منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

على العموم ، هل هي بالوضع أو لا ، بحيث يحتاج في العام إلى إجراء مقدمات الحكمة في مدخول الأداة؟. ثم القائلون بالوضع يختلفون في أن المخصص المنفصل هل يوجب التصرف في ظهور العام في العموم ـ بتقريب : ان لفظ العموم موضوع لإرادة استيعاب جميع الافراد ما لم تقم قرينة متصلة أو منفصلة على العدم ـ أو لا ، بل يبقى العام على ظهوره العمومي ، ويكون المخصص ناظرا إلى المراد الجدي.؟

وقد عرفت أيضا الكلام في مقدمات الحكمة ، وانها تجري في تعيين المراد الجدي أو المراد الاستعمالي ، وهو يجري أيضا فيما نحن فيه إذا قلنا بالاحتياج إلى مقدمات الحكمة في المدخول في استفادة العموم.

فالاحتمالات أربعة ، والخاصّ مقدم على العام على جميعها.

أما على القول بأن اللفظ موضوع للعموم والخاصّ المنفصل موجب للتصرف في ظهوره ، والقول بعدم الوضع وجريان مقدمات الحكمة في المراد الجدي ، فواضح ، لأن ورود الخاصّ موجب لانهدام ظهور العام في العموم فلا تنافي.

وأما على القولين الآخرين ، فالعام وان كان يبقى على ظهوره العمومي ، إلاّ ان الخاصّ مقدم عليه لأقوائية ظهوره ـ وجه الأظهرية : ان دلالة الخاصّ على الفرد المخصص دلالة مطابقية ، بخلاف دلالة العام عليه فانها دلالة تضمنية ، لوضوح ان العام ليس بموضوع لكل فرد فرد ، بل لمجموع الافراد.

والدلالة المطابقية أقوى من التضمنية وان كانتا لفظيتين ، فلاحظ ـ وقد عرفت تقييد حجية الظاهر عرفا بما إذا لم يكن دليل أظهر منه.

المورد الخامس : في تقديم النص أو الأظهر على الظاهر. والكلام فيه يتضح مما سبق من بيان ان حجية الظاهر مقيدة بما إذا لم يقم ما هو أقوى منه ظهورا ، فورود النص أو الأظهر يوجب خروج الظاهر عن موضوع الحجية فلا يكون بينهما تدافع في هذا المقام فلا تعارض.

وبذلك اتضح خروج موارد المقيد والمطلق والخاصّ والعام والظاهر والأظهر

٣٠١

عن مفهوم التعارض بالمعنى الّذي اخترناه ، لعدم التدافع بينهما في مقام الحجية والدليليّة بحسب بناء العرف والعقلاء. كما عرفت ـ قبل الآن ـ خروج موردي الحكومة والورود عن تعريفه. فلا تجري فيها جميعا أحكام التعارض فتدبر.

تتمة : فيما يتعلق بالخاص والعام والمقيد والمطلق

قد عرفت ان الخاصّ بعد وروده يدفع العام عن موضوع الحجية ، لتقييد حجية العام بما إذا لم يقم دليل أقوى منه على خلافه كالخاص. وهكذا الحال في المطلق بالنسبة إلى ورود المقيد.

فعليه ..

ان كان الخاصّ أو المقيد قطعي الورود ، كان موجبا لخروج العام أو المطلق عن الحجية بالتخصص ، لانتفاء موضوع الحجية تكوينا وحقيقة ، لأن موضوعها هو العام الّذي لم يرد دليل على خلافه أقوى ظهورا منه ، وقد ورد قطعا على خلافه في الفرض ، فلا حجية للعام بالتخصص.

وان كان ظني الورود ، كان دليل حجيته المتكفل للبناء على وروده والعمل به حاكما على دليل حجية العام أو المطلق ، لأنه ينفي القيد تعبدا وتنزيلا لا تكوينا فيكون حاكما.

وعليه ، فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني من اختصاص مورد التخصص بما إذا كان الخاصّ قطعي الدلالة والسند. وفي غيره مما كان الخاصّ ظنيهما أو ظني أحدهما يكون دليله مقدما على دليل العام بالحكومة.

بتقريب : انه ليس المأخوذ في موضوع الحجية عدم ورود الخاصّ كي تكون قطعية الورود موجبة للتخصص ، بل موضوع الحجية مقيد بالشك ، فمتى ارتفع الشك حقيقة عند ورود الخاصّ خرج العام عنها بالتخصص ، وذلك كما إذا كان الخاصّ قطعيهما ومتى لم يرتفع الشك حقيقة ، بل بالتعبد والتنزيل كما في غير هذه الصورة ـ لأنه مع ظنية أحدهما تكون النتيجة ظنية ـ كان دليل الخاصّ حاكما على أصالة

٣٠٢

العموم المتكفلة لحجية العام ، لتكفله لنفي الموضوع تنزيلا.

وذلك لأن الأساس الّذي بنى عليه اختياره ـ وهو تقييد أصالة العموم بحال الشك ـ لا صحة له ، لأن أصالة العموم من الأمارات ، لأنها من الأصول اللفظية العقلائية وقد تحقق عند الكل ان الشك لم يؤخذ في موضوع الأمارة قيدا لاستلزامه كون نسبتها إلى الاستصحاب نسبة التحاكم لا الحكومة ـ كما عرفت بما لا مزيد عليه ـ مضافا إلى انه لو كانت أصالة العموم فيما نحن فيه قد قيد موضوعها بحال الشك ، لكان بين دليلي العام والخاصّ تحاكم لا حكومة ، لأن استفادة الخاصّ من الدليل الخاصّ كان أيضا بأصالة الظهور. فحجية الخاصّ مقيدة بحال الشك أيضا ، فيكون دليل العام رافعا له تعبدا ، فكل من دليل العام ودليل الخاصّ يرفع موضوع الآخر وهذا هو معنى التحاكم.

