منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

هو في مورد الحكومة الواقعية ، كحكومة أدلة إلغاء شك كثير الشك على أدلة أحكام الشك. دون الحكومة الظاهرية ـ كما فيما نحن فيه ـ فانه لا يعتبر فيها إلا كون الدليل الحاكم رافعا لموضوع الآخر في عالم التشريع.

ويؤخذ على هذا الكلام مؤاخذات :

الأولى : ان الحكومة بأي معنى كانت ـ واقعية أو ظاهرية ـ لا بد فيها من نظر الدليل الحاكم إلى المحكوم ، إذ لا وجه لتقدم الدليل المتكفل لنفي الموضوع على الدليل المتكفل لإثبات الحكم لموضوعه الواقعي إلا كونه ناظرا إلى نفي آثاره وأحكامه الثابتة له بالدليل المحكوم. وإلا فلا وجه لتقدمه عليه ، إذ مفاد الحاكم نفي الموضوع تشريعا لا تكوينا كي تنتفي آثاره الشرعية الثابتة له بمقتضى الدليل المحكوم.

الثانية : انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم لزوم النّظر في الحكومة الظاهرية ، فالمقام ليس من موارد الحكومة الظاهرية كما قرره قدس‌سره ، إذ ليس المراد من الحكومة الظاهرية كون الدليلين متكفلين للحكم الظاهري ، بل المراد أن أحد الدليلين لا يكون ناظرا إلى مدلول الآخر بحسب الواقع ـ وان كان ذلك الآخر دليلا ظاهريا إذ واقع كل بحسبه ـ بل يكون ناظرا إليه ومتصرفا فيه مع فرض الإغماض عن الواقع والجهل به ـ ولذلك عرفها قدس‌سره في مبحث التعادل والتراجيح بما كان موضوع الدليل الحاكم متأخر الرتبة عن موضوع الدليل المحكوم ، كحكومة الأمارات على الأدلة الواقعية ـ فتمامية الحكومة الظاهرية في المورد انما تتحقق بفرض الشك في تحقق موضوع الاستصحاب المسببي ، وهو غير مفروض بل غير متحقق ، إذ موضوعه ـ وهو الشك واليقين ـ لا شك فيه مع قطع النّظر عن الاستصحاب السببي ، فالحكومة لو تمت فهي واقعية ، وهي تستلزم النّظر بلا كلام ، كما اعترف به قدس‌سره في صريح كلامه.

الثالثة : ـ وهي أهم المؤاخذات ـ انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكان تحقق الحكومة الواقعية بين مدلولي دليل واحد فالأصل السببي غير حاكم على الأصل

٢٦١

المسببي كما ادعى ، إذ الحكومة تتقوم بالتصرف في موضوع المحكوم توسعة وتضييقا.

والأصل السببي لا يتصرف في موضوع الأصل المسببي ، سواء قلنا بان المجعول بدليل الاستصحاب هو اليقين أو المتيقن ..

أما بناء على تكفله جعل المتيقن ، فعدم حكومته واضح ، وذلك لأن موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك ، وبجريان الأصل السببي لا يرتفع الشك بالأثر الّذي يكون مجرى الأصل المسببي تعبدا ، إذ به يثبت الموضوع وتترتب عليه آثاره ، فالتعبد انما هو بنفس الآثار لا باليقين بها.

وبعبارة أوضح : ان الّذي يتكفله الأصل السببي انما هو تنزيل الأثر منزلة الواقع ، لا تنزيل اليقين به منزلة اليقين بالواقع.

والحكومة انما تتحقق بالمفاد الثاني لا الأول ، واليقين الوجداني بالواقع التعبدي لا يجدي في رفع الموضوع ، إذ المأخوذ في الموضوع هو اليقين بالواقع بنحو التقييد لا التركيب ، والأصل لا يتكفل التعبد بالمقيد بما هو كذلك ، بل انما يتعبد بالقيد ، وهو لا يحقق ثبوت المقيد بما هو مقيد ـ وقد مر بيان ذلك تفصيلا في رد إمكان دعوى حكومة الأمارة على الاستصحاب بناء على جعل المؤدى فراجع ـ

وأما بناء على تكفله جعل اليقين بالمستصحب ، فتارة : يلتزم بأنه كما يتكفل جعل اليقين بالمشكوك يتكفل أيضا جعل اليقين بآثاره ولوازمه الشرعية. وأخرى : لا يلتزم بذلك ، بل يلتزم بأنه يتكفل جعل اليقين بنفس المشكوك فقط وتترتب عليه نفس الآثار ، فالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها.

