منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

كما لا يخفى.

وأما الصورة الثانية ـ وهي ما أخذ العلم متعلقا بعنوان اليد المنتزع عن الملكية وعدمها ـ : فالأمر فيه أوضح ، لأن مورد الاستصحاب وان كان هو العنوان ، لكن نسبة العنوان ـ حسب الفرض ـ إلى الملكية ـ الواقع ـ وعدمها ليست نسبة الموضوع إلى الحكم كي يقدم على ما يجري في الواقع ، بل نسبة المعلول إلى العلة ، فما يكون جاريا في نفس الواقع كاليد يكون مقدما على الاستصحاب ، لأنها تجري في مرحلة منشأ انتزاعه.

والّذي يظهر من كلامه قدس‌سره إرادة هذه الصورة لأنه أخذ الجهل بالحال ـ أعني : بحال اليد ـ موضوعا لاعتبار اليد. ومعلوم انه يريد من حالها كونها يد عادية أو مالكية أو شبهه لا غير ذلك.

ومن الواضح ان اليد العادية تنتزع عن عدم الملكية ، لأن الغصب هو التصرف في مال الغير بدون إذنه ، وان اليد المالكية تنتزع عن الملكية.

فإذا كان الحال المأخوذ قيدا للعلم والجهل ، عنوانا منتزعا عن الملكية أو عدمها ، فالاستصحاب الجاري فيه لا يكون حاكما على اليد ، لأن نسبة العنوان الّذي هو موضوع الاستصحاب إلى مفاد قاعدة اليد ليست نسبة الموضوع إلى الحكم ، بل نسبة المعلول إلى العلة ، فتكون اليد مقدمة عليه.

نعم ، لو أخذ العنوان بالنحو الثاني ـ كما هو في الصورة الثالثة ـ بان كان أمرا حقيقيا لا انتزاعيا عن الواقع ، وكان نسبته إلى الواقع نسبة الموضوع إلى الحكم ، فيكون الاستصحاب حاكما على اليد لأنه يجري في موضوعها.

ولكنه مجرد فرض لا تحقق له في الخارج ، لأن هذه العناوين المتصورة التي يمكن أخذها في متعلق العلم والجهل ـ كعنوان العادية والمالكية وغيرهما ـ عناوين انتزاعية كما بيّنا ، وغيرها لا وجه لأخذه في متعلق العلم والجهل إذ لا دليل عليه

٢١

وقد اعترض (١) المحقق العراقي قدس‌سره ـ كما في بعض تقريراته ـ على ما ذكره

__________________

(١) وقد ذكر في ضمن اعتراضه : ان الجهل بعنوان اليد ان أخذ في الموضوع كان الاستصحاب واردا لعدم نظر نفس اليد إلى موضوعها ، وإلاّ لزم من وجود حجيتها عدمها لأنها إذا رفعت الجهل فقد رفعت موضوع الحجية. وأما إذا كان مأخوذا بنحو الموردية كانت اليد حاكمة على الاستصحاب لأن الاستصحاب لا يتصرف في موضوع اليد ولكن اليد تثبت عنوانها ظاهرا وكونها يد ملك لا غضب فتقدم على الاستصحاب.

وما أفاده قدس‌سره ممنوع بكلا شقيه ، أما الثاني : فلان الدليل كما لا يمكن أن يتصرف في موضوعه وينفيه كذلك لا يمكن أن يتصرف في مورده بنفيه ، إذ كما ان الدليل لا يمكن أن ينفك عن موضوعه كذلك لا يمكن أن ينفك عن مورده ، والفرق انما هو في أخذ الموضوع في رتبة سابقة دون المورد. وعليه فكيف تصور نفي اليد للجهل بالعنوان وإثبات انها يد مالكية لا عادية وبذلك كانت حاكمة على الاستصحاب ولم يتصور ذلك فيما إذا كان الجهل مأخوذا موضوعا لليد مع أن المحذور مشترك؟ وأما الأول فلان اليد إذا لم يمكن إحرازها في تحقيق موضوعها أو نفيه فكيف يجري الاستصحاب ويكون واردا على اليد والحال أن مورد الاستصحاب واليد واحدة فيلزم ان يرفع الاستصحاب الجهل المأخوذ في موضوعه فان لدينا شكا واحدا مورد الاستصحاب من جهة ومورد اليد من جهة.

فإذا لم يجر فيه اليد للمحذور المزبور لم يجر فيه الاستصحاب أيضا. فلاحظ. فما أفاده قدس‌سره في مقام الاعتراض غير وجيه. والتحقيق في مقام الإشكال على المحقق النائيني ان يقال : ان المتيقن في الأدلة والأمارات هو اعتبارها في مورد لا يعلم بمتعلقها ، وليس ذلك من جهة امتناع التعبد في مورد العلم ، بل لأن اعتبارها من باب الكشف والطريقية وهو ظاهر في كونه في مورد الجهل إذ المعلوم لا معنى لجعل الطريق إليه. ولا يخفى أن هذا الملاك انما يقتضي ملاحظة الجهل بنفس المؤدى وذي الطريق والمنكشف. أما الجهل بعناوين ملازمة لذلك فلا مقتضى للحاظها بالمرة.

فمثلا يلحظ في حجية الخبر الجهل بالواقع المخبر عنه ، أما الجهل بمطابقة الخبر للواقع الّذي هو ملازم للجهل وبالواقع فلا وجه لملاحظته بنحو الموضوع أو المورد.

وما نحن فيه كذلك فان المتيقن ملاحظة الجهل بالواقع في حجية اليد ، اما الجهل بعنوان اليد

٢٢

المحقق النائيني من أخذ الجهل بالحال في موضوع اعتبار اليد : بان الجهل بالحال مأخوذ بنحو الموردية لا الموضوعية كما هو الحال في باقي الأمارات ، وإلا لكانت اليد من الأصول لا الأمارات.

