منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

.........................................

__________________

الخاصّ الآخر.

وعليه ، فلا بد من تقديم الخاصّ في مقام العلاج ، لأنه بوجوده يتصرف في ظهور العام ويوجب قلب النسبة بدلالته الالتزامية ، فيكون المورد من قبيل تقديم الوارد على المورود ، فالتخصيص رافع لموضوع التساقط ، لكن التساقط لا يرفع موضوع التخصيص لأنه لا يوجب الانقلاب.

واما صورة كون أحد الخاصّين قطعيا ، فالانقلاب أيضا متعين ، لأنه مع القطع بخروج بعض الافراد ، لا مجال لجريان أصالة العموم في العام ، فيعلم ان مورد العموم غير الخاصّ ، فتكون النسبة بين العام والخاصّ الآخر هي العموم من وجه. ولا مجال لدعوى تقديم الخاصّ الآخر ، للعلم بخروج الخاصّ القطعي ، سواء قدم الخاصّ الآخر ، أو لوحظ في عرض واحد ، أو لا؟ فلاحظ.

واما صورة الخاصّ الأخص ، فلا وجه لتقديمه أولا بدعوى العلم بخروجه على كل تقدير ، لأن أحد تقديري العلم هو التخصيص بالأعم ، بل يخصص العام بهما معا ، فلاحظ.

هذا تقريب الانقلاب على المختار.

واما على مختار صاحب الكفاية ، فالامر كذلك ، لأنه بعد ملاحظة الدلالة الالتزامية للخاص يكون وروده موجبا خصوصية العام المخصص في غير مورده ، فيكون أظهر في الجمع من العام الآخر ، وكذلك على مختار القرينية ، فلاحظ.

هذا تحقيق الكلام.

واما كلمات الاعلام ففيها كلام.

اما مطلب صاحب الكفاية ، فيرده : ان أساس تقديم العام المخصص على العام الآخر لم يكن على انقلاب الظهور وتبدله وعدمه ، بل على نصوصية في المجمع بملاحظة الدلالة الالتزامية للخاص ، سواء بقي على ظهوره في العموم أو لم يبق ، فهو كما عرفت نظير العام الّذي يكون مورد الاجتماع موردا له ، فانه لا يخرج عن ظهوره في العموم بذلك ، ولكنه يقدم على العام الآخر ، فكأنه قدس‌سره لاحظ لفظ : « انقلاب النسبة » وناقش ذلك على هذا الأساس ، والحال انه لا وجه لذلك ، بعد عدم ورود هذا التعبير في لسان دليل.

واما مطلب النائيني ، فقد حققنا رده في المتن بنحو التفصيل ، والعمدة ان موضوع النسبة ليس هو الظهور الحجة ، بل الظهور بنفسه الّذي له مقتضى الحجية ، وان لم يكن حجة فعلا للمعارضة أو لغيره.

واما كلام الشيخ ، فهو لا يخلو عن إجمال.

٣٦١

.........................................

__________________

هذا ، ولكن الّذي يبدو لنا ان هذا المبحث لا نفع فيه كثير كما كنا نتخيل سابقا ، إذ في هذه الصورة لا بد من الالتزام بنتيجة انقلاب النسبة ، سواء قلنا به أم لم نقل به ، وذلك.

اما في صورة العامين من وجه وتخصيص أحدهما المخصص ، فلا بد من تقديم العام المخصص ، اما للانقلاب ، واما لعدم المورد له واستلزامه لغويته ، كما أشار إليه الشيخ.

واما في صورة المخصصين اللذين أحدهما قطعي ، فلا بد من تقديم الخاصّ الآخر على العام لعدم الانقلاب.

واما لأن تقديم العام في المجمع يستلزم لغوية الخاصّ الآخر وعدم ثبوت الحكم لعنوانه مع انه نصّ فيه ، فمثلا لو ورد : « أكرم العالم » وورد : « لا تكرم النحويين » وكان قطعيا ، وورد : « لا تكرم العالم النجفي » ، ففي الفقيه النجفي يتعارض الخاصّ مع العام. فان قدم العام واقتصر في التخصيص على النجفي النحوي بقي الخاصّ الآخر ، ولم يبق مورد بعنوانه.

واما في صورة الخاصّ الأخص ، فلو قدم الخاصّ الأخص ، فلا بد من تقديم الخاصّ الآخر الأعم اما لعدم الانقلاب واما لاستلزامه اللغوية أيضا كما تقدم ، وقس على هذا البيان سائر الصور ، فلاحظ جيدا.

يقع الكلام في نصوص ضمان العارية واختلافها ، وتحقيق الحال فيها :

اما نصوص الاشتراط ، فالاستثناء فيها أشبه بالمنقطع ، بناء على ما تقرر في محله من الجمع بين أدلة الشروط وأدلة الأحكام الأولية بحملها على ثبوت الحكم في نفسه ، فدليل نفي الضمان راجع إلى بيان عدم الاقتضاء في العارية بما هي ، ودليل الثبوت مع الشرط راجع إلى بيان الاقتضاء بلحاظ الشرط ، ولا منافاة أصلا بين الحكمين. ولو سلم انه من التخصيص ، فلا ينافي سائر الروايات ، لأنها واردة مورد الشرط وعدمه كما أشير إلى ذلك في المتن.

واما نصوص الدرهم والدينار ، فهي :

أولا : غير ظاهرة في خصوصية الدرهم والدينار بما هما ، بل بلحاظ جهة جامعة ، كما يقال : « ان فلانا يحب الدينار » فانه لا ظهور له في انه يحبه لنفسه ، بل بما هو نقد أو غير ذلك.

وثانيا : ان خصوصيتها ملغاة بمقتضى ما تقرر من ان ترتيب الحكم الواحد على موارد متعددة يكشف عن إلغاء الخصوصية ، كما في دم الطير والأرنب ونحو ذلك. وعليه فلا بد من ملاحظة الجهة الجامعة ، وهي مرددة بين أمور ، فتكون مجملة ، ولكن روايات الذهب تبين الجامع ، ولا أقل من ارتفاع التنافي فيها.