فالكلام في البناء الأول ـ أعني : البناء على جعل المتيقن لا اليقين ـ يجري بعينه على الالتزام الثاني ـ أعني : الالتزام بالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها ـ كما هو واضح جدا.

وأما على الالتزام الأول ، فالأصل السببي وان كان يتكفل التعبد باليقين بطهارة الثوب كما يتعبد بطهارة نفس الماء ـ مثلا ـ إلا ان الاستصحاب المسببي

٢٦٢

أيضا يتكفل ـ في نفسه ـ التعبد باليقين بنجاسة الثوب بقاء ، فأحد الأصلين يتكفل التعبد باليقين ببقاء المستصحب والآخر يتكفل التعبد باليقين بزواله ، فكيف يجعل أحدهما حاكما على الآخر؟ وبأي ملاك يكون ذلك؟.

ونتيجة ما ذكرناه : أن الأصل السببي لا يكون بدلالته الالتزامية الشرعية حاكما على الأصل المسببي ، إذ لا يتكفل رفع الموضوع تعبدا ، بل الأصلان متعارضان ، فالأصل المسببي بدلالته المطابقية يعارض الأصل السببي بدلالته الالتزامية ـ إذ دلالته المطابقية لا تتنافى بنفسها مع دلالة الأصل المسببي ـ وعليه فالأصل السببي ..

اما ان يكون مجراه ذا أثر آخر غير المشكوك في مورد الأصل المسببي ، كطهارة الماء ، فان لها أثر غير طهارة الثوب المشكوكة وهو حلية الشرب.

وإما ان ينحصر اثره الشرعي بالمشكوك بالشك المسببي.

فعلى الأول : يكون الأصل السببي متكفلا بالالتزام الشرعي لثبوت كلا الأثرين من حلية الشرب وطهارة الثوب في استصحاب طهارة الماء. والأصل المسببي بدلالته على نجاسة الثوب إنما ينافيه في إحدى دلالتيه الالتزاميتين ، وهي دلالته طهارة الثوب المغسول بالماء ، فالمعارضة انما تكون بين هذه الدلالة الالتزامية وبين الأصل المسببي ، فتجري قواعد التعارض بينهما بالخصوص ويبقى الأصل السببي بدلالته المطابقية والالتزامية الأخرى سالما عن المعارض فيلتزم به.

هذا إذا قلنا بان للأصل دلالات التزامية متعددة بتعدد الآثار ، ولم نقل بان دلالة الأصل السببي على ترتب آثاره المتعددة بدلالة التزامية واحدة تتكفل ترتب جميع آثاره بنحو الإطلاق ، وإلا فمع القول بذلك يكون الأصل المسببي مقيدا لإطلاق الدلالة الالتزامية وبذلك يجمع بينهما عملا.

وعلى الثاني : فالتعارض بين الدلالة الالتزامية الوحيدة للأصل السببي والدلالة المطابقية للأصل المسببي ، ومقتضى التعارض التساقط ، وبعده يبقى مجرى

٢٦٣

الأصل السببي بلا أثر شرعي ، فيكون التعبد به لغوا ، فيسقط الأصل السببي باللغوية لا بالتعارض ، إذ قد عرفت عدم التنافي بين الدلالتين المطابقيتين للأصلين حتى بدوا.

والمحصل : انه في مورد المنافاة بين الأصلين يسقطان معا لتعارضهما ولا يتقدم أحدهما على الآخر. وبعد ذلك فان كان للمستصحب في مورد الأصل السببي أثر آخر غير موضوع المعارضة جرى وترتب بواسطته ذلك الأثر ، وإلا لم يجر أصلا للغوية التعبد ، فلاحظ.

ومن هنا يظهر ما في بعض كلمات الشيخ في الرسائل ، وقرره المحقق الخراسانيّ (١) في الكفاية في تقريب وجه تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي من : أنه مع الأخذ بالأصل السببي يكون رفع اليد عن الأصل المسببي بوجه بخلاف العكس فان الأخذ بالأصل المسببي يستلزم رفع اليد عن الأصل السببي بلا وجه أو على وجه دائر.

