منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

مضافا إلى ان هناك من لا يقول بتكفل الأمارات أحكاما شرعية ظاهرية ، بل يقول بأن مفادها الحجية أو المنجزية ونحوهما.

فالتدافع بين الأمارات انما يكون في مقام الإثبات لا مقام الدلالة ، إذ لا نظر للاعتبار إلى المدلول أصلا.

وما ذكرناه يمكن ان يكون مراد صاحب الكفاية (١) ، وان احتمل غيره والأمر سهل.

ثم ان التنافي في الدلالة على وجه التناقض غير متصور ، لأن الدلالة من الأمور الوجودية ، فالتنافي بين الدلالتين لا يكون إلاّ على وجه التضاد.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر : ان التنافي قد يكون عرضيا ، كما لو علم إجمالا بكذب أحدهما مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا.

ويبدو من المحقق النائيني الإشكال فيه ، وان مثل ذلك يكون من موارد اشتباه الحجة باللاحجة (٢).

والتحقيق : ان العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين له صور ثلاث :

الأولى : ان يعلم بسقوط أحدهما من باب العلم بعدم إمكان الجمع بين الدليلين مع عدم العلم بكذب أحدهما واقعا بحيث لا يتميز ، كما في الأصلين المتعارضين في موارد العلم الإجمالي ، فان الجمع بين الحكمين الظاهريين ممتنع لاستلزامه الترخيص في المعصية ، ولا يعلم بكذب أحدهما في الواقع.

الثانية : ان يعلم بعدم صحة أحد الخبرين واقعا ، وهو المعبر عنه بالكذب الخبري ، كما لو قام أحد الخبرين على وجوب القصر والآخر على وجوب التمام ، وعلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين.

الثالثة : ان يعلم بعدم صدق أحد الخبرين بالكذب المخبري.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧٠٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٨١

والصورة الأخيرة هي مورد اشتباه الحجة باللاحجة دون الأولتين ، فالإشكال لو كان فإنما هو على إطلاق الكفاية على أصل مراده ، فلاحظ.

وعلى كل حال فهذا ليس بمهم في محل الكلام بعد ما عرفت تحقيق الحال.

وانما المهم من الكلام يقع فيما أفاده من خروج بعض الموارد عن التعارض ، وهي : موارد الحكومة والورود والجمع العرفي ، والخاصّ والعام والمطلق والمقيد والنص أو الأظهر والظاهر.

فالكلام في موارد :

المورد الأول : في الحكومة : والبحث فيها في جهتين :

الأولى : في وجه تقديم الدليل الحاكم على المحكوم ، وقد سبق الكلام في ذلك مفصلا ، فراجع.

الثانية : في معنى الحكومة بنظره ـ أي صاحب الكفاية ـ وانها عنده عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الآخر في مرحلة دلالته ، مطلقا بأي نحو من أنحاء النّظر.

أو انها بنظره أخص من ذلك ، بمعنى انها نظر أحد الدليلين إلى الآخر بالشرح والتفسير بكلمة : « أعني » ونحوها ـ كما نسب ذلك إليه المحقق النائيني قدس‌سره (١).

قد يقال : بان الضابط لديه هو النحو الأول ولا أساس لنسبة المحقق المذكور إليه تخصيص ضابطها بالنظر بنحو الشرح ، لظهور عبارته في المقام في الأول. ويؤيده ما أفاده في الحاشية (٢) من موافقته الشيخ رحمه‌الله (٣).

ولكن الإنصاف ان النسبة المذكورة غير مجازفة في القول ، بل لها أساس تبتني عليه ، وهو ما ذكره في المقام في نفي حكومة الأمارات على الأصول من : ان دليل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٥٦ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٢ ـ الطبعة القديمة.

٢٨٢

اعتبارها ليس ناظرا إلى أدلتها وشارحا لها.

ومراده بالشرح خصوص التفسير بألفاظه لا مطلق النّظر والقرينية ـ إذ انه شرح بالملازمة ـ لما يذكره بعد ذلك في وجه تقدم الأظهر على الظاهر ومنه العام والخاصّ من انه بالقرينية ، مع التزامه انه ليس بنحو الحكومة ، بل بنحو الجمع العرفي ، فانه ظاهر في ان مطلق القرينية غير موجب للحكومة ، وإلاّ لكان تقدم الأظهر على الظاهر بنحو الحكومة عنده ، ولا يلتزم به ، فتدبر.

المورد الثاني : في الجمع العرفي : والكلام فيه مع صاحب الكفاية من جهتين :

الأولى : في وجود مورد للجمع العرفي غير تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ، وهو ما كانت ملاحظة كلا الدليلين موجبة للتصرف فيهما.

قد يذكر لذلك ما إذا ورد الدليل على وجوب شيء ، وورد الآخر على وجوب غيره ، فانه بملاحظتهما معا يحملان على بيان الوجوب التخييري ، وتلغى خصوصية التعيين المستفادة بالإطلاق من كل منهما ، الموجبة لحصول التنافي بين الدليلين.

ولكن هذا في الحقيقة من باب تقديم النص على الظاهر ، لأن كلا منهما نصّ في الوجوب ، ظاهر في التعيين بواسطة الإطلاق ، فظاهر كل منهما ينافي نصّ الآخر ، فالمثال من موارد تقديم النص على الظاهر ، وما يكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر.

وقد يجعل هذا المورد من موارد تعارض الإطلاقين ، والقاعدة تقتضي التساقط ، برفع اليد عن إطلاق كل منهما المقتضي للتعيين. وعليه لا يكون المورد من موارد الجمع العرفي أصلا ، بل هو نظير تعارض العامين من وجه وتساقطهما في المجمع.

الثانية : ما ذكره من ان تقديم الأدلة المتكفلة للأحكام بعناوينها الثانوية ـ كأدلة نفي الضرر أو الحرج ـ على الأدلة المتكفلة للأحكام بعناوينها الأولية بالجمع

٢٨٣

العرفي بحمل الأولى على الحكم الفعلي والثانية على الحكم الاقتضائي ـ فهو مثال لما تكون ملاحظة الدليلين موجبة للتصرف في أحدهما كما لا يخفى ـ.

