منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

وذلك لأن موضوع الحجية ـ على الفرض ـ هو أحدهما ، فالجائز ترتيب آثار هذا العنوان فقط. ولا يخفى ان ما يتكفل لإثبات خصوص وجوب الظهر أو الجمعة مثلا هو الفرد بخصوصه لا بما انه أحدهما ، فلا يصح الالتزام بما يؤديه الفرد عملا إذ ما قامت عليه الحجة هو الجامع ، كالوجوب مثلا. اما خصوصية وجوب الظهر أو غيرها فلم تقم عليه الحجة.

وبالجملة : فالجائز هو ترتيب آثار ما يشترك في بيانه كلا الدليلين ، كأصل الوجوب. اما خصوصياته التي يختلف الدليلان في بيانها ، فهي ليست من مؤديات الجامع ، بل من خصوصيات الافراد ، فلا وجه للالتزام بها في مقام العمل لخروجها عن مقتضى الحجية.

وثانيا : انه لا معنى للتخيير بهذا المعنى في بعض الموارد ، كما لو دل أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة ، فانه لا معنى للالتزام بأن الحجة هو الجامع بين الدليلين المذكورين ، إذ لا جامع بين مدلوليهما كي يلتزم به مقتضى حجية الجامع ، فلاحظ.

وأما التخيير بمعنى سنخ وجوب مشوب بجواز الترك ، بأن يقال فيما نحن فيه :

ان الحجية ثابتة لكل من الدليلين لكنها سنخ حجية ضعيفة متوسطة بين الحجية واللاحجية.

فلأنه ـ مع قطع النّظر عن عدم تعقل ذلك في نفسه ، إذ الكلام فيه يحتاج إلى بسط مقال لا يسعه المجال ـ يقال : ان المقصود من الحجية أو معناها ـ بأي معنى كانت من ان المجعول هو المؤدى فيترتب عليه المنجزية والمعذرية ، أو الطريقية ، أو نفس الحجية ـ هو ترتب المنجزية والمعذرية على الحجة ، فمع اجتماع الدليلين وحجيتهما في أنفسهما بهذا السنخ من الحجية الضعيفة يدور الأمر بين ان تترتب المنجزية على كلا الدليلين مطلقا ، أو لا تترتب مطلقا ، أو تترتب على تقدير دون آخر.

٣٢١

فعلى الأول : يلزم المحذور لاجتماع المنجزين على امرين متضادين ذاتا أو عرضا.

والثاني : خلف فرض الحجية.

والثالث : يقع الكلام فيه في النحو الثالث لرجوعه إليه.

واما التخيير : بمعنى الوجوب المشروط بأن يكون وجوب كل منهما مقيدا بترك الآخر ، فالمراد منه في باب الحجية أحد احتمالات ثلاثة :

الأول : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم حجية الآخر ، وهو باطل لأنه يستلزم ان تكون حجية كل منهما مانعة عن حجية الآخر ، فتكون حجيتاهما متمانعتين. فلا يمكن اجتماعهما أصلا ، لأن إحداهما تمنع عن الأخرى ، فينتفي موضوع التخيير.

الثاني : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم العمل على طبق مؤدى الآخر ، وهو باطل أيضا ، إذ يمكن ان يكون مؤدى أحدهما وجوب الشيء والآخر حرمته ، فمع ترك العمل على طبق الدليل الدال على الحرمة بالإتيان بالفعل ، لا معنى لحجية الدال على الفعل والأمر بالعمل به ، إذ لا معنى للأمر بالفعل مع الإتيان به. مع ان هذا الفرض يقتضيه.

الثالث : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم الاستناد إلى الآخر ، وهو فاسد ، لاستلزامه شمول الحجية لكل منهما ، مع عدم الاستناد إلى كل منهما ، لحصول شرط حجية كل منهما ، فيرجع التنافي.

وهذا المحذور يتأتى في الفرض الثاني أيضا ، إذ مع ترك العمل بمؤدى كل منهما يكون دليل الحجية شاملا لكل منهما ، فيرجع المحذور لحصول التنافي.

والمتحصل : ان التخيير في باب الحجية بأنحائه الثلاثة في باب الأحكام لا يتصور له معنى معقول ، فتدبر جيدا.

نعم ، هناك نحو آخر يتصور ثبوتا للتخيير في مقام الحجية ، وهو ان تكون

٣٢٢

حجية كل منهما مقيدة بالبناء على الالتزام بمؤداه ، فمع عدم البناء على الالتزام بمقتضاه لا يكون مشمولا للحجية.

وهذا معنى معقول ثبوتا فيمكن ان يحمل عليه ما ورد من أدلة التخيير بين الدليلين في بعض الموارد ، بلا حاجة إلى تكلف تأويل له بالحمل على التخيير في المسألة الفرعية ، كما هو الحال لو لم يثبت تعقل التخيير في المسألة الأصولية.

إلاّ ان هذا النحو لا يجدي فيما نحن فيه ، إذ لا يرفع التنافي بين الدليلين عرفا ـ كما في التخيير في المسألة الفرعية ـ ، إذ لا يستلزم التصرف بمؤدى كل منهما بنحو يرتفع التنافي ، بل كل باق على مؤداه ، فلا وجه للالتزام به في المورد الّذي نحن فيه.

ومع عدم تعقل تلك الأنحاء ثبوتا ، وعدم إمكان الالتزام بهذا النحو إثباتا ، فلا محيص عن الالتزام بأحد الاحتمالات الأخرى ، من التساقط أو التوقف أو غيرهما.

وقد عرفت ان الشيخ التزم بالتوقف وتساقط الدليلين في الدلالة المطابقية لهما وبقائهما على الحجية في نفي الثالث ـ وهو معنى التوقف ـ وبنتيجة ذلك التزم صاحب الكفاية قدس‌سره إلاّ انه بغير الطريق الّذي سلكه الشيخ ، بل ذهب إلى ان الدليلين لا يتساقطان ، بل يسقط أحدهما عن الحجية ويبقى الآخر تحت دليل الحجية ، غاية الأمر انه لا تترتب آثار العلم الإجمالي على ذلك ـ كما في مسألة اشتباه الحجة باللاحجة ـ بل هما بالنسبة إلى الدلالة المطابقية كالمتساقطين ، نعم ، يظهر الأثر في شيء آخر أجنبي عن محل الكلام وهو نفي الثالث.