فان هذا التقرير غير وجيه بعد ما عرفت ، إذ مع الأخذ بالأصل المسببي بأي وجه كان ، فان كان لمجرى الأصل السببي أثر آخر ، لا ترفع اليد عنه بل يبقى ثابتا ويترتب بواسطته ذلك الأثر. وان لم يكن له أثر ، فرفع اليد يكون بوجه غير دوري وهو اللغوية ، لا بوجه دائر ولا بلا وجه.

ومركز الغفلة ، هو أخذهم الأصل السببي بمجراه ودلالته المطابقية طرف المعارضة مع الأصل المسببي. ومعه لا يتم الوجه الّذي ذكروه ، إذ الأصل السببي في مورد يؤخذ به ولا ترفع اليد عنه ، وفي مورد ترفع اليد عنه ولكن بوجه وهو لغوية التعبد به.

وأما ما أفاده الشيخ في الوجه الثاني ـ على ما وجهنا به عبارة الكتاب ـ من :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٤

أنه بجريان الأصل السببي يرتفع صدق النقض بالشك في مورد الشك المسببي ، إذ النقض يكون بالدليل.

ففيه : ما أشرنا إليه في مبحث تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب من أنه مع الالتزام بإرادة الشك الوجداني من الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب لا عدم الحجة ، لا وجه للالتزام بإرادة السببية من الباء في قوله : « بالشك » ، بل يكون المراد عدم نقض اليقين في مورد الشك ، سواء كان الاستناد إليه أو إلى غيره ، فكون النقض بالدليل في مورد الشك المسببي مع جريان الأصل السببي لا يجدي في خروج المورد عن عموم دليل الاستصحاب مع ثبوت الشك في مورده كما هو الفرض. فتدبر جيدا.

والّذي ينبغي ان يقال : ان الأصل السببي يتقدم على الأصل المسببي بالورود ، وذلك لما تقدم في تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب : ان المراد بالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، هو عدم الحجة والدليل لا الصفة الوجدانية الخاصة.

وعليه ، فالأصل السببي بجريانه يرفع موضوع الأصل المسببي وهو الشك ـ بمعنى عدم الحجة ـ لأنه يكون دليلا وحجة على خلاف الحالة السابقة فيه ومعه يرتفع موضوعه.

وبما ان المقتضي لجريان الأصل السببي ثابت لتمامية موضوعه ، وليس هناك ما يمنع من جريانه إلا ما يتوهم من الأصل المسببي ، ولما كان الأصل السببي ـ بدلالته الالتزامية ـ رافعا لموضوعه تكوينا ونافيا لمقتضيه ، فلا يصلح حينئذ للمانعية عن الأصل السببي ، إذ مانعيته تتوقف على ثبوته المتوقف على عدم جريان الأصل السببي ، فيمتنع ان يستند عدم جريان الأصل السببي إليه للزوم الدور. وليس الأصل المسببي ناظرا إلى نفس مجرى الأصل السببي بحيث يرتفع بجريانه موضوعه كي يحصل التمانع من الطرفين ، ويكون مقتضى كل منهما متوقفا على عدم الآخر ، فلا يصلح أحدهما بخصوصه دون الآخر للمنع عن الآخر.

٢٦٥

وهذا الوجه تام في جميع الصور ، سواء كان الأصل المسببي مخالفا للأصل السببي أم موافقا ، وسواء كان مجرى الأصل السببي بنفسه أثرا شرعيا ـ كطهارة الماء ـ أم لم يكن كذلك بل كان أمرا تكوينيا يترتب عليه أثر شرعي ـ كالكريّة ـ وان كان توهم عدم تقدم الأصل السببي في الأخير أقوى والاستدلال عليه أوجه لأن المجعول في الحقيقة بالأصل السببي هو الحكم ، فيكونان متعارضان ، لأن أحد الأصلين يثبت الحكم والآخر ينفيه.

لكن ذلك لا يجدي بعد ان عرفت ان الملاك هو كون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي دون العكس إذ لا يرفع الأصل المسببي الشك في مجرى السببي ـ وهو الأمر التكويني ـ فيكون المقتضى في أحدهما منجز الثبوت وفي الآخر معلقا فلا يصلح للمانعية إلا على وجه دائر ، وليس الملاك هو كون أحدهما يثبت الموضوع والآخر الحكم كي يتأتى ما ذكر ـ هذا كله بالنسبة إلى الاستصحابين المتعارضين وكان أحدهما سببا والآخر مسببا.