وثالثا : انه لا عقد سلبي للروايات المزبورة مطلقا ، لأنها في مقام بيان ان عدم الضمان ينتفي في هذه الموارد ، لا انها في مقام نفي الضمان مطلقا وثبوته هنا ، فلا دلالة لها على الحصر حينئذ ،

٣٦٢

.........................................

__________________

ومقتضى ذلك ثبوت الضمان في جميع هذه المذكورات لعدم التنافي.

ولو سلم التنافي بملاحظة وجود العقد السلبي وغض النّظر عما ذكرناه ، فيقع التعارض بين العقد السلبي لكل منها والعقد الإيجابي للآخر ، لكن روايات الدرهم والدينار تقيد إحداهما الأخرى.

واما النسبة بينها وبين روايات الذهب والفضة ، فهي العموم من وجه.

وقد يقال : بتقديم العقد السلبي ، لأن دلالته بالعموم والعقد الإيجابي دلالته بالإطلاق. ولكن لو سلم كبرى هذا المطلب فهي هنا غير مسلمة ، لأن تقديم العام هاهنا يقتضي إلقاء المطلق بالمرة أو تخصيصه بالفرد النادر جدا وهو مستهجن. هذا مع عدم العموم لتقييد كل منهما بالآخر في الدينار والدرهم ، مما يكشف عن عدم إرادة العموم قطعا.

ثم انه لو تحقق التعارض ، فقد يقال بالرجوع إلى العموم الفوقاني الدال على عدم الضمان ، ولكن ذلك يشكل : بأنه يبتني على عدم انقلاب النسبة ، وإلاّ فالعموم الفوقاني يتضيق أيضا لتقيده جزما بروايات الدرهم والدينار ، فيكون حاله حال العقد السلبي في تلك الروايات ، ومن هنا يعلم ارتباط هذا الفرع بمسألة انقلاب النسبة ، فلاحظ.

نعم ، يتعرض لصورة تعارض العام مع الخاصّين المستغرقين وكيفية معالجة التعارض ، كما يتعرض لصورة تعارض أحد العامين من وجه مع العام الآخر والخاصّ المخصص له.

واما شمول الاخبار العلاجية للعامين من وجه ، فعلى القول بتعدد التعبد في المقامات الثلاثة ـ كما أشير إليه في المتن ، وهو المذهب الصحيح ـ فلا وجه للقول بالشمول ، لأن الاخبار العلاجية تتكفل الترجيح من جانب الصدور ، وواردة في مورد لا يمكن البناء على صدور الخبرين معا ، ففي المورد الممكن التزام صدورهما لا إشكال حينئذ.

وما نحن فيه كذلك ، لإمكان الالتزام بصدورهما والتساقط في الدلالة وحجية الظهور في بعض المدلول.

نعم ، في المورد الّذي يكون التساقط في جميع المدلول تسري المعارضة للصدور ، إذ لا معنى للتعبد بصدور ما لا يؤخذ به أصلا ، فيقع التعارض في أدلة اعتبار السند.

وقد يقال : بان الخبر العام منحل إلى اخبار متعددة بتعدد الافراد ، فالخبر بمورد الاجتماع غير الخبر بمورد الافتراق ، فيكون التعارض بين الخبرين الضمنيين ، ونتيجته الترجيح أو التخيير في أحدهما.

والجواب : ان الخبر الضمني في المقام خبر تحليلي لا خبر عرفي ، وإلاّ فالحكاية أو الإنشاء واحد لا يقبل التعدد ، وانما التعدد في مقام التطبيق والفعلية. وتوضيح ذلك.

٣٦٣

.........................................

__________________

أولا : ان التعارض في النقلين وهما ينقلان قول المعصوم وهو واحد لا متعدد ، والانحلال على تقدير في المنقول لا في النقل.

وثانيا : ان الانحلال المتعقل انما هو في القضايا الخارجية ، كبيع الصفقة ، والاخبار بفسق هؤلاء ، ونحو ذلك ، فيكذب من جهة دون أخرى. ولا يتعقل في القضايا الحقيقية ، فلو قال : « السم قاتل » وتخلف ذلك في بعض الافراد لم يكن الا كاذبا لا صادقا وكاذبا ، وذلك لأن القضية الحقيقية اخبار بالملازمة بين المحمول والموضوع بلا نظر إلى وجود الموضوع خارجا والانحلال في مقام التطبيق. والأحكام الشرعية كلها منشأة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، فلاحظ.

واما على القول بوحدة التعبد في المقامات الثلاثة ، وان مرجع التعبد بالصدور إلى التعبد ، بالمضمون أيضا ، فقد يتصور سراية التعارض الدلالي إلى التعارض السندي ، لعدم إمكان الجمع بين التعبدين بصدورهما معا.

ولكنه مبنى فاسد أولا.

وثانيا : لا تساعده اخبار العلاج إثباتا ، موضوع التعارض المطلق ومن جميع الجهات لا من جهة دون أخرى ، فلاحظ.

واما ما أفاده السيد الخوئي في المقام ، فالكلام معه في جهات : في تحديده محل الكلام. وفي تفصيله بين العام والمطلق. فان غاية تقريبه : ان الإطلاق حيث انه بمقدمات الحكمة ، وهي تجري من قبل المكلف نفسه والسامع للخبر ، فمع تضاد الحكمين يعلم إجمالا بعدم كونه في مقام البيان في أحد الإطلاقين ، فلا تتم مقدمات الحكمة في أحدهما ، فلا ينعقد لأحدهما ظهور كي تتحقق المعارضة ، بخلاف العموم فان دلالته وضعية.

والإشكال عليه : بأن مجرى المقدمات هو المراد الاستعمالي لا الجدي ، وهو غير معلوم العدم في أحدهما.

يمكن ردّه : بأن بيان المراد الاستعمالي بنحو الإطلاق مع عدم كونه مرادا جدا ، انما يقرب على أساس كون الإطلاق يكون قاعدة ظاهرية يرجع إليها عند الشك ما لم يثبت التقييد ، ومثل هذا مفقود فيما نحن فيه ، لأنه بعد ورود الإطلاق الأول ، فلا محصل لإرادة القاعدة الظاهرية من الإطلاق الثاني ، فكيف بين الإطلاق استعمالا ولا يراد جدا؟ فانه لغو محض. اذن فالتفكيك موجود بين العام والمطلق بما بيناه.