فالوجه الوجيه ما ذكرناه من اختصاص حجية العام بعدم ورود الأقوى كالخاص ، ويتفرع عليه ما عرفت من كون المناط في الحكومة والتخصص ظنية الورود وقطعيته.

وقد يتساءل : بأنه إذا كان تقديم المخصص على العام بالحكومة أو بالتخصص ، فما هو الوجه في اعتبار الأظهرية وملاحظة النسبة بعد ان تقرر ان الحاكم يتقدم على المحكوم بأي نحو كان ظهورا ونسبة بالإضافة إلى المحكوم؟. وما هو الوجه في جعل التخصيص منفردا عن الحكومة بحثا وأحكاما؟

والجواب عن هذا التساؤل يتضح من مطاوي ما ذكرناه ، فان الحاكم ليس هو نفس الخاصّ ، حتى يتأتى فيه ما ذكر للحكومة من أحكام ، وانما الحاكم دليله الّذي يتكفل التعبد به والبناء عليه باعتبار انه بذلك يتكفل رفع موضوع الحجية ، لأنه مقيد بعدم ورود الأقوى ظهورا.

ولأجل ذلك لا بد من اعتبار أظهرية الخاصّ كي تتحقق حكومة دليل

٣٠٣

اعتباره ، كما انه لا بد من ملاحظة النسبة ، لانتفاء الأظهرية في صورة كون نسبتهما العموم من وجه ، فلا يكون دليل اعتباره حاكما ، لأنه لا يتكفل ورود الأقوى ظهورا.

وبالجملة : نفس الدليل الخاصّ ليس من افراد الحاكم ، وانما الحاكم دليل اعتباره وأحكام الحكومة تجري فيه دون نفس الخاصّ ، بل لا بد في الخاصّ من اعتبار الأظهرية ليكون دليله متكفلا لنفي موضوع دليل العام فيكون حاكما.

في الفرق بين التعارض والتزاحم

اخرج الأصوليون بعض موارد تنافي الحكمين الساري إلى الدليلين عن أحكام التعارض ورتبوا لها أحكاما خاصة ، واصطلحوا عليها بموارد التزاحم. فما هو ضابط هذه الموارد ، ولم لا تجري أحكام التعارض فيها؟

ذهب المحقق الخراسانيّ قدس‌سره إلى : انه متى ما ثبت وجود الملاك لكلا الحكمين فالمورد من موارد التزاحم. ومتى لم يثبت وجود الملاكين كان المورد من موارد التعارض. فالتزاحم عنده هو التنافي في فرض ثبوت الملاك. والتعارض هو التنافي في فرض عدم ثبوته (١).

وذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى : اختلاف موردي التزاحم والتعارض ، فكل منهما له مقام يستقل عن مقام الآخر وينفرد عنه.

وذلك ، فان التنافي بينهما ..

ان كان يرجع إلى التنافي في مرحلة الجعل والتشريع ، بحيث لا يمكن جعل كلا الحكمين. فهو التعارض ـ كالتنافي بين وجوب الشيء وحرمته ، فانه يستحيل جعل كلا الحكمين من المولى لتضادهما ـ.

وان كان يرجع إلى التنافي في عالم الامتثال ومرحلة فعلية الحكمين ، بأن كان

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٠٤

جعل كلا الحكمين في نفسه وبنحو القضية الحقيقة ممكنا للمولى ، فلا تنافي بينهما في عالم الجعل ، وانما التنافي بينهما في مرحلة فعليتهما ، باعتبار عدم إمكان امتثالهما معا لعدم تحقق موضوعيهما معا.

فهو التزاحم ـ كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الثابتين بدليليهما في زمان واحد ـ فان جعل كلا الحكمين لا محذور فيه ، لأن جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية وهو لا ينظر إلى ثبوت الموضوع وعدمه ، بل هو ثابت ولو لم يكن الموضوع ثابتا وموجودا ، فاجتماع الغريقين مع عدم القدرة الا على إنقاذ أحدهما لا يوجب التنافي بين الحكمين في عالم الجعل ، بل في عالم الفعلية ، لأجل التردد في صرف القدرة في هذا الطرف فيكون حكمه فعليا دون الآخر أو بالعكس.

ولا يخفى ان هذا ـ أعني : تعيين أحدهما ـ ليس من شأن المولى والجاعل ، إذ لا يرتبط بمولويته وبجعله ، بل من وظائف غيره ، وهو لا يضرّ بنفس الجعل ، لأنه ينفي موضوع الحكم الآخر ، لا انه ينفي الحكم عن موضوعه ، فلاحظ (١).