وفيه تأمل لوجهين :

الأول : ان الحكم الاقتضائي بمعنى لا معنى له فيما نحن فيه ، وبمعنى آخر لا يلتزم به صاحب الكفاية.

بيان ذلك : انه (١) ، ان أريد بالحكم الاقتضائي ما هو المشهور المصطلح للوجود الاقتضائي للشيء ، وهو ان المقتضى ـ بالفتح ـ بوجود مقتضية ، وينسب إليه الوجود مسامحة وبالعرض ، فالحكم موجود لوجود مقتضية.

فهذا لا معنى له في الفرض ، لأن المقتضي الّذي يترشح عنه المعلول في الأحكام هو الجاعل وهو الله سبحانه وتعالى ، فالأحكام ـ مطلقا ـ موجودة منذ الأزل بوجوده الأزلي ، وهذا غير ما نحن فيه ، لأن المراد ان المحمول على الاقتضاء هو الحكم المدلول للدليل في قبال غيره لا ذات الحكم بلحاظ جاعله وموجده.

وان أريد به كونه ذا مصلحة يقتضي تحققها ، فهو ذو اقتضاء للتحقق باعتبار وجود المصلحة في متعلقه. فهو غير معقول ، لأن نفس المصلحة معادلة لمتعلقه بالوجود ومتأخرة عنه ، فلا يعقل ان تكون موجودة في رتبة الحكم ويكون للحكم بها نحو ثبوت.

وان أريد به الحكم الطبعي الّذي هو عبارة عن ثبوت الحكم لذات الموضوع بلا لحاظ عوارضها الخارجية ، فالموضوع مهمل في مقام الإثبات ـ إذ لا يعقل

__________________

(١) أقول : ليس الحكم الاقتضائي ما هو الظاهر في لسان الأصوليين ـ وهو ما كان واجدا للملاك ، فهو ذو اقتضاء للثبوت ، لواجديته لملاكه ، ولكن هناك مانع من فعلية هذا الملاك ـ وقد عرضت هذا على السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ فأقره ، وقرب واجدية الملاك بان الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام بالعنوان الثانوي ، ظاهرة في الامتنان والتسهيل ، وذلك ظاهر في ان رفع الحكم لم يكن لعدم الملاك ، بل من باب التسهيل على المكلف ، وإلاّ فالملاك موجود ، وعلى هذا فما ذكر من التفصيل لا مجال له ، فينحصر الإشكال على الآخوند بالثاني ، فتدبر.

٢٨٤

إهماله في مرحلة الثبوت ـ فالدليل مهمل بالنسبة إلى الفرد الخاصّ.

ويكون الدليل الدال على نفي الحكم عن الفرد الخاصّ مخصصا للموضوع.

فهو وان كان معقولا إلاّ انه قدس‌سره لا يلتزم به ، لأنه يقتضي عدم ثبوت الملاك في الموضوع الخاصّ. مع انه يلتزم ببقاء الملاك ويستفيد بقاءه من إطلاق نفس الدليل الدال على الحكم ، ومع الالتزام بالإهمال فيه كيف يستفاد منه ثبوت الملاك في مورد المزاحمة؟.

الثاني : انه مع التنزل والتسليم بوجود معنى معقول للحكم الاقتضائي لا محذور فيه. فما ذكره من الحمل العرفي المذكور يحتاج إلى إقامة الدليل عليه. ولا نرى لذلك وجها ، كما انه لم يذكر الوجه فيه ، فهو يرجع إلى الجمع التبرعي غير المستند إلى وجه ، وهو غير حجة كما لا يخفى.

والتحقيق : هو التفصيل بين ما يكون دليل حكم العنوان الأولي متكفلا لحكم اقتضائي كالوجوب ، وما يكون الدليل متكفلا للإباحة ، ففي الأول يقع التعارض بين دليل الحكم الأولي ودليل الحكم الثانوي ولا وجه لحمل الأول على الحكم الاقتضائي في الثاني ، فالتفت.

المورد الثالث : في الورود ، وقد تقدم الكلام مفصلا في وجه تقديم الوارد على المورود ، وفي بطلان ما ساقه الآخوند رحمه‌الله من الوجه على التقديم وعدم تماميته فلا نعيد.

واما تقديم الأمارة على الاستصحاب ، فقد تقدم الكلام فيه مفصلا ، وتقدم بعض الإشارة إلى ما ذكره في الكفاية في هذا البحث ، فراجع.

المورد الرابع : في تقديم الخاصّ والمقيد على العام والمطلق.

وبما ان هناك من يرجع العام والخاصّ إلى المطلق والمقيد ـ كالمحقق النائيني (١) ـ لا بد من تقديم الكلام عن تقدم المقيد والمطلق.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٥

وفي تحقيق الحال في ذلك لا بد من تحقيق امر له كل المساس فيما نحن فيه ، كما له المساس المهم فيما يأتي من البحث عن انقلاب النسبة (١).

__________________

(١) تحقيق الكلام في هذا المقام ان يقال : ان تعدد الإرادة في الكلام ووجود الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية بالمعنى المذكور في المتن مما لا إشكال فيه ولا يقبل الإنكار ، كما انهما قد يختلفان ـ كما في موارد الاستعمالات الكنائية ـ وقد يتفقان.

وانما الإشكال في طريق تشخيص المراد الجدي للمتكلم وكونه على طبق ظاهر كلامه أو غيره ، وانه هل هو بواسطة ظاهر اللفظ كما هو المعروف ـ حيث ان المعروف تشخيص المراد الجدي من طريق ظاهر اللفظ فيكون الظاهر حجة ، وهو المعبّر عنه بأصالة الظهور ومطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت ـ ، أو انه بطريق آخر؟. الحق هو الثاني ، وذلك لأن المراد الجدي للمتكلم يعرف بأمرين ينضم أحدهما للآخر.

أحدهما : إحراز كون المتكلم في مقام الجد في كلامه وانه يريد بيان امر واقعي به في قبال الهزل أو غيره.

والآخر : إحراز مدلول الكلام وما قصد به تفهيمه.

فإذا حصل هذان الأمران يحصل العلم بالمراد الواقعي وانه مطابق للمراد الاستعمالي وما قصد تفهيمه.