واما لو كان الأصل السببي غير الاستصحاب كأصالة الطهارة ، فقد استشكل المحقق الأصفهاني قدس‌سره في تقدمها على الاستصحاب المسببي ..

ولعل الوجه فيه : ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب انما هو عدم الحجة ، وأصالة الطهارة ليست حجة على الطهارة ، بل هي قاعدة منتزعة عن ثبوت الحكم في موارد الشك ، والدليل الدال عليها وان كان في نفسه حجة إلا انه حجة على الطهارة الظاهرية لا على الواقع ، فلا يرتفع بأصالة الطهارة ولا بدليلها موضوع الاستصحاب المسببي.

وهذا الوجه مخدوش بوجهين :

الأول : انه لم يثبت ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة ، بل يمكن الالتزام بأنه عدم المستند في مقام العمل ، ولا يخفى ان الدليل على ان الطهارة

٢٦٦

الظاهرية مستند في مقام العمل ، ولذلك يصح قصد القربة فيما يحتاج إلى الطهارة من الأعمال.

الثاني : انه لو سلم كون المأخوذ عدم الحجة لا مطلق عدم المستند ، فالطهارة حجة بالمعنى المأخوذ عدمه في موضوع الاستصحاب ، وهو المنجزية والمعذرية ، فان المعذر في صورة المخالفة والمنجز في صورة الموافقة ليس إلاّ هذا الحكم الظاهري وهو الطهارة ، لأنه وان كان حكما ظاهريا إلا انه حكم طريقي لتنجيز الواقع نظير وجوب الاحتياط المستفاد من الدليل الشرعي في كونه حكما طريقيا لتنجيز الواقع ـ ولذا يكون العقاب مع عدم الاحتياط ومخالفة الواقع ، على مخالفة الواقع لا على مخالفة وجوب الاحتياط ـ وعليه ، فمع الالتزام بما التزم به المحقق الخراسانيّ من كون أدلة الطهارة حاكمة بالحكومة الواقعية على أدلة الاشتراط ـ أعني : أدلة شرطية الطهارة للصلاة وغيرها ـ بمعنى انها توجب التصرف في موضوعها بجعل أحد أفراده ولو كان في مرحلة الظاهر فيثبت للطهارة الظاهرية الأثر المترتب على عنوان الطهارة بلسان الأدلة. كان للدليل الدال على ترتب الأثر على الطهارة هو الوارد على الاستصحاب ، إذ دليل الطهارة لا يتكفل سوى إثبات الموضوع ليترتب عليه الأثر المدلول لذلك الدليل ، فترتب الأثر المخالف للحالة السابقة في الشك السببي بواسطة الدليل الاجتهادي ، فهو الوارد على الاستصحاب.

وهذا الكلام [ لا يتأتى في ] الاستصحاب السببي ، لأنه انما يتكفل المتيقن على انه الواقع المشكوك ، وعرفت ان ما يتكفل إثبات الفرد الواقعي لا يكون حاكما على الدليل الآخر.

وأما مع عدم الالتزام بذلك ، بدعوى : ان موضوع الأثر بلسان الأدلة هو الطهارة الواقعية ، ودليل الطهارة انما يتكفل ثبوتها في حال الشك والجهل بالواقع فهي طهارة ظاهرية. فدليل الطهارة بنفسه يكون واردا إذ مرجعه حينئذ إلى إثبات

٢٦٧

أثر الطاهر للمشكوك بنفسه لا بواسطة الدليل الآخر ، إذ ذاك انما يثبت ترتب الأثر على موضوعه وهو الطهارة الواقعية.

وبالجملة : فأصالة الطهارة تكون سببا لرفع اليد عن الاستصحاب المسببي على أي تقدير ، فتدبر.

المقام الثاني : في الشكين المسببين عن ثالث ..

كالشك في نجاسة هذا الإناء والشك في نجاسة ذاك المسببين عن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، إذ لولاه لما حصل الشك في نجاسة كل منهما بل يعلم بطهارتهما. والعلم الإجمالي تارة : يتعلق بالحكم الاقتضائي أو بما يستتبعه ، كالعلم المتعلق بنجاسة أحدهما فانه يستتبع وجوب الاجتناب عنه وهو حكم اقتضائي ، فيكون جريان الأصلين معا مستلزما للمخالفة العملية القطعية. وأخرى : يتعلق بحكم غير اقتضائي أو بما لا يستتبعه ، كالعلم المتعلق بطهارة أحدهما مع سبق نجاستيهما ، فلا يكون جريان كلا الأصلين مستلزما للمخالفة العملية القطعية. نعم ، يستلزم المخالفة الالتزامية بالبناء على نجاستيهما مع العلم بطهارة أحدهما.