وبيان ذلك (١) : ان دليل الحجية لا يشمل ما يعلم كذبه من الأدلة كما لا يخفى.

__________________

(١) قد يبدو الالتزام بسقوط أحدهما وبقاء أحدهما ـ بهذا المقدار من العنوان ـ مشكلا ، لكن القوم يلتزمون بنظيره في بعض الموارد :

فمن ذلك : مورد تعلق الأمر بفردين من طبيعة واحدة بلا ان يكون لأحدهما خصوصية يمتاز بها على الآخر ، كموارد قضاء الصوم إذا كان الفائت يومين ـ مثلا ـ وموارد الدين الثابت في الذّمّة كدينارين. فانه يلتزم فيما إذا أتى المكلّف بأحد الفردين بلا تعيين سقوط أحد الأمرين

٣٢٣

......................................

__________________

وبقاء الآخر بلا تعيين الساقط والباقي منهما ، فلو أعطاه دينارا بعنوان الوفاء التزم ببقاء دينار في الذّمّة بلا تعيين كونه أي الدينارين.

ومن ذلك : مورد الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي لا بعينه ، بناء على الالتزام بالتوسط في التنجيز ـ كما عليه الشيخ «ره» ـ فانه يلتزم بوجوب الاجتناب عن أحدهما بلا تعيينه ، لكون الاضطرار إلى أحدهما بلا تعيين.

ثم ان الالتزام ببقاء أحدهما على الحجية بنحو لا يترتب عليه أثر إحدى الخصوصيّتين ، لا بد وان يوجّه بكون موضوع الحجية هو العنوان الانتزاعي الجامع بين الخبرين ـ وهو عنوان أحدهما ـ وليس المراد به أحدهما المعين في الواقع ، لأنه مضافا إلى كونه ترجيحا بلا مرجح ، يترتب عليه آثار العلم الإجمالي ، وهو مما لا يقصده صاحب الكفاية ، كما انه ليس المراد به أحدهما المردد كي يرد عليه انه لا خارجية له ، بل المراد به ما عرفت من أحدهما الجامع بين الخبرين ، ولأجل ذلك لا يثبت به سوى الجامع بين المدلولين.

وقد عرفت ان لمثل هذا نظائر ، كمثال الدين والاضطرار.

وهذه الموارد تختلف ، فتارة : يترتب على بقاء أحدهما أثر الفرد الخاصّ ، كما في موارد الأمر المتعدد كالدين.

وأخرى : لا يترتب عليه أي أثر كأخبار خمسة متعارضة في الدلالة على الأحكام الخمسة.

وثالثة : يترتب عليه أثر الجامع ، كما لو لم يكن تعارض الخبرين في الوجوب والحرمة.

هذا غاية ما يمكن توجيه كلام الكفاية به ، وبه تندفع بعض الإيرادات عليه.

ولكن يرد عليه :

أولا : انا لم نلتزم في محله ـ ( يلاحظ مبحث النية من كتاب الصوم ) ـ بأساس هذا الالتزام ، وبيّنا عدم معقولية سقوط أحد الأمرين وبقاء الآخر ، وانما يسقط الأمران معا ويحدث امر آخر ناش من غرض واحد.

وهذا لا يتأتى في ما نحن فيه ، فإنا إذا التزمنا بسقوط كلا الخبرين عن الحجية ، فأي مقتض لحدوث حكم جديد يتعلق بأحدهما؟

وثانيا : مع عدم تعقل ما ذكر ، ان ثبوت الجامع بين المدلولين ..

ان كان بأحدهما الانتزاعي ، فهو ليس فردا خارجيا غير الفردين الساقطين عن الحجية ، فمقام الإثبات قاصر عن شموله.

ولعله إلى ذلك يرجع إشكال الشيخ على التخيير : بأن أحدهما ليس فردا ثالثا كي يشمله دليل الحجية الثابت لافراد الخبر.

٣٢٤

وحيث ان أحد الدليلين معلوم الكذب كان خارجا عن دليل الحجية بلا كلام.

واما الآخر ، فهو محتمل الإصابة وغير معلوم المخالفة للواقع فيبقى مشمولا لدليل الحجية.

وبما ان خروج أحدهما عن الحجية وبقاء الآخر ليس إلاّ بعنوان أحدهما لا أكثر ، إذ لا تعين للمعلوم بالإجمال ظاهرا في الواقع بحيث لو انكشف كان الآخر غير معلوم الكذب وكان هو معلومه ، فكل واحد منهما ليس بمعلوم الكذب واقعا دون الآخر ، فالمعلوم كذبه لا تعين له الا بهذا المقدار ـ أعني : أحدهما ـ ومثله غير معلومه ، فالحجة وغير الحجة هو أحدهما بلا عنوان.

بذلك خرج المورد عن اشتباه مورد الحجة باللاحجة ـ كاشتباه خبر العادل بخبر الفاسق ـ إذ المعلوم بالإجمال في ذاك المورد له تعين في الواقع يمتاز به عن غيره ، بحيث إذا انكشف كان هو دون غيره ، كخبر زيد مثلا ، فكانت إحدى الخصوصيّتين اللتين يتكفل الدليلان بيانهما ثابتة في الواقع ومنجزة للعلم بها إجمالا ، فلا بد من الاحتياط ـ في مورده ـ وهذا بخلاف ما نحن فيه ، لأن الحجة ليس إلاّ الخبر بعنوان أحدهما ، فكلتا الخصوصيّتين لا منجز عليهما كي يتعين الاحتياط ، لأن كلا منهما غير معلوم الحجية بعنوانه الّذي يكون متعلق العلم الإجمالي.

نعم ، يترتب على الخبر الّذي يكون حجة واقعا نفي الثالث. فنفي الثالث يكون بأحدهما بلا عنوان ، لا بكليهما ، لأن أحدهما ساقط عن الحجية.

وبهذا يتفق مع الشيخ في النتيجة (١).

وللنظر فيما أفاده مجال من وجوه :

__________________

وان كان بكلا الخبرين ، فهو راجع إلى حجيتهما معا ، وهو خلاف مدعاه من سقوط أحدهما عن الحجية.