وعلى هذا ، فلا مجال لجريان الاستصحاب في عرض اليد ، فضلا عن تقدمه عليها ، لأن لازم أمارية هذه اليد كونها بدليل اعتبارها رافعة للجهل عن ملكية ما في اليد لصاحبها ، ولازم تطبيق يد الملك عليها هو الحكم بعدم كونها يد غصب ظاهرا ، فيرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لحكومتها عليه (١).

وما ذكره بظاهره غير تام ، لأن الجهل الّذي يقال بأخذه في الأمارة بنحو الموردية وفي الأصل بنحو الموضوعية ـ تخلصا عن الإشكال بلزوم حكومة الأصل على الأمارة لو أخذ الجهل في موضوعها ـ انما هو الجهل بالواقع ، وليس متعلق الجهل فيما نحن فيه هو الواقع كي يورد عليه بهذا الإيراد العام ، وانما متعلقه هو حال اليد ، وهذا لا ينافي كون الجهل بالواقع مأخوذا في الأمارة بنحو الموردية لا الموضوعية ، فالفرق ان الجهل المأخوذ في موضوع اليد هو الجهل بواقع اليد لا بالواقع الّذي تثبته اليد وتكون أمارة عليه. فالإشكال المذكور على المحقق النائيني أجنبي عن مفاد كلامه.

إلاّ أن يرجع ما ذكره إلى بيان : ان ملاك أخذ الجهل بحال اليد في موضوعها ليس هو إلا لأن العلم بحالها علم بالواقع والجهل بحالها جهل به ، فمرجع أخذ الجهل بحالها في موضوعها إلى أخذ الجهل بالواقع في اعتبارها. وهذا هو المنفي بالإيراد العام من أن أخذ الجهل في مورد الأمارة لا في موضوعها.

وبهذا يتجه ما أفاده إيرادا على المحقق النائيني.

__________________

ـ الملازم للجهل بالواقع فلا مقتضى لملاحظته ولا دليل عليه فالالتزام بتقييد حجية اليد بالجهل بالعنوان مما لا وجه له أصلا فتدبر. فانه لا يخلو عن دقة.

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار : ٤ ـ ٢٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٣

واما ما ذكره المحقق العراقي ، فهو : ان الظاهر من أدلة اعتبار اليد اختصاص اعتبارها بغير هذه الصورة. بل مجرد الشك في شمول دليل الاعتبار لهذه اليد كاف في عدم ثبوت حجيتها ، لأن الدليل على اعتبار دليل لبي وهو بناء العقلاء ، والدليل اللبي لا إطلاق له كي يتمسك به في مورد الشك.

وأما الأدلة اللفظية ، كالاخبار ، فهي واردة في مقام تقرير سيرة العقلاء وبنائهم على اعتبار اليد ، لا في مقام التأسيس كي يصح الأخذ بإطلاقها في إثبات حجية هذه اليد ، بل المتبع ما ثبت من السيرة من مقدار حجيتها (١).

ولا يخفى ان ما ذكره قدس‌سره أولا من كون الدليل لبيا ويكفي في عدم الاعتبار ، الشك في شموله لمثل هذه اليد لو لم نقل بظهوره في غيره وانصرافه عنه. مما لا إشكال فيه.

ولكن ما ذكره أخيرا من عدم إمكان التمسك بالأخبار مع تسليم دلالتها على الحجية لأنها في مقام الإمضاء لا التأسيس. لا وجه له.

وتحقيق ذلك : ان الدليل المتكفل لبيان حكم مماثل لحكم موجود متحقق الاعتبار ، يمكن ان يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

لأنه تارة يكون إخباريا. وأخرى يكون إنشائيا.

فالأخباري : ما تكون صورته إنشاء الحكم ، ولكن يكون المقصود منه هو الاخبار عن تحقق متعلقه وهو الحكم ، نظير الأوامر الإرشادية التي تتصور بصورة الإنشاء ولكن يكون واقعها الاخبار عن تحقق متعلقها في الخارج.

والإنشائي : تارة : يكون منبعثا عن إرادة إيصال حكم الغير العام الّذي يكون هو على صفته ، وذلك كالأوامر التبليغية ، فان أمر الأب ابنه بالصلاة أمر حقيقي المقصود منه البعث ، وليس من الأخبار في شيء ، ولكن الغرض منه إيصال أمر الله

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٢٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٤

تعالى لولده ، والملحوظ فيه الأمر على طبق ذلك الأمر العام المأمور به كلي المكلف. وهذا في العرفيات كثير.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بان لم يلحظ فيه إيصال الحكم الآخر ولا الاخبار عنه ، بل لوحظ فيه إنشاء الحكم صرفا. غاية الأمر ان هذا الحكم مماثل لذلك الّذي اعتبره الغير لا أكثر.

ومن هذا الدليل بأنحائه الثلاثة ينتزع عنوان الإمضاء والتقرير لحكم الغير ، وهو واضح الوجه.

ولا يخفى ان الدليل ان كان على النحوين الأولين ، فالتمسك بإطلاقه من دون لحاظ الحكم المعتبر من الغير ومقدار دائرته ممنوع ، لأن الملحوظ في الإنشاء هو ذلك الحكم ، اما بنحو الاخبار عنه أو إيصاله ، فلا استقلال لهذا الحكم المنشأ أصلا.

واما إذا كان بالنحو الأخير ، فلا مانع من التمسك بإطلاقه لو كان له إطلاق بلا لحاظ الحكم المماثل له ، لعدم ارتباطه به في مقام الجعل والإنشاء لعدم لحاظه فيه أصلا. بل هو حكم مستقل. غاية الأمر انه مماثل لذلك الحكم.

والأدلة الشرعية التي تتكفل إنشاء الأحكام المماثلة للأحكام العقلائية العرفية كلها من النحو الثالث ، فان الدليل لم يلحظ فيها الا إنشاء الحكم وجعله على المكلف بلا لحاظ إيصال حكم العقلاء للمكلف أو الاخبار عنه.