فالكلام يقع في موردين :

المورد الأول : ما إذا كان يلزم من إجراء كلا الأصلين مخالفة قطعية عملية للتكليف المعلوم بالإجمال.

والكلام تارة : يكون في وجود المقتضي لجريان كل من الأصلين. وأخرى في ثبوت المانع وعدمه بعد فرض وجود المقتضي.

أما وجود المقتضي : فقد نفاه الشيخ في الرسائل وادعى قصور الأدلة عن شمول المورد ، بتقريب : تحقق المنافاة بين صدر الدليل وذيله بالنسبة إلى الفرض ، وذلك لأن مجرى كل منهما بخصوصه حيث كان متيقن الحدوث مشكوك البقاء كان مشمولا للصدر وهو : « لا تنقض اليقين بالشك » ، ومقتضاه جريان كلا الأصلين وحرمة النقض في كليهما ، وبما أن أحدهما متيقن الارتفاع كان مشمولا للذيل ، وهو :

٢٦٨

« ولكن تنقضه بيقين آخر » ، ومقتضاه لزوم النقض في أحدهما وعدم جريان أحد الأصلين.

ولا يخفى ان ما يقتضيه الصدر يتنافى مع ما يقتضيه الذيل ، إذ السالبة ( الموجبة خ ل ) الكلية ـ وهي مدلول الصدر ـ تناقضها الموجبة ( السالبة خ ل ) الجزئية ـ وهي مقتضى الذيل ـ فيتعارض الصدر والذيل بالنسبة إلى المورد ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فيكون الدليل مجملا ، فيؤخذ به بما في القدر المتيقن ، والمورد ليس منه فيكون قاصرا عن شموله.

وبهذا الوجه يخرج المورد عن موارد المعارضة ، إذ ليس هو من موارد جريان الأصلين كي تتحقق المعارضة بينهما (١).

ولكن ما ذكره الشيخ لا يمكن الالتزام به لوجهين :

الأول : ان ظاهر الخبر لزوم كون اليقين الناقض المذكور في الذيل من سنخ اليقين بالحدوث ـ كما هو ظاهر المقابلة بين الصدر والذيل ـ فلا يصلح اليقين الإجمالي لنقض اليقين التفصيليّ ، فيكون المورد مشمولا للأدلة ، بلا ان يحصل التنافي فيها.

الثاني : انه لو سلم إرادة اليقين الأعم من الإجمالي والتفصيليّ من اليقين المذكور في الذيل ، وعدم ظهور الكلام في لزوم السنخية بين اليقين الناقض والمنقوض ، فلا وجه أيضا لدعوى قصور الأدلة عن شمول المورد ، إذ من الأدلة ما لا يشتمل على الذيل المزبور ، بل يقتصر فيه على الصدر ، فهو لا يقصر عن شمول المورد ، ولا يسرى إجمال غيره إليه لانفصاله عنه.

وقد أشير إلى هذين الوجهين في الكفاية (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٩ ـ الطبعة القديمة.

(٢) ويمكن الخدشة فيما أفاده قدس‌سره ثانيا بأنه انما يتم الرجوع إلى الروايات الخالية عن الذيل لو فرض ان الذيل المزبور كان من القرائن المتصلة فانه يستلزم إجمال ما اتصل به خاصة ،

٢٦٩

وأما الكلام في ثبوت المانع وعدمه ، فتحقيقه : أنه مع الالتزام ـ كما هو الحق ـ بكون العلم الإجمالي علة تامة لتنجيز الواقع بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري ـ سواء كان مؤدى الأصل أو الأمارة ـ في أطرافه يكون العلم الإجمالي بالتكليف في المقام مانعا عن جريان كل من الأصلين ، لكون الواقع المنجز محتمل الانطباق على كل من الفردين ، فيمتنع أن يجري الأصل في كل منهما ـ كما مر توضيح ذلك في مبحث العلم الإجمالي.

ومع هذا الالتزام يخرج المورد أيضا عن موارد المعارضة ، إذ لا يكون من موارد جريان الأصول في نفسه.