هذا مع ان الجامع مدلول ضمني للخبرين ، والأخذ بالمدلول التضمني مع سقوط المطابقي عن الحجية لا وجه له للتلازم بينهما في الحجية ، فتدبر جيدا.

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٢٥

الأول : ان شرط الحجية هو احتمال الإصابة ، وهو متحقق في كل من الدليلين في نفسه ، فكل منهما بنفسه يشتمل على شرط الحجية فيكون موضوعا للحجية ، فلا وجه للالتزام بخروج أحدهما عن الحجية بالعلم الإجمالي ، إذ العلم الإجمالي لا يكفى في رفع الموضوع بعد تحقق الشرط في كل منهما في حد ذاته.

الثاني : انه لو سلمنا خروج أحدهما عن الحجية وبقاء أحدهما على الحجية ، فكون أحدهما على البدل وبلا عنوان موضوعا للحجية غير وجيه ، إذ لا تعين لـ : « أحدهما على سبيل البدل » في الواقع ولا وجود له كي يكون قابلا لشمول الحجية له ـ كما تقدم ـ الثالث : انه لو سلمنا بإمكان تصور الفرد على البدل ، إلاّ ان إثبات حجيته يحتاج إلى دليل آخر يتكفل ذلك ، لأن دليل الحجية يتكفل إثبات الحجية لكل فرد بخصوصه ، فهو قاصر عن شمول الواحد على سبيل البدل ، فلاحظ.

وعلى كل ، فهل الوجه هو التساقط مطلقا ، أو الاحتياط ، أو التوقف؟

اما الاحتياط فلا أصل له الا رواية (١) مخدوش في سندها وراويها حتى ممّن يتساهل في العمل بالأخبار ـ كصاحب الحدائق ـ واما التوقف في العمل الّذي يرجع إلى الاحتياط بملاك أدلته المذكورة في مورد البراءة فكالأول ، لاختصاص رواياتها بموارد ليس ما نحن فيه منها.

فالمتعين هو التوقف ، بمعنى نفي الثالث ، كما التزم بها الشيخ ، لما تحقق في محله (٢) من عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية في مثل ما نحن فيه ، مما لم يعلم بانتفاء المدلول المطابقي واقعا بل يحتمل ثبوته ، وحيث ان الدليلين متصادمان في دلالتهما الالتزامية عن الحجية لخروجهما عن مورد المعارضة ، فكل من الدليلين ينفي الثالث بالالتزام. ومنه يظهر منع الالتزام بالتساقط مطلقا.

__________________

(١) هي مرفوعة زرارة ، المروية في غوالي اللئالي ٤ ـ ١٣٣ ، حديث : ٢٢٩.

(٢) راجع الكلام في ذلك في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده.

٣٢٦

ثم انه لا يخفى ان الأصل المذكور غير ذي أثر عملي بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين لأنهما مورد الاخبار العلاجية ، فهما خارجان عن الأصل كيف كان ، فلاحظ.

تذييل : هل الجمع مهما أمكن أولى بحيث انه مع إمكانه ولو بضرب من التأويل لا يرجع إلى الأصول الأولي ولا الأصل الثانوي ـ وهو مفاد الاخبار العلاجية ـ؟

وقع الكلام في ذلك ، وقد أطنب في الكلام عن هذه القاعدة بعض (١). وغاية ما يمكن الاستدلال به على هذه الدعوى وجهان :

الأول : ان دليل الاعتبار والحجية يتكفل لزوم العمل بالدليل الا في فرض لزوم محذور عقلي في العمل به ، فإذا أمكن العمل بنحو يرتفع المحذور العقلي كان مقتضى دليل الحجية لزوم العمل به.

وعليه ، فبما ان كلا من الدليلين موضوع للحجية ، فدليلها يتكفل لزوم العمل بهما بالمقدار الّذي لا يلزم منه المحذور العقلي ، فإذا أمكن تأويلهما بنحو يرتفع بينهما التنافي الظاهر المانع عن العمل بهما عقلا فهو المتعين ، لأنه مقتضى دليل الاعتبار.

الثاني : انه كما يرتكب التأويل في مقطوعي الصدور لرفع التنافي بينهما ، كذلك مقتضى دليل الحجية ذلك في مظنوني الصدور ، لأنه يتكفل الإلزام بمعاملتهما معاملة مقطوعي الصدور ، فيترتب عليهما آثار المقطوعين صدورا.

وقد أنكر الشيخ رحمه‌الله هذين الدليلين ، باعتبار اختلاف المورد الّذي نحن فيه عن مورد القاعدة بأدلتها المذكورة.

ببيان : ان الأمر فيما نحن فيه يدور بين الالتزام بدليل حجية الظهور والالتزام بدليل حجية السند. وذلك فان كلا من الخبرين موضوع لدليلين :

أحدهما : دليل حجية السند واعتباره.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٣ ـ الطبعة القديمة.

٣٢٧

والآخر : دليل اعتبار الظهور وحجيته.

والقدر المشترك بين الالتزام بالقاعدة والالتزام بالأخبار العلاجية هو الأخذ بدليل اعتبار السند وتصديق الخبر في أحدهما. ويبقى الأمر بعد هذا دائرا بين العمل بدليل اعتبار الظهور في هذا الخبر أو طرحه والعمل بدليل اعتبار السند للخبر الآخر ، فالمورد خارج عن مورد القاعدة ، لأنها تبتني على ثبوت الاعتبار ، كي يقال بأن مقتضاه لزوم العمل بالمقدار الممكن ، وهذا في ما نحن فيه محل الإشكال والكلام.

ومنه يظهر : انه لا وجه لقياس المقام بالدليلين القطعيي الصدور ، لثبوت دليلي اعتبار السند في كل منهما ويبقى دليلا اعتبار الظهور متعارضين ، فيجمع بينهما بالمقدار الممكن الرافع للتنافي ويؤخذ بالدليلين بالنحو الميسور.

وعلى هذا فلا دليل على هذه القاعدة ، بل الدليل على خلافها وهو الاخبار العلاجية ، إذ بالالتزام بهذه القاعدة لا يبقى مورد لهذه الاخبار الا ما شذ ، فتكون لغوا.