والمورد الّذي تظهر فيه ثمرة الخلاف بين المحققين ( قدست أسرارهما ) هو مورد توارد الحكمين المتنافيين على موضوع واحد ، بحيث لا يكون التنافي ناشئا من جهة العجز عن الجمع بين الامتثالين مع ثبوت الملاك لكل من الحكمين ، كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على الاتحاد والانحصار ، فانها مشمولة لدليل : « صل » ولدليل : « لا تغصب » فان مثل هذا المورد من موارد التزاحم عند المحقق الخراسانيّ لوجود الملاك ـ كما يلتزم به ـ ومن موارد التعارض عند المحقق النائيني ، لرجوع التنافي إلى عالم الجعل لا إلى مرحلة الفعلية ، لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

وفي غير هذا المورد لا تظهر الثمرة بين القولين وان اختلفا مفادا ، لثبوت الملاك في مثل مثال الإنقاذ ، مما تعدد فيه موضوع الحكمين.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٠٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٥

وعلى كل ، فيقع الكلام فيما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من تفسير التزاحم بالتنافي في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل ، وان تعيين الوظيفة ليس براجع إلى المولى الجاعل بل إلى غيره.

وتحقيق الحال : ان ما ذكره لو تمّ متين جدا ، لأنه يوجب انحياز موارد التعارض عن التزاحم بالكلية ، لأن التعارض الّذي يهمنا البحث عنه وعن الفرق بينه وبين التزاحم هو التنافي بين الأدلة ـ كما عرفت ـ سواء أكان بلحاظ الدليليّة أو الدلالة.

وهذا المعنى ليس بثابت في مورد التزاحم على هذا الاختيار ، لأن التنافي في مرحلة الفعلية ان تم انفصاله عن عالم التشريع والجعل ـ كما هو الفرض ـ لم يكن مرتبطا بالأدلة كما هو ظاهر جدا ويكون أجنبيا عن التعارض بمفهومه العرفي الّذي ذكرناه ، وبه يكون محط الأحكام. إلاّ انّ تماميته والتسليم بأن مثل هذا التنافي لا يسري إلى مرحلة الجعل محل نظر.

بيان ذلك : ان المأخوذ في موضوع التكليف في مثل المثال الّذي استشهد به على كون التنافي في مرحلة الفعلية دون الجعل ، اما ان يكون هو القدرة في حد نفسها ـ مع قطع النّظر عن المزاحمة ـ أو يكون المأخوذ هو القدرة الفعلية ولو مع المزاحمة. فان كان المأخوذ هو القدرة الفعلية ، فلا تحقق لها فيما نحن فيه في كل من المتعلقين ، فيكون المورد من موارد عدم وجود الموضوع ، فلا معنى لفرض التزاحم.

وان كان المأخوذ هو القدرة في حد نفسها ـ كما هو الظاهر من فرض التزاحم ، بل بدونه ـ فهي متحققة بالنسبة إلى كل من المتعلقين ، لأن كلا من الإنقاذين مقدور بنفسه ومع قطع النّظر عن مزاحمه ، فيكون كلا منهما فعلي الحكم لتحقق شرطه ، فيحصل التدافع بين الحكمين الفعليين ، إذ لا يمكن امتثالهما معا لعدم القدرة على كلا الإنقاذين بنحو الجمع ، إذ الموجود قدرة واحدة يتردد صرفها في أحد الفردين ، وبذلك يلغو جعل كلا الحكمين معا ـ كما يلغو جعل الحكم على غير

٣٠٦

المقدور ـ ، لعدم فرض الداعوية والتحريك في كليهما معا لعدم القدرة على متعلقيهما جمعا ، فيسري التنافي إلى مرحلة الجعل ، إذ يتردد المجعول بينهما بعد ان لم يمكن جعلهما معا ، ومن التنافي في مرحلة الجعل يسرى التنافي إلى الدليل المتكفل لبيان الجعل. كما اعترف بذلك قدس‌سره ، فانه ذكر : ان ملاك التخيير في صورة التنافي في مرحلة الجعل هو تقييد كل من الإطلاقين للآخر ، وظاهر ان الإطلاق ليس امرا غير الدليل.

وبذلك لا يظهر انحياز مفهوم التعارض عن موارد التزاحم.

والّذي ينبغي ان يقال : ان لفظ التزاحم لم يرد في آية ولا رواية ، وانما هو لفظ اصطلح به على بعض الموارد التي تشترك في جملة أحكام جعلها الأصوليون لها ـ كما أشرنا إليه في صدر الفصل ـ فلا بد من معرفة حد التزاحم من معرفة مقدار تلك الآثار.

والّذي نراه ان هذه الأحكام انما تجري في صورة تنافي الحكمين من جهة عجز المكلف وعدم قدرته على الإتيان بمتعلقيهما ، لا تنافيهما مطلقا ولو من حيث أنفسهما.

فالكلام يقع في جهات ثلاث :

الأولى : في بيان جريان جميع هذه الأحكام في هذه الصورة ، أعني صورة كون التنافي ناشئا عن العجز خاصة.

الثانية : في بيان عدم جريان أحكام التعارض التعبدية في هذه الصورة ، إذ لقائل ان يقول : انه بعد فرض ان هذا النحو من التنافي يسري إلى الدليلين فيوجب تعارضهما ، فما هو الوجه في العدول عن إجراء أحكام التعارض الثابتة بالأدلة الشرعية في هذه الصورة إلى إجراء أحكام أخرى لم يرد بها تشريع؟

الثالثة : في بيان ان موضوع الخلاف بين المحققين ـ الخراسانيّ والنائيني ـ هل يندرج تحت أحد العنوانين ـ التزاحم والتعارض ـ أم له حكم آخر؟ ومنه يظهر

٣٠٧

عدم جريان أحكام التزاحم بمجموعها في غير مورد كون التنافي ناشئا عن العجز خاصة.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها : ان أحكام باب التزاحم هو ..

