.

وعليه ، فكلاهما ـ أي الخاصّ الأخص والخاصّ الأعم ـ يدلان على تخصيص حكم العام الفوق بغير موردهما في مرتبة واحدة ، بلا وجه لتقدم لحاظ أحدهما على الآخر ، لكونهما بنحو واحد بالإضافة إلى العام الفوق.

وهكذا الكلام فيما دل على نفي الضمان الا مع الاشتراط.

فذكر هذه المسألة عقيب تلك الصورة ليس إلاّ لأجل المشابهة ، لا لأجل الاشتراك في الحكم ، فلاحظ وتدبر.

الصورة الثانية ـ من صور المسألة ـ : ما إذا ورد عامان ومخصص ، وذلك على أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون المخصص واردا على مورد الاجتماع والتنافي بين العامين ، فيكون مخصصا لهما ، لكونه أخص مطلقا منهما ، ويرتفع التعارض بينهما ، وذلك نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم الفساق » ثم ورد : « يكره إكرام فساق العلماء » فان الخاصّ يخصص كلا من العامين بغير مورده ، وبذلك يرتفع التعارض بينهما ، إذ تعارضهما في مورد الخاصّ ـ أعني : فساق العلماء ـ فلاحظ.

الثاني : ان يكون المخصص واردا على مورد الافتراق من أحدهما ، كما لو ورد :

٣٩١

« يستحب إكرام العلماء » ، و « لا تكرم الفساق » ، ثم ورد : « يجب إكرام عدول العلماء ».

وقد تقدم الكلام في هذا النحو في أوائل هذا البحث ، فراجع.

هذا إذا كان المخصص مخرجا لتمام مورد الافتراق ، كما في المثال المتقدم.

اما لو كان مخرجا لبعضه ، كما لو كان المخصص في المثال : « يجب إكرام عدول الفقهاء » فانه بتقديم الخاصّ لا تنقلب النسبة بين العامين ـ في مورد الالتزام بانقلابها في هذا النحو ـ

الثالث : ان يكون المخصص واردا على مورد الافتراق لكل من العامين ومخرجا له ، كما لو ورد : « يستحب إكرام العلماء » ، و : « يكره إكرام الفساق » ، ثم ورد : « يجب إكرام عدول العلماء » ، و : « يحرم إكرام فساق الجهال ». والوجه هو تقديم كلا الخاصّين وتخصيص العامين بهما ، فتنقلب النسبة بينهما إلى التباين ، لاختصاص كل منهما بعد تخصيصه بالعلماء الفساق ، وأحدهما يدل على استحباب إكرامه والآخر يدل على كراهته.

ولا بد حينئذ من إجراء قواعد التعارض فيما بينهما بالخصوص.

إلاّ ان السيد الخوئي ـ كما في مصباح الأصول ـ ذهب إلى وقوع التعارض بين الأدلة الأربعة العامين والخاصّين ، لأن العلم الإجمالي الّذي هو منشأ التعارض يتعلق بكذب أحد الأربعة لا بكذب أحد العامين فقط (١).

وفيه : ما تقدم منا من الإشكال عليه من : ان العلم الإجمالي بنفسه لا يكون منشأ للتعارض ما لم يكن في الأدلة اقتضاء الحجية ، ونفي كون التعارض يكون بين أكثر من دليلين لأن معناه التنافي الراجع إلى نفي أحدها للباقي ، وهذا ليس بثابت فيما نحن فيه كما سبق فراجع تعرف.

الصورة الثالثة : ما إذا تعارض دليلان بالتباين وورد مخصص ، وهو على أنحاء ثلاثة أيضا :

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٠٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٢

الأوّل : ما إذا كان المخصص مخصصا لأحدهما ، فانه يتقدم عليه وتنقلب النسبة حينئذ بين العام المخصص والعام الآخر من التباين إلى العموم والخصوص المطلق ، فيخصص العام الآخر به ، وذلك كما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم العلماء العدول » ، فان الأخير يخصص دليل : « لا تكرم العلماء » بغير مورده ، وهو العلماء الفساق ، وحينئذ يكون أخص مطلقا من دليل : « أكرم العلماء » فيخصصه أيضا بغير مورده.