وقد يستشكل : بأنه قد تقدم انه لو ورد دليلان يدلان على وجوب شيئين مع العلم بعدم وجوبهما تعيينا يتصرف فيهما بتقييد إطلاق كل منهما الدال على التعيين بترك العمل بمتعلق الآخر ، فيكون وجوبهما تخييريا ، وبه يرتفع التنافي ويكون كلا الدليلين مشمولين لدليل الحجية. فكما يرفع التنافي هناك بالتقييد فليرفع فيما نحن فيه به أيضا فيحمل ـ مثلا ـ : « ثمن العذرة سحت » (١) ، على عذرة الإنسان ، ويحمل : « لا بأس ببيع العذرة » (٢) على عذرة غيره ، فيرتفع التنافي فيكون دليل الحجية شاملا لكلا الدليلين.

والجواب : ان بين المقامين فرقا فارقا ، فان المورد السابق لما كان التنافي فيه بحسب بعض المدلول ـ وهو التعيينية ـ التزم برفع اليد عن ذلك البعض في كلا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٢ ـ ١٢٦ باب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، حديث : ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٢ ـ ١٢٦ باب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ، حديث : ٢ و ٣.

٣٢٨

الدليلين بالتقييد الّذي هو حقيقة الوجوب التخييري ، فيبقى الباقي ـ وهو أصل الوجوب ـ مطابقا للمتفاهم العرفي للدليل ، إذ هو بعض المدلول لا انه غيره.

بخلاف هذا المورد ، فان التنافي في كل المدلول ومجموعه كما لا يخفى ، وليس هناك مورد يفترق فيه أحد الدليلين عن الآخر ، فالالتزام برفع اليد عن مورد التنافي التزام بتساقط الدليلين. والالتزام بالنحو المذكور من التقييد التزام بجمع تبرعي لا يتفق مع التفاهم العرفي للكلام فيحتاج إلى الدليل.

والمحصل : ان الجمع بين الدليل إذا لم يكن عرفيا موافقا لمتفاهم الكلام بحيث يكون للكلام ظهور فيه ـ وان لم يكن بدويا ـ فلا دليل عليه.

ثم انه قد تقدم (١) ذكر بعض موارد الجمع العرفي ، وكان منها تقديم الأظهر على الظاهر.

ولكن تشخيص الأظهر على الظاهر قد يشكل باعتبار اختلاف الإفهام.

وقد ذكر الاعلام بعض الموارد شخصوا فيها ذلك وجعلوها مطردة في جميع مصاديقها :

فمنها : لو اجتمع المطلق الشمولي والمطلق البدلي وكانا متنافيين ، مثل « أكرم

__________________

(١) لا بأس قبل التعرض إلى تحقيق بعض صغريات الجمع العرفي من التنبيه على امر ، وهو : ان الاخبار العلاجية لو تمت بأي نحو من أنحائها من تخيير أو ترجيح ، هل تشمل موارد الجمع العرفي ، كموارد العام والخاصّ والمطلق والمقيد ، أو لا تشمل تلك الموارد ، بل تختص بموارد التعارض المستحكم عرفا بين الدليلين؟

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى ذلك وبيّن وجه الشمول كما بيّن دفعه.

وتحقيق ذلك بإجمال : انه لا يمكن فرض كون هذه الاخبار العلاجية رادعة عن السيرة المستمرة على تقديم النص على الظاهر في الموارد الثابتة فيها ، وذلك للعلم بصدور المخصصات للعمومات والمقيدات للمطلقات من قبل الشارع قبل صدور الاخبار العلاجية ، ومن الواضح ان صدورها يكون لغوا لو فرض عدم إقرار الشارع لطريقة العقلاء القائمة على الجمع بينهما ، إذ بناء العرف عند صدورها وقبل ورود الرادع على الجمع العرفي ، والمفروض ان الشارع لا يقرّ ذلك فيكون صدورها لغوا ، إذ لا يترتب عليه المقصود ، فتدبر.

٣٢٩

عالما » و : « لا تكرم الفاسق » فانه ادعي أظهرية الأول من الثاني.

وقد قرب المحقق النائيني قدس‌سره ذلك بوجهين :

الأول : انه مع الالتزام بالإطلاق الشمولي في مورد الاجتماع والتنافي لا يلزم التصرف بالإطلاق البدلي ، فان مفاد الإطلاق البدلي ثبوت الحكم إلى أحد الافراد ، فإخراج بعض الافراد عنه لا يوجب التصرف بمدلوله المذكور ، فان الحكم ثابت لأحد الافراد كما لا يخفى. نعم ، يوجب تضييق دائرة متعلقه.

والالتزام بمدلول الإطلاق الشمولي ، لأن مدلوله ثبوت الحكم لكل فرد فرد ، فرفع اليد عن الحكم في بعض الافراد يستلزم التصرف في مدلوله فالتنافي من جهة الإطلاق الشمولي يرجع إلى مدلول الكلام. ومن جهة الإطلاق البدلي ليس كذلك. فيتعين رفع اليد عن الإطلاق البدلي ، لأنه ليس فيه رفع لليد عن مدلول الكلام وتصرف في ظاهر الدليل.

الثاني : ان عموم المطلق البدلي لجميع افراده باعتبار حكم العقل بتساوي الافراد وعدم المميز لأحدها على الآخر. ومع وجود الإطلاق الشمولي يرتفع حكم العقل المذكور ، إذ مقتضاه وجود الميزة لهذا الفرد ، فيخرج عن دائرة المطلق البدلي ، فتكون نسبة الإطلاق الشمولي إلى البدلي نسبة الوارد إلى المورود ، كما لا يخفى (١).

وقد أورد على الأول :

أولا : بأنه وجه استحساني لا عبرة به في الترجيح في باب الألفاظ في مقام التفهيم ، ولا يقوم دليلا على تعيين مراد المتكلم وحجة عليه يستند إليه في مقام الفتوى واستنباط المسألة الأصولية ، فان شأن الأصولي إيصال دليله إلى العلم أو العلمي ، وليس الوجه موجبا للعلم كما انه لا دليل على ثبوته والالتزام به شرعا ولو بتوسط سيرة العقلاء ، فلاحظ.