ومن هنا يتمسك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) في إثبات حلية بعض البيوع غير المعتبرة عرفا ، لأن لسانه إنشاء حكم مستقل لم يلحظ فيه إيصال حكم العقلاء ولا الاخبار عنه. غاية الأمر انه يفيد حكما مماثلا لما عليه العقلاء ، وهذا لا يضر في التمسك بإطلاقه.

وحينئذ فلا وجه لمنع التمسك بإطلاق الاخبار الواردة في اعتبار اليد حجة على الملكية.

ودعوى : ان مثل هذا الدليل لا ينتزع عنه عنوان الإمضاء ، لأن الظاهر من

٢٥

الدليل الإمضائي ما كان ملحوظا فيه حكم الغير ، والمفروض عدم لحاظ حكم الغير في هذا الدليل ، فلا يكون دليلا إمضائيا ، مع ان الأدلة الشرعية يصطلح عليها بأنها إمضائية واردة في مقام تقرير أحكام الغير ، فلا بد ان لا تكون على هذا النحو.

مندفعة : بان إطلاق لفظ الإمضاء على الأدلّة الشرعية المذكورة ليس باعتبار لحاظ حكم الغير فيها ، فان لسانها يأبى عن ذلك ، بل باعتبار كون الحكم المنشأ بها مماثلا لما عليه العقلاء لا أكثر. فهي في واقعها تأسيسية وان كان عنوانها إمضائية.

فالمراد بالإمضاء ما يساوق عدم الردع والموافقة لا إنفاذ ما عليه الآخرون حتى يتوهم لزوم ملاحظة ذلك في الموضوع. أو فقل : ان الإمضاء هنا بلحاظ مقام الثبوت لا الإثبات ، وما يضر بالتمسك بالإطلاق هو الثاني لا الأول ، فتأمل تعرف.

والتحقيق في أصل المسألة : ان سيرة العقلاء دليل لبّي ، وقد عرفت ان مجرد التشكيك في قيامها يكفي في عدم جواز التمسك بها. وأما الأخبار فليس لها إطلاق من هذه الجهة ، لكون المسوق له البيان أمر آخر ، كما لا يخفى على من لاحظها هذا مع قطع النّظر عن التشكيك في أصل دلالتها على حجية اليد. فتدبر.

الجهة الرابعة : لا يخفى ان اليد كما لا إشكال في ترتيب آثار الملك عليها ، كذلك لا شبهة في وجوب ترتيب آثارها في مقام الدعوى ، فيطالب المدعي على ذي اليد بالبينة ، ويكون هو منكرا ، سواء ثبت للمدعي ملكية المال سابقا أم لم تثبت.

ولكن الكلام في انه لو أقر ذو اليد بملكية المدعي للمال سابقا ، فهل تنقلب الدعوى إلى دعوى انتقال المال إليه فيكون هو مدعيا فعليه الإثبات ويكون الغير منكرا أو لا تنقلب؟ المشهور على الانقلاب.

ولا يخفى ان موضوع الدعوى الثانية المبحوث عنها ينبغي ان يكون هو تحقق السبب الناقل ، كالبيع والهبة وغيرها وعدمه ، لا الانتقال وعدمه ، لأن الانتقال أمر انتزاعي ينتزع عن ملكية الغير في اللاحق وعدم ملكية المالك السابق في اللاحق ، فهو متأخر عن الملكية فلا كلام فيه ، لأن الكلام فيما هو سابق عن الملكية ، وهو

٢٦

تحقق السبب الناقل ـ ولذلك يدعى حصول الانقلاب وتترتب عليه آثاره بالنسبة إلى الملكية الفعلية لذي اليد ـ.

قد ذهب المحقق الأصفهانيّ إلى انه بالإقرار بالملكية السابقة لا تتشكل دعوى أخرى. ولو قلنا بتشكيل دعوى أخرى فلا انقلاب ، بل المدعي في الدعوى الأولى مدع في الدعوى الثانية والمنكر منكر.

اما الأول : فقد قربه : بان الدعوى من الدعاء وطلب الشيء ، فهي من المعاني الإنشائية ، فما لم يقع الشيء موضوعا للطلب لا يقع في مصب الدعوى ، والإقرار بالملكية السابقة للمدعي مع دعواه الملكية الفعلية [ وان كان اخبارا بتحقق السبب الناقل خ ل ] بالانتقال منه بالالتزام ، ولكنه ليس الاخبار باللازم بالملازمة يكون موجبا لتشكيل دعوى به ، بل لا بد في ذلك من وقوعه في مصب الدعوى وإنشاء الطلب به ولذلك لو وقع النزاع بين اثنين في ان المعاملة الواقعة بينهما هل كانت هبة أو بيعا ، فادعى كل منهما إحدى المعاملتين ، فان لكل من البيع والهبة لوازم يختلف حالها من حيث الدعوى والإنكار ، فلا بد من صيرورتها مصب الدعوى كي يتعين المدعي والمنكر ، وإلا فمجرد ادعاء البيع لا يوجب ادعاء لوازمه ، وكذلك ادعاء الهبة ، فإذا كان موضوع الدعوى هو البيع والهبة بما هما بيع وهبة من دون لحاظ لوازمهما المختلفة كان الشخصان متداعيين. ولو كان مصب الدعوى البيع والهبة ولكن بما هما معرفان لثبوت العوض وعدمه ، كان مدعي البيع مدعيا لأن الأصل على خلاف قوله ، ومدعي الهبة منكرا. ولو كان مصبها البيع والهبة من حيث الجواز واللوازم ، كان مدعي الجواز مدعيا ، لأن الأصل على خلافه ، إذ الأصل عدم الجواز.

فدعوى الملزوم لا تستلزم تشكيل دعوى باللازم قهرا ما لم تنشأ دعوى مستقلة فيه ، والانتقال هاهنا لم يقع مصب الدعوى وان وقع موضوع الاخبار بالملازمة.