ومن هذا الباب أدلة إرث الزوجة من العقار ، فان منها ما يدل على إرثها منه مطلقا (١) ، ومنها ما يدل على عدم إرثها منه مطلقا (٢) ، ومنها ما يدل على إرث خصوص أم الولد (٣) ، فانه يخصص ما يدل على عدم إرثها مطلقا ، فتنقلب النسبة بين هذا الدليل وبين ما يدل على إرثها مطلقا ، فيخصص به.

الثاني : ان يكون المخصص واردا على كل واحد منهما ، مع عدم التنافي بين المخصصين أنفسهما ، فيخصص بهما كلا العامين وتنقلب النسبة بينهما إلى العموم من وجه ويقع التعارض بينهما في مورد الاجتماع ، نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم النحويين » وورد : « لا تكرم الأطباء » ، فان دليل : « لا تكرم الأطباء » يخصص دليل : « أكرم العلماء » بغير الأطباء ، ودليل : « أكرم النحويين » يخصص دليل : « لا تكرم العلماء » بغير النحويين ، فتكون النسبة بين العامين بعد التخصيص العموم من وجه ، إذ يفترقان في الطبيب غير النحوي وفي النحوي غير الطبيب ـ إذ الأول مورد افتراق : « لا تكرم العلماء » والثاني مورد افتراق « أكرم العلماء » ـ ويجتمعان في غير الطبيب وغير النحوي كالفقيه ، فان أحدهما يدل على حرمة إكرامه والآخر يدل على وجوبه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ ـ ٥٢٢ باب : ٧ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٧ ـ ٥١٧ باب : ٦ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : ١ و ٨.

(٣) وسائل الشيعة ١٧ ـ ٥٢٣ باب : ٧ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : ٢.

٣٩٣

الثالث : ان يرد المخصص على كل منهما ويكون بين المخصصين تناف. كما لو دل دليل على وجوب إكرام العلماء ، ودل آخر على حرمة إكرامهم ، ودل ثالث على وجوب إكرام عدولهم ، ودل رابع على حرمة إكرام النحويين.

والموجود في مصباح الأصول : انه لا أثر للقول بانقلاب النسبة والقول بعدمه في هذه الصورة ، إذ على القول بانقلابها تكون النسبة بين دليل وجوب إكرام العلماء ودليل عدم وجوب إكرامهم بعد خروج العالم النحوي من الأول وخروج العالم العادل من الثاني هي العموم من وجه ، حيث يجتمعان في العالم العادل النحوي ، ويفترقان في العالم العادل غير النحوي وفي العالم الفاسق النحوي ، فيحكم بوجوب إكرام العالم العادل غير النحوي وبعدم وجوب إكرام العالم الفاسق النحوي ، ويرجع إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في إكرام العالم العادل النحوي.

واما على القول بإنكار الانقلاب ، يسقط العامان من الاعتبار رأسا ويؤخذ بالخاصين ، وحيث ان بينهما العموم من وجه يعمل بهما في مورد افتراقهما ويرجع إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في مورد الاجتماع ـ وهو العالم العادل النحوي ـ فتكون النتيجة عين نتيجة القول بانقلاب النسبة انتهى (١).

ولا يخفى ما فيه ، إذ يرد عليه :

أولا : ما تقدم من انه مع التنافي بين المخصصات بالعموم من وجه ، لا وجه لتخصيص العام بها قبل علاج التعارض الحاصل فيما بينها ، كما ارتكبه هاهنا في مصباح الأصول.

وثانيا : انه مع تخصيص العامين بالخاصين بلا لحاظ تعارضهما قبلا ، فلا يكون مورد التنافي والاجتماع هو « العادل النحوي » في المثال المذكور كما ذكره ، كي ينتفي الفرق بين القولين القول بالانقلاب والقول بعدمه ، إذ العادل والنحوي خارجان عن كلا العامين بعد التخصيص ، بل المجمع ومورد التنافي يكون هو الفاسق

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٠٢ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٤

غير النحوي.