وثانيا : بان كل إطلاق بدلي يشتمل على إطلاق شمولي ، وهو جواز التطبيق

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥١٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٠

بالنسبة إلى كل فرد ، فيحصل التعارض بينهما. فيلزم من تقدم الإطلاق الشمولي التصرف في مدلول الإطلاق البدلي بلحاظ اشتماله على الشمولية.

وعلى الثاني : بأن حكم العقل بتساوي الافراد لم يكن مأخوذا في موضوع الإطلاق البدلي كي يكون الدليل الشمولي الدال على المزية رافعا لموضوعه وواردا عليه ، بل هو مستفاد من نفس الإطلاق ومقدمات الحكمة الجارية فيه فلا تكون نسبة الإطلاق الشمولي إليه نسبة الوارد إلى المورود (١).

هذا ، ولكن يمكن توجيه كلام المحقق النائيني بنحو لا يتوجه عليه أي إيراد ، ويتضح ذلك ببيان أمور ثلاثة :

الأول : ان ظهور المطلق في الإطلاق لما كان بمقدمات الحكمة فيقدم عليه كل ما « يصادم الإطلاق خ ل » يصلح للدلالة على التقييد لفظيا كان أم عقليا ، وذلك :

اما لانهدام الإطلاق بورود ما يصلح للمقيدية ـ لو قلنا بجريان مقدمات الحكمة في المراد الجدي ـ لانتفاء إحدى مقدمات انعقاده وهي عدم البيان ، لأن المراد به على هذا عدم البيان إلى الأبد ، وقد انتفى بالدليل على الشمول.

أو لأجل قيام الحجة الأقوى ظهورا على خلافه مع بقائه على إطلاقه ـ لو قيل بجريانها في المراد الاستعمالي ، إذ عليه لا يكون المقيد المنفصل رافعا للإطلاق ـ وهذا واضح لا غبار عليه وقد تقدم بيانه مفصلا.

الثاني : ان استفادة البدلية والشمولية انما هي بقرينة خارجية وليست من نفس مدلول الكلام ، إذ المطلق بمقدمات الحكمة لا يدل إلاّ على نفس الطبيعة مجردة عن كل قيد ووصف.

اما إرادة الطبيعة كذلك الموجودة بوجود أحد افرادها ـ كما هو مقتضى البدلية ـ أو جميعها ـ كما هو مقتضى الشمول ـ فذلك يعلم من دليل آخر خارجي.

كما استفيدت البدلية من : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) لعدم إمكان الجمع بين جميع

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٣٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٣١

الوجودات فلا يصح الأمر بها واستفيدت الشمولية من : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) للغوية تعلق الحلية ببيع واحد من جميع البيوع كلها.

الثالث : (١) ـ وهو عمدة الأمور ـ ان التنافي في الإطلاق البدلي والشمولي انما هو بين نفس الشمولية والإطلاق ، فان دلالة الإطلاق في المطلق البدلي على الطبيعة من دون أي قيد ينافيه شمول الإطلاق الآخر لبعض الافراد. وإلاّ فبين الإطلاقين لا يوجد أي تناف. ويدلّ على ذلك انه لو كان كلا الإطلاقين بدليين لم يكن هناك أي تناف نظير : « أكرم عالما » و : « لا تكرم فاسقا ».

وهذا كاشف عن انه لا تنافي بين الإطلاقين بما هما بل من ناحية أخرى. كما

__________________

(١) هذا ما بنينا عليه سابقا ، لكن الإنصاف حصول التنافي بين الإطلاقين بحيث لا يمكن اجتماعهما وإرادتهما في آن واحد.

نعم ، منشأ التنافي هو إرادة الشمول في أحد الإطلاقين ، ولكن ليس نتيجة ذلك حصول التنافي بين الشمولية والإطلاق الآخر ، بل نتيجته حصول التنافي بين الإطلاقين ، نظير التنافي الحاصل بين الإطلاقين الناشئ من تنافي الحكمين ، بحيث لو لم يكن الحكمان متنافيين لم يكن تناف بين الإطلاقين بتاتا ، فالتفت.

هذا ولكن الإنصاف ان تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي مما عليه السيرة العرفية ، وأمر ثابت لا يقبل الإنكار ، ولذا لا نجد أحدا يتوقف في تقديم دليل : « لا تغصب » على دليل وجوب الصلاة بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي.

ولعل السر في هذا الأمر المسلم هو عدم التضاد بين هذين الحكمين فلا منافاة بين الدليلين.

اما بناء على عدم التضاد بين الأحكام الا في مرحلة الامتثال فواضح ، إذ يمكن امتثال هذين الحكمين بلا تزاحم ولا تناف بينهما ، فلا مانع من الالتزام بكلا الإطلاقين ، غاية الأمر يحكم العقل بلزوم اختيار الفرد غير المحرم في مقام امتثال الأمر جمعا بين الامتثالين.

واما بناء على التضاد بين الأحكام في أنفسها ، فلأن دليل التضاد لا إطلاق له حتى يشمل هذه الصورة ، بل ملاك التضاد بين الأحكام في أنفسهما ، فلأن دليل التضاد لا إطلاق له حتى يشمل هذه الصورة ، بل ملاك التضاد المذكور في محله لا يشمل ما نحن فيه ، لتعلق الأمر بالطبيعة على نحو البدلية وتلعق النهي بكل فرد ، فلا مجمع للحكمين.

ولو سلم التضاد أمكن ان يعالج بملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فيقدم دليل الإطلاق الشمولي ، لأنه مقدم على الإطلاق البدلي في مقام التزاحم ، لإمكان امتثال البدلي في غير الفرد المحرم ، فتدبر.

٣٣٢

أنه ليس التنافي بين شمولية أحد الإطلاقين وبدلية الآخر ، لما عرفت من ان الالتزام بالشمول لا يوجب التصرف في البدلية ، بل التصرف في متعلقها وهو الطبيعة المرسلة ، ولذا يرتفع التنافي بمجرد تقييد الطبيعة مع المحافظة على أصل البدلية وكون الموضوع أحد الافراد ، فالتنافي انما هو بين الشمول والإطلاق ، والشمولية هي الموجبة لحصول التنافي.

إذا عرفت ذلك يتضح الوجه في تقدم المطلق الشمولي على البدلي ، لأن دلالة الإطلاق البدلي على الشمولي بمقدمات الحكمة.