واما الثاني ـ يعني نفي الانقلاب ـ فقد قرّبه : بان المعروف ان اليد أمارة ،

٢٧

والأمارة على المسبب أمارة على السبب ، فاليد كما تكون حجة على المسبب ، وهو الملكية الفعلية ، كذلك تكون حجة على السبب الناقل. وحينئذ فمدعي الانتقال ذو حجة وهي اليد ، فيكون منكرا لا مدعيا ويكون مقابله مدعيا ، فلا يتحقق الانقلاب (١).

وفي كلا تقريبيه ما لا يخفى :

أما تقريبه لعدم تشكيل دعوى ثانية ، فأساسه : ان الدعوى من الأمور الإنشائية المتقومة بالإنشاء والجعل ، فالاخبار بشيء لا يكون دعوى به ما لم ينضم إليه طلبه.

ولا يخفى انه بملاحظة الاستعمالات العرفية للدعوى والادعاء غير المسامحية ، يعلم بان الدعوى نوع من أنواع الاخبار ، وهو الاخبار في ظرف التردد والشك ، ولا يتوقف تحققها على إنشاء طلب ، بل كثيرا ما يستعمل « المدعي » في المخبر بخبر في ظرف الشك مع عدم تحقق أي إنشاء منه ، فالمخبر بالهلال يقال له مدعي رؤية الهلال ، لأن المقام مقام شك.

وعليه ، فحيث ان الانتقال من الأمور المشكوكة الواقعة موضوعا للتردد ، فالاخبار بها ولو بالملازمة يشكل دعوى به بلا كلام.

وأما ما استشهد به من مثال البيع والهبة فلا يصلح للنقض ، لأن مصب الدعوى في العوض انما هو في العوض الخاصّ من كونه شخصيا أو كليا في الذّمّة. ومدفوعا أو غير مدفوع. وأحدها ليس من لوازم البيع كما لا يخفى ، وانما لازم البيع ثبوت عوض ، ولكنه لا يكون محط الدعوى.

وأما اللزوم والجواز ، فهما من اللوازم الشرعية للبيع والهبة لا اللوازم العرفية ، فليس الاخبار بالبيع اخبارا باللزوم عرفا ، كما ان الاخبار بالهبة ليس اخبارا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٨

بالجواز عرفا.

وأما تقريبه لعدم الانقلاب بأن اليد أمارة ، والأمارة على المسبب أمارة على السبب. فهو غير وجيه على مذهبه في ان الأمارة ليست حجة في لوازمها ، وانها كالأصل في ذلك وليس تحقق السبب الناقل ملزوم أعم للملكية الواقعية والظاهرية كي يثبت بثبوت الملكية الفعلية باليد ، وانما هو ملزوم للملكية الواقعية ، ولا ملازمة بين الحكم بالملكية ظاهرا وتحقق السبب الناقل ظاهرا.

وعليه ، فلا حجة لذي اليد على تحقق السبب الناقل ، فيحصل الانقلاب لموافقة قول المدعي الأول للأصل وهو استصحاب عدم السبب الناقل ، فله المطالبة بالبينة عليه ويكون ذو اليد مدعيا.

ثم لا يخفى ان الأصل المذكور ـ أعني : أصالة عدم تحقق السبب الناقل ـ انما يتعبد به بلحاظ ما يترتب على نفس التعبد من أثر شرعي من جواز المطالبة بالبينة لمن وافقه قوله وهو المقر له بمقتضى الإقرار ، لا بلحاظ ما يترتب على نفس المتعبد به من أثر وهو بقاء ملكية المقر له لأن ذلك ينافي مفاد اليد من ملكية ذي اليد ، والمفروض بقاؤها على حجيتها بالنسبة إلى الملكية الفعلية ، ولا يكون الإقرار موجبا لارتفاع حجيتها ، بل لازم الإقرار هو جعل المدعي طرفا للأصل المذكور فيكون منكرا بمقتضاه لا أكثر ، كما هو شأن جميع الأصول الجارية في طرف الدعوى ، لأن المفروض ان المدعي يدعي العلم بعدم تحقق مفاد الأصل وانقلاب الحالة السابقة ، فلا يجري الأصل في حقه كي يثبت قول المنكر.

نعم ، انما يجري الأصل في حق المنكر ، بل هو لا يجري في حقه أيضا لأنه يعلم بالبقاء ، والحاكم لا يحق له خصم الدعوى بإجراء الأصل ، لأن القضاء لا بد ان يكون بالبينات والأيمان كما هو مقتضى النبوي المشهور (١) ، فلا فائدة في الأصل إلا

__________________

(١) دعائم الإسلام ٢ ـ ٥١٨ ، الحديث ١٨٥٧.

٢٩

كون الموافق له منكرا. فالتفت.

ولذلك يترتب آثار ملكية ذي اليد قبل خصم الدعوى ، كما انه لو لم يحلف المقر له على عدم تحقق السبب الناقل في صورة عدم إقامة ذي اليد للبينة على التحقق لا يصح له التمسك به في إثبات ذلك ، مما يكشف عن ان الإقرار انما استلزم صحة تمسك المقر له بالأصل من ناحية صحة مطالبته ذي اليد بالبينة على تحقق الناقل لا غير.

وهذا ـ أعني : الانقلاب ـ على القول بعدم حجية اليد في اللوازم والملزومات ـ كما هو الحق ـ واضح ، لأن اليد لا تثبت بالملازمة تحقق السبب الناقل ، فلا يرتفع موضوع الأصل ، فيصح جريانه ويترتب عليه آثار التعبد بمقتضى الإقرار لا آثار المتعبد به كما عرفت. وكذلك لو قلنا بان اليد من الأصول لا الأمارات كما لا يخفى.

ولكنه على القول بان الأمارة حجة في اللوازم ، فيشكل تصوير الانقلاب حينئذ ، لأن اليد ـ بناء على انها أمارة ـ على هذا تثبت تحقق السبب الناقل ، فلا يبقى لجريان الأصل مجال.