فمثلا : لو قال : « جاء زيد من مكة المكرمة » ، فلدينا أمور ثلاثة : الأمر الخارجي من مجيء زيد وعدمه ، والمراد التفهيمي ، والمراد الجدي وهو ما قصد الحكاية عنه.

ولا يخفى ان الأول لا يعرف بالخبر ، وهو خارج عنه ، ولذا يتحقق الخبر مع العلم بعدم المطابقة والكذب ، فليس الأمر الخارجي وهو ذات ما أخبر عنه بمراد جدي ، وانما المراد الجدي هو ما قصد الحكاية عنه بما هو متعلق القصد ، أو فقل : ان الاخبار عن الشيء هو المراد الجدي.

وهذا هو المطلوب معرفته بالكلام ، وهو يعرف ـ كما تقدم ـ بإحراز مدلول الكلام ، وإحراز قصد الحكاية به ، وان المتكلم في مقام الاخبار لا في مقام آخر.

وهذا ليس من حجية الظهور في شيء ، إذ إحراز مدلول الكلام ينشأ من العلم بالوضع وملاحظة القرائن. وإحراز انه في مقام الجد ينشأ من قرينة حالية أو مقالية.

وقد يقال : ان المراد الجدي قد يتخلف عن المراد الاستعمالي سعة وضيقا ، كما لو كان مراده الجدي المعنى الخاصّ وكان اللفظ المستعمل فيه مطلقا ، فإذا حصل هذا الاحتمال في الكلام فلا دافع له إلا ظهور الكلام وعدم التقييد ، وهذا معنى حجية الظهور.

ويندفع هذا القول :

أولا : بأنه لا يتم فيما كان المعنى الآخر مباينا للموضوع له ، إذ لا يحتمل إرادته من اللفظ بلا

٢٨٦

.........................................

__________________

قرينة بعد عدم دلالة اللفظ عليه ، إذ كيف يقصد الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه؟

وثانيا : بأنه لا يتم حتى في مثل المطلق والمقيد ، لأن الجميع يلتزمون بأن إحراز كونه في مقام الجد في الجملة لا يجدي في إثبات ان مراده المطلق إذا احتمل انه ليس في مقام الجد من بعض الجهات ، بل لا بد من إحراز كونه في مقام الجد في تمام المدلول ومن جميع الجهات ، وإذا أحرز ذلك لم يحتج في إثبات مراده إلى الكشف عنه من طريق الظهور ، للعلم بأن مراده تمام المدلول ، وإذا لم يحرز ذلك لم يمكن تشخيص ان مراده المطلق من طريق اللفظ.

وعمدة التحقيق : ان المراد بقصد الجد والحكاية ليس ما يساوق معنى الإرادة والنية ، بل ما يساوق معنى الداعي المترتب على الشيء.

ومن الواضح انه لا يمكن ان يكون الداعي إلى الشيء ما لا يترتب عليه ، فلا يمكن ان يقصد الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه لعدم ترتبها عليه ، ومعنى إحراز الداعي إلى الحكاية يحرز ان مراده لا يتعدى مدلول اللفظ ، لأن الفرض انه قصد الحكاية عن امر بما قصد تفهيمه ، فتدبر.

ومن هنا يظهر ان مجرى مقدمات الحكمة في باب المطلق والمقيد انما هو المراد الاستعمالي لا المراد الجدي ، لوضوح تبعية المراد الجدي للمراد الاستعمالي ، وما قصد تفهيمه والانتقال منه إليه ، فلا بد في تشخيص المراد الجدي من معرفة المراد الاستعمالي سعة وضيقا ، وهو يحصل بالقرينة ، والقرينة على إرادة الإطلاق هي مقدمات الحكمة ـ كما يبين في محله ـ وبدونها لا يمكن إحراز المراد الاستعمالي ، ومعه لا يمكن تشخيص المراد الجدي ، وإذا توفرت المقدمات في المراد الاستعمالي فلا حاجة حينئذ لجريانها في المراد الجدي كما هو واضح.

ثم انه مما ذكرناه يظهر ان دلالة الكلام على المراد الجدي مع إحراز انه في مقام الجد تكون دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف ، لأنها تنشأ من ضم جهة وجدانية ـ وهي كونه في مقام الحكاية ـ إلى جهة عقلية ، وهي استحالة ان يكون الداعي إلى الشيء ما لا يترتب عليه.

وعلى هذا الأساس يشكل الأمر في موارد تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ، فان المعروف بين الأصحاب تقديم النص ـ وهو ما لا يمكن إرادة غير معناه المفهوم منه ـ على الظاهر ، وهو ما يمكن أن يراد به غير معناه المفهوم منه ، لكنه كان ظاهرا في المعنى المعروف.

وذلك فانه ـ على ما ذكرناه ـ لا فرق بين النص والظاهر في عدم احتمال إرادة غير معناه المفهوم منه.

فان الظاهر وان أمكن ان يستعمل ويراد به معنى آخر ، لكنه لا يصح بلا نصب قرينة ، إذ إرادة غير الظاهر من دون قرينة غير صحيحة ، فمع عدم القرينة لا يكون المفهوم من اللفظ سوى المعنى الظاهر فيه ، والمفروض ان المدلول الاستعمالي هو ما قصد تفهيمه للمخاطب ، فينحصر ان

٢٨٧

.........................................

__________________

يكون هو المعنى الظاهر لاستحالة إرادة غيره بدون قرينة ، لعدم ترتب التفهيم على حاق اللفظ ، وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي هو المعنى الظاهر ، كان هو المراد الجدي قطعا ، لما تقدم من ان قصد الحكاية انما هو بما قصد تفهيمه لا بغيره.

وبالجملة : ما يمكن ان يقصد تفهيمه هو ظاهر الكلام ، فتكون دلالته على المستعمل فيه قطعية ـ كالنص ـ بمقتضى البيان المزبور ، كما ان دلالته على المراد الجدي قطعية ، لأن المفروض انه قصد الحكاية بما قصد تفهيمه ، فبمقتضى ذلك تكون دلالة الكلام على المرادين الاستعمالي والواقعي قطعية.