نعم ، بناء على ما اختاره المحقق النائيني ، من كونه علة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، وبنحو الاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، فتجوز المخالفة الاحتمالية ـ بناء على هذا ـ يكون المورد من موارد المعارضة ، إذ العلم

__________________

ـ أما لو فرض انه من القرائن المنفصلة كما هو الظاهر لأن : « لكن » هنا للاستدراك ، فتكون كلاما مستقلا ـ فلا يتم ما أفاده لأنها تكون مقيدة لجميع النصوص حتى غير المذيلة بها لأن نسبتها إلى الجميع على حد سواء والتحقيق : انه لا ظهور لكلام الشيخ في إرادة إجمال الأدلة كما حملت عليه عبارته بل نظره قدس‌سره إلى أمر آخر وتوضيحه : انه قدس‌سره أخذ انطباق الذيل في مورد العلم الإجمالي مفروغا عنه وبنى إيراده على ذلك ، فانه بعد ان كان مقتضى الذيل لزوم نقض الحالة السابقة في المعلوم بالإجمال فلا يخلو الحال إما ان يجري الاستصحاب في كلا الطرفين أو في أحدهما المعين أو في أحدهما المخير ، والجميع باطل.

أما الأول : فلأنه مناف للأمر بالنقض في أحدهما المعلوم بالإجمال المفروض ثبوته.

وأما الثاني : فلأنه ترجيح بلا مرجح.

وأما الثالث : فلأن الفرد المردد ليس فردا ثالثا له وجود في الواقع فيتعين سقوط الاستصحاب في كلا الموردين. هذا توضيح ما أفاده وهو أجنبي عن دعوى الإجمال في الدليل كما لا يخفى.

٢٧٠

الإجمالي لا يمنع من جريان كل من الأصلين ، بل يكون مانعا عن أحدهما ، إذ جريانهما معا يستلزم المخالفة القطعية المحرمة ، وإذ لا مرجح لأحدهما على الآخر في نفسه يحصل التعارض بينهما ـ إذ الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح ـ.

وهل الحكم التساقط أو التخيير؟ التحقيق : انه التخيير لا التساقط كما حققناه في مباحث الاشتغال.

المورد الثاني : ما لا يلزم من إجرائهما مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فالتحقيق انه مع الالتزام بما هو ظاهر الشيخ ـ على ما تقدم ـ من قصور الأدلة عن شمول موارد العلم الإجمالي ، فلا مجال لدعوى إمكان إجرائهما أو معارضتهما ، إذ المورد مشكوك المصداقية.

إلا ان الّذي يؤخذ على الشيخ في الألسنة والتحريرات ، ما التزم به من جريان الأصلين فيما لو توضأ غفلة بمائع مردد بين البول والماء ـ فيجري استصحاب بقاء الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء ـ مع العلم بانتقاض الحالة السابقة لأحدهما كما لا يخفى.

والوجه فيه وحل الإشكال سنتعرض له قريبا إن شاء الله تعالى فانتظر.

ومع عدم الالتزام بذلك ، والالتزام بما هو الحق ـ من كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري مطلقا في أطرافه ـ لا وجه أيضا للالتزام بجريان أحد الأصلين وإن كان المعلوم بالإجمال حكما غير اقتضائي ، لما تقرر في مبحث الاشتغال من امتناع جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي سواء تعلق بحكم اقتضائي أو بغيره.

وأما مع الالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني من كونه مقتض للتنجز فهو علة لحرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية.

أو الالتزام بأنه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، ولكن امتناع جعل الأصول في أطرافه يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما اقتضائيا تنجيزيا ، دون

٢٧١

ما كان متعلقه حكما غير اقتضائي ، إذ لا تنجيز كي يتنافى مع جعل الأصول ـ كما هو ظاهر الكفاية ـ (١).

مع الالتزام بأحد هذين الالتزامين ، فمقتضى القاعدة صحة جريان كلا الأصلين في الفرض بلا معارضة ـ كما التزم به في الكفاية ـ لثبوت المقتضي وعدم المانع من المخالفة القطعية العملية.

إلا ان المحقق النائيني قدس‌سره : لم يلتزم بذلك في الأصول المحرزة والتزم به في خصوص الأصول غير المحرزة.