التخيير في صورة تساوي المتعلقين في المزايا ، اما بملاك الترتب الّذي محصله تقييد امر كل منهما بترك الآخر ، أو بحكم العقل بلزوم الإتيان بأحدهما للمحافظة على ملاكات الأحكام مهما أمكن ـ على القول بعدم الترتب ـ أو الترجيح في صورة اشتمال أحدهما على مزية من أهمية الملاك وتقييده بالقدرة العقلية مع تقييد الآخر بالقدرة الشرعية ، وعدم وجود بدل له يحصّل الملاك مع وجوده للآخر ، فان ذا المزية يقدم بحكم العقل.

ومن الظاهر جدا ان هذه الأحكام من تخيير وترجيح انما تثبت في صورة العجز عن الجمع بين الامتثالين ، إذ مع إمكانه لا تصل النوبة إليها ، بل لا بد من الإتيان بكلا المتعلقين. كما انها لا تجري بجملتها في غير صورة التنافي الناشئ عن خصوص العجز ، كما يظهر في الجهة الثالثة من جهات الكلام.

واما الجهة الثانية : فتحقيق الكلام فيها : ان الحكمين المتنافيين ، اما ان يكونا مدلولين لدليل واحد ، كـ : « أنقذ كل غريق » المنحل إلى أحكام متعددة متزاحمة في مورد الاجتماع وعدم القدرة. واما ان يكونا مدلولين لدليلين.

فعلى الأوّل : فخروج المورد موضوعا عن أحكام التعارض لا يحتاج إلى بيان ، لأن موضوع التعارض هو التنافي بين الدليلين لا في مدلول دليل واحد.

وعلى الثاني : فمحل الكلام ما كان العجز عن الامتثالين اتفاقيا ـ لا دائميا مثل : « لازم زيدا دائما » و : « لازم عمرا دائما » مع افتراق عمرو عن زيد ، فان مثل هذا ليس من موارد التزاحم للغوية كلا الجعلين مطلقا ، فيرجع إلى موارد التعارض قطعا ـ وذلك كموارد انطباق العامين من وجه على موضوع واحد أو في مورد واحد بحيث لا يمكن امتثالهما معا ، فبناء على خروج مورد العامين من وجه عن موضوع الأدلة

٣٠٨

التعبدية المتكفلة لأحكام التعارض فالامر واضح ، ويكون المرجع فيه هو الأحكام العرفية من التساقط أو التخيير.

واما بناء على دخوله في موضوع الأدلة ، فمحل الكلام في هذه الجهة ما كان الحكمان المتنافيان واردين على موضوعين ، بحيث يكون منشأ التنافي هو خصوص العجز لا ما إذا كانا واردين على موضوع واحد ـ كالوجوب والحرمة المستفادين من مثل : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » المجتمعين على العالم الفاسق ـ فانه موضوع الكلام في الجهة الثالثة ، فانتظر.

وتحقيق الكلام في محل الكلام : انه اما ان يكون لأحد المتعلقين مزية على الآخر بحيث توجب قوة اقتضائه للحكم. أو يتساويان في الأهمية.

فعلى الأوّل : يتقدم الأهم وتتضيق دائرة إطلاق المهم بحكم العقل.

بيان ذلك : ان كلا من الحكمين ذو مقتضى ثبوتا ، ـ وهو الملاك ـ وإثباتا ـ وهو الإطلاق ـ إلاّ انه لما كان مقتضى الثبوت ـ أعني : الملاك ـ في أحدهما أقوى من مقتضى الآخر ، يرى العقل ان الأهم صالح للمانعية عن المهم ثبوتا لحكمه بلزوم صرف القدرة إلى متعلقه دون متعلق المهم ، فيمنع من شمول الإطلاق للفرد المهم في صورة المزاحمة ، ولا يرى ذلك ـ أي المانعية ـ في طرف المهم ، لأنه غير صالح لمنع ثبوت الأهم ، فيبقى إطلاقه سالما حال المزاحمة ، وبذلك يرتفع التنافي بين الإطلاقين ، لأن أحد الإطلاقين بضميمة حكم العقل بلزوم صرف القدرة في الفرد الأهم لا يشمل هذا الغرض لعدم القدرة على متعلقه.

ومع ارتفاع المنافاة بين الإطلاقين يخرج المورد عن التعارض موضوعا ، فلا مجال للقول بجريان أحكامه فيه.

وعلى الثاني : فالحكم هو التخيير ، إلاّ انه ..

تارة : يكون بالالتزام بالترتب ، بمعنى تقييد امر أحدهما بعدم الإتيان بالآخر. وهذا رافع للتنافي الموجود بالنظر البدوي ، لثبوت الأمر في صورة عدم امتثال الآخر

٣٠٩

وعدم انثلام الإطلاق.

نعم ، يسقط في صورة امتثال الآخر ، لكنه لحصول العجز عن متعلقه ، لأنه بالإتيان بأحدهما يحصل العجز القهري عن الآخر ، فيكون تقييد أمر كل منهما بعدم الآخر من باب تقييد الحكم بالقدرة على متعلقه وليس تقييدا بأمر زائد على موضوع الحكم كي يكون ذلك تصرفا بالدليل.

نعم ، يبقى شيء ، وهو : انه يلزم حصول عصيان أحدهما بامتثال الآخر ، إذ الأمر لا يقيد بعدم العجز الاختياري ، وإلاّ لما حصل العصيان غالبا ، مع ان الالتزام بحصول العصيان في الفرض ممنوع.