وقد عرفت ـ بالمقدمة الأولى ـ انها انما تقتضي الشمول والعموم مع عدم الدليل أو ما يصلح للدليلية على الخلاف.

وعرفت ـ بالمقدمة الثانية ـ ان الشمولية التي هي منشأ التنافي والتصادم ـ كما هو مقتضى المقدمة الثالثة ـ تعلم بقرينة خارجية ودليل أجنبي عن مدلول الكلام. وهو صالح لتقييد الإطلاق البدلي ، فيكون متقدما عليه لا محالة ، اما لانهدام الإطلاق البدلي أو لقيام الحجة الأقوى على خلافه.

ويمكن استظهار هذا من كلامه قدس‌سره بما أفاده من : انه بتقديم الإطلاق الشمولي لا يتصرف في البدلي ، فانه ظاهر في ان البدلية ليست محل التنافي ، فتقديم الشمولية لا يوجب التصرف فيها ، فلاحظ.

وبهذا لا وجه حينئذ للإيراد عليه بأنه وجه استحساني ، أو ان الإطلاق الشمولي معارض بإطلاق شمولي آخر.

إذ قد عرفت ان تقدمه عليه ليس لمحض الاستحسان ، بل لانهدام إطلاقه أو عدم شمول دليل الحجية له.

كما ان الإطلاق الشمولي الآخر ثابت من مقدمات الحكمة بالدلالة الالتزامية ، وهي منهدمة أو معارضة بما هو أقوى منها دلالة. وهي القرينة العقلية على الشمول.

٣٣٣

والمتحصل : انه لا مانع من الالتزام بأظهرية الإطلاق الشمولي من الإطلاق البدلي وتقدمه عليه مطلقا ، بل لا بد من الالتزام به مطردا ، فتدبر جيدا فيما ذكرناه فانه لا يخلو عن دقة.

ومنها : ما لو تعارض العام مع المطلق الشمولي ، فقد ذكر : ان العام مقدم على المطلق بتقريب ، ان ظهور العام في العموم لما كان بالوضع كان تنجيزيا. بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق فانه معلق على تمامية مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان ، ومع صلاحية العام للبيانية تنتفي هذه المقدمة فينهدم الإطلاق من أساسه ويتقدم العام عليه (١).

وقد أورد عليه صاحب الكفاية : بان عدم البيان المأخوذ في مقدمات الحكمة انما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا. لفرض كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي لا الواقعي ـ والعام ليس بيانا في مقام التخاطب لانفصاله عن المطلق ، فيكون ظهور المطلق في الإطلاق تاما فيتعارض الظهوران ، فلا بد في ترجيح أحدهما على الآخر من ملاحظة خصوصيات كل منهما بحسب الموارد ، ولا يمكن الجزم والحكم بتقدم أحدهما على الآخر بقول مطلق (٢).

وقد اختار المحقق النائيني (٣) تقدم العام على المطلق ولم يتعرض مقررو بحثه إلى بيان السر في ذلك بعد إشكال الكفاية.

والسر فيه ما عرفته سابقا من اختياره كون مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الجدي الواقعي ، وهذا يقتضي كون ورود ما يصلح للبيانية ـ ولو كان منفصلا ـ هادما للإطلاق لارتفاع مقدمات انعقاده.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٥٧ ـ الطبعة القديمة.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٢٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٣٤

فالذي ينبغي ان يقال (١) : انه لا بد من التفصيل على البناءين في مجرى

__________________

(١) تحقيق الكلام : ان تقديم المقيد على المطلق قد عرفت انه من باب كشف المقيد عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، الّذي هو الأساس في ثبوت الإطلاق ، وعرفت انه يخلّ بالمراد الاستعمالي.

وهذا انما يتم في مورد يمكن ان يلتزم بذلك ـ أعني : عدم كونه في مقام البيان ، اما ما لا يمكن الالتزام به ـ كما لو كان الموضوع المقيد موضوع السؤال في المطلق ، أو كان الإطلاق واردا لبيان حكم عمل المكلف بحيث لا يتصور انه يسمع التقييد بعد ذلك ـ كما أشرنا إليه في مبحث المطلق والمقيد فراجع ـ فلا يقدم المقيد على المطلق ، بل يحصل التعارض بينهما.

والكلام فيما نحن فيه انما هو في غير هاتين الصورتين ، بل في مورد لو كان بدل العام دليلا مقيدا لقيد المطلق ، فيتكلم في ان العام هل يؤدي مهمة الدليل المقيد فيقيد به المطلق ويكون كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان ، أو ليس له هذه المهمة؟

والتحقيق : ان تقديم العام على المطلق يتوقف على الالتزام بأن دلالة العام على العموم وضعية بواسطة الأداة لا إطلاقية بواسطة مقدمات الحكمة ، وكون دلالة الأداة تتبع إطلاق المدخول.

فانه على الأول يصلح العام لأن يكون كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، فيتصرف في المطلق ولا يصلح المطلق للتصرف في العموم ، لأن دلالة العام غير منوطة بمقدمات الحكمة بل هي بالوضع.

واما على الثاني ، فلا يصلح العام للتصرف في المطلق ، لأنه يتوقف على مقدمات الحكمة ، فيكون المورد من موارد تعارض الإطلاقين.

والبحث في كون العموم في العام هو مدلول الأداة أو انه مقتضى مقدمات الحكمة ، والأداة لا تتكفل الا بيان خصوصية العموم من استغراقية أو بدلية ، قد أشرنا إليه في مبحث العام والخاصّ ، وقد قربنا الثاني ، ونزيد هنا توضيحا لما تقدم.

أولا : ان مدخول الأداة قد لا يكون في بعض الأحيان مما له عموم افرادي ، بحيث يكون له افراد متعددة ، كقول القائل : « سهوت في كل الصلاة » أو : « وقع كل الصلاة في النجس » ، فان الصلاة هنا ليس لها افراد متعددة يقصد بيان إرادتها بواسطة : « كل » ، بل لا يقصد إلاّ بيان استغراق حالة السهو لجميع حالات وآنات الصلاة ، فهي لا تفيد سوى الاستغراق ، والالتزام بتعدد المعنى لها غير صحيح ، لأن الملحوظ انها تستعمل في مثل : « أكرم كل عالم » ، ومثل المثال السابق في معنى واحد ، لا معنيين.

