منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

يمتنع ان يتكفل بيان استمراره لتأخره عن وجود الجعل ، إلاّ انه بالدلالة الالتزامية يمكن ان يتكفل بيان الاستمرار.

بيان ذلك : ان فعلية الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية لا تتحقق الا مع بقاء الجعل إلى زمان فعليته ، فمثلا : لو علق الحكم على امر لم يكن حال الجعل بحاصل ثم حصل ، فالحكم انما يكون فعليا في هذا الفرض ـ أعني : فرض حصول الشرط ـ لو كان الجعل مستمرا إلى هذا الزمان ، وإلاّ فلو رفع الجعل لم يصر الحكم فعليا كما هو واضح جدا. كما انه يلغو الجعل لأمر متأخر إذا فرض رفع اليد عنه ، لأن الجعل إنما هو بلحاظ تحقق المجعول وهو لا يتحقق مع رفع الجعل ، ففعلية الحكم تستلزم استمرار الجعل ودوامه.

وعليه ، فالدليل المتكفل لجعل الحكم في زمان وفعليته في وقت يدل بالالتزام على استمرار الجعل إلى ذلك الوقت ، فالدليل يتكفل بيان استمرار الجعل بالالتزام

__________________

الإنشاء يتصرم بتصرم الاستعمال. وإذا فرض ان الجعل بمعنى الإنشاء كما بيّنّاه في مبحث القطع ، كان متصرم الوجود فلا بقاء له.

نعم ، الأثر يترتب عليه لمجرد حدوثه ، فإذا حصل الإنشاء في ظرف يتحقق المنشأ في ظرفه ولو كان بعيدا عن ظرف الإنشاء ، بل ولو لم يكن المنشأ في ذلك الظرف قابلا للاعتبار ، كما في الوصية بوقف داره بعد موته بسنة.

وعلى هذا ، فلا يتصور الشك في بقاء الجعل كي يرجع فيه إلى الإطلاق أو غير ذلك.

نعم ، هنا شيء ، وهو : ان المنشأ انما يترتب في ظرفه اللاحق على الإنشاء السابق إذا لم يرفع المنشئ اليد عن المنشأ ، أو أنشأ ما أنشأه أولا ، وهذا الشرط اما هو مأخوذ بوجوده الواقعي أو مأخوذ بوجوده العلمي ، بأن يكون عدم العلم وعدم وصول الجعل المخالف كافيا في تحقق المنشأ في ظرفه لدى العقلاء ، فالشك في النسخ يرجع إلى الشك في تحقق إنشاء مخالف للإنشاء السابق ، فيمكن ان يرجع في نفيه إلى الاستصحاب.

لكن الاستصحاب لا يقاوم العموم ، فإذا تأخر العام عن الخاصّ كان حاكما أو واردا على الاستصحاب ، وكان متكفلا لبيان تحقق الإنشاء المخالف.

واما ما ذكره المحقق النائيني من الرجوع إلى الخاصّ والحكم بالتخصيص في هذه الحال.

فهو غريب كما أوضحناه في المتن. فلاحظ.

٣٤١

بمقدار ثبوت فعلية الحكم المجعول.

فمع ثبوت استمرار المجعول بالإطلاق ـ كما فيما نحن فيه ، حيث ان ثبوت الحكم للافراد الطولية بواسطة الإطلاق ـ يكون الدليل المتكفل للجعل دالا بالالتزام على استمرار الإطلاق المجعول ، فهو مفاد الإطلاق التزاما. ولعله إلى هذا يرجع ما يذكره الاعلام من ان ظهور الدليل في الاستمرار بالإطلاق.

وبذلك لا يحتاج إلى إثبات الاستمرار بالاستصحاب ، إذ هو مفاد نفس الدليل بالالتزام.

واما الأمر الثاني : فهو موضع العجب من كلامه بالنسبة إلى الخاصّ المتقدم. وذلك لأن مفاد العام ..

ان كان هو ثبوت الحكم من الزمان الأول ـ أعني : زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما هو الظاهر من النصوص الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام ـ فلا كلام في تقدم الخاصّ عليه ، إذ لا يحتمل حينئذ كونه ناسخا للخاص ، لأن الخاصّ يكون قرينة عليه موجبة للتصرف اما في ظهوره أو في حجيته. ولكنه خلاف الفرض ، إذ المفروض ان الأمر يدور بين التخصيص والنسخ ، وعلى الفرض المذكور يتعين التخصيص.

وان كان مفاده ثبوت الحكم من حين ورود الدليل ـ كما هو الفرض ، إذ عليه يتأتى احتمال النسخ ـ فلا تنافي بين العام والخاصّ حدوثا ، إذ لا منافاة بين الحكم على فرد في زمان والحكم عليه في زمان آخر. وانما التنافي بين حكم العام وبقاء حكم الخاصّ ، إذ يلزم اجتماع الحكمين المتنافيين على موضوع واحد.

وقد عرفت انه قدس‌سره يرى : ان بقاء جعل حكم الخاصّ انما يكون بالاستصحاب لا بنفس الدليل. فكيف يكون الاستصحاب قرينة على العام وموجبا للتصرف في ظهوره أو في حجيته؟! كما انه لا معنى لجعل الخاصّ قرينة بعد عدم تكفله بمدلوله لحال البقاء. هذا هو موضع العجب والّذي لا نعرف له حلا

٣٤٢

يتوافق مع القواعد الصناعية ، إذ ليس من يدعي مصادمة الاستصحاب لأصالة العموم فضلا عن كونه موجبا لإلغائها في مورده.

واما السيرة العقلائية ، فلم يثبت قيامها في مفروض البحث. نعم ، هي قائمة على تقديم الخاصّ من الروايات على العام ، لكن أشرنا إلى انه لا احتمال للنسخ في النصوص لأنها جميعها تتكفل بيان الحكم من الأول ، فلا يتصور فيها النسخ ، فتكون خارجة عن مورد البحث.

ولم يتعرض أحد من الاعلام إلى هذه الجهة من كلامه ، بل من تعرض لكلامه ركز مناقشته على أصل الدعوى من إيجاب الخاصّ التصرف في العام ظهورا أو حجية.