وبذلك لا يبقى فرق بين النص والظاهر في المدلول الفعلي لكل منهما وان دلالة كل منهما عليه قطعية. فأي وجه لتقديم النص على الظاهر؟.

وقد يقال : ان احتمال وجود القرينة المتصلة بالنسبة إلى الكلام الظاهر وغفلة الناقل لنا عنها في مقام السماع أو النقل ، موجود. وانما يدفع بأصالة عدم الغفلة التي عليها مبنى العقلاء في أمورهم. وهذا الأصل لا يعتنى به مع وجود النص على خلاف الظاهر ، فيسقط الظاهر عن الدلالة القطعية على مدلوله.

ولكن هذا لو تم في نفسه ، فانما يتم لو كان احتمال الغفلة معتدا به ، وإلاّ فلا مجال له.

هذا ، ولكن المشكلة المزبورة انما يظهر أثرها في بعض الموارد ، كما لو كان المعنى الآخر الظاهر معنى مباينا للمعنى الظاهر فيه.

واما الموارد الأخرى التي تجعل من مصاديق تقديم النص على الظاهر ، فيمكن حلّ المشكلة فيها ، وهي متعددة :

الأول : مورد ورود الدليل الظاهر على الوجوب أو الحرمة ، وورود النص على الترخيص في الترك أو الفعل. فان المشهور هو حمل دليل الإلزام على أصل الرجحان من استحباب أو كراهة.

ويمكن البناء على ذلك بالالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني قدس‌سره في صيغة الأمر والنهي ، من عدم دلالتهما وضعا على الإلزام ، وانما يدلان على مجرد الطلب والزجر. غاية الأمر ان العقل يحكم بلزوم الامتثال إذا لم يرد ترخيص من الشارع ، واما مع ثبوته فلا يحكم بوجوب الامتثال.

وعليه ، فورود النص على الترخيص ـ فيما نحن فيه ـ يرفع موضوع حكم العقل بالإلزام ولا يصطدم مع ظهور الأمر أو النهي أصلا.

الثاني : مورد المطلق والمقيد.

ويمكن ان يقال في الجمع بينهما : بان أساس استفادة الإطلاق هو إحراز كون المتكلم في مقام

٢٨٨

.........................................

__________________

البيان ، وهذا يستفاد غالبا من ظهور الحال وليس من طريق قطعي.

وعليه ، فيمكن ان يجعل ورود الدليل المقيد رافعا لهذا الظهور ، سواء أرجع إلى التصرف في المراد الاستعمالي ، بحيث يكشف عن عدم كونه في مقام تفهيم المطلق ، أو رجع إلى التصرف في المراد الجدي ، بأن يكشف عن عدم كونه في مقام الجد بتمام المدلول.

فان كلا منهما كاف في رفع التنافي وان كان الأول أولى اعتبارا ، لأن الالتزام بإفادة المطلق استعمالا مع عدم إرادته منه جدا في جميع هذه المطلقات على كثرتها مستبعد جدا ، إذ ليس في ذلك داع عقلائي واضح. وقد نبّه على هذه الجهة الفقيه الهمداني قدس‌سره في بعض كلماته الفقهية.

ومن هنا ظهر الكلام في العام والخاصّ لو التزم برجوع العام إلى المطلق وان دلالة الأداة على العموم تتبع ما يراد من المدخول.

واما لو التزم بان الدلالة على العموم وضعية ، فالكلام فيه نؤجله إلى مجال آخر خشية الإطالة.

الثالث : ما إذا ورد دليل على تعلق الحكم بأمر ذي اجزاء وورد دليل آخر يدل على تعلقه ببعض اجزائه ، كما ورد في أدلة التيمم ما ظاهره لزوم مسح الوجه وورد ما ظاهره كفاية مسح الجبهة والجبينين ، فانهما متعارضان بدوا ، إذ الوجه اسم لمجموع أجزائه فلا يصدق على الجبين.

وقد بنى الأصحاب على حمل مسح الوجه على مسح بعضه حملا للظاهر على النص ، وقد عرفت ما في ذلك من إشكال. ويمكن ان يقال : ان إضافة الفعل إلى الوجه تارة يراد بها تعلق الفعل ببعضه ، كما لو قال : « لمست وجهه ».

وأخرى : يراد بها تعلقه بتمامه ، كما لو قال : « غسلت وجهه ». ومثله غيره من الأمور المركبة ، فانها قد تصدق على الكل وقد تصدق على البعض.

وإذا ثبت اختلاف موارد الاستعمال ، فظهور مسح الوجه في إرادة مسح تمامه لا يكون إلاّ بواسطة السياق ، وهذا الظهور السياق انما يكون لو لم يكن نصّ على كفاية مسح البعض ، ومع النص لا يستظهر العرف من السياق إرادة تمام الوجه ، فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق.

ثم انه ذكر صاحب الكفاية في أواخر كلامه عن موارد الجمع العرفي : بأنه لا فرق فيما بين ان يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا ، فيقدم النص أو الأظهر وان كان بحسب السند ظنيا على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا.

وهذا الأمر ذكره لدفع ما قد يتوهم من : عدم تقديم النص الظني السند على الظاهر القطعي السند من جهة حصول التعارض بين دليل اعتبار السند في الظني ودليل اعتبار الظاهر في

٢٨٩

وهو ما تعرض إليه في الكفاية في مبحث المطلق والمقيد من : ان المراد من البيان المأخوذ في إحدى مقدمات الحكمة هل هو بيان المراد الاستعمالي أو بيان المراد الجدي الواقعي (١).

وتوضيح ذلك : ان كون الآمر في مقام البيان هل المراد منه كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي ، يعني ما يقصد تفهيمه من اللفظ وإحضاره في ذهن المخاطب بواسطته ، من الإطلاق أو التقييد ، فإذا لم يأت بالقيد يعلم منه انه أراد منه تفهيم المطلق لا المقيد وإلاّ لقيّد.

أو المراد منه كونه في مقام بيان المراد الواقعي لمصب الحكم من نفس الذات أو الذات المقيدة ، فإذا لم يرد المقيد في الدليل يكشف عن ان مراده الواقعي هو الذات المطلقة لا المقيدة ، وإلاّ لبينها بالإتيان بالقيد مع المطلق ، فيدلان على المقيد بنحو تعدد الدال والمدلول؟.