وثانيا : ان مدلول قول المولى : « أكرم كل عالم » إذا حلّلناه نجده بمعنى : « أكرم كل فرد من افراد

٣٣٥

مقدمات الحكمة.

فعلى البناء على كون مجراها هو المراد الجدي ـ كما عليه النائيني ـ يكون العام مقدما على المطلق بلا كلام ، لأنه رافع لمقدماته فيختل الإطلاق ـ لكن الأمر الّذي لم يعلم وجهه هو التزام المحقق النائيني بذلك مع التزامه بأن دلالة العام على العموم بالإطلاق لا بالوضع ، إذ يكون التعارض على هذا بين الإطلاقين ـ وعلى البناء على كون مجراها هو المراد الاستعمالي ـ كما عليه الآخوند ـ لا وجه لتقدم العام على المطلق ، لانعقاد ظهور المطلق في الإطلاق قبل ورود العام ، لتمامية مقدمات الحكمة ، فتكون المعارضة بين شمول كل منهما وإطلاق الآخر فترجع المعارضة إلى الشمولين.

وكون شمول العام بالوضع وشمول المطلق بالقرينة العقلية ، لا يوجب تقدم العام على المطلق ، إذ لم يعلم أقوائيتها من الدلالة العقلية.

نعم ، لو كان الشمول في المراد الجدي ـ بمعنى ان مقتضى المقدمات العقلية هو العموم في المراد الجدي ـ كان العام مقدما عليه ، لأن ملاك الشمول في الإطلاق هو تساوي الإقدام وعدم الميزة لبعض الافراد على بعض ، فيكون تخصيص بعضها

__________________

العالم » ، وهنا يصح ان يسأل ان المراد بالعالم خصوص الفقيه أو الأعم ، وهذا يكشف عن عدم إفادة لفظ : « كل » التعميم من حيث أنواع العالم ، فلا بد من دليل آخر يدل على التوسعة ، وهو ليس إلاّ مقدمات الحكمة.

ثالثا : انه لو فرض كون الدلالة على العموم بواسطة الأداة ، لأشكل الأمر في تقديم الخاصّ على العام ، بل كانا متعارضين ، بناء على ما عرفت من ان دلالة اللفظ على المعنى دلالة قطعية ، فلا وجه حينئذ لتقديم الخاصّ على العام الّذي هو مبنى السيرة العقلائية العرفية. ووجه ذلك منحصر بالالتزام بكون دلالة الأداة على العموم يتبع سعة المدخول المستفاد من جريان مقدمات الحكمة فيه.

وبالجملة : فلفظ : « كل » يفيد شمول الحكم لجميع الأفراد ، في قبال العموم البدلي الّذي لا يكون الحكم متعلقا الا بفرد على البدل ، اما تعلق الحكم بكل فرد فرد أو بالمجموع ، فهو خارج عن مفاد لفظة : « كل » ، بل يستفاد من قرائن أخرى ، فتدبر.

٣٣٦

بالحكم ترجيحا بلا مرجح ، ومع ورود العام يخرج بعض الافراد لوجود المقيد ، ولا يجري هذا في العام لكون دلالته بالوضع لا بهذا الملاك ، فالتفت.

ومنها : ما لو تعارض مفهوم الشرط مع مفهوم الغاية. فقد التزم المحقق النائيني بتقدم الثاني على الأول ، لأن دلالة الكلام على مفهوم الغاية بالوضع ودلالته على مفهوم الشرط بالإطلاق ، وهو متوقف على تمامية المقدمات المختلفة بورود ما يصلح للتقييد (١).

والكلام فيه كبرويا ، ما عرفت من التفصيل بين البناءين في مجرى مقدمات الحكمة.

وصغرويا ، ما تقدم منه قدس‌سره في محله من : ان دلالة الكلام المغيا على المفهوم بالإطلاق لا بالوضع ، بعين ما ثبت في مفهوم الشرط ، فليراجع.

ومنها (٢) : ما لو دار الأمر بين التخصيص والنسخ. كما لو ورد خاص أولا ثم ورد بعد حضور وقت العمل به عام ، ودار الأمر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ الخاصّ بالعامّ.

أو ورد عام أولا ثم ورد بعد حضور وقت العمل به خاص ودار امره بين ان يكون ناسخا للعام ـ بمعنى انه رافع لحكم العام من حين وروده لا من أول ورود العام ـ أو مخصصا له ـ بمعنى انه كاشف عن عدم إرادة الخاصّ من العام أولا ـ ولا ثمرة في هذا القسم ، إذ لا إشكال في ارتفاع حكم العام عند ورود الخاصّ ، سواء كان مخصصا أو ناسخا.

نعم ، تظهر الثمرة فيما لو كان أثر عملي لثبوت حكم العام في المدة بين ورود

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٣٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) هذا البحث يمكن ان يقال انه علمي بحت ، إذ لا مورد له في الخارج ، لأن مفاد الدليل المتأخر سواء كان عاما أو خاصا انما هو بيان ثبوت الحكم من الأول لا من حين وروده. وعليه فلا يحتمل ان يكون ناسخا ، بل يتعين ان يكون مخصصا ، وبعبارة أخرى : لا اختلاف في زمن المنقول والمبيّن من الحكم ، بل في زمن النقل والبيان.

٣٣٧

العام والخاصّ من قضاء أو كفارة أو نحوهما.

وعلى كل حال ، فقد حكم بتقديم التخصيص على النسخ ، بمعنى تقديم ظهور الدليل في الدوام والاستمرار على أصالة العموم ، فيخصص العام ، وذلك لندرة النسخ وشيوع التخصيص وكثرته ، فانه يوجب ضعف ظهور أصالة العموم في مدلولها.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان هذا مناف لما التزم به في تقديم العام على المطلق من أقوائية ظهور العام لأنه تنجيزي وظهور الإطلاق تعليقي. لأن ظهور الكلام في الدوام والاستمرار انما هو بالإطلاق ، بخلاف ظهوره بالعموم فانه بالوضع ، فمقتضى ذلك الوجه لا بد من تقديم أصالة العموم على الإطلاق فيما نحن فيه لا العكس.