ومما ذكرنا يتضح عدم صحة ما أفاده السيد الخوئي ـ كما في بعض تقريراته ـ في حل التردد من : ان الخاصّ المقدم يكون قرينة عرفية على العام ينافي ظهوره. ومن : ان مفاد العمومات ثبوت الأحكام العامة في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا من حين صدورها ، لأن الأئمة عليهم‌السلام مبينون للأحكام لا مشرعون ، فلا احتمال للنسخ (١).

إذ الأخير وان كان تاما في نفسه لكنه خروج عن موضع الدعوى إذ المفروض فيه تردد الأمر بين النحوين.

والأول محل الكلام ، لأن ثبوت حكم الخاصّ في زمان العام على مذهبه وان كان بالإطلاق ، إلاّ انه لم يظهر بعد كون الإطلاق قرينة عرفية على العام ، فتدبر.

والتحقيق ان يقال : اما في صورة تقدم الخاصّ ان مفاد العام ..

ان كان ثبوت الحكم من الزمان الأول لا من حين وروده ، فلا إشكال في تقدم الخاصّ على العام إذ لا احتمال للنسخ حينئذ ، بل التخصيص متعين ، اما لانهدام ظهور العام أو لعدم حجيته على الكلام في ظهوره في العموم بالوضع أو بالإطلاق.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٨٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٣

وجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي أو الجدي على الأخير ـ

وان كان مفاده ثبوت حكم العام من حين وروده ـ كما هو المفروض ـ فيدور الأمر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ الخاصّ بالعامّ ، وحيث ان ثبوت الاستمرار والدوام كان بالإطلاق ـ إذ دلالة الدليل عليه بالالتزام من جهة الإطلاق فهو من ملازمات الإطلاق ـ فمن يلتزم بتقديم ظهور العام الوضعي على الظهور الإطلاقي لاختلال الإطلاق الحاصل من الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي لأنه مسبب عن ظهور الوضع فيتعين عليه فيما نحن فيه الالتزام بالنسخ وتقديم أصالة العموم.

ومن لا يلتزم بذلك ـ كما تقدم منا ـ فليس لديه ما يرجح به أحد الظهورين على الآخر فلا بد من ملاحظة كل مورد بنفسه وخصوصياته ، والحكم بترجيح أحدهما على طبقها.

اللهم إلاّ ان يدعى ان كثرة التخصيص وندرة النسخ وان لم تكن من القرائن العرفية المكتنفة للكلام بحيث توجب عدم انعقاد ظهور للعام في العموم من أول الأمر ، إلاّ انها موجبة لتضعيف ظهوره في العموم بحيث يكون الظهور الإطلاقي في الفرض أقوى من ظهور العام ، فيتعين التخصيص دون النسخ ولكن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات كما لا يخفى.

واما في صورة تأخر الخاصّ ، فالامر لا يدور بين النحوين على التقديرين ، لأنه على تقدير كون مفاد الخاصّ هو ثبوت الحكم من أول الأمر ، فالتخصيص متعين ، إذ لا يحتمل كونه ناسخا على هذا الفرض ، لأن مفاده نفي الجعل لا نفى استمراره.

وعلى تقدير كون مفاده ثبوت الحكم من حين وروده ، فالنسخ متعين ، ولا يحتمل التخصيص إذ لا تنافي بين مفاد الخاصّ والعام حدوثا ، بل التنافي بين مفاد الخاصّ واستمرار جعل حكم العام ، فتقدم الخاصّ معناه الالتزام بالنسخ كما لا

٣٤٤

يخفى.

وتوهم تأتي الاحتمالين لو تردد مفاد الخاصّ بين ان يكون ثبوت الحكم من الأول أو من الحين ، إذ عليه يحتمل كونه ناسخا أو مخصصا.

واضح الفساد : إذ مع إجمال الخاصّ بالنسبة إلى ثبوت حكمه من أول الأمر يؤخذ بالقدر المتيقن منه ، وهو ثبوت الحكم من حين وروده ، فتبقى أصالة العموم إلى حين وروده سالمة عن المعارض ، فيتعين الالتزام بالنسخ أيضا ، فلاحظ.

وللمحقق العراقي كلام في المقام ينافي جميع ما تقدم ، محصله : ان دوران الأمر بين النسخ والتخصيص لا يرجع إلى التصادم بين الظهورين كي تصل النوبة إلى الجمع الدلالي وترجيح الأقوى ظهورا ، بل التصادم بين أصالة الجهة وأصالة الظهور.

وذلك لأن النسخ تصرف في جهة الكلام ، إذ مرجعه إلى ان الكلام لم يكن صادرا عن واقع بحيث يجب على المكلف الأخذ به ، بل كان بداع آخر مع حفظ ظهوره ودلالته على مدلوله ، فيكون نظير صدور الكلام عن تقية.

وعليه فاحتمال النسخ لا يرجع إلى مقام الظهور والدلالة ، بل يرجع إلى مرحلة جهة صدور الكلام ، فيكون التعارض فيما نحن فيه بين أصالة الجهة وأصالة الظهور ، فلا معنى للبحث عن ترجيح أحدهما على الآخر في مقام الدلالة والظهور.

وما أفاده قدس‌سره لا يرجع إلى محصل ، وحيث انه ربط مورد النسخ بمورد التقية لا بد من معرفة حقيقة التقية في تحقيق مناقشة ما أفاده ، فنقول : ان التقية على نحوين :

الأول : التقية في مقام العمل ، وذلك بأن يكون الدليل الدال على الحكم دالا عليه واقعا وجدا ، بحيث يجب على المكلف امتثاله ويأثم بمخالفته ، غاية الأمر يكون الملاك لجعل الحكم ملاكا ثانويا محدودا واقعيا ، وهو التقية وحفظ النّفس من الهلاك.