ولكنه ـ مع هذا ـ يمكن تصوير حصول الانقلاب بنحو لا يتنافى مع أمارية اليد وحجيتها على الملكية ، وذلك بتقريب : ان موافقة الأصل المقتضية لكون الشخص منكرا لا مدعيا ليس المراد منها الموافقة للأصل الفعلي الجاري مع وجود الحجة واقعا ، بل المراد منها موافقة الأصل الجاري في نفسه ومع قطع النّظر عن وجود الحجة من بينة وأمارة رافعة لموضوعه تكوينا ، ولا إشكال في وجود هذا الأصل في المقام ، وهو أصالة عدم تحقق السبب الناقل.

وحينئذ فمع وجود اليد فحيث انها حجة في الملزوم وهو تحقق السبب الناقل ـ بدعوى ان الأمارة تثبت الملزومات الواقعية ـ فحجيتها فيه توجب ارتفاع موضوع الأصل المذكور ـ وهو عدم الطريق ـ فلا مجال لجريانه أصلا.

أما مع إقرار ذي اليد للمدعي بملكيته السابقة الملازم لدعوى تحقق السبب

٣٠

الناقل ، فحيث ان اثره هو الاعتراف بطرفية المدعي للأصل وارتباطه به ، كانت اليد حجة في خصوص مدلولها المطابقي وهو الملكية دون الالتزامي ـ أعني : تحقق السبب الناقل ـ لأن اليد لا تكون حجة مع الإقرار ، وحجيتها تضييق بمقدار الإقرار ، بحيث تنتفي حجيتها في مفاد الإقرار واثره ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ وجائز ، وإقرار ذي اليد بملكية المدعي السابقة ـ الّذي لازمه دعوى تحقق السبب الناقل ـ مفاده ارتباط المدعي المقر له بالأصل المذكور ، وهذا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل ، فيصح له التمسك به في هذه الدعوى ويكون له المطالبة بالبينة لصيرورته منكرا ، فاليد حجة على خصوص الملكية الفعلية ، أما على ملزومها فلا ، لمنافاتها حينئذ مع الإقرار (١).

وبالجملة : فبالإقرار تنقلب الدعوى وتشكل دعوى ثانية موضوعها تحقق السبب الناقل وعدمه ، وهي غير الدعوى الأولى التي موضوعها الملكية وعدمها

__________________

(١) لا يخفى أن الإقرار بالملكية السابقة ليس إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل إذ لا ملازمة كما لا يخفى مضافا إلى أنه لو كان كذلك لكان دعواه تحقق السبب الناقل منافيا لإقراره فيؤخذ بإقراره وتخصم الدعوى ، وإذا لم يكن الإقرار بالملكية السابقة إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل فلا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل ، فلا وجه لنفي حجيّتها عليه ، لعدم منافاتها للإقرار.

وهذا لا ينافي كون مفاده جواز التمسك بالأصل في المطالبة بالبينة ، لأن المفروض أن موافقة الأصل عبارة عن موافقة الأصل الجاري في نفسه لا بالفعل. وعليه فيكون المقام من باب التداعي لأن كلا من الشخصين يوافق قوله الحجة ، لو لم نقل بان مفاد الإقرار جواز التمسك بالأصل بنحو التعليق يعني لو كان هناك أصل فلا مانع من التمسك به ، وقيام الحجة على المدعى وهي اليد يرفع موضوع الأصل تكوينا ، فلا أصل كي يجوز التمسك به فلا يتحقق الانقلاب وذلك لا ينافي الإقرار أصلا كما لا يخفى. وعلى كل فالأمر سهل بعد أن عرفت عدم حجية اليد في ملزوم مفادها ـ إذ لا يأتي هذا الكلام بناء عليه ـ كما ان ما ذكرناه في مقام توجيه فتوى المشهور بالانقلاب بنحو لا يتنافى مع ما ستعرفه ، كما سيتضح مع غض النّظر عن صحته وعدمها. مضافا إلى أنه لم يعلم بناء المشهور على أمارة اليد بل يمكن أن تكون أصلا عندهم. فالتفت.

٣١

لأن مفاد الإقرار جعل المقربة هو الأصل الجاري في نفسه.

ولو لا الإقرار لما انقلبت الدعوى ولما تشكلت دعوى أخرى ، لأن عدم السبب الناقل وان كان موضوع الأصل ، إلاّ أنه لا يصح للمدعي التمسك به إذ لا حجية له على كونه طرف الملكية السابقة ، بل لا دعوى لذي اليد بتحقق السبب الناقل ، إذ لا يدعي سوى الملكية ، لأنه لم يخبر مع عدم الإقرار بالسبب الناقل ولو بالملازمة كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك ان الدعوى الثانية انما تتشكل ويحصل الانقلاب إذا كان المدعي منكرا لتحقق السبب الناقل. أما مع عدم كونه منكرا وانما يقول بجهالة الحال وانه مالك المال الآن بمقتضى الأصل فلا تتشكل دعوى ثانية ، لعدم وجود قول للمقر له في تحقق السبب الناقل مقابل ذي اليد كي تكون هناك دعوى ثانية ، ويكون قوله موافقا للأصل فيكون منكرا ، بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها ، والمدعي يدعي الملكية بحسب القواعد ، وحينئذ فلذي اليد التمسك بيده في إثبات ملكيته الفعلية ونفي الأصل بها.

ولا مجال لجريان الأصل وثبوت مؤداه في قبال اليد ، لما عرفت من ان الأصل المذكور انما يجري بلحاظ أثر التعبد من جواز المطالبة بالبينة وصيرورة طرفه منكرا ، لا بلحاظ أثر المتعبد به من بقاء الملكية السابقة.

ولا يذهب عليك أن تشكل الدعوى الثانية وحصول الانقلاب لا يفرق فيه بين أن يكون المقر له هو المدعي أو المورث أو الموصي لنفس الملاك.

ولكنه يقيد بصورة كون المدعي أو الوارث أو الموصى له منكرا لتحقق السبب الناقل كما عرفت.