والجواب : ان عدم حصول العصيان انما هو بحكم العقل ، إذ لا يستطيع التفصي عن هذا المقدار من الترك بعد ان كان لا يستطيع الجمع بين الامتثالين فلا عصيان بترك أحدهما إلى الآخر ، فالتخيير في المقام يرجع إلى الجمع بين الدليلين ، بحيث يرتفع التنافي بينهما ، فلا تصل النوبة إلى أحكام التعارض لارتفاع موضوعها.

وأخرى : لا يكون بالالتزام بالترتب ـ لعدم تماميته بنظر بعض والتزامهم بتساقط الدليلين ـ بواسطة حكم العقل بالتخيير بينهما ، بحيث لا يجوز تركهما والاشتغال بأمر ثالث من باب محافظته على تحصيل ملاكات الأحكام. وبذلك يثبت حكم تخييري للشارع على طبق حكم العقل ولا مجال له غير هذا ، فلا معنى لإجراء أحكام التعارض.

ولكن هذا يبتني على الالتزام بتحقق الملاك في كلا المتعلقين كما هو المشهور. اما مع المناقشة في ذلك ، فلا محيص عن الالتزام بدخوله في موارد التعارض وجريان أحكامه فيه ولا محذور فيه. إلاّ انه مجرد فرض. فتدبر.

واما الجهة الثالثة : فتحقيق الكلام فيها : ان المورد الّذي كان محل الخلاف وظهور الثمرة بين المحققين ليس من موارد التزاحم ولا من موارد التعارض ، بل هو برزخ بينهما.

٣١٠

وذلك لأن آثار التزاحم أجمع لا تجري فيه ، كما لا تجري فيه أحكام التعارض التعبدية.

اما عدم جريان أحكام التزاحم ، فلأن التخيير بملاكيه : ملاك الترتب وملاك حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى مهما أمكن مع الالتزام بالتساقط ، غير جار هنا مع تساوي الحكمين في الأهمية من جهة الملاك. وذلك ..

اما عدم التخيير بملاك الترتب ، فلأمرين :

الأول : ان من شروط صحة الترتب ـ كما يذكر في بعض تنبيهات مبحثه ـ ان لا يكون المتعلقان لا ثالث لهما ، إذ مع كونهما كذلك لا معنى لتعليق الأمر على عصيان الآخر ، لأن عصيان أحدهما يحصل بالإتيان بالمتعلق الآخر ، فيكون الأمر به لغوا لأنه من باب طلب تحصيل الحاصل.

وهذا المناط موجود فيما نحن فيه ، لأن عصيان الحرمة انما يكون بالإتيان بمتعلق الوجوب ، فلا معنى لتعليق الوجوب على عصيان الحرمة ، إذ لا مجال للبعث والتحريك بعد عصيان الحرمة والإتيان بمتعلق الأمر.

الثاني : ان الترتب انما يلتزم به لرفع التنافي بين الحكمين من جهة عدم القدرة والعجز عن الامتثالين معا ، لأنه يرجع إلى جعل الطولية في الامتثال الرافع لعدم القدرة.

وبذلك يصحح اجتماع الحكمين زمانا لأن محذور اجتماعهما يرتفع بالالتزام بالترتب. اما لو كانت هناك جهة أخرى موجبة للتنافي غير جهة العجز ، فلا يفيد الترتب في رفعه ، والمقام من هذا القبيل ، فان اجتماع الوجوب والحرمة لا ينحصر محذوره في مرحلة الامتثال كي يرتفع بالترتب ، بل هو ممتنع في نفسه وفي مرحلة انقداح الإرادة والكراهة ، والترتب لا ينظر إلى رفع التنافي في هذه المرحلة.

واما عدم التخيير بواسطة حكم العقل ، فلأنه مع تساوي الحكمين في الملاك يحصل الكسر والانكسار بين الملاكين ، ويكون نتيجته إباحة المتعلق ، ولا حكم

٣١١

للعقل بلزوم أحدهما ، لعدم اقتضاء ملاكه بعد مزاحمته بالملاك الآخر ، ويتضح ذلك بملاحظة العرفيات.

واما عدم جريان أحكام التعارض ، فلأنه بعد العلم بثبوت الملاك لكل من الحكمين في المتعلق لا محيص عن الحكم بالإباحة كما عرفت ، فلا معنى لترجيح أحدهما على الآخر بملاك الأشهرية ونحوها من الأحكام التعبدية ، للعلم بعدم جعل كلا الحكمين بعد تساوي الملاك ، والترجيح انما يتم في صورة احتمال جعل أحدهما واشتباهه ، إذ للشارع جعل الطريق الأشهر مثلا طريقا إلى حكمه.

واما في صورة كون ملاك أحد الحكمين أهم من ملاك الآخر ، فذو الملاك الأهم مقدم قطعا على غيره للعلم بجعله وتشريعه دون الآخر لانعدام ملاكه بالتزاحم.

ومن هنا يتضح الوجه في كون هذا المورد برزخا بين التعارض والتزاحم وليس من أحدهما لعدم جريان أحكام كل منهما فيه.

وبذلك يظهر ان تحديد التزاحم بأنه التنافي بين الحكمين من خصوص جهة العجز عن الجمع بين الامتثالين وان سرى إلى الدليلين هو المتعين ، فان رجع هذا إلى ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره فهو ، وإلاّ فهو تعريف ثالث غيرهما ، فتدبر جيدا والله سبحانه العالم.

٣١٢

فصل

هل يختص مورد التعارض بخصوص ما ثبت حجيته بالدليل اللفظي من الأدلة ، أو يعم ما ثبت بالدليل اللبي؟.