الثاني : التقية في مقام الحكم ، وذلك بأن لا يكون مراد واقعي على طبق

٣٤٥

الإنشاء ، بل كان الإنشاء بداع آخر غير الواقع وهو الاحتراز عن الضرر ، فالغرض متمحض في الإظهار لا غير ، فلا يجب على المكلف الأخذ بذلك.

وتشبيه مورد النسخ بمورد التقية ـ بتقريب كونه يرجع إلى بيان ان صدور الحكم لم يكن عن إرادة واقعية بحيث يتحتم على المكلف الالتزام به ، بل كان هناك غرض آخر ـ يتناسب مع إرادة المعنى الثاني من التقية ، إذ على الأول يجب على المكلف الأخذ بالحكم للإرادة الجدية على طبقه ، ويكون ارتفاعه عند ارتفاع ملاكه من باب تبدل الموضوع كالمسافر والحاضر.

وعليه ، يكون النسخ والتخصيص في مرحلة واحدة ، إذ التخصيص يكشف أيضا عن عدم الإرادة الحقيقية على طبق العام. فالدليل الناسخ والمخصص يشتركان في ان مفادهما نفي ظهور الدليل في مفاده جدا وحقيقة ، فالتصادم يرجع إلى مرحلة الدلالة والكشف عن المراد الجدي :

فتتجه حينئذ مراعاة المرجحات الدلالية.

هذا إذا كان مراده بالتقية في مقام الحكم ذلك ، كما هو المشهور. واما إذا كان مراده منها معنى يجتمع مع الإرادة الحقيقية للحكم ، وذلك بأن تكون التقية هي صدور الحكم وإرادته جدا ، ولكن لا بداعي الجد بل بداعي حفظ النّفس ـ مثلا ـ وهو أيضا لا يجب امتثاله ، لأنه وان كان مرادا جدا لكن إرادته الجدية لم تكن بداعي الجد ، فيكون معنى النسخ حينئذ غير ما ذكر من رجوعه إلى بيان عدم القصد الحقيقي على طبق المنسوخ.

بل هو : ان يكون الكلام على طبقه مراد حقيقي ، إلاّ ان هذا لم يكن عن داعي الجد في الواقع على حد تعبيره ، بل كان بداع آخر ، فالنسخ بيان لعدم كون المراد الواقعي عن داعي الجد ، فيختلف حينئذ عن التخصيص مرحلة ، لأن التخصيص بيان لعدم كون العموم مرادا جدا ، فهو في مرحلة المراد الحقيقي ، والنسخ بيان لعدم كون المراد الجدي بداعي الجد وبملاك واقعي بل كان بداع آخر ، فهو في مرحلة

٣٤٦

الداعي للإرادة الجدية ، وهو المعبر عنه بجهة الصدور.

فهذا المعنى ـ على تقدير تسليم صحته وعدم الخدشة فيه بعدم تصور عدم كون الإرادة الجدية بداعي الجد ـ لا يجدي في كون التعارض بين أصالة الجهة وأصالة الظهور ، بل لا تصل النوبة في المعارضة إلى أصالة الجهة.

وذلك ، لأن شأن أصالة الجهة شأن أصالة الصدور في لزوم فرض تماميتها في كلا الدليلين ابتداء وملاحظة مدلوليهما ، فان أمكن الجمع بينهما عرفا بنحو يرتفع التنافي بها فهو ، وإلاّ سرى التنافي بينهما إلى السندين ، إذ لا يمكن صدور المتنافيين معا.

ففي ما نحن فيه ، وان كان احتمال النسخ يرجع إلى التصرف في الجهة بهذا المعنى ـ إلاّ انه يفرض تمامية الجهة في كل من الدليلين ابتداء وتلحظ المعارضة بين المدلولين ، فان أمكن الجمع بينهما لا تصل النوبة إلى تعارض أصالتي الجهة أو الصدور ، وإلاّ سرى التنافي إلى المرتبة السابقة على الدلالة من الجهة أو الصدور ، إذ لا تنافي بين أصالتي السند أو الجهة في كل من المدلولين لو لا تنافي مدلوليهما ، فمع إمكان الجمع لا تصل النوبة إلى التنافي بين السندين أو الجهتين وإلاّ سرى إليهما.

وعليه ، فالتعارض بين ظهوري العام والإطلاق لما كان حاصلا فيما نحن فيه ، إذ يمتنع العمل بأصالة الظهور في كل منهما لمنافاة المراد الجدي في أحدهما له في الآخر ، فلا بد من ملاحظتهما وملاحظة مرجحات أحدهما على الآخر ، ولا نحتاج إلى أكثر من هذا.

واما عدم صحة تسمية هذه المعارضة بالدوران بين النسخ والتخصيص ـ لأن النسخ لا يرتبط بمرحلة الظهور ـ فهو لا يضر بواقع المطلب من حصول المعارضة بينهما وترتب الأثر الشرعي عليه ، وعدم وصول النوبة إلى المعارضة بين أصالة الجهة وأصالة الظهور.

فمحصل الإشكال : ان النسخ بمعنى لا يرجع إلى التصرف بأصالة الجهة ،

٣٤٧

وبمعنى آخر وان كان يرجع إليها إلاّ ان المعارضة في مرحلة الظهور.

انقلاب النسبة

هذا كله في الجمع العرفي الدلالي فيما كان التعارض بين دليلين. واما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، فهل يلاحظ الجمع والعلاج بين كل منهما وغيره دفعة واحدة ، أم يصح الترتيب في العلاج ويلزمه انقلاب النسبة بين بعض المتعارضات والآخر ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم فساق العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » ، فانه مع الالتزام بالترتيب في العلاج لو خصص العام أولا : بدليل « لا تكرم الفساق » انقلبت نسبته مع دليل : « لا تكرم النحويين » إلى العموم من وجه بعد ما كانت العموم المطلق. بخلاف ما لو لوحظ العلاج دفعة واحدة ، فانه يخصص العام بكلا الخاصّين ويبقى الباقي؟

فمحل الكلام : انه مع التعارض بين أكثر من دليلين هل يلزم الترتيب في العلاج بين المتعارضات فتنقلب النسبة بين المتعارضات الأخرى ، أو لا يلاحظ الترتيب ، بل تلاحظ المتعارضات دفعة واحدة؟

وقد فصل الشيخ الأعظم قدس‌سره بين صور التعارض.