وعليه ، فلا ينتفي الفرق بين القولين ، إذ مورد الرجوع إلى الأصول العملية أو الترجيح والتخيير على القول بالانقلاب يكون الفاسق غير النحوي. وعلى القول بعدمه يكون العادل النحوي. وذلك كاف في الفرق ، فلاحظ.

نعم ، على ما قررناه من لزوم معالجة المعارضة بين الخاصّين قبل تخصيص العام بهما ، لا يكون هناك فرق عملي بين القولين.

وذلك لأنه بعد لحاظ المعارضة بين الخاصّين يتساقطان (١) ، في المجمع وهو « العادل النحوي » ، فيكون مدلول أحدهما : « لا تكرم فساق النحويين » والآخر : « أكرم عدول غير النحويين من العلماء » ، وبعد ذلك يخصص بهما العامان بهذا المقدار ، فيكون مدلول أحد العامين : « أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين » ومدلول الآخر : « لا تكرم العلماء الا عدول غير النحويين » ، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه ، ومورد الاجتماع هو : « العادل النحوي والفاسق غير النحوي » ، ومورد افتراق دليل الوجوب : « العادل غير النحوي » فانه غير مشمول لدليل الحرمة ، ومورد افتراق دليل الحرمة : « الفاسق النحوي » فانه غير مشمول لدليل الوجوب.

ولا يخفى ان مورد افتراق كل منهما مشمول لمخصص الدليل الآخر ، فان « العادل غير النحوي » مشمول لدليل : « أكرم العدول غير النحويين » المخصص لدليل : « لا تكرم العلماء » ، وكذلك : « الفاسق النحوي » ، فانه مشمول لدليل : « لا تكرم فساق النحويين » المخصص لدليل : « أكرم العلماء ».

فبالنسبة إلى موارد الافتراق لا يختلف الحال على القولين ، لثبوت الحكم فيها اما بواسطة العامين لو قلنا بانقلاب النسبة وحصول التعارض في المجمع فقط. أو

__________________

(١) هذا أحد فرض المسألة ومثله الكلام في الفرض الآخر ـ أعني فرض جريان الترجيح أو التخيير بينهما ـ فانه لا يفرق الحال بالنسبة إلى ثبوت الحكم في مورد الافتراق أو الاجتماع على القولين وان تضيق مورد الاجتماع على هذا الفرض. فلاحظ تعرف. ( المقرر ).

٣٩٥

بواسطة الخاصّين لو لم نقل به وأخذنا بأحد العامين ترجيحا أو تخييرا ، بلحاظ حصول المعارضة في مجموع المدلول ، إذ مورد افتراق العام الآخر المطروح يثبت له الحكم بواسطة الخاصّ المخصص للعام المأخوذ به.

واما مورد الاجتماع ، فالحال كذلك لا يختلف على القولين ، لأن الحكم في المجمع على القول بانقلاب النسبة هو ترجيح أحد العامين مع وجود المرجح أو التخيير بينهما ، فيثبت فيه حكم أحد العامين ، وكذلك على القول بعدم الانقلاب ، إذ يثبت في المجمع حكم أحد العامين تخييرا أو ترجيحا ، فتدبر.

هذا بناء على شمول الاخبار العلاجية الدالة على لزوم الأخذ بأحد المتعارضين ترجيحا أو تخييرا لمورد العامين من وجه.

واما بناء على ما هو المشهور من عدم شمولها لموردها ، فالفرق بين القولين موجود فيما نحن فيه ، إذ على القول بانقلاب النسبة يكون حكم العامين التساقط في المجمع ، فلا يثبت فيه حكم أحدهما. وعلى القول بعدم الانقلاب لا يكون الحكم التساقط ، لأنهما يكونان متباينين لا عامين من وجه ، فتشملهما الاخبار العلاجية فيكون المجمع مشمولا لأحد العامين ، فلاحظ جيدا.

هذا تمام الكلام في صور انقلاب النسبة ، ومنه يتضح الحكم فيما قد يفرض من الصور.