ولكن هذا لو تم لأشكل الأمر في مطلق التعارض ، إذ التعارض يتوقف على تمامية مقتضى الحجية في كل الدليلين في نفسه ، فقد يقال : ان الظهور انما يكون حجة إذا لم يكن له معارض ، فعدم المعارض أخذ في موضوع الحجية. وعليه فكل من المتعارضين ساقط عن الحجية ، فلا

٣٦٤

ثم انه على القول بانقلاب الظهور بالتخصيص وانقلاب النسبة ، لا بد من التكلم في انه هل يلزم الترتيب في العلاج بحيث تنقلب النسبة بينه وبين الطرف الآخر غير الملحوظ ابتداء أو لا؟

والتحقيق : انه لا بد من التفصيل بين صورتي ما إذا ورد عام وورد خاصان ينافيانه. وما إذا كان هناك عامان وخاص ينافي أحدهما.

ففي الصورة الأولى لا وجه للالتزام بالترتيب وتقديم أحد الخاصّين ثم ملاحظة العام والخاصّ الآخر ، لأن تقديم أحدهما بخصوصه ترجيح بلا مرجح ، فلا بد من الالتزام بتخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة.

نعم ، يستثنى من ذلك صورة ما إذا كان أحد الخاصّين قطعيا والآخر ظنيا ، فانه يقدم الخاصّ القطعي على الظني ، ثم تلاحظ النسبة بين العام والخاصّ الظني.

والوجه في ذلك : ان الدليل الخاصّ الظني انما يتقدم على العام ببناء العقلاء لكونه صالحا للبيانية ، وهذا إنما يتم بعد فرض انعقاد ظهور العام في العموم ، ومع وجود الدليل القطعي على عدم إرادة بعض الافراد تتضيق دائرة العام تكوينا للعلم بعدم كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة ، فتنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ الظني قهرا.

وهذا بخلاف الخاصّ القطعي ، فان تقدمه على العام لا يتوقف على بناء العقلاء ، وظهور العام في العموم ليقينيته ، فهو متقدم عليه سواء خصص العام بذلك الخاصّ أم لم يخصص. وبعبارة أخرى : تقدمه عليه ليس من باب التخصيص كي تكون ملاحظته ابتداء من الترجيح بلا مرجح ، بل للعلم به وبعدم إرادة العموم.

وبالجملة : تقدم الخاصّ الظني على العلم وصلاحيته للبيانية انما يفرض عند ثبوت العموم ، ومع العلم بعدم ثبوته وانه لم يكن في مقام البيان من بعض الجهات لا

__________________

ـ تعارض أصلا لعدم حجية الظهور في كل منهما ، فيكونان كالمجملين ، فلا فرق فيما ذكره بين العامين من وجه وبين المتباينين ، فتدبر.

٣٦٥

مجال لتقدمه على العام لانقلاب النسبة إلى العموم من وجه.

واما الصورة الثانية ـ نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم فساقهم » ثم ورد : « يستحب إكرام العدول » ـ فلا يخلو الحال فيها من إحدى ثلاث :

الأولى : ان يكون العام المخالف للخاص أظهر من العام غير المخالف له.

الثانية : ان يكون العام غير المخالف أظهر من العام المخالف.

الثالثة : ان يكونا متساوي الظهور.

ففي الحال الأولى : لا ثمرة عملية للكلام في صحة تقديم الخاصّ ثم مراعاة النسبة بين العامين ، لأن العام المخالف للخاص يتقدم على العام الآخر سواء قلنا بتقديم الخاصّ وانقلاب النسبة أو لم نقل ، لأظهريته.

واما في الحال الثانية : فالثمرة العملية موجودة ، لأنه إذا قدم الخاصّ وصارت نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاصّ إلى العام ، كان أظهر منه فيتقدم عليه ، بخلاف ما إذا لم يقدم ، فان العام الآخر يقدم عليه في الجمع لأنه أظهر فيه منه.

وعليه ، فللكلام في لزوم تقديم الخاصّ في مقام العلاج أو عدم لزومه مجال.

والتحقيق : انه ..

ان قلنا بأن تقدم الخاصّ على العام ليس من جهة الأظهرية ، بل من جهة كون عدمه مأخوذا في موضوع أصالة العموم ، فيكون عدمه جزء المقتضي ويتقدم عليه مطلقا ولو لم يكن بأظهر ، ويكون وجود الأظهر غير الخاصّ من قبيل وجود المانع ـ ان قلنا بهذا ـ كان الوجه ملاحظة الخاصّ ابتداء ، إذ ملاحظة المقتضي بشئونه أسبق من ملاحظة عدم المانع وباقي اجزاء العلة.

وعليه ، فلا وجه لملاحظة العام الآخر قبل لحاظ الخاصّ أو معه لأن نسبته إلى العام المخالف للخاص نسبة المانع ، ولا وجه لملاحظته قبل تمامية مقتضية ولحاظ حده ، فلا بد من ملاحظة الخاصّ أولا ثم يلاحظ العام الآخر.

واما ان قلنا ـ كما هو الحق ـ بأن تقدم الخاصّ للأظهرية ، فلا يتجه تقديم

٣٦٦

لحاظه على لحاظ العام الآخر ، بل الوجه انهما يلحظان معا ويخصص بهما العام لتساويهما في مقام المعارضة بالنسبة إلى العام ، فلاحظ.