فحكم في بعضها بعدم صحة الترتيب في العلاج ، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات إلى الدليل نسبة واحدة ، كما لو كانت نسبتها نسبة الخاصّ إلى العام ، نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » و : « لا تكرم الصرفيين ».

وحكم في البعض الآخر بملاحظة الترتيب في العلاج ، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات مختلفة ، كما لو ورد عام ثم ورد عام آخر نسبته مع الأول نسبة العموم من وجه ثم ورد مخصص لأحدهما ، نظير : « أكرم العلماء » و : « لا تكرم فساق العلماء » و : « يستحب إكرام العدول » ، فانه حكم بتخصيص : « أكرم العلماء »

٣٤٨

بدليل : « لا تكرم فساقهم » ، فتنقلب نسبته إلى دليل : « يستحب إكرام العدول » إلى نسبة الأخص مطلقا فيخصص به.

وتكون النتيجة : حرمة إكرام فساق العلماء ووجوب إكرام عدولهم واستحباب إكرام العدول من غير العلماء.

وقد استدل على عدم صحة الترتيب في الأول :

أولا : بان تقديم أحد الخاصّين المعين على العام ثم ملاحظة نسبة العام مع الخاصّ الآخر ترجيح بلا مرجح ، فيتعين ملاحظتهما معا بالنسبة إلى العام.

وثانيا : بأنه مع تخصيص العام بأحد المخصصين لا ينعقد له ظهور في الباقي الا مع إحراز عدم المخصص ، ومع وجود الخاصّ الآخر لا مجال لإحراز عدم المخصص حتى بالأصل.

وعليه ، فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاصّ الآخر ، وملاحظة النسبة بينهما.

وبالجملة : انعقاد ظهور العام في الباقي حتى يكون صالحا للمعارضة يتوقف على العلاج بالنسبة إلى الخاصّ الآخر ونفي مخصصيته ، والعلاج بالنسبة إليه يتوقف على انعقاد ظهوره كي تلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر.

وبهذا الدليل دفع توهم صحة الترتيب في العلاج ، مع كون أحد الخاصّين ثابتا بالإجماع أو العقل. فانه وان أقره في نفس الترتيب ، لأنه يكون كالمخصص المتصل الّذي لا إشكال في تقدمه على العام ، لكنه لم يقره في دعوى انقلاب النسبة به ـ كما ادعاه المتوهم ـ.

واستدل على ملاحظة الترتيب في الثاني : باستلزام عدم الترتيب لمحذور طرح النص ، أو طرح الظاهر في مدلوله أجمع.

وذلك : لأنه لو لم يرتب في العلاج وقدم العام الآخر وخصص به العام ، كما لو خصص : « أكرم العلماء » بـ « يستحب إكرام العدول » فاما ان يخصص العام بالخاص

٣٤٩

وهو : « لا تكرم فساق العلماء » أولا.

فعلى الثاني يلزم طرح النص ، لأن الخاصّ نصّ في مدلوله والعام ظاهر فيه ، وعلى الأول يلزم طرح الظاهر مطلقا ، وهو ممنوع ، لأن العام نصّ في منتهى التخصيص ، فيلزم من طرحه طرح النص.

وبالجملة يلزم من عدم الترتيب طرح أحد النصين ، وهو محذور كما لا يخفى (١).

وقد يورد على ما أفاده الشيخ قدس‌سره أخيرا من ملاحظة الترتيب وانقلاب النسبة في القسم الثاني بوجهين :

الأول : في ما ذكره في نفي توهم صحة الترتيب وانقلاب النسبة من عدم انعقاد ظهور للعام في الباقي الا بعد العلاج ونفي المخصص ، ومع وجوده لا يتم له ظهور ، فيخرج عن موضوع المعارضة لأنه يكون مجملا.

فانه جار في هذا القسم ـ على ما يظهر منه ـ إذ مع فرض وجود المزاحم للعام المخصص وهو العام الآخر ، لا ينعقد للعام ظهور في الباقي بعد التخصيص الا بعد العلاج ونفي مزاحمة العام الآخر له ، وإلاّ كان مجملا ، فلا يصلح للتخصيص ، فالكلام المتقدم في تلك الصورة يجري بعينه في هذه الصورة.

الثاني : فيما ساقه من الدليل على لا بدية الترتيب وانقلاب النسبة به في الصورة الثانية.

فانه يمكن الخدشة فيه : بان الأمر لا ينحصر بين الترتيب في العلاج ولزوم المحذور الّذي ذكره ، كي يتعين الالتزام بالترتيب وانقلاب النسبة فرارا عن المحذور ، بل يمكن الالتزام بشق ثالث ، وهو تساقط الأدلة بمجموعها بالمعارضة ، فانه إذا كان تخصيص : « أكرم العلماء » بدليل : « يستحب إكرام العدول » يلزم منه المحذور المزبور ، يقع التعارض بين مجموع : « لا تكرم فساق العلماء » و : « يستحب إكرام العدول »

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٥٨ ـ الطبعة القديمة.

٣٥٠

و : « أكرم العلماء ».

والنتيجة هي التساقط ـ نظير الخاصّين الموجبين لخلو العام عن المورد ـ فالمحذور لا يوجب الالتزام بانقلاب النسبة ، بل يمكن الالتزام بالتساقط لأجله.

ولكن الإنصاف ان كلا الوجهين غير تامين.

اما الثاني : فلأنه يمكن ان يكون مراد الشيخ امرا غير ما ذكر لا يتوجه عليه الإشكال المذكور.

وقبل التعرض لبيانه لا بد لنا من الإشارة إلى شيء وهو : ان المعارضة بين الدليلين المتساويين في النسبة لا تتحقق مع كون حجية أحد الدليلين الفعلية تستلزم وقوع محذور غير محذور المعارضة ، فانه مع هذا لا يكون الدليل المستلزم للمحذور صالحا للمانعية عن الدليل الآخر ، فيبقى الدليل الآخر بلا معارض.