والثمرة في الخلاف تظهر فيما لو ورد المقيد المنفصل.

فانه على الأول لا ينثلم بوروده الإطلاق ، لأن المقيد انما يكشف عن ان المراد الواقعي هو غير المطلق ، فهو يوجب التصرف في المراد الواقعي لا في الإطلاق ، بل المطلق على حاله واستعماله في الإطلاق ـ إذ لا تصرف للمقيد في المطلق في مرحلة الاستعمال كما لا يخفى ـ فيصح التمسك به في غير مورد التقييد ، في إثبات كون المراد الواقعي غير المقيد مطلقا.

واما على الثاني : فينثلم إطلاق المطلق ، لأن ورود التقييد يكشف عن ان

__________________

القطعي ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه.

ولكنه توهم فاسد المنشأ ، وذلك لأنك عرفت ان ورود النص يستلزم سقوط الظاهر عن ظهوره. وعليه فبما ان دليل الحجية يتكفل التعبد بصدور كل ما كان امرا ممكنا ولا يلزم منه محذور على تقدير ثبوته واقعا ، لم يكن مانع من التعبد بصدور النص ، إذ لا محذور على تقدير ثبوته لعدم صلاحية الظاهر لمصادمته ، بل هو ناف للظاهر ومسقط له ، فتدبر.

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٠

الآمر لم يكن في مقام بيان تمام مراده الجدي وإلاّ لبينه بالقيد حينذاك. فينتفي أساس مقدمات الحكمة ، وهو كون المتكلم في مقام البيان ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في غير مورد التقييد ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في المطلق المصححة للتمسك بإطلاقه.

وقد اختار صاحب الكفاية الأول ، وان المقصود كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي ليكون حجة وقانونا على المكلف ـ لكشفه عن المراد الجدي ببناء العقلاء على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي ـ حتى تقوم حجة أقوى على تقييد المراد الجدي فيؤخذ بها ولا ينثلم بها إطلاق المطلق.

واستدل على ذلك بتمسك أهل العرف بالمطلقات في غير مورد التقييد في نفى مشكوك القيدية. وهذا يكشف عن ان اعتبارهم للبيان بالنحو الأول لا الثاني ، لأنه على النحو الثاني لا يصح التمسك بالمطلق لانهدام أساس مقدماته ـ كما عرفت ـ فتمسك أهل العرف دليل إنّي على إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي لا الواقعي (١).

وقد أنكر المحقق النائيني قدس‌سره (٢) وجود نحوين للإرادة ، وانه ليس للاستعمال ـ الّذي حقيقته إلقاء المعنى باللفظ ولحاظها ثانية في المعنى ـ إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، بل المستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، وإلاّ كان هازلا.

وتتضح عدم وجاهة ما أفاده بما حقق من ان للمتكلم الملتفت إرادتين :

أحدهما : إرادة تفهيم المعنى باللفظ وإحضار المعنى بواسطة اللفظ.

الثانية : إرادته نفس المعنى ، بمعنى ان المعنى الّذي قصد تفهيمه كان مرادا له

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) تعرض إلى ذلك في مبحث العام والخاصّ في البحث عن مجازية العام المخصص. ـ راجع التقرير الكاظمي ـ.

٢٩١

واقعا وانه لم يكن في التفهيم في مقام الاستهزاء ونحوه.

فالنحو الأول هو المقصود بالإرادة الاستعمالية والمراد الاستعمالي. والنحو الثاني هو المقصود بالإرادة الجدية الواقعية والمراد الواقعي.

والكلام فيما نحن فيه : ان الشرط في التمسك بالإطلاق هل هو كون المتكلم في مقام بيان مراده الاستعمالي التفهيمي ، أو كونه في مقام بيان مراده الواقعي؟

فما أفاده من عدم التفكيك بين الإرادتين غير وجيه (١).

نعم ، يمكن التنظر فيما أشار إليه صاحب الكفاية (٢) من الثمرة التي بنى عليها استدلاله على ما ذهب إليه بما أفاده المحقق المزبور ـ وتعرض له غيره من الأعاظم ـ من إنكار انثلام الإطلاق بعد ورود التقييد بالنسبة إلى غير مورده على القول الثاني.

وذلك ببيان : ان ما ذكره صاحب الكفاية انما يتم فيما لو كانت المقدمة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد بلحاظ التمام بنحو العموم المجموعي ، بمعنى ان تكون هناك إرادة واحدة تتعلق ببيان امر واحد وهو تمام المراد. وذلك لأن ورود التقييد يكشف عن عدم كونه في مقام بيان التمام بنحو المجموع ، فينثلم الإطلاق لانتفاء

__________________

(١) وقد أنكر المحقق النائيني التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، ببيان : ان المقصود بالإرادة الاستعمالية إذا كان إرادة إيجاد المعنى باللفظ ، فهي عين الإرادة الجدية وليست معنى آخر غيرها ، لتقوم الاستعمال بذلك. وان كان المقصود منها الإرادة الهزلية المنفكة عن إرادة الإيجاد ـ وبعبارة أخرى : كان المقصود هو الإرادة لا بداعي الجد ـ فذلك مما لا يتصور له معنى معقول في الإرادة الاستعمالية.

ولا يخفى ان هذا الإنكار بهذا البيان ناشئ عن التعبير بالجد في قبال الإرادة الاستعمالية ، وإلاّ فهو لا يرتبط بواقع الدعوى ، إذ لا إشكال في وجود إرادتين في الاستعمال ، إرادة التفهيم وهي الإرادة الاستعمالية ، وإرادة الحكاية من الخارج بالمفهم وهي الإرادة الواقعية ، والانفكاك بينهما بديهي الحصول في بعض الاستعمالات كالاستعمالات الكنائية. فالمراد بالإرادة الجدية التي يقال انها غير الإرادة الاستعمالية ، وانها مجرى المقدمات ، أم الاستعمالية وهي الإرادة الواقعية.