ويقع الكلام بعد ذلك في حكم المتعارضين بحسب الأدلة الشرعية.

ولا بد من بيان مورد المعارضة ، فنقول : انه بعد ان عرفت ان التعارض عبارة عن التنافي الحاصل بين الدليلين في مقام الحجية ، بمعنى ان يكون كل منهما مزاحما للآخر في كسب الحجية لجانبه.

وهذا انما يتم في فرض ثبوت مقتضى الحجية في كل منهما ، بمعنى ان يكون كلا منهما موضوعا للحجية لو لا المانع ، وهو الدليل الآخر.

ومن هنا يظهر : انه يمتنع حصول التعارض في مورد يكون موضوع الحجية

٣٩٦

ومقتضيها هو القطع أو الظن الفعلي ، بمعنى انه في المورد الّذي يكون ثبوت الحجية لكلا الدليلين موجبا للتعارض لعدم إمكان اجتماع حجيتهما اما ذاتا أو عرضا ، يمتنع حصول التعارض لو كان ملاك الحجية فيهما هو القطع أو الظن الشخصي بالمفاد ، لامتناع حصول اليقين بمفاد كلا الدليلين ، أو الظن الفعلي به لفرض التنافي بينهما ، اما الذاتي أو العرضي فيكون من اليقين بالضدين أو الظن بهما وهو محال ، مع لزوم ثبوت مقتضى الحجية في نفسه ومع قطع النّظر عن المعارض.

وعليه ، فمورد المعارضة ما كان موضوع الحجية فيه هو الظن النوعيّ ، إذ لا يمتنع قيام الدليلين المقتضيين للظن النوعيّ على متنافيين ، فيحصل التعارض بينهما ، لامتناع حجية كلا الدليلين بعد تنافي مدلوليهما.

وإذا حصل التعارض بين المدلولين ـ بمعنى التعارض بين أصالتي الظهور فيهما ـ يسري إلى السند ـ فيحصل التعارض بين دليل حجية سند كل منهما ودليل حجية سند الآخر ـ لو كان قابلا للتعارض ، كالسندين الظنيين ـ إذ بعد كون مفاد الخبرين متنافيين يمتنع التعبد بسند كل منهما وصدوره ، إذ مرجعه إلى التعبد بمؤدى الخبر ، والمفروض تنافيهما في المؤدى ، إذ لا معنى للتعبد بخصوص الصدور بلا رجوع ذلك إلى إيجاب العمل على طبق مؤداه ، كما لا يخفى ـ دون القطعيين ، إذ القطع بالصدور لا يترتب عليه تعبد به كي يقال بامتناع التعبد بصدورهما مع تنافي مدلوليهما ، لرجوع التعبد بالصدور إلى إيجاب العمل على طبق مفاده ومؤداه ، بخلاف الظن بالصدور فانه موضوع التعبد.

وحيث تصل النوبة إلى التعارض بين السندين ، كان ذلك محل الكلام في المقام. فيقع الكلام في تمامية دلالة النصوص الواردة في هذا المورد على أي حكم من الأحكام من ترجيح ، وتخيير ، وتوقف واحتياط.

ـ وقد عرفت فيما سبق ان الّذي تقتضيه القاعدة الأولية في المتعارضين هو التوقف ، بمعنى نفي الثالث ، لتساقط الدليلين في دلالتيهما المطابقيتين دون الالتزاميتين

٣٩٧

لعدم التنافي فيها بينها ـ ولا بد لنا قبل الخوض في تحقيق الحال من تأسيس الأصل عند دوران الأمر بين الترجيح والتخيير ، بمعنى انه بعد فرض استفادة لزوم العمل بأحدهما ـ المتعارضين ـ وعدم جواز طرحهما معا ، ولكن لم يتعين بالأدلة أحد الأمرين من الترجيح والتخيير ، وشك في ذلك ، فهل مقتضى القواعد هو تعين الأخذ بما فيه المزية والمرجح ، أو لا بل مقتضاها التخيير بينهما؟

وثمرته : بأنه لو تم قيام القاعدة على الترجيح ، كفى ذلك دليلا عليه بمجرد الشك في ثبوت أدلة التخيير بلا حاجة إلى إقامة الدليل الخاصّ عليه.