إذا عرفت هذا فنقول : انه حيث كان الالتزام بالعامّ الآخر غير المنافي للخاص ـ وهو : « يستحب إكرام العدول » ـ وحجيته الفعلية في المجمع مستلزما لوقوع محذور طرح أحد النصين ـ كما عرفت ـ كان غير صالح للمانعية عن العام الآخر ، وهو : « أكرم العلماء » في المجمع. وعليه فيكون العام ثابتا في هذا المجمع ويخصص بالخاص حينئذ.

وذلك نتيجة انقلاب النسبة ، فلا تمكن حينئذ دعوى التساقط لأنها فرع ثبوت المعارضة الفعلية ، وقد عرفت عدمها بعد كون الالتزام بأحد العامين مستلزما للمحذور.

ومن هنا يتضح الجواب عن الإيراد الأول ، وهو إيراد المهافتة. فانه (١) ، يبتني

__________________

(١) فان ما ذكره هناك يبتني على القول بانقلاب النسبة ، فانه ادعى عدم انعقاد الظهور له في الباقي كي يقال بانقلاب النسبة ، وفي المقام لم يلتزم بالانقلاب ، بل التزم بما هو نتيجة الانقلاب ، وهو حجية العام المخصص في المجمع ، دون الآخر ، فلا مهافتة.

٣٥١

على كون العام الآخر صالحا للمانعية ، إذ يجري حينئذ الكلام المتقدم.

وقد عرفت عدم صلاحيته للمانعية والمعارضة بعد فرض كون الالتزام به مستلزما للمحذور.

كما انه يمكن دفعه بوجهين آخرين ، وهما :

الأول : ان المانع من انعقاد الظهور في الباقي ليس هو مطلق وجود المعارض كي يكون عدمه شرطا في انعقاد الظهور ، بل هو وجود الأظهر المتقدم عليه ، فعدم الأظهر هو الشرط في انعقاد الظهور في الباقي ، وليس العام الآخر فيما نحن فيه أظهر من العام المخصص بالخاص ، إذ المفروض كون النسبة بينهما عموما من وجه ، ولم تفرض أظهريته حتى يكون صالحا للتقدم عليه وتخصيصه بغير المجمع.

وهذا بخلاف القسم الأول ، فان المفروض فيه وجود الأظهر المانع من انعقاد ظهور العام في الباقي وهو الخاصّ.

الثاني : ان العام المخصص ، وهو : « أكرم العلماء » نصّ في منتهى التخصيص.

وعليه ، فهو متقدم على العام الآخر ومخصص له بهذا المقدار ولو كان مجملا غير معين وتكون رتبته سابقا في العام الآخر ، لأسبقية رتبة الخاصّ على العام ، فلا يصلح العام الآخر لمعارضته في المقدار الزائد على منتهى التخصيص.

ومعه يتمسك بإطلاقه في إثبات إرادة جميع الباقي ويخصص العام الآخر به حينئذ بهذا المقدار ، كما هو الحال في كل خاص بالنسبة إلى العام ، فلاحظ.

والمتحصل مما أفاده الشيخ قدس‌سره : انه يلتزم بأن للعموم ظهورا ثانويا في الباقي بعد التخصيص وبه تنقلب النسبة ، إلاّ انه غير تام ولا ينعقد في صورة لوجود المعارض الصالح للتخصيص ، فلا يقيد الترتيب في العلاج في انقلاب النسبة ، وتام في بعض الصور الأخرى لعدم المانع ، فيكون الترتيب في العلاج سببا لانقلاب النسبة.

وعلى هذه الجهة يتركز كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله وإليها ينظر في

٣٥٢

تحقيقه. فقد أفاد قدس‌سره في الكفاية : بأن النسبة الملحوظة بين الأدلة المتعارضة انما هي بملاحظة ظهور الكلام في مدلوله ، ومع ورود المخصص المنفصل لا ينثلم ظهور العام في العموم كي يدعى انقلاب النسبة ، إذ المخصص المنفصل انما يقتضي تضييق المراد الجدي من العام مع بقاء العام على عمومه ، فتبقى نسبته مع غيره بعد التخصيص هي عينها التي كانت قبل ملاحظة المخصص.

وإلاّ لم يكن وجه لانعقاد ظهور له في الباقي دون غيره من المراتب ، لعدم الوضع وعدم القرينة المعينة ، وانعقاد الظهور في الباقي يتوقف على أحدهما كما لا يخفى (١).

وقد ذكر المحقق النائيني قدس‌سره وجها لتقريب انقلاب النسبة ، وتوضيحه : ان للكلام دلالات ثلاث :

دلالة تصورية ، وهي انتقال المعنى من اللفظ عند إبرازه وهي لا تتوقف على صدور اللفظ عن إرادة وقصد ، بل هي تحصل ولو لم يكن صدور اللفظ عن اختيار ، وهي نفس الدلالة الوضعيّة عند بعض.

ودلالة تصديقية ، وهي الحاصلة من ضم بعض اجزاء الكلام إلى بعض وملاحظة القرائن المحفوف بها الكلام فقد يكون دالا على غير المعنى الوضعي الأولي ، لوجود القرائن المغيرة لظهوره الأولي ، ويسند المجموع إلى المتكلم ويحكم بأنه قصد تفهيم هذا المعنى المستفاد من الكلام ، وهذه الدلالة تتوقف على صدور الكلام عن إرادة وقصد.