واما في الحال الثالثة : فقد يقال بلزوم ملاحظة الخاصّ أولا ثم ملاحظة العام المخصص مع العام الآخر.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه : ان المعارضة بين الطرفين انما تتحقق بعد فرض تمامية موضوع الحجية ومقتضيها في كلا الطرفين. ولما كان تقدم الخاصّ وملاحظته ابتداء موجبا للتصرف في موضوع المعارضة ظهورا أو حجية أو كشفا ـ على الخلاف ـ بحيث تنقلب النسبة بين العامين بملاحظته. بخلاف تقدم العام ، فانه ليس من باب التصرف ولا يوجبه ، بل العام المطروح يبقى على ما هو عليه من الحجية والظهور في المجمع ولو لم تكن حجيته فعلية ، فلم توجب ملاحظته انقلاب النسبة بين العام والخاصّ إلى التباين أو غيره. لما كان الأمر كذلك كانت نسبة ملاحظة الخاصّ إلى معارضة العام الآخر نسبة الوارد والمورود ، لأن ملاحظته ابتداء ترفع موضوع المعارضة فيتقدم عليه قهرا بملاك تقدم الوارد على المورود.

ولكن هذا الوجه وان كان تاما في نفسه إلاّ انه لا يجدي فيما نحن فيه ، لأن مثل هذا الوجه انما يجدي في مورد يكون فيه الدليل ثابتا في مقام الإثبات بحيث يكفي الوجه في رفع بعض المحاذير التي تذكر ، نظير الترتب المجدي في رفع استحالة اجتماع الحكمين ، فان تصوره في مقام الثبوت مساوق لتحققه إثباتا ، لتمامية الدليل في مرحلة الإثبات. امّا في ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، لأن تقدم الدليل الخاصّ وملاحظته أولا في مقام المعارضة ليس أمرا مفروضا عنه إثباتا ، والكلام في وجهه الثبوتي. بل هو محل الإشكال. فلا يجدي ما ذكر من ان ملاحظة الدليل أولا رافعة لموضوع المعارضة بين العامين ، لأنه وان كان كما ذكر ، إلاّ ان الملاحظة الابتدائية للخاص هي محل الإشكال والكلام ولا دليل عليها.

وليس هذا نظير الوارد والمورود ، فان الوارد بمدلوله رافع لموضوع الدليل

٣٦٧

الآخر ، وحيث انه موضوع الحجية فيتقدم لثبوت مقتضية وعدم المانع. وفي المقام ليس المدلول كذلك ، بل البناء عليه والأخذ به وملاحظته أولا كذلك ، وهي لا دليل عليها ولم يثبت مقتضيها.

هذا ، ولكن الإنصاف ثبوت الدعوى المذكورة ، وذلك لأن انقلاب النسبة ..

ان قرب بدعوى : ان المخصص بوروده يتصرف في ظهور العام ويقبله عما كان عليه ، كانت مرتبة الخاصّ فيما نحن فيه أسبق من مرتبة العام المعارض ، فانه في مرتبة المقتضي لأنه مانع عن ثبوته ، والعام المعارض في مرتبة المانع ، لأنه مانع عن تأثير المقتضي لا عن ثبوته ، إذ هو لا يتصرف في الظهور الّذي يكون موضوعا لأصالة العموم. وعليه فلا بد من ملاحظة الخاصّ أولا إذ لا وجه لملاحظة أحد العامين مع الآخر قبل تمامية المقتضي في أحدهما وثبوت عمومه ـ كما عرفت قبل قليل ـ

وان قرب انقلاب النسبة : بأن موضوع المعارضة ما كان موضوع الحجية من الأدلة ، أو بان المعارضة بلحاظ الكشف النوعيّ ، فمعارضة أحد العامين للآخر لا تثبت الا بعد فرض تمامية حجيتهما أو كشفهما في مدلولهما ، ومع وجود المخصص لأحدهما تتضيق حجيته أو كشفه قهرا ، فلا يكون معارضا للعام الآخر ، بل يكون مخصصا.

وبالجملة : تحقق المعارضة بين الدليلين لا يتم إلاّ بتمامية ما به التعارض في كلا الدليلين ، وثبوت الخاصّ يضيق ما به التعارض في أحدهما ، فتنقلب النسبة قهرا.

هذا تمام الكلام في مرحلة ثبوت المسألة.

ويقع الكلام بعد ذلك في تحقيق صور المسألة وبيان حكمها من انقلاب النسبة ـ على القول به ـ وعدمه. وغير ذلك مما ينبغي تحقيقه ، وهي متعددة.

الصورة الأولى : ما إذا ورد عام وخاصان. وهي تتفرع إلى فروع.

الأول : ان يكون الخاصان متباينين.

٣٦٨

الثاني : ان يكون بين الخاصّين عموم من وجه.

الثالث : ان يكون بينهما عموم مطلق.

اما الفرع الأول : فان لم يلزم من تخصيص العام بكلا الخاصّين محذور الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقاؤه بلا مورد ـ نظير : « أكرم العلماء » و : « لا تكرم النحويين ، ولا تكرم الأصوليين » ـ فلا إشكال في تخصيص العام بهما دفعة واحدة ، إذ لا وجه لملاحظة أحدهما ابتداء ، فانه ترجيح بلا مرجح كما عرفت آنفا.

واما ان لزم من تخصيصه بهما المحذور ـ نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام العدول منهم » ، فلا يخصص العام بهما ، بل يقع التعارض بينهما وبين العام وتكون نسبتهما إليه نسبة التباين.

وقد ذكر لهذا النحو أحوال ستة :

الأول : ان يكون الخاصان أرجح من العام.

الثاني : ان يكون العام أرجح منهما.

الثالث : ان يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

الرابع : ان يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للآخر.

الخامس : ان يكون مساويا لأحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

السادس : ان يكون مساويا لهما.

اما في الحال الأول ، فلا إشكال في تقدم الخاصّين وطرح العام من رأس.

واما في الثاني ، فلا إشكال أيضا في الأخذ بالعامّ. وانما الإشكال في انه هل يطرح كلا الخاصّين ، أو لا يطرح إلاّ أحدهما ، فيقع التعارض العرضي بينهما ويقدم الراجح منهما ، أو يتخير بينهما ويخصص به العام؟

وقد اختار صاحب الكفاية الثاني (١) ، ووافقه الاعلام من بعده.

ومركز الخلاف يرجع إلى ان طرف المعارضة هل هو مجموع الخاصّين فلا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٥٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٩

يطرح إلاّ أحدهما ، أو جميعهما فيطرحان معا؟

ولا بد من توضيح الحال ببيان الفرق بين الجميع والمجموع ، مع غض النّظر عن نفس التعبير ، إذ لا يخلو التعبير بهما عن غموض.