وقرب التفصيل بينهما : ـ كما في مصباح الأصول (٢) ـ انه حيث كانت الأصول المحرزة ـ كالاستصحاب ـ تتكفل جعل الشاك متيقنا ، فجريان الاستصحابين في الفرض معناه التعبد بكونه متيقنا بنجاسة هذا والتعبد بكونه متيقنا بنجاسة ذاك ، وهذان التعبدان ينافيان العلم الوجداني بطهارة أحدهما.

وأما الأصول غير المحرزة ، فحيث لا تتكفل جعل اليقين ، بل انما تتكفل تعيين الوظيفة العملية في مرحلة الظاهر ، فلا ينافي جعل نجاسة كلا الإناءين ظاهرا العلم الإجمالي بطهارة أحدهما واقعا.

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه الله ) نقضا وحلا.

أما النقض : فبما لو كان أحد جنبا وصلى وشك بعد الانتهاء من الصلاة في انه اغتسل للصلاة أو لا؟ فانه يحكم بصحة الصلاة بمقتضى قاعدة الفراغ ، وبوجوب الغسل للصلوات الآتية بمقتضى استصحاب بقاء الحدث ، مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد هذين الأصلين للواقع وكلاهما من الأصول الإحرازية.

وأما الحل : بأنه انما يتم لو كان التعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين ـ بنحو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ـ ٢٦٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٢

العموم المجموعي ـ إذ التعبد باليقين بالمجموع ينافي العلم بانتفائه ، والأمر ليس كذلك ، إذ لا يقين بنجاسة المجموع بما هو مجموع ، بل التعبد يكون بنجاسة كل من الإناءين ، لتحقق موضوع الاستصحاب في كلا الطرفين ـ وهو اليقين السابق والشك اللاحق ـ والعلم الإجمالي لا يمنع من جريان كل واحد من الأصلين بخصوصه إذ لا يتنافى معه.

ثم انه بعد هذا تعجب من الشيخ والنائيني في التزامهما بجريان الاستصحاب في مثل ما لو توضأ بمائع مردد بين البول والماء ـ كما أشرنا إليه ـ مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع.

إلاّ ان التحقيق عدم ورود شيء مما أفاده على المحقق النائيني بعد إمكان رجوع كلامه قدس‌سره إلى أحد وجهين :

الأول : ان التعبد باليقين بنجاسة كل من الإناءين وان كان يغاير التعبد باليقين بنجاسة الآخر لتعدد الموضوع خارجا ، إلا انه في الحقيقة يرجع إلى تعبد واحد بنجاسة كلا الإناءين بنحو التعبد بالمجموع ، لا الجمع بين التعبدين ، وهو بهذه الجهة ينافي العلم الإجمالي بطهارة أحدهما وانتفاء المجموع.

ونظير ذلك ما يقال في منع الجمع بين طلب المهم وطلب الأهم ، بأنه يرجع في الحقيقة إلى طلب الجمع فيكون من طلب الضدين ، وان كان بحسب الظاهر من الجمع بين الأمرين ، كما أشار (١) إلى ذلك بقوله : « ان هذا وان لم يكن من طلب الجمع بحسب الظاهر في نفي إلاّ انه بحسب النتيجة والواقع مرجعه إلى ذلك » ويشهد لذلك مراجعة الوجدان في الأمور التكوينية ، فان العلم بوجود زيد والعلم بوجود عمرو يرجع في الحقيقة إلى العلم بوجودهما ويرجع إلى ذلك.

__________________

(١) من هنا يتضح وهن ما جاء في تقريرات بحث السيد البروجردي رحمه‌الله من ان نكتة رجوع ذلك إلى طلب الجمع مما لم تدركها افهام من كان سابقا. فلاحظ.

٢٧٣

الثاني : ان التعبد باليقين وجعل الشاك متيقنا لا ينافي بنفسه العلم الوجداني بالخلاف ، لأن التعبد لا يعدو التنزيل والجعل وهو كثيرا ما يكون على خلاف الواقع كما في سائر موارد الحكومة. وإنما المنافاة بين التعبد باليقين في كلا الطرفين والعلم الإجمالي ، ناشئة من كون التعبد باليقين بالنجاسة يقتضي ترتيب الآثار الشرعية للنجس على المشكوك المستصحب ، وذلك انما يكون بتوسط تنجيز (١) الواقع فعلا بجعل اليقين ، فالتعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين يقتضي تنجز الواقع في كلا الطرفين ، وهذا ينافي العلم بطهارة أحدهما للعلم بعدم كون الواقع في أحدهما منجزا.