ودلالة ثالثة ، على كون المعنى المقصود تفهيمه هو المراد للمتكلم جدا وواقعا ، ويعبر عنها بالدلالة التصديقية في الكشف عن المراد الجدي. وموضوع الحجية هي القسم الثالث من الدلالات المذكورة ، فان الكشف النوعيّ للكلام عن المراد الجدي هو الّذي يكون موضوع الحجية والاعتبار عند العقلاء.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية ـ ٤٥٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٥٣

والمعارضة بين الأدلة انما هي باعتبار الكشف النوعيّ لكل منهما عن المراد الجدي المنافي للآخر بحيث لا يمكن الالتزام بكل منها ـ وإلاّ فمع الغض عنه لا تعارض بين الأدلة بلحاظ المستعمل فيه في كل منها ، إذ مع العلم بأنه لا مراد جديا على طبق المستعمل فيه والمقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلة ـ

ولأجل ذلك تلاحظ النسبة في باب المعارضة بلحاظ مقدار الكشف النوعيّ للدليل عن المراد الجدي فمع تخصيص أحد الدليلين بالمخصص المنفصل تتضيق دائرة كشفه عن المراد الجدي ، إذ يعلم ان المراد الجدي أضيق مما يتوهم ، فيتضيق موضوع الحجية قهرا.

ومعه تنقلب النسبة بالضرورة ، إذ بعد فرض تضييق دائرة كشف العام عن المراد الجدي ، وكون الملحوظ في باب المعارضة هو كشف الدليلين عن المراد الجدي ، كانت نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاصّ إلى العام ، لأن ما يلحظ في مقام المعارضة أخص فيه منه في العام الآخر.

ولا وجه لملاحظة مجموع مدلول العام بعد ان لم يكن كاشفا بمجموعه عن المراد الجدي.

وبالجملة : فموضوع أصالة الظهور هو الكشف عن المراد الجدي الواقعي ويثبت بها نفس المراد الجدي ومطابقته لظاهر الكلام ومدلوله الاستعمالي وبذلك تفترق عن أصالة الجهة ، فانها تجري في تعيين كون الكلام مسوقا لبيان المراد الواقعي ، وانه صادر عن الإرادة الحقيقية الجدية لا عن تقية أو امتحان أو نحوهما فأصالة الجهة تجري في إثبات الإرادة الجدية وأصالة الظهور تجري لإثبات المراد الجدي وما تعلقت به الإرادة الجدية بعد فرض ثبوتها وتحققها.

ومن هنا يظهر ما في كلام السيد الخوئي ـ كما في بعض تقريرات بحثه (١) ـ

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٨٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٤

من المسامحة والغفلة في عدّ أصالة الظهور وأصالة الجهة أصلا واحدا يختلف التعبير عنه ـ وهو يتضيق بعد ورود المخصص فتتضيق الحجية قهرا ، وتنقلب النسبة.

ولكن ما أفاده قدس‌سره ـ وان كان قد استوضحه بحيث جعل انقلاب النسبة بملاحظته من القضايا التي قياساتها معها ـ لا تمكن الموافقة عليه. وذلك لأن مراده ..

ان كان ان موضوع المعارضة هو الكشف عن المراد الجدي لأنه موضوع الحجية ، فمع تخصيص الدليل بالمنفصل تتضيق دائرة كشفه فتنقلب النسبة حينئذ.

ففيه :

أولا : ان الكشف الّذي يكون موضوع الحجية ليس هو الكشف الشخصي الفعلي الظني أو العلمي ، كي يكون قيام الدليل الآخر المنافي له رافعا له ، إذ لا يبقى معه علم أو ظن بثبوت المراد الجدي على طبق الكلام.

وانما هو الكشف النوعيّ الطبيعي الثابت مع الظن بالخلاف ، بل مع العلم به ـ وان لم يكن موضوع الحجية في هذا الحال ـ إذ معناه ان الدليل لو خلي ونفسه كاشف وموجب للظن بالمراد الجدي نوعا ، ولا يخفى اجتماع هذا المعنى مع الظن الشخصي بالخلاف.

وقيام الدليل المخصص لا يوجب تضييق دائرة كشفه النوعيّ كي تنقلب النسبة في مقام المعارضة ، بل يبقى الدليل على ما هو عليه من الكشف وان لم يكن حجة فيه.

وثانيا : ان الكشف النوعيّ ليس هو موضوع الحجية ، بل موضوعها امر آخر وهو الظهور ، بمعنى ان الدلالة الاستعمالية للكلام الظاهرة في المعنى هي التي تكون موضوع الحجية على المراد الجدي عند العقلاء ، نعم ، منشأ ذلك هو ما يقتضيه الظهور من الكشف النوعيّ عن المراد الجدي.

والدليل على ذلك ما هو المتداول على الألسنة والمرتكز في الأذهان من :

٣٥٥

« حجية الظاهر » و « ان الظاهر حجة عند العقلاء » ، ونحو ذلك من التعبيرات ، وظاهر انه ليس المراد من الظهور هو نفس الكشف النوعيّ ، بل ما هو من صفات الكلام المساوق للوضوح وعدم الإبهام والخفاء.

اما نفس الكشف النوعيّ ، فهو ليس موضوع الحجية وانما هو ملاكها ، نظير الطريقية التي تكون منشأ لحجية نفس الخبر ، لا ان الطريقية بنفسها حجة عند الشارع أو عند العقلاء.

وان كان مراده ان الملحوظ في مقام المعارضة هو الحجية ، إذ مع فرض عدم حجية أحد الدليلين في مدلوله لا تعارض ، فمع تضييق دائرة الحجية بورود المخصص تنقلب النسبة قهرا ويكون العام المخصص أخص مطلقا من العام الآخر.

ففيه ـ مضافا إلى انه لا يستدعي مثل هذا التطويل والإسهاب وبيان ان الكشف النوعيّ هو موضوع الحجية ، إذ الحجية تتضيق دائرتها بورود المخصص أيا كان موضوعها ، فيكفي ان يقال بنحو الإيجاز انه بقيام الدليل تتضيق دائرة الحجية ، ومعه تنقلب النسبة ولا داعي إلى هذا التطويل ـ انه :

ان أريد بذلك ان طرفي المعارضة هما الظهوران بما انهما حجة بحيث يكون وصف الحجية مقوما لموضوع التعارض.

فهو ممنوع ، إذ من البديهي ان الملحوظ في المعارضة وأقوائية الدلالة وضعفها انما هو ذات الدليلين بلا لحاظ اتصافهما بالحجية ، بل الاتصاف انما يكون بعد العلاج ، فقد يتكافأ الدليلان فيسقطان معا عن الحجية ، وقد يتقدم أحدهما لكونه أقوى فيتصف بها دون الآخر ، فالحجية في طول التعارض والعلاج ، لأنها مأخوذة في موضوع التعارض ، فلاحظ.