فنقول : ان طرف المعارضة تارة يؤخذ ذات الدليلين ، وأخرى يؤخذ وصف اجتماعهما وانضمامهما.

والمراد بالمجموع هو هذا المعنى ، يعني ان المأخوذ في طرف المعارضة وصف الاجتماع فلا يستلزم تقديم العام الا إلغاء هذا الوصف ، وهو لا يقتضي إلاّ طرح أحدهما لا كليهما. والمراد بالجميع هو المعنى الأول.

والالتزام بأن طرف المعارضة هو المجموع بهذا المعنى الّذي عرفته غير وجيه لوجهين :

الأول : ان طرف المعارضة لا بد وان يكون دليلا فيه جهة الدلالة والحجية ، كي تكون معارضته للدليل الآخر من إحدى الجهتين. وليس وصف الاجتماع دليلا أخذ موضوعا للحجية ويشتمل على جهة الدلالة ، فلا يصلح لأن يكون طرف المعارضة.

الثاني : لو سلم إمكان كونه طرف المعارضة ـ بالتنزل عن اعتبار جهة الدلالة أو الدليليّة في المعارض ـ فليس هذا النحو من المعارضة مشمولا للاخبار العلاجية المتضمنة لتقديم الراجح وطرح المرجوح ، إذ معنى الطرح جعل المانع من حجية أحد الطرفين ، وقد عرفت ان وصف الاجتماع لم يؤخذ في موضوع الحجية كي يكون قابلا للطرح والأخذ.

وعليه ، فالمتعين ان يكون طرف المعارضة هو ذات الدليلين ، بمعنى ان يكون كل منهما معارضا للعام في ظرف انضمام الآخر إليه ، نظير وجوب المركبات ، فان الواجب هو كل واحد من الاجزاء ، لكن عند انضمام الآخر إليه لا مجموعها ولا كل واحد بنفسه ، ومعروض الوجوب هو نفس الجزء لا بقيد الانضمام ، بل عند الانضمام.

٣٧٠

ثم انه لو قيل بإمكان التبعيض في حجية العام ، بمعنى إمكان كون العام حجة في بعض مدلوله دون الآخر في بعض موارد المعارضة ـ كما ستأتي الإشارة إليه ـ ففي المقام تتشكل حينئذ معارضتان متعددة الأطراف ، إذ كل من الخاصّين يعارض ما ينافيه من مدلول العام وظهوره في مقام الحجية.

ومع فرض أرجحية العام من الخاصّين يطرح الخاصان معا ، لأرجحية كل قسم من العام من الخاصّ المعارض له ، فتقدم العام مع رجحانه على هذا القول واضح لا غبار عليه.

واما على القول بعدم إمكان التبعيض وان مصب الحجية في العام واحد لا يتبعض ، فطرف المعارضة مع كلا الخاصّين هو مجموع العام ، فالعام معارض لكل من الخاصّين في حال انضمام الآخر إليه ، ففي المقام معارضتان إلاّ ان أحد الطرفين فيهما واحد وهو العام ـ نظير ما لو كان هناك ثلاث أوان شرقي وغربي ووسط ، ووقعت في حين واحد نجاستان ترددت إحداهما بين الإناء الوسط والغربي ، والأخرى بين الإناء الوسط والشرقي ، فان أحد الطرفين في العلمين الإجماليين واحد وهو الإناء الوسط ، ويكون الأصل فيه معارضا لكل من الأصلين في الطرفين الآخرين ، لو قيل بالمعارضة بين الأصول في أطراف العلم الإجمالي ـ ففي فرض أرجحيته من كلا الخاصّين يتقدم عليهما في المعارضتين لرجحانه عليهما ويطرحان معا.

ويمكن ان يقال : انهما معا يكونان طرف المعارضة لأنهما بمنزلة دليل واحد ، فلا تكون الا معارضة واحدة طرفاها العام وكلا الخاصّين ، يتقدم عليهما العام في فرض رجحانه ويسقطان معا ، لأنهما بمنزلة دليل واحد وظهور واحد ، كما يسقط الدليل الواحد بمعارضة ما هو أرجح منه ، فكذلك الخاصان.

والمحصل : انه إذا كان طرف المعارضة ذات الدليلين يسقطان معا عند أرجحية العام منهما.

٣٧١

ولا وجه لما ذكره السيد الخوئي ـ كما في مصباح الأصول ـ من : انه بعد ان كان العلم الإجمالي متعلقا بكذب أحد الأدلة الثلاثة ، فلا وجه لطرح كلا الخاصّين عند تقديم العام ، إذ بعد تقديمه لا يعلم إلاّ بكذب أحدهما فيحصل التعارض عرضا بينهما ، وتجري فيهما أحكام المعارضة من ترجيح أو تغيير.

وذلك لأن مجرد العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يجدي في تحقيق المعارضة (١) بين الدليلين ، بل لا بد من انضمام امر آخر إليه ، وهو اشتمال كل من الدليلين على مقتضى الحجية وقابليتهما لها ، بحيث تكون حجيتهما فعلية لو لا المعارضة العرضية الحاصلة بالعلم الإجمالي بكذب أحدهما ، فالعلم الإجمالي بنفسه كاحتمال المصادفة للواقع ، فكما ان احتمال مصادفة الخبر للواقع لا يكون بنفسه مناطا لشمول دليل الحجية للخبر ما لم يكن في الخبر اقتضاء للحجية ، كذلك العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين لا يكون بنفسه مناطا للمعارضة بين الدليلين ما لم يكن في الدليلين اقتضاء الحجية.

وهذا غير موجود فيما نحن فيه ، إذ بعد ترجيح العام وتقدمه يلزم طرح الخاصّين كلاهما ، لأنهما طرفا المعارضة ـ كما عرفت ـ ومعنى الطرح جعل المانع عن حجية كل منهما بتقديم الطرف الآخر ، فالعلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يوجب تشكيل معارضة أخرى عرضية بينهما ، لكون حجية كل منهما مقرونة بالمانع من غير جهة المعارضة.