وبهذا يندفع الإشكال على المشهور ـ في فتواهم : بأنه لو أقر ذو اليد للمدعي أو لمورثه بالملكية السابقة لما في يده انقلبت الدعوى وصار ذو اليد مدعيا والمدعي منكرا ، لأن إقراره للمدعي بالملكية السابقة مساوق لدعوى الانتقال منه إليه ،

٣٢

فيكون مدعيا وعليه البينة ، ويكون المدعي منكرا لموافقة قوله الأصل ـ بان الفتوى بالانقلاب تنافي اعتراض الإمام عليه‌السلام على أبي بكر في مطالبته البينة من الزهراء عليها‌السلام ، لأنها اعترفت بملكية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سابقا ، وهذا يساوق دعوى الانتقال منه صلى‌الله‌عليه‌وآله إليها عليها‌السلام ، فتكون الزهراء عليها‌السلام مدعيا وأبو بكر ـ باعتبار ولايته على المسلمين ـ منكرا ، لأن ملكية الرسول لفدك لو بقيت لانتقلت إلى المسلمين بعد وفاته بمقتضى الرواية المخلوقة : « نحن معاشر ... » المفروض تسليمها من قبل الزهراء عليها‌السلام. وعليه فالبينة تكون على الزهراء عليها‌السلام لا على أبي بكر ، فكيف استنكر عليه الإمام عليه‌السلام ونسب إليه الحكم بغير حكم الله؟

وجه الاندفاع واضح ، لأن أبا بكر لم ينكر على فاطمة عليها‌السلام دعوى تحقق السبب الناقل وهو النحلة ، وانما ادعى جهالة الحال وان المال باق على ملك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمقتضى القواعد الشرعية حتى يثبت خلافه ، فلا دعوى أخرى ، بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها لا تحقق السبب الناقل وعدمه ، فلفاطمة عليها‌السلام التمسك بيدها في إثبات الملكية ـ كما فعلت ـ ولا منافاة بين ذلك وبين إقرارها لأن إقرارها لم يرفع اليد عن حجيتها على الملكية ـ كما عرفت ـ ولا يصح لأبي بكر مطالبتها بالبينة.

ومما يدل على عدم إنكار أبي بكر لدعوى النحلة هو : أنه حين رد البينة التي أقامتها الزهراء عليها‌السلام لم يطالب الإمام عليه‌السلام باليمين على عدم النحلة ، مما يكشف عن انه لم يدع عدم النحلة ، بل كان يدعي جهالة الحال ، ولذلك كان استنكار الإمام عليه‌السلام موضوعه المطالبة بالبينة لا عدم الحلف.

وبالجملة : ففتوى المشهور بالانقلاب في صورة لا تطبق على مسألة فدك ، وهي صورة إنكار المقر له لدعوى السبب الناقل ، فلا إشكال على المشهور.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس‌سره في دفع الإشكال المذكور على المشهور

٣٣

ما حاصله : ان الملكية إضافة وعلقة قائمة بالطرفين المالك والمملوك ، إلاّ انها تختلف في ظرف التبدل باعتبار موارده. ففي مثل البيع يكون التبدل في ناحية المملوك ، بمعنى ان طرف العلقة الرابطة بين المال والمالك من ناحية المالك على حاله.

وانما الطرف من ناحية المال قد حلّ وربط بمملوك آخر غير ذلك ، فالإضافة على حالها ، وانما التبدل بين المالين ، وهو طرف الإضافة. وفي مثل التوريث بالعكس يكون التبدّل في ناحية المالك ، فان طرف العلقة من ناحية المالك يحل بموته ويربط بمالك آخر مع بقاء الإضافة وارتباطها بالمال على حالها ، وقد يكون التبدل في نفس العلقة كما في الهبة فانها تتضمن إعدام إضافة المال للمالك وإيجاد إضافة أخرى بين المال والموهوب له.

ومثل الهبة الوصية التمليكية الموجبة لانتقال المال إلى الموصى له بعد الموت.

وأما الوصية العهدية ، فهي خارجة عن تمام الأقسام ، لأنها لا توجب التمليك ، بل تتكفل تعيين مصرف المال بعد الموت.

وعلى هذا ، فالاعتراف بملكية المورث حيث انه اعتراف بملكية الوارث لعدم التبدل فيها ـ كما عرفت ـ فيكون كالاعتراف بملكية نفس المدعي في انقلاب الدعوى.

بخلاف الاعتراف بملكية الموصي لأنها أجنبية عن ملكية الموصى له ، فالاعتراف له كالاعتراف للأجنبي ، فلا يوجب الانقلاب.

والمقام من هذا القبيل ، لأن المسلمين ليسوا بوارثين بل الانتقال إليهم من قبيل الانتقال بالوصية التمليكية.

وعليه ، فلا يكون الاعتراف بملكية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله السابقة موجبا لانقلاب الدعوى ، فلا تخرج الزهراء عليها‌السلام عن كونها منكرة وأبو بكر عن كونه مدعيا. مضافا إلى ان كون المقام من قبيل الوصية التمليكية ممنوع ، بل الظاهر انه من قبيل الوصية العهدية فالمسلمون لا يدعون ملكية المال أصلا.

٣٤

وحينئذ فلا يكون الاعتراف بملكية الموصي المرتفعة يقينا مع عدم الانتقال إلى المدعي ـ ذي اليد ـ موجبا لانقلاب الدعوى ، لعدم الأثر في الاعتراف بها مع ارتفاعها يقينا. هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره (١).

ويرد عليه :

أولا : ان علقة الملكية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالطرفين بنحو يستحيل وجودها بدون الطرفين ، كاستحالة وجود العرض بدون معروضه.

وعليه ، فيستحيل بقاء العلقة مع تبدل أحد الطرفين ، بل بارتفاع أحدهما ترتفع هي ، فإذا حصلت علقة بين المال ومالك آخر ، أو بين المالك ومال آخر ، فهي علقة ملكية أخرى. فما ذكره قدس‌سره من إمكان بقاء العلقة على حالها مع تبدل أحد الطرفين لا مجال له.