وان أريد ان طرفي المعارضة هو ذات الظهورين ولكن بالمقدار الّذي يكونان به موضوعا للحجية ، فحيث انه بورود المخصص يكون الظهور الموضوع للحجية أضيق دائرة من ظهور العام الآخر فتنقلب النسبة قهرا.

٣٥٦

ففيه : انه ...

ان أريد بالحجية الحجية الفعلية. فقد عرفت انها في طول التعارض والعلاج ، إذ مع المعارضة لا معنى لفرض الحجية الفعلية لكلا الظهورين ، لأنها مركز المعارضة وما عليه التدافع.

وان أريد بها الحجية الشأنية الاقتضائية. فهي لا تتضيق بالتخصيص ، إذ الظهور يبقى على ما كان من قابليته للحجية لو لا المعارض الأقوى.

ولو تنزلنا عن ذلك ، فما قرره قدس‌سره لا يفيد في إثبات المدعي من ترتب آثار انقلاب النسبة وتقدم العام المخصص على غيره من العمومات المعارضة له.

لأن تقدم الخاصّ على العام انما هو باعتبار أقوائية دلالته وظهوره في الخاصّ من العام ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ ولا يخفى انه بورود الدليل الخاصّ لا تتضيق دائرة دلالة العام بحيث تقتصر على الباقي الّذي هو موضع التنافي ، بل هو على ظهوره العمومي ـ كما هو الفرض ـ وانما المتضيق هو دائرة الحجية ، فالباقي مدلول للعام في ضمن دلالته على العموم فلا يكون العام المخصص أقوى ظهورا في الباقي من العام الآخر ، إذ كل منهما يدل عليه ضمنا بلحاظ دلالته على العموم ، وان كان أحدهما أضيق دائرة في مقام الحجية من الآخر ، إلاّ انه لا يجدي في التقدم ، فتدبر جيدا.

هذا كله فيما يتعلق بكلام هؤلاء الاعلام. وتحقيق الحال ، ان يقال (١) : ان من

__________________

(١) لا يخفى انه ينبغي ان يبحث عن : ان أحد العامين من وجه إذا خصص بمخصص ، هل يتحقق فيه ملاك تقديم الخاصّ على العام أو لا؟ وهكذا لو خصص العام بأحد الخاصّين ، هل يفقد الخاصّ الآخر ملاك التقديم على العام أو لا؟

ولا أهمية لبيان انقلاب النسبة وعدمه ، فان هذا العنوان لم يؤخذ في موضوع دليل بل المدار على ما عرفت ، فانه هو محط الأثر العملي في تقديم دليل على آخر وعدم تقديمه ، ولو بقيت النسبة على حالها بين الدليلين.

٣٥٧

.........................................

__________________

وتمهيدا لذلك لا بد من الإشارة إلى الآراء في تقديم الخاصّ على العام ، وهي وجوه :

منها : ما قربناه من ان دلالة العام على العموم تتبع جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، فيكون الخاصّ منافيا لإطلاق المدخول ، فيتأتى فيه الوجه في تقديم المقيد على المطلق ، وهو كشفه عن عدم كون المتكلم في مقام البيان من جهة المقيد فلا إطلاق له.

ومنها : ما ذهب إليه المحقق النائيني ـ في بعض كلماته ـ من انه لأجل قرينية الخاصّ على العام ، والقرينة مقدمة عرفا على ذي القرينة بلا كلام ، وعلى هذا بني تقديم الخاصّ على العام ولو كان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العام.

ومنها : ما يظهر من صاحب الكفاية وغيره ، من انه لأجل كون الخاصّ أظهر من العام ، والأظهر يقدّم على الظاهر عرفا.

إذا عرفت ذلك فلنبدأ في الكلام بالصورة الثانية ، وهي : ما إذا ورد عامين بينهما العموم من وجه ، ثم ورد خاص لأحدهما يخصصه في مورد الافتراق ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم النجفيين » ، وورد : « لا تكرم العالم غير النجفي ».

وليعلم ان البحث يقع في : ان الخاصّ بمجرد ثبوته ووجوده هل يؤثر في قلب النسبة بين : « لا تكرم النجفيين » و : « أكرم العلماء » بالمعنى الّذي عرفته لانقلاب النسبة أو لا يؤثر؟ وليس البحث في انه بعد إعمال الخاصّ وتقديمه هل تنقلب النسبة أو لا؟ كي يرد عليه : بأنه ما الوجه في ملاحظة الخاصّ أوّلا قبل العام الآخر.

يبقى في المقام شيء لا بد من التنبيه عليه فيما نحن فيه ، وان تعرض له الاعلام في مجال آخر ، وهو : انه على القول بانقلاب النسبة ولزوم الترتيب في العلاج في بعض الموارد ، قد نعين لزوم الترتيب في العلاج بين الخاصّين الصادرين عن إمامين ، فيخصص العام بالأول ، فمع ورود الثاني تكون نسبته مع العام نسبة العموم من وجه لا نسبة العموم المطلق.

وأورد عليه في مصباح الأصول : بأنه قد مرّ مرارا بأن الكلام الصادر عن المعصومين بمنزلة كأنه كلام واحد ، لأنهم في مقام بيان الأحكام لا تأسيسها ، فلا وجه حينئذ لملاحظة الخاصّ الأسبق زمانا ثم يلاحظ المتأخر ، بل يخصص العام بهما دفعة واحدة كما تقدم.

والتحقيق ان يقال : ان القائل بانقلاب النسبة اما لأجل ان المخصص المنفصل يهدم ظهور العام في العموم كالمخصص المتصل ، باعتبار ان ظهور العام في العموم بالإطلاق ، واعتبار جواز المقدمات في المراد الجدي كما تقدم ، أو لأجل انه يضيق دائرة حجيته ، وموضوع المعارضة هو الدليل بلحاظ حجيتهما ـ مع بقاء ظهور العام في العموم اما لأن ظهوره بالوضع أو بالإطلاق ، ولكن المقدمات تجري في المراد الاستعمالي.