نعم ، لو كان طرف المعارضة وصف الاجتماع ، كان ما ذكر في محله ، لأن المطروح هو وصف الاجتماع من دون تعرض لنفس الدليلين ، وهما في أنفسهما حاويان لمقتضى الحجية. لكنك عرفت بطلان هذا الالتزام ، فلاحظ.

واما لو تساوى العام والخاصان ، فيختلف الحال على القولين : القول بإمكان التبعيض في حجية العام. والقول بعدمه.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٢

فعلى الأوّل : فحيث قد عرفت انه تتشكل معارضتان طرف كل منهما أحد قسمي العام والخاصّ المنافي له.

فله الأخذ ـ في هذا الفرض ـ بطرف العام ـ أي ببعضه ـ في إحدى المعارضتين ، وبالخاص في الأخرى ، لأنه مخير مع التساوي في الأخذ بأي طرف من المعارضة.

وعلى الثاني : فالمعارضة وان كانت متعددة ، إلاّ ان أحد الطرفين فيها واحد وهو مجموع العام ، فيتعين اما الأخذ بالعامّ بمجموعه وطرح الخاصّين معا ، أو الأخذ بالخاصين وطرح العام ـ واما على الاحتمال الآخر من ان المعارضة واحدة طرفها كلا الخاصّين والعام ، فالتخيير المذكور بين أخذ العام وطرح الخاصّين وأخذ الخاصّين وطرح العام يكون واضحا جدا ـ

واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للآخر.

فعلى القول بإمكان التبعيض وتعدد المعارضة وطرفاها ، فالحكم واضح ، إذ يؤخذ بالشق الراجح من العام ويتخير في الشق الآخر المساوي للخاص الآخر بين الأخذ به وطرح الخاصّ المقابل له ، وطرحه والعمل بالخاص.

واما على القول بعدم إمكانه ، فقد يقال : بأنه بعد ان كان العام راجحا من أحد الخاصّين ، فيمكن ان يطرح الخاصّ المرجوح بالاخذ بالعامّ ثم يتخير في المعارضة الأخرى بين العام والخاصّ الآخر المساوي ، فله طرح العام والأخذ بالخاص وبالعكس. وبذلك قد تكون النتيجة هي العمل بأحد الخاصّين فقط.

ولكن هذا القول غير وجيه ، لأن تقديم العام على الخاصّ المرجوح انما يصح بعد فرض حجيته الفعلية التعيينية ، ومع وجود المعارض الآخر للعام لا يصلح العام لإلغاء الخاصّ المرجوح ما لم يؤخذ به ، ويتعين في الأخذ دون الخاصّ المساوي. وعليه فمع الأخذ به يطرح الخاصّ المرجوح. واما مع طرحه والعمل بمعارضة الخاصّ المساوي ، فيبقى المرجوح بلا معارض فيعمل به.

٣٧٣

ونتيجة ذلك : انه اما ان يؤخذ بالعامّ ويطرح كلا الخاصّين ، أو يؤخذ بالخاصين ويطرح العام ، فتدبر.

واما على الاحتمال الآخر من وحدة المعارضة بكون طرف المعارضة مع العام هو كلا الخاصّين ، فيشكل شمول الاخبار العلاجية لمثل الفرض مما يتفاوت فيه سند الخاصّين من جهة الرجحان ، إذ الظاهر منها كون موضوعها معارضة الدليلين بنحو يكون لكل منهما سند واحد فيلاحظ الأرجح منهما.

وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، لتعدد السند واختلافه ، فليس هناك سند واحد للدليلين الخاصّين يلاحظ الترجيح بينه وبين سند العام.

فالمتعين هو الرجوع إلى القاعدة الأولية ، وهي التساقط كما عرفت.

اللهم إلاّ ان يقال ـ توسعا في الخيال ـ ان الظاهر من أدلة العلاج كون المرجحات المذكورة انما هي لترجيح مضمون أحد المتعارضين على الآخر بلا اعتبار وحدة السند ولا نظر إليها ، بمعنى ان طرف المعارضة إذا اشتمل على بعض هذه المرجحات دون الطرف الآخر فقدم عليه وطرح الآخر.

وعليه ، ففي المقام يلاحظ سند مجموع الخاصّين يحصل الكسر والانكسار بين سنديهما ، ثم يلاحظ بالنسبة إلى سند العام ، والمتعين هو العام لأرجحية سنده من سند الخاصّين.

واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

فعلى الالتزام بإمكان التبعيض ونتيجته ، فالحكم ظاهر ، إذ اللازم الأخذ بالقسم الراجح من العام وطرح الخاصّ المقابل له وطرح القسم المرجوح منه والعمل بالخاص منه المعارض له.

واما على الالتزام بعدم إمكانه وتعدد المعارضة ولكن أحد الطرفين فيهما واحد وهو العام ، فالعام لا يصلح لأن يكون مانعا عن الخاصّ المرجوح في معارضته له ، لأنه انما يصلح ان يكون كذلك بعد فرض تعينه وعدم وجود ما يصلح

٣٧٤

لمانعية حجيته ، ومع فرض وجود الخاصّ الأرجح يسقط العام عن الحجية لاقتران مقتضيها بالمانع ، فيبقى الخاصّ المرجوح بلا مانع. ونتيجة ذلك هو تعين الأخذ بالخاصين.

واما على الاحتمال الآخر وإمكان كون المقام مشمولا للاخبار العلاجية ـ بالتقريب الّذي عرفته ـ فالحكم هو التخيير لحصول التساوي بين سند العام وسند الخاصّين بعد الكسر والانكسار ، فيتخير بين الأخذ بالعامّ وطرح الخاصّين ، والأخذ بهما وطرح العام.

واما لو كان العام مرجوحا بالنسبة لأحدهما مساويا للآخر.

فالحكم على القول بتعدد المعارضة وتعدد طرفيهما ـ كما هو الحال على القول بإمكان التبعيض في حجية العام ـ واضح أيضا ، إذ يؤخذ بالخاص الراجح على معارضه من قسمي العام ، ويتخير في المعارضة الأخرى بين الأخذ بالعامّ ـ أعني : ببعضه المعارض للخاص المساوي ـ والأخذ بالخاص.