قد يتوهم الاختصاص بتقريب : انه مع الشك في حجية كل من الدليلين في مورد المعارضة ، لا دليل على حجيتهما لو كان الدليل لبيا ، للأخذ به في القدر المتيقن دون مورد الشك ، ومع انتفاء حجيتهما يخرجان عن موضوع التعارض. وهذا بخلاف ما لو كان دليلهما لفظيا ، لثبوت حجيتهما بالإطلاق.

وهو مندفع : بان الاقتصار على القدر المتيقن في الدليل اللبي انما يكون فيما لو احتمل تقييده بقيد غير ثابت ، إذ مع الشك لا إطلاق له حتى يتمسك به. وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه ، فان الدليل اللبي يتكفل إثبات حجية الخبر أو غيره بالمقدار الّذي يتكفله الدليل اللفظي لو كان.

نعم ، يقيد بعدم المانع العقلي عن حجيته كما يقيد الدليل اللفظي بذلك. فالدليل

٣١٣

لفظيا كان أو لبيان يتكفل حجية الدليل والخبر الاقتضائية ، بمعنى : حجيته في حد نفسه ومع قطع النّظر عن المحذور العقلي الثابت في مورد التعارض ، فهما في مورد المعارضة داخلان في حد ذاتيهما تحت دليل الحجية بنحويه ـ إذ لا يحتمل تقييد حجيتهما بغير مورد المعارضة ، بل حجيتهما اقتضائية كما عرفت ـ فيتحقق بهما موضوعه.

وبعد كل هذا مما عرفته يقع الكلام في مقامات :

المقام الأول : في تأسيس الأصل والقاعدة في الدليلين المتعارضين كي يكون هو المرجع في صورة عدم ثبوت الأحكام الشرعية لمورد ما.

فهل هو التساقط ، أو التخيير ، أو الاحتياط ، أو التوقف؟. ـ والمراد بالتوقف هو التوقف عن الرجوع إلى ثالث يخالفهما ، كالرجوع إلى أصالة الإباحة عند ورود الدليلين على الحرمة والوجوب ، بل لا يخرج في مقام العمل عن أحدهما على حسب ما تقتضيه الأصول والقواعد الموافقة لأحدهما.

وبذلك يتضح الفرق بينه وبين الاحتياط ، فانه العمل بنحو يدرك الواقع مع الإمكان بالجمع بين الدليلين عملا ، كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على الاستحباب أو الإباحة. كما يتضح الفرق بينه وبين التساقط والتخيير ، لأن الأول هو عدم العمل بكلا الدليلين والرجوع إلى الأصول العملية ، سواء وافقت أحدهما أم خالفت.

والثاني هو العمل بأحد الدليلين ، سواء كانت القاعدة على طبقه أم على خلافه.

وتحقيق الحال : انه اما ان يلتزم في باب الأمارات بالسببية أو يلتزم بالطريقية.

فعلى القول بالسببية. أفاد الشيخ قدس‌سره ان الأصل التخيير ، لدخول المورد في موارد التزاحم ، لأنه بقيام الأمارة تحدث مصلحة في متعلقها ، فيكون ملاكا

٣١٤

الحكمين ثابتين ، فالحكم ـ في مثل الحال ـ هو التخيير (١).

وللمناقشة في ما ذكره مجال ، لأن التنافي اما ان يكون منشؤه خصوص العجز وعدم قدرة المكلف على الجمع بين الامتثالين ، كما في فرض الحكمين المتواردين على موضوع معين. واما ان يكون منشؤه تنافي الحكمين في أنفسهما كما في فرض اجتماع الوجوب والحرمة على موضوع واحد.

فما يكون من موارد التخيير والتزاحم هو النحو الأول ، لاجتماع ملاكي الحكمين في الموضوعية ، إلاّ انه لا يختلف الحال على القول بالسببية والطريقية ، لوجود الملاكين على التقديرين.

واما النحو الثاني ، فهو خارج عن موارد التزاحم والتخيير وان قيل بالسببية ، إذ يعلم عدم جعل كلا الحكمين بعد فرض تحقق ملاكيهما ، لحصول الكسر والانكسار فيتساوى الفعل والترك ، فلا وجه للتخيير اللزومي الثابت بحكم العقل ، بل الحكم هو الإباحة كما تقدم.

مضافا إلى ان التخيير في الفعل الواحد مما لا يمكن تحققه في بعض الأحيان وهو ما إذا لم يكن الوجوب أو الحرمة المدلولين للدليلين تعبديا ، إذ معه لا يكون أحدهما قهري الحصول ، بل يمكن تركهما معا كما لا يخفى ـ لأن الترك أو الفعل قهري الحصول ، ولا يمكن تعديهما كي يحكم بلزوم أحدهما.

نعم ، التخيير بمعنى الإباحة الّذي يرجع إلى التخويل في أحد الأمرين لا مانع منه ، إلاّ انه غير التخيير المصطلح في باب التزاحم.

واما بناء على الطريقية : فالذي التزم به الشيخ (٢) ، وصاحب الكفاية (٣) هو التوقف وان اختلفا بحسب الطريق. ولا بد في تحقيق الحال من بيان امرين :

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٩ ـ الطبعة القديمة.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٩ ـ الطبعة القديمة.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٥

الأول : ان التعارض من حيث السند الّذي هو مورد أحكام التعارض انما يتحقق فيما كان الدليلان قطعيي الدلالة أو ظنييها ، ولكن لم يمكن التوفيق عرفا بين دلالتيهما ، فانه حينئذ يعلم بعدم شمول دليل الحجية لكل منهما ، لعدم إمكان الأخذ بهما معا اما مع كونهما ظني الدلالة وأمكن التوفيق بينهما عرفا بحيث يرتفع التنافي الظاهري البدوي ، فلا تعارض بينهما لإمكان شمول دليل الحجية لكل منهما بعد الجمع ورفع التنافي.