والتحقيق : ان مقتضى القاعدة تعيين الأخذ بذي المزية والمرجح ، لأنه معلوم الحجية على التقديرين دون الآخر ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وكون المسألة في موردها محل خلاف ، للمناقشة في كون الأصل هو التعيين بأن القدر المتيقن من التكليف ، هو التكليف بالجامع ، وغيره الزائد عليه مشكوك فيه ، فأصالة البراءة تنفيه وهي معذرة ، فيثبت التخيير دون التعيين.

لا يضر فيما نحن فيه ـ ولذا التزم بأن الأصل فيما نحن فيه يقتضي الترجيح ، من لا يلتزم بالتعيين في مسألة الاشتغال ـ وذلك لأن دوران الأمر بين التعيين والتخيير هناك انما هو بالنسبة إلى الحكم الشرعي الفرعي ، فأصالة البراءة يمكن دعوى جريانها في نفي التعيين.

واما في ما نحن فيه ، فالدوران بين التعيين والتخيير بالنسبة إلى الحجية ، والمفروض ان الأصل في باب الحجية مع الشك هو عدم الحجية ، وذلك ينتهي بنا فيما نحن فيه إلى الترجيح. بعكس أصالة البراءة في مسألة الاشتغال ، وذلك لأنه مع احتمال لزوم الترجيح يكون غير ذي المزية مشكوك الحجية ، والأصل عدمها ، فالامر يدور حينئذ بين ما هو مقطوع الحجية ومشكوكها ، ولا إشكال في لزوم الأخذ بما هو مقطوع الحجية ، إذ مشكوك الحجية مساوق لمقطوع عدم الحجية.

٣٩٨

إلاّ ان هذا التقريب يتم لو قلنا بأن الحجية التخييرية فعلية كما لو كان مرجع الحجية التخييرية إلى حجية العنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما ، فان كلا منهما منطبق هذا العنوان. أو قلنا انها معلقة على ترك الأخذ بالآخر. ولكن عرفت التشكيك في صحة هذين التصويرين للحجية التخييرية ، وان الوجه المعقول لها هو تعليق الحجية على الأخذ بالخبر نفسه ، فيكون حجة على تقدير الأخذ به ، وقد أشار إلى هذا الوجه غير واحد من الاعلام.

وعليه فلا مجال بناء على هذا القول ـ للتقريب المذكور ـ لعدم حجية كل منهما قبل الأخذ به بناء على التخيير ، فقبل الأخذ بكل منهما لا يدور الأمر بين ما هو مقطوع الحجية ومشكوكها ، لأن ذا المزية لا يكون حجة قطعا الا على القول بالترجيح أو بعد الأخذ به ، وكلاهما غير متحقق. لكنه مع هذا يتعين الأخذ بذي المزية (١) ، بتقريب : انه بعد فرض وجوب الأخذ بأحدهما من باب حكم العقل

__________________

(١) تحقيق الكلام في المقام ان يقال : انه لا دليل من الخارج على لزوم الأخذ بإحدى الحجتين المتعارضتين من خبرين أو فتويين أو غيرهما مما يعلم بعدم سقوطهما معا عن الحجية.

نعم ، قد يجب الأخذ بإحداهما مقدمة لتحصيل الحجة في بعض الموارد.

توضيح ذلك : ان لتعارض الحجتين صورا :

إحداها : ان يكون مفادهما حكما خاصا مع وجود دليل عام يتكفل حكم جميع الافراد ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ، ثم ورد : « لا تكرم النحويين » وورد : « أكرم النحويين ».

الأخرى : ان يكون هناك علم إجمالي بالتكليف ويتعارض الدليلان في تعيينه.

الثالثة : ان لا يكون هناك دليل عام ولا علم إجمالي ، بل التكليف محتمل بدوا ويتعارض الدليلان في إثباته ونفيه.