واما على القول الآخر ـ أعني : تعدد المعارضة واتحاد أحد طرفيها ـ فالمتعين هو الأخذ بالخاصين ، إذ العام مع وجود الخاصّ الأرجح لا يصلح لمعارضة الخاصّ المساوي ومانعيته عنه لاحتفاف حجيته بالمانع ، فهو مطروح بلا إشكال ، فيؤخذ بالخاص المساوي مع تعين الأخذ بالخاص الراجح ، وبذلك تكون النتيجة هي الأخذ بالخاصين وطرح العام.

واما على الاحتمال الأخير الّذي عرفت تقريبه ، فالمتعين هو الأخذ بالخاصين أيضا ، لأرجحية سندهما بعد الكسر والانكسار من سند العام فيطرح ، فلاحظ وتدبر.

يبقى الكلام فيما أفاده السيد الخوئي من : ان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصّين فقط ، بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة والآخرين ، إذ العلم الإجمالي انما هو بكذب أحدها فقط ، ولذلك فما ذكره لهذا الفرض من أحكام بحسب صوره

٣٧٥

الستة جار في مطلق موارد التعارض بين أكثر من دليلين مما كان العلم الإجمالي متعلقا بكذب أحدها ، كما لو قام الدليل على وجوب شيء وآخر على حرمة شيء آخر وثالث على كراهة امر ثالث وعلم إجمالا بكذب أحد هذه الأدلة (١).

ولا بد في بيان عدم نهوض ما ذكره من التكلم في جهتين :

الأولى : ان مفهوم التعارض المأخوذ في أدلة العلاج هل يشمل موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين مع عدم تنافيهما ذاتا ، بحيث يكون السبب في التنافي هو العلم الإجمالي فقط ، أو يختص بموارد تنافي الدليلين ذاتا وبحسب مدلوليهما أنفسهما؟

الثانية : انه مع الالتزام بشمول التعارض لموارد العلم الإجمالي ، فهل يشمل موارد تنافي أكثر من دليلين أو لا؟

اما الجهة الأولى : فلمدع أن يدعي اختصاص التعارض في مدلول الاخبار العلاجية بموارد التنافي الذاتي بين الدليلين بحيث يكون كل منهما بمدلوله وظهوره ينافي الآخر ، دون موارد التنافي العرضي الناشئ من العلم الإجمالي الثابت من الخارج بعدم اعتبار مضمون أحدهما مع التلاؤم بين الدليلين بحسب مدلوليهما وعدم المنافاة بينهما من ناحيتهما أنفسهما. وإلى هذا يشير كلام المحقق النائيني قدس‌سره (٢).

ويمكن تقريبها : بأن التنافي المقوم لمعنى التعارض لا بد ان يكون عرفيا يدركه العرف ، وهو انما يتحقق مع كون كل من الدليلين بذاته وبمدلوله وظهوره ينافى الآخر ، بحيث يرى العرف التنافي بينهما عند ملاحظتهما ، كالتنافي بين الدليل الدال على وجوب شيء والدليل الدال على جوازه.

اما مع عدم تنافيهما ذاتا ، بل علم خارجا بكذب أحدهما ، فنفي كل منهما

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٩٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٠٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٧٦

للآخر ليس بحسب فهم العرف والملازمة العرفية ، بل بالملازمة العقلية الحاصلة من العلم الإجمالي ، فلا يصدق عليه التعارض بما له من المفهوم العرفي.

ويمكن الاستشهاد له بما تقرر في محله من تساقط الأصول المتعارضة عرضا بواسطة العلم الإجمالي ـ كما لو علم إجمالا بأنه مدين بدينار مثلا إما لزيد أو لعمرو ، وكان عدم الدين لعمرو له حالة سابقة دون زيد ، فان استصحاب عدم وجوب أداء هذا المال لعمرو ـ يعارض أصالة البراءة من وجوبه لزيد ـ مع الالتزام بشمول أدلة العلاج لموارد العامين من وجه.

فانه لو لا انه من المرتكز عدم المعارضة في موارد العلم الإجمالي ، لما صح القول بالتساقط ، لحصول التعارض حينئذ بين إطلاق كل من الأصلين وإطلاق الآخر ، للعلم الإجمالي بعدم صحة أحدهما ، ومقتضاه الترجيح أو التخيير لا التساقط.

وبهذا المورد ونحوه ينقض على من يلتزم بالمعارضة مع العلم الإجمالي.

ولو تنزلنا وقلنا ان التعارض بمفهومه العرفي هو مطلق التنافي أعم من العرفي والدقي ، فلا عبرة في خروج المورد عن التعارض بعدم التنافي العرفي ، فيشمل موارد العلم الإجمالي.

فيقع الكلام في الجهة الثانية ، فنقول : ان ذلك ينحصر في موارد التنافي بين الدليلين فقط ، إذ مع العلم بكذب أحدهما نافيا للآخر فيحصل التنافي.

اما في فرض التنافي العرضي أكثر من دليلين فلا يتحقق مصداق التعارض ، لأن كلا من الأدلة لا يتكفل نفي غيره من الدليلين أو الأدلة ـ لأن المعلوم كذبه أحدهما لا غير ـ بل مفاده إثبات مدلوله وان الكاذب في الدليلين الآخرين ـ وبذلك تحصل المعارضة العرضية بين الآخرين عند ثبوته ـ وهذا ليس من مفهوم التعارض في شيء ، لأن مفهومه التنافي المتقوم بنفي كل منهما للآخر ، وقد عرفت ان كلا من الأدلة لا يتكفل إلاّ إثبات ذاته ، اما نفي غيره فليس من مقتضاه أصلا ،

٣٧٧

فيخرج عن مورد المعارضة.

ومن هنا يتبين بطلان ما أفاده أولا من : ان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصّين فقط ، بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة وأخويه ، لأن المعلوم بالإجمال هو كذب أحدهما فقط ، فلاحظ وتأمل والله ولي العصمة.