الثاني : ان الالتزام بالتساقط في مورد المعارضة انما هو لأجل عدم إمكان التخيير ، وإلاّ فمع إمكانه فلا وجه للالتزام به لأنه في الجملة جمع بين الدليلين فيرتفع التنافي.

وحينئذ فنقول : ان التخيير ..

تارة : يطلق ويراد به التخويل في الفعل والترك أو في أحد الفعلين وعدم الحرج والمانع من الأخذ بكل منهما ، وهو معنى الإباحة.

وأخرى : يطلق ويراد به الوجوب التخييري بمعنى لزوم أحدهما وعدم جواز تركهما معا ، بل لا بد من الأخذ بأحدهما. والتخيير الّذي هو محل الكلام هو التخيير بالمعنى الثاني لا الأول.

لأن التخيير بالمعنى الأول انما يكون بعد تساقط الدليلين والرجوع إلى الأصول ، ومحل الكلام ما كان قسيما للتساقط ومعترضا لوقوعه ، وهو المعنى الثاني منه. وهو ..

تارة : يكون في الحكم الفرعي ، فيكون تخييرا عمليا في المسألة الفرعية ، بمعنى وجوب الإتيان بأحد الفعلين ، كالتخيير بين خصال الكفارة.

وأخرى : يكون في المسألة الأصولية ، يعني في الدليل على الحكم ، فيكون بمعنى وجوب الأخذ بأحد الدليلين. وهو ..

تارة : يكون بين الدليلين على الحكم كالخبرين.

٣١٦

وأخرى : بين دليلهما المتكفل للتعبد بهما.

فهو يكون في مقامات ثلاثة.

ثم ان التخيير ثبوتا يتصور على أنحاء ثلاثة :

الأول : تعلق الأمر والوجوب بكل من الفردين مقيدا بترك الآخر.

الثاني : انه سنخ وجوب متعلق بكل من الفردين مشوب بجواز الترك ، كما يختاره صاحب الكفاية في ماهية الوجوب التخييري (١).

الثالث : انه وجوب أحدهما ، كما يختاره المحقق النائيني (٢).

والكلام في التخيير في المسألة الفرعية إثباتا انما يكون بناء على الالتزام بأن التخيير هو النحو الأول ، لا على الالتزام بأنه على النحوين الآخرين.

وذلك ، لأن الدليلين المتنافيين إما ان يكونا عامين من وجه بحيث يكون التنافي بحسب المجمع ، أو يكونا جزئيين دالين على وجوب شيئين.

فان كان عامين من وجه ، فالالتزام في موضع التنافي بوجوب أحدهما ، أو بوجوب كل منهما ، سنخ خاص يستلزم التفكيك في مدلول دليل واحد بالنسبة إلى افراده.

وان كانا جزئيين ، فظاهرهما الدلالة على وجوب كل منهما بخصوصه بالمعنى المعروف للوجوب ، فلا يتفق مع كون الواجب أحدهما أو مدلولهما الوجوب بنحو خاص منه ، لأنه طرح للدليلين لا جمع بينهما عرفا.

وبعد هذا فاعلم : انه قد يمكن التخيير في المسألة الفرعية ، كما لو دل أحد الدليلين على وجوب صلاة الظهر ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة. أو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمة شيء آخر. وعلم بعدم جعل كلا الحكمين بخصوصه بنحو الجمع ، فانه يمكن إلغاء خصوصية التعيين في كل من

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨٢ ـ الطبعة الأولى.

٣١٧

الحكمين وجعل وجوبهما تخييريا ، بمعنى ان يكون وجوب كل منهما مقيدا بترك الآخر ، إذ يمكن ان يكون الأمر في الواقع كذلك ، لأنه لا مانع من جعل وجوب الجمعة والظهر تخييريا. ومع إمكانه فيجمع بين الدليلين بذلك فيرتفع التنافي بينهما ويكون كل منهما مشمولا لدليل الحجية.

نعم ، لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يعلم بعدم جعل أحد الحكمين أصلا ، بل علم بعدم لزوم الإتيان بهما معا ، إذ مع العلم بعدم جعل أحد الحكمين بالمرة ، لا يرتفع التنافي والتكاذب بالجمع بالوجوب التخييري بهذا النحو ، لأن مقتضاه هو اجتماع الوجوبين لو لم يأت بكل منهما لحصول شرطيهما معا ، وهو يتنافى مع عدم جعل أحدهما بالمرة.

اما مع عدم العلم بعدم جعل أحد الحكمين من أساسه ، بل كان العلم متعلقا بعد لزوم الإتيان بكل منهما ، فهو متعلق بعدم الجمع عملا لا جعلا وتشريعا ، فالجمع التخييري يرفع التنافي كما عرفت.

وقد يستشكل : بأن كلا من الدليلين له دلالتان : دلالة مطابقية ، وهي دلالته على الوجوب التعييني ـ ودلالة التزامية ، وهي دلالته على نفي أصل وجوب الآخر. إذ بعد فرض العلم بعدم جعل كلا الحكمين بنحو التعيين ، كان الدليل الدال على وجوب أحدهما تعيينا دالا بالالتزام على نفي وجوب الآخر ، لأن مقتضى الوجوب التعييني لأحدهما عدم جعل الآخر من رأس. وعليه فالتصرف في المدلول المطابقي لكل منهما بإلغاء خصوصية التعيين ، لا يرفع التنافي الحاصل من جهة الدلالة الالتزامية ، لعدم تبعيتها للدلالة المطابقية في الحجية وان تبعتها في الوجود.