واما شيوع التخصيص ، فهو انما يوجب أقوائية الظهور الإطلاقي لو كان من قبيل القرائن المكتنفة للكلام ، بحيث يوجب تبدل ظهور العام. وإلاّ فهو لا يقتضي الأقوائية وان أوجب الظن بالتخصيص ، فلاحظ.

فالذي يظهر منه قدس‌سره هو التوقف في ترجيح أحد الظهورين بنفسه.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس‌سره ان الدوام والاستمرار ليس بثابت بالإطلاق حتى يقع الكلام في ترجيح أحد الظهورين. بل هو ثابت بالاستصحاب.

توضيح ذلك : ان الدوام والاستمرار.

تارة : يلحظ وصفا وعارضا على الجعل ، نظير الحكم بوجوب الحج على المستطيع ، فانه قد لا تحصل الاستطاعة أصلا فلا ثبوت للحكم الفعلي مع استمرار هذا الجعل ودوامه مطلقا.

وأخرى : يكون وصفا للمجعول دون الجعل. نظير جعل وجوب التسبيح ساعة عند الدخول إلى البلد ، فإن الاستمرار ساعة من شئون المجعول وهو الوجوب دون الجعل إذ الجعل واحد كما لا يخفى.

والنسخ الّذي يرجع إلى قطع الاستمرار ورفع الدوام انما يرتبط باستمرار

٣٣٨

الجعل لا المجعول ، فان الاستمرار وعدمه في المجعول لا يرتبط بالنسخ أصلا.

وإذا كان الاستمرار من صفات الجعل ويتوقف عليه توقف العارض على معروضه لم يصلح الدليل المتكفل لإنشاء الجعل لبيان الاستمرار ، لأنه متأخر عن وجود الجعل ، والدليل الإنشائي انما يتكفل إيجاد الجعل ، فيمتنع ان يتكفل بنفسه إثبات استمراره ، بل لا بد من دليل آخر يتكفل بيان الاستمرار.

وليس من الأدلة الاجتهادية ما يصلح لبيان ذلك الا ما يتوهم من قوله : « حلال محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ... » ، وهذا الدليل ظاهر في بيان دوام الشريعة المحمدية بما لها من الأحكام والمجموع بما هو مجموع ، لا دوام كل حكم من أحكامه.

وعليه ، فالدليل الّذي يتكفل الاستمرار هو الاستصحاب ، فباستصحاب الحكم يثبت بقاؤه ودوامه واستمراره.

وإذا كان الاستمرار ثابتا بالاستصحاب لم يصلح لمعارضة أصالة العموم في ما نحن فيه ، لأنها دليل اجتهادي حاكم أو وارد عليه بلا كلام.

مع امتناع جريان الاستصحاب في بعض الصور ، وهو صورة تأخر الخاصّ ، فانه مع احتمال كون الدليل مخصصا وان حكم العام لم يكن ثابتا للخاص من حينه ، لا مجال لاستصحاب الحكم لأن الشك في أصل الحدوث ، فيبتني جريانه على قاعدة اليقين وهي غير تامة.

وبالجملة : ليس في المقام ظهوران يعارض أحدهما الآخر ، بل المعارضة البدوية بين الاستصحاب وأصالة العموم ، ولا كلام في تقدمها عليه. فالالتزام بالنسخ ـ بحسب قواعد المعارضة ـ متعين.

إلاّ انه لما كان بناء العقلاء منعقدا على عدم العمل بأصالة العموم لو كان هناك خاص ولو كان سابقا أو لاحقا ، لأنه يكون قرينة عليه ، لم يمكن الالتزام بأصالة العموم فيما نحن فيه.

٣٣٩

فعدم الالتزام بالعموم انما كان لهذا الأمر ، لا لأقوائية ظهور دليل الاستمرار ، إذ دليله الأصل ولا ظهور فيه ، فتدبر جيدا (١).

والّذي يتخلص من كلامه امران :

الأول : ان استمرار الجعل لا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لبيان الجعل. لأنه متأخر عن وجود الجعل ، فلا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لإيجاد الجعل. فالدليل عليه هو الاستصحاب ، إذ لا دليل اجتهاديا يتكفل بيانه.

الثاني : ان الخاصّ المتقدم والمتأخر يكون قرينة على العام ، بحيث يسلم ظهوره ـ كما في أحد تقريرات بحثه (٢) ـ أو يكون حاكما عليه لأقوائية ظهوره من ظهور العام ـ كما في التقرير الآخر (٣) ـ والكلام معه يقع في كلا الأمرين :

اما الأمر الأول (٤) : فتحقيقه : ان الدليل بدلالته على نفس الجعل وان كان

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٣٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥١٣ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول ٤ ـ ٧٣٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٤) هذا ما ذكرناه سابقا.

والتحقيق ان الجعل ليس مدلولا للكلام كي يبحث عن كون استمراره مما يؤدى بإطلاقه أو لا يؤدى ، لأنه فرع أصل الثبوت.

وذلك لما أشرنا إليه في مبحث دوران الأمر بين العموم واستصحاب حكم المخصص ، من كون الجعل عبارة عن نفس الفعل الخارجي الصادر من المولى ، نظير الاخبار والإنشاء والاستعمال ، بل هو نفس الإنشاء بداعي تحقق المنشأ في ظرفه ، أو لإبراز الاعتبار النفسيّ.

ومن الواضح ان الاستعمال والاخبار والإنشاء ليست من مداليل اللفظ المستعمل في ذلك المقام ، بل هي تتحقق بإلقاء الكلام وإرادة المعنى به ، فهي مسببة عنه لا محكية به.

هذا ، مع انه ليس من سنخ المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، بل هو من سنخ الوجودات ، نظير المعنى الحر في على ما حقق في محله.

ومن الواضح انه يعتبر في الإطلاق ان يكون المعنى مدلولا للفظ ، وان يكون من المفاهيم القابلة للسعة والضيق. وكلا الأمرين مفقودان في الجعل ونحوه مما عرفت.

هذا كله مضافا إلى ما حققناه في مباحث الخيارات من : انه لا بقاء للعقد الإنشائي ، لأن

٣٤٠