٣٥٨

يلتزم بأن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق ليست بالوضع وبنفسها ، بل بتبع ما يراد من مدخولها بحسب جريان مقدمات الحكمة فيه.

ويلتزم أيضا بأن مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الجدي بحيث يكون الدليل المنفصل موجبا لتضييق دائرة ظهوره الإطلاقي كالمتصل ، وكاشفا عن انه لم يكن في مقام البيان من جهة المقيد ، فينهدم إطلاقه من هذه الجهة وينعقد في غيرها.

من يلتزم بهذين الالتزامين ، لا محيص له عن الالتزام بانقلاب النسبة ، إذ مع ورود الدليل الخاصّ المنافي لأحد العامين ينهدم إطلاقه وينعقد في غير مورد القيد ، فيكون بالنسبة للعام الآخر خاصا.

وبما ان المحقق النائيني يلتزم بكلام الالتزامين فانقلاب النسبة لديه ضرورة واضحة.

__________________

وعلى كلا التقريبين يتعين الترتيب في الملاحظة مع السبق الزماني ولو من امام واحد.

اما على الأول ، فواضح ، لأنه بعد ورود الخاصّ الأول ينهدم ظهور العام في الباقي ، فتكون نسبة الثاني حين وروده نسبة العموم من وجه ، كما لا يخفى.

واما على الثاني ، فظهور العام وان كان بعد ورود الخاصّ الأول على حاله ، إلاّ ان حجيته ـ التي هي مناط المعارضة لا ظهوره ـ تتضيق قطعا ، فيكون العام حجة في غير مورد الخاصّ الأول ، ويبقى هكذا حتى ورود الخاصّ الثاني ، ومعارضة الخاصّ الآخر انما هي بمقدار حجيته لا بمقدار ظهوره كما هو الفرض.

وهما بهذا اللحاظ عامّان من وجه ، وان كان بينهما بلحاظ الظهور عموم وخصوص مطلق.

ومن هنا يظهر ما في كلام مصباح الأصول من الابتعاد عن موضع الكلام ونكتته ، فان كون كلام الكل بمنزلة كلام واحد لا ينافي ما ذكرنا ، إذ تعدد الصادر منه الكلام ووحدته لا ترتبط بنكتة المطلب التي بيّناها ، المتقومة بالسبق الزماني وان صدر الكلامان عن امام واحد.

نعم ، هذا ـ أعني : ما ذكرناه ـ انما يجدي بالنسبة إلى من أدرك الإمامين وسمع من الأول الخاصّ الأول ومن الآخر الثاني. اما بالنسبة إلى من تأخر عن زمان الأئمة عليهم‌السلام ، وعثر على العام والمخصصين المترتبين زمانا ، فلا يجدي ما ذكر ، لأن ما ذكرناه متقوم بكون العام حجة لديه في غير مورد الخاصّ الأول ثم يرد الخاصّ الآخر ، والحجية انما تكون بالوصول ، ومع وصول المجموع دفعة واحدة لم يكن العام قبل ورود أحد الخاصّين حجة بالنسبة إليه كي تنقلب نسبته مع وروده ، بل هو في هذه الحال حجة في غير مورد الخاصّين. فلاحظ.

٣٥٩

واما من يلتزم بدلالة ألفاظ العموم عليه بنفسها لا بتبع ما يراد من مدخولها. أو يلتزم بجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي بحيث لا يكون المخصص المنفصل هادما لظهوره الإطلاقي بل رافعا لحجيته على المراد الجدي.

فلا وجه لالتزامه بانقلاب النسبة ، إذ ظهور العام في الاستغراق لا ينهدم بورود المخصص ، فتبقى نسبته مع العام الآخر كما كانت قبل التخصيص.

نعم ، بناء على ان ورود الخاصّ المنفصل يكون هادما لظهور المطلق في المراد الاستعمالي أيضا ، بحيث يكشف عن انه ليس في مقام البيان لمراده الاستعمالي ، يتجه القول بانقلاب النسبة وان كانت مقدمات الحكمة جارية في المراد الاستعمالي كما لا يخفى.

فمجمل القول : ان انقلاب النسبة لا محيص عن القول به على بعض الالتزامات في باب العام والمطلق ، ولا وجه له على الالتزامات الأخرى.

هذا كله في بيان انه بعد التخصيص هل ينقلب ظهور العام وينعقد له ظهور ثانوي في الباقي فتنقلب النسبة ، أو لا ينقلب ظهوره وبقي على ما كان عليه فلا تنقلب النسبة (١)؟

__________________

(١) اما بناء على المسلك المختار ، فلأن العام نصّ في بعض افراده بنحو الجملة ، يعني لا يمكن ان يفرض انه ليس في مقام البيان في بعض الافراد بنحو الموجبة الجزئية.

نعم ، إثبات الحكم للجميع انما هو بالإطلاق ، فإذا ورد المخصص للعام ، كشف عن عدم كونه في مقام البيان من جهته ، ودل بالملازمة على ان العام في مقام البيان من جهة غيره من الافراد ، فكان العام بمقتضى دلالة الخاصّ التزاما نصا في بعض الافراد غير الخاصّ ، ومقتضى ذلك ان يكون مقدما على العام الآخر غير المخصص ، لأنه نصّ في مورد الاجتماع ، فيكون كما لو فرض ان مورد الاجتماع كان موردا لأحد العامين ، بحيث لا يمكن حمله على غيره لأن تخصيص المورد مستهجن.

ولا يقال : ان هذا انما يتم إذا لوحظ الخاصّ أولا ، ولم يقدم الخاصّ على العام الآخر.

وذلك ، لأن ملاحظة العامين أولا تستلزم التصرف في التخصيص ، لأن عدم حجية العام في المجمع من باب التساقط ، وهو لا يستلزم كونه نصا في غير المجمع كي تنقلب النسبة بينه وبين

٣٦٠