لا الإرادة بداعي الجد ، كي يقال ان الإرادة الاستعمالية لا تنقل عن الجد وإلاّ كان المتكلم هازلا لا مستعملا ، فالإنكار ناشئ عن التعبير فقط دون واقع المطلب.

(٢) أفاد ـ دام ظله ـ في مباحث العموم ما يرد هذه التنظّر.

٢٩٢

أساس المقدمات المصححة للتمسك به في مورد الشك.

ولكن لا وجه للالتزام بذلك ، بل المقدمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده بالنسبة إلى كل خصوصية وقيد ، فالتمام ملحوظ بنحو العموم الاستغراقي ، بمعنى ان البيان متعلق بكل خصوصية ويضاعف إلى كل قيد ويلحظ فيه كل وصف بنحو الانفراد ، فورود التقييد انما يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالإضافة إلى هذا القيد بالخصوص دون غيره ، فيبقى الإطلاق سالما بالنسبة إلى باقي القيود ويصح التمسك به في مورد الشك لتمامية مقدماته بالنسبة إليها.

نعم ، ينثلم إطلاق اللفظ ـ على هذا القول ـ بالنسبة إلى مورد القيد ، لعدم تمامية المقدمات بالنسبة إليه. بخلافه على القول الآخر لتماميتها بالنسبة إلى مورد القيد أيضا ، كما عرفت. ولكنه غير ضائر في ما نحن بصدده من نفي الثمرة المذكورة.

فالتمسك بالإطلاق في غير مورد القيد بعد ورود المقيد صحيح على البناءين.

ومن هنا يظهر عدم صحة الاستدلال ببناء العرف على التمسك بالإطلاق بعد التقييد على القول الأول ـ وهو إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي ـ لعدم كشف ذلك ـ إنّا ـ عن الالتزام بهذا القول بعد ان عرفت صحة التمسك به على القولين.

ولكن قول صاحب الكفاية هو المتعين ، ولا بد من تعيين موضوع النزاع قبل تحرير الّذي ينبغي ان يقال في الاستدلال عليه ، فنقول : إن انفكاك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا إشكال فيه ، سواء في الإخباريات أو الإنشائيات.

فالأوّل : نظير الاستعمالات الكنائية ، فان المراد تفهيمه باللفظ هو اللازم ، ولكن المقصود بالأخبار هو الملزوم من دون أي قصد للاخبار عن اللازم ـ إذ قد يكون كذبا ـ.

والثاني : كإنشاء الأمر لا بداعي البعث ، فان المراد تفهيمه هو الطلب والأمر ولكن لم يكن ذلك بقصد التحريك والبعث نحو المأمور به ، بل كان بداعي آخر

٢٩٣

كالامتحان.

فالمراد الجدي الواقعي الّذي هو الاخبار والكشف عن الواقع في الإخباريات والتحريك والبعث ونحوهما ـ بحسب المنشأ ـ في الإنشائيات ينفك عن المراد الاستعمالي الّذي هو تفهيم هذا المعنى الخاصّ باللفظ. وإذا ثبت إمكان انفكاكها عنها ، فان قلنا ..

بان المراد الجدي الواقعي نحو ثبوت وجود مماثل لوجود المراد الاستعمالي ، بحيث يكون الكلام كاشفا عن المرادين بنحو الطولية ، بمعنى انه ينتقل من المراد الاستعمالي وهو التفهيم إلى المراد الجدي وهو الاخبار أو البعث ـ كما يتصور هذا على القول بان الإنشاء إبراز لأمر نفسي موجود في النّفس كما لا يخفى ـ كان للنزاع في ان المراد من كونه في مقام البيان ـ هل كونه في مقام بيان المراد الواقعي أو المراد الاستعمالي؟ ـ مجال واسع.

أما لو كان المراد الواقعي متفرعا في الوجود على المراد الاستعمالي ، بمعنى انه يتعلق بما قصد تفهيمه باللفظ وانه لا وجود له في غير عالم الكلام ، لم يبق للنزاع مجال ، وذلك لأنه بعد ان كان المراد الواقعي قد تعلق بما هو المقصود بالتفهيم فلا معنى لإجراء مقدمات الحكمة فيه لإحرازه من دون إحراز المقصود تفهيمه المتعلق هو به ، إذ لا فائدة في ذلك بدون إحراز المراد بالتفهيم ، فيتعين ان يكون إجراؤها في المراد الاستعمالي ، ويثبت كون المراد الجدي على طبقه ببناء العقلاء بلا حاجة لمقدمات الحكمة.

والصحيح في المراد الواقعي هو الثاني كما عرفت في تصويره ، فانه متفرع في وجوده على المراد الاستعمالي ويتعلق بما قصد تفهيمه ، لا انه ذو وجود مستقل في النّفس يكشف عنه اللفظ بواسطة المراد الاستعمالي ، لما عرفت من انه من قبيل الداعي للتفهيم ، والداعي ـ بوجوده الداعوي لا الحقيقي الخارجي ـ متفرع عما يدعو إليه.

٢٩٤

إذا تم ما عرفت ، فاعلم : ان من يلتزم بأن ظهور المطلق في الإطلاق يتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان المراد الجدي ـ كالمحقق النائيني ـ يرى ان ورود المقيد كاشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالنسبة إلى هذا القيد ، فينثلم الإطلاق في هذا المورد كما عرفت ، فلا يحصل التعارض والتنافي بين الدليل المقيد والدليل المطلق في مورد القيد ، لعدم شمول المطلق لهذا المورد بعد ورود التقييد ، لأنه يكون كالتقييد المتصل الموجب لقلب الظهور. فتقدم المقيد على المطلق على هذا القول واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

واما على القول بأن المراد من كون المتكلم في مقام البيان كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي ، فيشكل الأمر ، لأن ظهور المطلق في الإطلاق يبقى ولا ينثلم بعد ورود المقيد لنظر المقيد إلى المراد الجدي لا الاستعمالي ، فيكون كل من المطلق والمقيد كاشفا عن المراد الجدي في مورد القيد فيحصل التنافي بينهما لاختلاف مفادتيهما. فان مفاد المطلق : ان عدم دخل الخصوصية مراد جدا. ومفاد المقيد : ان دخل الخصوصية مراد واقعا. والالتزام بتعلق الإرادة بكلا الأمرين لا مجال له. وإذا ثبت التنافي بينهما مفادا فأيهما المقدم؟ وبأي وجه؟

ولا بد من التكلم في مقامين :

الأول : في ان استعمال المطلق في الإطلاق بلا ان يكون على طبقه مراد جدي وواقعي ، هل يكون استعمالا لغويا أو لا يكون كذلك بل يكون استعمالا عقلائيا عرفيا؟

الثاني : في وجه تقديم المقيد على المطلق بعد تحقق عدم لغوية استعمال المطلق في الإطلاق بلا إرادة واقعية على طبقه.