وعليه ، فلا فرق بين الموصى له والوارث في كون تملكهما بملكية ثانية.

وثانيا : ان مركز الدعوى الثانية إنما هو الانتقال في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان الملكية المعترف بها هل استمرت إلى حال الوفاة أو انقطعت أثناء الحياة ، فلا ربط لذلك بسنخ ملكية المسلمين بعد الوفاة وانها استمرار لتلك الملكية أو سنخ آخر من الملكية ، بل بقاء ملكية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى وفاته هي مركز الدعوى والنزاع القائم ، بحيث لو ثبت البقاء لكانت « فدك » للمسلمين قطعا وبلا ترديد ، لأن المفروض تسليم الرواية المخلوقة.

وملكية الرسول لفدك في حياته ترتبط بالمسلمين ، فالاعتراف بها سابقا يوجب كون المسلمين ممن لهم الحق في المطالبة بالبينة على الانتقال ويعدون منكرين في قبال فاطمة عليها‌السلام ، سواء كانوا ورثة أم موصى لهم ، إذ لا علاقة بالدعوى بما بعد الوفاة ، بل مركزها ما قبل الوفاة وكونهم طرف الدعوى

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي ، فوائد الأصول ٢ ـ ٢٢٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٥

لارتباطها ـ أعني الملكية ـ بهم ـ كما عرفت ـ.

وعليه ، فلا وجه لتعليل اعتراض الإمام عليه‌السلام على أبي بكر في طلبه البينة : بان الملكية المعترف بها ليست عين الملكية المدعاة ، فلا يحصل الانقلاب ، لأن المفروض ان مركز الدعوى بقاء ملكية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لإبقاء الملكية مطلقا ، وملكية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أجنبية عن ملكية المسلمين على التقديرين ـ أعني : الوراثة والوصاية ـ اما لاختلاف الإضافة أو لاختلاف سنخ الملكية.

وبالجملة : فلا يظهر لما ذكره المحقق النائيني وجه وجيه. فتدبر.

واما المحقق العراقي ، فقد ذهب إلى : ان مقتضى القاعدة عدم انقلاب الدعوى بالإقرار للمدعي بالملكية السابقة لحكومة اليد على الأصل.

ولكن قام الإجماع على الانقلاب في صورة الإقرار بملكية المدعي أو المورث. واما في صورة الإقرار بملكية الموصي فلا إجماع على الانقلاب ، فمقتضى القاعدة عدمه ، والإجماع المذكور يقتصر فيه على مورده لأنه دليل لبي لا إطلاق له. وحيث ان الإقرار في مسألة فدك للموصي لا للمورث لم يلزم منه انقلاب الدعوى ، فيتجه اعتراض الإمام عليه‌السلام على أبي بكر في مطالبته إياه بالبينة مع انه ذو يد.

ولا يخفى ان هذا ـ مع غض النّظر عن كون الانقلاب مقتضى القاعدة كما عرفت ، وكون الإجماع في مورده ليس تعبدا محضا ، بل الفقهاء يعللون الانقلاب ، فلا وجه للتمسك به مع كونه على خلاف القاعدة ـ ليس اعتذارا عن المشهور دفعا للإشكال عليهم. فالتفت.

فالأولى في الاعتذار ما عرفته فتدبره فانه بالتدبر حقيق والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

٣٦

الجهة الخامسة : في ان اليد هل تكون حجة على الملكية مطلقا ولو شك في قابلية ما عليه اليد للملكية والنقل والانتقال ، كما لو شك في كون من باليد عبدا أو حرا ، أو تختص في صورة العلم بالقابلية ، فتكون حجة على إضافة الملكية إلى ذي اليد.

وعلى الأول : يقع الكلام في مسألتين :

الأولى : ما إذا علم حال العين في انها ليست قابلة للنقل والانتقال واليد سابقا ، بان كانت العين وقفا واليد يد ولاية أو إجازة أو نحوهما ، ثم شك في مالكية ذي اليد للعين لا حقا.

الثانية : ما إذا علم حال العين فقط ولم يعلم حال اليد ، بل احتمل ان تكون اليد من أول حدوثها مالكية.

ولا يخفى ان الكلام في هاتين المسألتين في طول ثبوت حجيتها المطلقة ، وإلا فمع ثبوت اختصاص حجيتها بما له القابلية ، فلا إشكال في عدم حجية اليد في المسألتين للشك في القابلية كما لا يخفى.

أما الكلام في المسألة الأولى ، فيعلم من الكلام في الجهة الثالثة الّذي مر مفصلا ، وعرفت فيه عدم حجية اليد ، لأن القدر المتيقن غير هذا فراجع.

وأما الكلام في المسألة الثانية فهو يقع في مرحلتين :

الأولى : مرحلة الثبوت. والتكلم فيها في تحقق ملاك الطريقية والكاشفية الناقصة في اليد ، بناء على اعتبارها من باب الطريقية.

وليس الكلام فيه بمهم في المقام ، لأن الطريقية بالمعنى الّذي ذكرناه سابقا ـ وهي الطريقية النوعية غير المنتفية بوجود المزاحم ـ متحققة هاهنا ، إذ اليد طريق بنفسها إلى الملكية لو لا بعض الحالات التي تكتنفها. وبالمعنى الّذي قرره المحقق الأصفهاني هناك من الطريقية النوعية الفعلية أيضا متحققة ، لأن غلبة بقاء العين على ما كانت عليه ـ لغلبة بقاء الحادث ـ انما تزاحم ـ في المقام ـ غلبة كون الأموال

٣٧

ملكا طلقا لا وقفا.

وأما غلبة اليد المالكية فلا تزاحم بها ، فالطريقية الفعلية متحققة لتحقق ملاكها بلا مزاحم ومقيد ـ كما قرره قدس‌سره هاهنا ـ وهو يخالف المسألة السابقة ، لأن غلبة البقاء هناك في حال اليد لا في نفس العين كما في هاهنا.

وقد تمسك المحقق الأصفهاني لحجية اليد فيما نحن فيه بالإطلاق.