وأما الفرع الثاني : وهو ما إذا كان بين الخاصّين عموم من وجه ـ فله صورتان :

الأولى : ان لا يكون بينهما تناف في المجمع ، كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم فساق العلماء ، ولا تكرم النحويين ».

الثانية : ان يكون بينهما تناف في المجمع ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام النحويين » فانهما متنافيان في المجمع وهو النحوي الفاسق ، إذ أحدهما يقتضي حرمة إكرامه والآخر يقتضي استحبابه.

اما الصورة الأولى : فالكلام فيها عين الكلام المتقدم في الفرع الأول :

من لزوم تخصيص العام بهما دفعة واحدة بلا تقديم أحدهما وملاحظة النسبة بين العام بعد تخصيصه والخاصّ الآخر ، لأنه ترجيح بلا مرجح ، فيما لم يلزم من تخصيصه بهما محذور الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقائه بلا مورد.

ومن معاملتهما مع العام معاملة المتباينين ، وفرض الأحوال الست المتقدمة فيما لزم المحذور المذكور ، فراجع.

واما الصورة الثانية : فلا تصل النوبة فيها إلى الكلام في صحة تقديم أحدهما على الآخر في مقام العلاج ، إذ كل منهما لا يصلح لأن يكون مخصصا مع وجود المعارض له ، فلا بد من إجراء أحكام التعارض فيما بينهما في مورد المنافاة.

فان التزم بالتساقط ، كان العام في مورد المنافاة سالما عن المخصص فيعمل به ، ويخصص بكلا الخاصّين في غير هذا المورد دفعة واحدة ، إذ يكونان كالمتباينين بلا مرجح لأحدهما على الآخر. وان التزم بالتخيير أو الترجيح ، خصص بما أخذ به

٣٧٨

منهما ، فلاحظ.

واما الفرع الثالث : وهو ما إذا كان بين الخاصّين عموم مطلق ، وهما ..

تارة : غير متنافيين كما لو كانا متحدي الحكم ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم النحويين ، ولا تكرم فساق النحويين ».

وأخرى : متنافيان كما لو كانا مختلفي الحكم ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم النحويين ، ويستحب إكرام عدول النحويين ».

ففي الحال الأولى : لا وجه لملاحظة أحدهما قبل الآخر مع العام ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فالوجه ملاحظتهما معا وتخصيص العام بهما دفعة لتساوي نسبتهما إلى العام.

واما ما أفاده المحقق العراقي في لزوم تقديم الخاصّ الأخص على الآخر. فتنقلب النسبة بين العام وبين الخاصّ الأعم إلى العموم من وجه ، من : ان الخاصّ الأخص معلوم التخصيص فهو خارج يقينا عن العام ، ويبقى غيره مشكوكا ، فيتمسك بأصالة العموم ، وتنقلب النسبة بين العام والخاصّ الأخص (١).

ففيه : أنه ..

ان كان المفروض في الترديد هو تخصيص العام بمقدار الأخص ، اما به استقلالا ، أو في ضمن تخصيصه بالأعم.

فهو لا يجدي في المطلوب ، لأن تردد المخصص بين عنوانين الأخص والأعم ، يرجع إلى التردد بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر ـ كي يؤخذ بالقدر المتيقن ـ نعم ، هو افرادا كذلك لا عنوانا ـ كما هو الفرض ـ وان كان المفروض في الترديد هو تخصيص العام بالخاص الأخص اما وحده أو مع تخصيصه بالأعم ، بحيث يكون المخصص على كلا التقديرين هو الدليل الأخص ، إلاّ انه تارة وحده. وأخرى مع غيره ـ بخلاف الفرض الأول ، فان إخراج

__________________

(١) العراقي المحقق آغا ضياء الدين. حاشية فوائد الأصول ٣ ـ ٤٤٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٧٩

الفرد الأخص اما بالدليل الأخص أو بواسطة الدليل الأعم ـ

ففيه :

أولا : ان القدر المتيقن انما يفرض بعد فرض الترديد بين الأمرين ، والترديد انما يكون بالعلم الإجمالي بأحد الطرفين ، وهو انما يكون فعلي التأثير مع عدم فرض الدليل المعين لأحد الطرفين ، والمفروض ان مقتضى القواعد الأصولية هو تعيين الطرف الآخر ـ أعني : تخصيص العام بهما دفعة واحدة ـ فيرتفع الترديد وينحل العلم الإجمالي حكما ، فلا مجال للأخذ بالقدر المتيقن بلحاظ تردد التخصيص بين الأقل والأكثر.

وثانيا : ان أحد فروض تخصيص العام بالأخص تخصيصه مع الأعم ، وفي هذا الفرض لا ينعقد للعام ظهور في غير مورد الأخص ، فكيف يجعل تخصيص العام بالخاص الأخص على جميع تقاديره موجبا لانعقاد ظهور له في الباقي ـ أي في غير مورد الأخص ـ؟ ونظيره يرد على الفرض الأوّل ، فانه بعد فرض كون أحد تقادير خروج مورد الأخص تقدير تخصيصه بالأعم ، فلا وجه لجعل خروجه على جميع تقاديره موجبا لانقلاب النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر الأعم.

هذا ان أريد بالقدر المتيقن في مقام التخصيص. واما ان أريد به في مقام المراد الجدي والواقع وان المتيقن خروج مورد الأخص عنه. ففيه : انه ليس متيقنا في نفسه لإمكان كون الخاصّ في الواقع كاذبا ، وانما هو بحسب الأدلة اللفظية والقواعد المقتضية لتقديمها ، فيرجع إلى التردد باعتبار التخصيص لا باعتبار الواقع ، فتدبر.

وعلى كل ، فلا وجه لتقديم الخاصّ الأخص على الخاصّ الأعم كي تنقلب النسبة بين العام وغيره ، بل اللازم تخصيص العام بهما دفعة واحدة.

نعم ، يبقى في المقام سؤال فائدة التخصيص بالخاص الأخص بعد إمكان إخراج الفرد بالأعم.

وجوابه ما تقرر في محله في حل محذور لغوية ورود العام والخاصّ المتوافقين ،

٣٨٠