اما الصورة الأولى ، فالأثر العملي لإثبات لزوم الأخذ بأحد الدليلين الخاصّين انما يظهر لو فرض ان محتمل الترجيح هو الدليل الخاصّ المخالف للعام ، وهو قوله : « لا تكرم النحويين » في المثال المتقدم.

واما لو فرض انه هو الدليل الموافق للعام ، فلا أثر للزوم الأخذ بأحدهما ، لأن نتيجته هو الأخذ بالموافق ، وهو يتفق عملا مع طرحهما والرجوع إلى العام الفوقاني.

وكيف كان : فلا دليل في مثل ذلك على لزوم الأخذ بأحدهما ، سوى ما قد يقال : من لزوم

٣٩٩

.........................................

__________________

الفحص عن المخصص عند إرادة العمل بالعامّ ، والمفروض إمكان تحصيل الدليل المخصص بواسطة الأخذ به.

ولكنه غير سديد ، لأن الثابت في بناء العقلاء إناطة العمل بالعامّ بالفحص عن المخصص المحتمل الوجود ، وانه مع التمكن من استكشافه لا يجوز العمل بالعامّ.

واما لزوم إيجاد المخصص ، فهذا مما لم يثبت من بنائهم وما نحن فيه كذلك ، لأن الأخذ بالدليل محقق لحجيته فيكون مخصصا ، وبدونه لا يكون حجة ، ولا دليل على لزوم إيجاد الحجة على التخصيص ، وانما الثابت هو لزوم الفحص عما هو حجة على التخصيص ، فانتبه.

واما الصورة الثانية ، فهي مما نلتزم فيها بلزوم الأخذ بأحد الدليلين لمن لا يريد الاحتياط ، بل يريد الاقتصار على بعض المحتملات ، إذ لا بد في تعيينه أحد المحتملات من استناده إلى حجة تستلزم انحلال العلم الإجمالي حكما ، فيلزمه الأخذ بأحد الدليلين.

ولكن لا يمكن الاستناد إلى هذا البيان في باب التقليد إذا دار امر المجتهدين بين التعيين والتخيير ، والحكم بلزوم تقليد محتمل التعيين ، كما لو كان أحدهما أورع واحتمل تعين تقليده ، وذلك بأن يقال ان المكلّف قبل تقليده يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة ، فلا بد في الخروج عن عهدتها ـ مع عدم الاحتياط ـ من الاستناد في عمله إلى حجة ، فيلزمه الأخذ بفتوى أحد المجتهدين ، ويتعين عليه قول محتمل الترجيح للجزم بحجيته على تقدير الأخذ به بخلاف قول الآخر.

والسر في عدم صحة هذا القول ، هو : ان الدوران المزبور بين القولين انما هو في موارد الاختلاف. اما مع الاتفاق ، فلا تعارض كي يدور الأمر بينهما فيكون كل منهما حجة.

وبما ان موارد الاتفاق كثيرة بحد ينحل العلم الإجمالي بها ، ففي مورد الاختلاف لا يكون هناك علم إجمالي ، بل ليس إلاّ احتمال التكليف احتمالا بدويا ، فيكون المورد من موارد الصورة الثالثة.

وقد يدعي فيها عدم جريان البراءة للزوم الفحص عن الحجة ، ومع إمكان تحصيلها ـ كما في المقام بواسطة الأخذ بأحدهما ـ لا يمكن التمسك بالبراءة العقلية.

ولكن هذا الكلام ممنوع ، بأن اللازم هو الفحص عن الحجة المحتملة الوجود لا إيجاد الحجة ، وما نحن فيه من الثاني لا الأول ، كما عرفت في الصورة الأولى ، فما نحن فيه نظير وعظ الراوي الفاسق ليصير عادلا فيصير خبره حجة ، فانه مما لا يتوهم انه واجب من باب لزوم تحصيل الحجة. اذن فقبل الأخذ بأحدهما لا حجة شرعا على التكليف لعدم الجزم بالتعيين ، فيكون المورد من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

٤٠٠