والجواب عن هذا الإشكال : ان الدلالة الالتزامية ..

تارة : تكون عرفية كما لو كان التلازم عرفيا.

وأخرى : تكون غير عرفية ، بل عقلية أو اتفاقية كما لو كان التلازم عقليا أو اتفاقيا.

٣١٨

والحجة من الدلالات الالتزامية هي العرفية ، لأنها موجبة للظهور العرفي للكلام ، دون غير العرفية.

ودلالة كل من الدليلين بالالتزام على نفي وجوب المتعلق الآخر ليست دلالة عرفية ، لأن التلازم بين وجوب أحدهما تعيينا ، وعدم وجوب الآخر اتفاقي ، إذ لا محذور في اجتماع الوجوبين التعيينيين في نفسه ، فلا حجية لهذه الدلالة كي توجب التوقف في الجمع بالتخيير ، فلاحظ.

ولو لم يمكن التخيير في المسألة الفرعية ـ كما لو دل أحد الدليلين على الحرمة والآخر على الوجوب ، أو دل أحدهما على إباحة شيء والآخر على وجوب شيء آخر ـ ، وعلم بعدم جعل أحد الحكمين ـ فانه لا معنى للتخيير اللزومي بين الإباحة والوجوب ولو في شيئين. أو الحرمة والوجوب في شيء واحد. أو دل أحد الدليلين على وجوب شيء والآخر على وجوب آخر أو حرمته ، وعلم من الخارج بعدم جعل أحد الحكمين من رأس ، فانه لا يمكن التخيير بالنحو الأول كما عرفته ـ فيقع الكلام في إمكان التخيير في المسألة الأصولية ، يعنى بين الدليلين في الحجية ، بمعنى لزوم العمل بأحدهما وترتيب الآثار عليه ، بحيث يحكم بمؤداه ويعمل بمقتضاه ـ كما هو المشهور عند تعارض المجتهدين المتساويين في المميّزات في الفتوى ـ

وقد عرفت ان الوجوب التخييري يتصور على أنحاء ثلاثة. فالكلام يقع في إمكان كل نحو من الأنحاء فيما نحن فيه بالنسبة إلى الحجية ثبوتا فتحقيقه : ان التخيير بأنحائه الثلاثة في المسألة الأصولية لا يتصور له معنى معقول.

اما التخيير بمعنى وجوب أحدهما ـ كما التزم به المحقق النائيني على ما عرفت ، بتقريب : ان عنوان أحدهما جامع انتزاعي ينطبق على كل من المتعلقين ، فكما يمكن تعلق الحكم بالجامع الحقيقي بين شيئين أو أشياء فيكون التخيير عقليا ، كذلك يمكن تعلق الحكم بالجامع الانتزاعي العنواني ، ويكون التخيير شرعيا. فملخص الفرق بين التخيير العقلي والشرعي هو ان الحكم في الأول متعلق بجامع حقيقي. وفي الثاني

٣١٩

متعلق بجامع انتزاعي (١) ـ ، بان يقال : انه كما يلتزم في باب الواجب بهذا الأمر كذلك يلتزم به في باب الحجية ، فيقال ان موضوع الحجية هو أحد الدليلين ، وهو جامع انتزاعي ينطبق على كل من الدليلين ، وهو معنى التخيير الشرعي في باب الحجية والدليليّة ، فلأن الفرق بين المقامين موجود. لأن التخيير في الوجوب في متعلق الحكم الّذي يكون الحكم محركا إليه وباعثا نحوه ، والمتعلق لا بد من فرضه غير موجود خارجا حال الحكم ، بل يتعلق به الحكم ليحصل الانبعاث نحوه. فيمكن ان يتعلق الحكم بالطبيعي أو الجامع الانتزاعي ، فيوجد بوجود أحد فرديه.

اما الدليلان ، فهما موضوعا الحجية لا متعلقا لها. والموضوع لا بد من فرض وجوده سابقا على الحكم ، كنفس المكلف بالنسبة إلى أحكامه. فلو وجد الدليلان فكل منهما ينطبق عليه عنوان : « أحدهما » ، فيدور الأمر حينئذ بين ان يكون كلاهما موضوعين للحجية ، أو أحدهما المعين. أو أحدهما على البدل.

وكل من الاحتمالات باطل ..

اما الأول : فلأنه خلاف الفرض ، لأن الفرض هو التخيير في الحجية لا ان كلا منهما حجة.

واما الثاني : فلأنه ترجيح بلا مرجح.

واما الثالث : فلأن أحدهما على البدل لا وجود له خارجا ، لأن كل فرد عبارة عن نفسه لا عبارة عنه أو غيره. فالموجود خارجا هو الفرد نفسه لا الفرد أو غيره.

وعليه ، فالالتزام بهذا النحو من التخيير مشكل ثبوتا. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكانه في عالم الثبوت ، ففيه :

أولا : انه لا يجدي في إجراء آثار التخيير المفروضة ، وهي صحة الالتزام بمؤدى أحدهما والحكم والفتوى بمقتضاه ، أو العمل على طبقه بقصد التقرب لو كان متوقفا عليه ، ونحو ذلك.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٠