اما المقام الأول : فتحقيق الحال فيه : ان الاستعمال المذكور لا يكون لغويا بأحد وجهين :

الأول : ما أفاده صاحب الكفاية من : ان استعمال العام في العموم والمطلق في

٢٩٥

الإطلاق يكون حجة وقاعدة للمكلف حتى تقوم حجة أقوى على خلافه ، فاستعمال العام في الاستغراق وان لم يكن بإرادة جدية للعموم إلاّ انه لا يكون بذلك لغوا لكونه مستتبعا لتحقق الحجية بالنسبة إلى مورد القيد ، وهو كاف في رفع اللغوية ، لأن جعل الحجية بنفسه أثر عقلائي يرفع اللغوية (١).

الثاني : ما أفاده المحقق الأصفهاني من وجود الإرادة الجدية على طبق العموم حين الاستعمال إلاّ انها محدودة لورود التخصيص ، فهي في غير مورد التخصيص مستمرة لاقتضاء مصلحتها ذلك ، وامّا فيه فمرتفعة بورود التخصيص ، فيكون ورود التخصيص بالنسبة إلى الإرادة الواقعية من قبيل الناسخ (٢).

وليس المهم في المقام تحقيق أي الوجهين ، فانه متروك إلى محله ، بل المهم هو الإشارة إلى وجود ما يرفع اللغوية المتوهمة في الاستعمال.

واما المقام الثاني : فتحقيق الحال فيه : ان المطلق والمقيد تارة يكونان متفقين في الإثبات والنفي كـ : « أكرم العالم » و « أكرم العالم العادل » أو : « لا تكرم الجاهل » و : « لا تكرم الجاهل الفاسق ». وأخرى يكونان مختلفين نفيا وإثباتا نظير : « أكرم العالم » و : « لا تكرم العالم الفاسق ».

فأفاد صاحب الكفاية : انه مع الاختلاف نفيا وإثباتا ، فلا إشكال في تقديم المقيد على المطلق.

واما مع الاتفاق في النفي والإثبات ، فيدور الأمر بين التصرف في المطلق بحمله على المقيد والتصرف في المقيد بحمله على بيان أفضل الافراد. إلاّ انه بعد ان ذكر هذا اختار تقديم المقيد وحمل المطلق عليه لأنه أظهر في التعيين ـ بمعنى دخالة الخصوصية في الحكم لظهور القيد في كونه احترازيا ، لا التعيين مقابل التخيير حتى يقال انه يستفاد من إطلاق القيد لا وضعه وظهوره. فيدور الأمر بين الإطلاقين فلا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٣١ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٦

مرجح فيه ـ من المطلق في عدمه ونفي دخالة الخصوصية ، فيقدم عليه ببناء العرف (١).

إلاّ ان ما أفاده من أظهرية المقيد يشكل الالتزام به بناء على الالتزام بما ذهب إليه قدس‌سره من كون المقدمة هي الكون في مقام بيان المراد الاستعمالي.

وذلك لأن مقدمات الحكمة الجارية في تشخيص المراد الاستعمالي قطعية المفاد ، لأنها عقلية ، فجريانها يوجب القطع بإرادة الإطلاق من اللفظ. فظهور المطلق في الإطلاق قطعي بواسطة مقدمات الحكمة ، فهو نصّ في الإطلاق لعدم احتمال خلافه من الكلام.

ولا يخفى ان الأظهرية والظاهرية (٢) انما هي في عالم الاستعمال والمراد من اللفظ. فان الكلام ان كان يدل على المعنى بحيث لا يحتمل خلافه منه كان نصا فيه.

وان كان يدل عليه مع احتمال خلافه فهو ظاهر فيه ، فقد يكون احتمال الخلاف ضعيفا فهو أظهر ، والآخر الّذي يكون احتمال الخلاف فيه أقوى يكون ظاهرا ، ومع نصية المطلق في الإطلاق لا وجه لدعوى أظهرية المقيد في التعيين منه في عدم التعيين.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس‌سره ان المقيد المنفصل يقدم على المطلق بالقرينية ، إذ ضابط القرينية في حال الانفصال هو ان اللفظ يكون بنحو لو كان متصلا بالكلام لأوجب التصرف في ظهوره ، والقدر المتيقن منه هو الوصف والحال ونحوهما من الفضلات في الكلام. والمقيد المنفصل بهذه المثابة ، فانه لو كان متصلا لقلب ظهور المطلق وتصرف فيه. إلاّ ان الفرق بين المقيد المتصل والمقيد المنفصل ان الأول يوجب التصرف في ظهور الكلام الكاشف عن المراد الجدي. والثاني انما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) دفع لما قد يتوهم من انه يمكن ان يكون المراد بالأظهرية الأظهرية في مقام الكشف عن المراد الجدّي. كما لا يخفى.

٢٩٧

يتصرف في المراد الجدي دون المراد الاستعمالي ، فالمطلق بعد وروده يبقى على ظهوره الإطلاقي (١).

وما أفاده قدس‌سره محل نظر من جهتين :

الجهة الأولى : ما ذكره من انّ تقدم المقيد على المطلق بالقرينية ، ووجه الإشكال فيه : ان القرينة لها اصطلاحان : قرينة بالمعنى الأعم. وقرينة بالمعنى الأخص.

اما القرينة بالمعنى الأخص ، فهي على نحوين :

الأول : ما يكون مقترنا بالكلام بحيث يوجب التصرف في موضوع الحجية ، وهو ظهور الكلام ، نظير : « يرمي » في قولك : « رأيت أسدا يرمي » ، فانها توجب ـ ببناء العرف ـ قلب ظهور لفظ : « الأسد » في : « الحيوان المفترس » إلى ظهوره في « الرّجل الشجاع » ، لأن الرماية بالنبل من شئون الرّجل لا الحيوان المفترس.