ولا يخفى ان أصح ما استدل به ـ عنده ـ من الأدلة اللفظية هو قوله عليه‌السلام في رواية يونس : « ومن استولى على شيء منه فهو له » ، وهي بدلالتها اللفظية لا إطلاق لها لاختصاصها بالمورد ، لمفاد : « منه » ، والتمسك بها في غير المورد انما كان من باب إلغاء خصوصية المورد.

لا يخفى انه إذا كان للمورد خصوصيات متعددة وعلم بعدم دخل بعض خصوصياته في الحكم يكون مطلقا من ناحية هذه الخصوصية دون غيرها.

والخصوصية الملغاة في مورد الرواية انما هي خصوصية كون المال من متاع الرّجل والمرأة وموت أحدهما ـ بتقريب حصول العلم بعدم دخل هذه الإضافة في الحكم بالملكية لليد وان عرفت ما فيه ـ فالإطلاق فيها من هذه الناحية.

ولكنه توجد في المورد خصوصية أخرى يحتمل دخلها في الحكم بالملكية لليد ، وهي : كون المال قابلا للملكية والتردد في المالك ، وهي منتفية فيما نحن فيه للشك في قبول المال للملكية ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق ، إذ لا إطلاق للرواية من هذه الناحية.

وعليه ، فيقع الكلام في معارضة اليد بأصالة عدم حصول السبب المسوغ وعدمها.

وقد قرب المحقق الأصفهاني عدم تعارض الأصل مع اليد وحكومة اليد عليه : بان اليد لما كانت حجة على الملكية فهي حجة على ملزومها وهو حصول السبب المسوغ للبيع. وعليه فتكون اليد حاكمة على الأصل.

٣٨

ولا يخفى ما فيه ، لما عرفت من ان اليد ليست حجة في اللوازم والملزومات ، ولو كانت أمارة ، بل هي حجة في نفس مفادها لا أكثر.

فالأولى التمسك في المقام بأصالة الصحة في عمل الغير ، فنصحح العقد الحاصل بها ، وهي مقدمة على استصحاب عدم حصول السبب المسوغ.

وقد يقال : ان مثل المورد هو مورد اليد الّذي وقع التسالم على اعتبارها فيه ، لأن أصالة عدم حصول السبب المسوغ ، كأصالة عدم حصول السبب الناقل مع العلم بعدم الملكية السابقة ، فكما ان اليد لا تتعارض مع هذا الأصل فكذلك لا تتعارض مع ذاك.

ولكنه يقال : فرق بين المقامين ، لأن القدر المتسالم عليه هو عدم معارضة أصالة عدم تحقق السبب الناقل لليد. واما مع العلم بتحقق السبب ولكن الشك في تحقق المؤثر لسببيته والمسوغ له ، فلا يعلم تقدم اليد على الأصل الجاري لنفي تحقق المسوغ. ويمكن إجراء هذا الإشكال في جميع صور الشك في الصحة من جهة الشك في تحقق بعض شروطها كالعلم بالعوضين وغيره.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس‌سره في المقام : ان اليد قد أخذ في موضوع حجيتها قابلية المحل للملكية والنقل والانتقال ، لأن مفادها : ان المال قد انتقل من مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد الأسباب الناقلة ، وذلك انما يكون بعد الفراغ عن كون المال قابلا للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، لأن الانتقال فيه انما يتحقق بعد عروض السبب المسوغ للنقل ، واليد لا تتكفل ذلك. بل استصحاب عدم طرو المسوغ يقتضي سقوط اليد لأنه يرفع موضوع اليد ، فيكون حاكما عليها (١).

وقد أورد المحقق العراقي قدس‌سره ـ في بعض تقريراته ـ : ان أخذ القابلية الواقعية في موضوع اليد ـ مضافا إلى عدم تماميته ـ يستلزم سقوط اليد عن الحجية

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٢٦٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٩

بمجرد الشك في القابلية وعدمها ، لأنه شك في تحقق الموضوع ، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب وحكومته على اليد.

فكلامه مع المحقق النائيني في جهتين :

الأولى : عدم أخذ القابلية في موضوع اليد.

الثانية : انه لو أخذت ، فلا حاجة الاستصحاب ، بل مجرد الشك كاف في سقوط اليد عن الحجية.

أما الجهة الثانية : فهي غير تامة ، لأنه لا إشكال في ان لجريان الاستصحاب في عدم تحقق المسوغ ـ مع قطع النّظر عن اليد ـ أثرا شرعيا كعدم جواز بيعه وغيره من أحكام الوقف ، فيمكن أن يكون جريانه بلحاظ أثره الشرعي.

وأما التعبير بالحكومة ، فيمكن توجيهه : بان الدليل الحاكم لا يختص بما كان مخرجا لفرد كان مشمولا فعلا للدليل المحكوم لو لا الدليل الحاكم ، بحيث كان للدليل المحكوم اقتضاء فعلي لشمول هذا الفرد.

بل هو يعم ما كان كذلك وما كان مخرجا لفرد يتوهم شمول الدليل الآخر له ، وان لم يكن فيه مقتضى الشمول فعلا.

والاستصحاب هاهنا أثبت عدم تحقق قابلية العين للملكية ، وهي ـ أي العين ـ مما يتوهم شمول دليل اليد لها في حد نفسها ومع قطع النّظر عن كونها مشكوكة الحال وان الشبهة موضوعية ، وان كان ليس فيه اقتضاء الشمول فعلا باعتبار الشك.

وعليه ، فالاستصحاب جار ويكون حاكما على اليد بهذا اللحاظ ، وهذا لا ينافي سقوط اليد عن الحجية للشك. فلا إشكال على المحقق النائيني من هذه الناحية.

نعم ، لو كان مراده قدس‌سره أن سقوط اليد عن الحجية انما هو لأجل الاستصحاب ، بحيث لولاه لكانت اليد حجة ـ كما لعله الظاهر من كلامه فتأمل ـ

٤٠