وملاك التقديم واضح : فانه بعد ان كان الالتزام بكلا الظهورين غير ممكن للمنافاة ، فيدور الأمر بين التصرف في ظهور لفظ : « الأسد » في معناه الحقيقي وظهور لفظ : « يرمي » في معناه.

والأول هو المتعين بعد ان سيق لفظ « يرمي » للقرينية ، فان الالتزام بظهوره يوجب قلب ظهور لفظ : « الأسد » ، فيرتفع التنافي ، بخلاف الالتزام بظهور : « الأسد » ، فانه لا يوجب التصرف في ظهور : « يرمي » لعدم كونه قرينة عليه ، فيحصل التنافي ولا ترتفع غائلته.

الثاني : ما يكون منفصلا عن الكلام إلاّ انه ناظر بدلالته اللفظية إلى المراد الجدي من الدليل الآخر ، فيوجب التصرف فيه تضييقا وتوسعة ، وهذا كالدليل الحاكم بالنسبة إلى المحكوم.

وملاك تقديمه واضح أيضا ، لأن بناء العقلاء على مطابقة المراد الجدي للمراد

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٨

الاستعمالي فيما لم يقم المتكلم الدليل على ان مراده غير المقدار المفهم. اما مع إقامته الدليل على ذلك ، فلا وجه لبنائهم على كون مراده الواقعي ما فهمه بالكلام.

ويجمع هذين النحوين كونهما مقدمين على ذي القرينة مطلقا ولو كانا أضعف ظهورا منه كما لا تلاحظ بينهما النسبة.

واما القرينة بالمعنى الأعم ، فهي ما تشمل الأظهر بالنسبة إلى الظاهر ، ونحوه مما كان أحد الدليلين ناظرا إلى المراد الجدي من الدليل الآخر ، ولكن لا بالدلالة العرفية بل بالدلالة الالتزامية العقلية ، نظير المخصص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق ، فانه يقال أيضا بان تقديم الخاصّ والمقيد على العام والمطلق بالقرينية ، إلاّ انها ليست كالقرينية السابقة ولذا يلاحظ فيها الأظهرية وتراعى فيها النسبة ، لعدم وجود ملاك التقدم المطلق فيها كما في تلك.

فالمقيد المنفصل بالنسبة إلى المطلق ليس كالقرينة ـ بالمعنى الأخص ـ بالنسبة إلى ذي القرينة ، إذ لا يوجب التصرف في الظهور لانفصاله عن الكلام وانعقاد الظهور قبل وروده. كما انه ليس ناظرا بدلالته اللفظية إلى المطلق ، كالحاكم بالنسبة إلى المحكوم ، بل ناظرا إليه بالالتزام العقلي باعتبار حكم العقل بعدم إمكان اجتماع الحكمين المطلق والمقيد. فالتزامه قدس‌سره بتقدمه على المطلق بالقرينية بالمعنى الأخص بحيث لا يلاحظ فيه الأظهرية ولا يراعى فيه النسبة كالمقيد المتصل ، مما لا يعرف له وجه أصلا.

الجهة الثانية : ما ذكره من بقاء ظهور المطلق في الإطلاق على حاله بعد ورود المقيد المنفصل ، وانما التصرف في المراد الجدي.

ووجه الإشكال فيه : ما عرفت من انه بعد البناء على جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الجدي لا المراد الاستعمالي يكون ورود المقيد مخلا بإطلاق المطلق بالنسبة إلى هذا القيد ، لأنه يكشف عن عدم كونه في مقام البيان الّذي هو أساس انعقاد الإطلاق ، فيقدم المقيد عليه بلا كلام لعدم الإطلاق المنافي له.

٢٩٩

وهذا الالتزام لا يجتمع مع الالتزام ببقاء المطلق على إطلاقه. وقد عرفت التزامه قدس‌سره بكلا الأمرين. وهو ما لا يمكن تصور وجهه.

وحيث عرفت انه لم نلتزم بما التزم به قدس‌سره من جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الجدي ، بل التزمنا بما التزم به صاحب الكفاية من جريانها في المراد الاستعمالي.

فلا محيص حينئذ من الالتزام ببقاء ظهور المطلق على إطلاقه بعد ورود المقيد ، إلاّ انه من الواضح تقديم المقيد على المطلق في الحجية وتضييق حجيته بالنسبة إلى المراد الجدي ، لأقوائية ظهوره في معناه من ظهور المطلق فيه.

واما ما تقدم من الإشكال على صاحب الكفاية من : ان ظهور المطلق في الإطلاق بمقدمات عقلية فتكون دلالته عليه قطعية.

فيدفع : بان المقدمات وان كانت عقلية لكنها لا توجب القطع ، لأنها غير قطعية بمجموعها ، لأن كونه في مقام البيان انما يرجع إلى ظهور حاله في ذلك ، وظهور الحال لا يوجب القطع بما يتعلق به ويترتب عليه ، فنتيجة المقدمات غير قطعية لأنها تتبع أخسها ، فكل منهما ظاهر في معناه ـ وإلى ذلك يرجع تعبير القوم بالظهور الإطلاقي ـ إلاّ ان الظهور المستفاد من الوضع أقوى من الظهور المستفاد من ظاهر الحال ، فيكون ظهور المقيد أقوى من ظهور المطلق ، لأن الأول لفظي والأخير بظاهر الحال.

وبناء العرف والعقلاء على تقييد حجية الظاهر في الكشف عن المراد الجدي بما إذا لم يقم دليل أظهر منه ، فان الظاهر يؤخر عن مقام الحجية ويقدم الأظهر ، فلا يكون حينئذ بين المقيد والمطلق تدافع في مقام الحجية عرفا ، لأن المقيد هو المقدّم ، فلا تعارض بينهما.

هذا كله في المقيد والمطلق.

اما العام والخاصّ ، فتحقيق الكلام فيهما ، انه قد وقع الخلاف في ان دلالة العام

٣٠٠