وبالجملة : فالتعبد الاستصحابي في كلا الطرفين لما كان يرجع إلى جعل المنجز الفعلي للواقع في كليهما كان منافيا لمقتضى العلم الإجمالي من عدم تنجز الواقع في أحدهما.

وهذا الوجه أمتن من سابقه ، إذ الأول وجه تصوري لا برهان عليه.

وبهذا الوجه يندفع الإيراد بالنقض ، إذ قاعدة الفراغ وان كانت من الأصول المحرزة ـ كما اعترف بذلك المحقق المزبور قدس‌سره ـ إلا انها لا تتكفل تنجيز الواقع مع استصحاب الحدث كي تنافي العلم الإجمالي ، بل تتكفل التعذير والحكم

__________________

(١) وبذلك تفترق الأصول المحرزة عن غيرها ، إذ غير المحرزة لا تتكفل جعل المنجز الفعلي للواقع ، وان كانت فعلا مؤداها ، بل الواقع انما ينجز بها على تقدير المصادفة.

والتنجز الّذي تتكفله الأصول المحرزة هو التنجز الفعلي ، وهو واقع التنجز ، بحيث يرى المكلّف ان الواقع بقيام الأصل صار في عهدته ، كما لو تيقن وجدانا ، وهذا ينافي العلم بعدم كونه في أحد الطرفين في العهدة.

واما التنجز الّذي يتكفله الأصول غير المحرزة فهو التنجز التعليقي ، وهو لا ينافي العلم الوجداني ، إذ لا يرى المكلّف ان الواقع بقيام الأصل صار منجزا في كلا الطرفين ، فلاحظ.

بهذا الوجه تفترق الأصول المحرزة عن غيرها لا بلحاظ كون التقييد في المحرزة بلحاظ ترتيب الإصر ، إذ هو مشرك بين كلا الأصلين ، فلاحظ وتدبّر.

٢٧٤

بفراغ الذّمّة فلا تنافي العلم الإجمالي.

ومنه يتضح أيضا الوجه في الحكم بجريان الأصول فيما لو توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، ونظيره مما يكون التلازم بين مجرى أحد الأصلين وعدم مجرى الآخر ، فان استصحاب الطهارة لا يتكفل التنجيز إذ الطهارة ليست حكما اقتضائيا ، فلا تنافي بين الأصلين وبين العلم الإجمالي ، فتدبر جيدا.

وأما توجيه ما ذكره الشيخ من جريان الأصلين في الفرض مع التزامه سابقا بقصور الأدلة عن شمول موارد العلم الإجمالي ، فبتقريب : أن المعلوم بالإجمال ـ وهو زوال أحدهما ـ لا يترتب عليه أثر شرعي ، إذ الواحد المردد بينهما ليس بموضوع لأثر شرعي ، فلا يكون مشمولا للذيل ، وهو وجوب النقض إذ لا يشمل إلاّ ما كان مورد الأثر.

وعليه فيبقى الصدر بلا مزاحم ، فيشمل بإطلاقه المورد ، ولا مانع منه ، إذ لا يلزم من جريانها مخالفة عملية لتكليف منجز.

وبالجملة : ما يكون مانعا عن ثبوت المقتضي لجريان الأصلين وعن تأثيره مفقود في الفرض ، فيثبت الأصلان. وقد أشار قدس‌سره إلى ذلك في كلامه ، فلاحظه وتأمل والله ولي العصمة.

انتهى تحرير مبحث تعارض الاستصحاب مع غيره من الأصول والأمارات في يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رجب في السنة الثالثة والثمانين بعد الألف والثلاثمائة ، واما تدريسه فقد انتهى في تمام من ربيع الأول من هذه السنة ، ويليه مبحث التعادل والترجيح.

٢٧٥
٢٧٦

التّعادل والتّرجيح

٢٧٧
٢٧٨

التعادل والترجيح

تمهيد

لما كان معنى التعادل هو تساوي الأدلة في المزايا ، والترجيح هو اشتمال أحدها على مزية ليست في الآخر. كان المهم من موارده الروايات المتعارضة ، بل كان مورده تعارض الأدلة. فلا بد أولا من تعريف التعارض وبيان ضابطه كي تتميز الموارد التي تجري فيها قواعد الترجيح والتعادل من غيرها. فنقول ـ ومنه نستمد العصمة ـ الاحتمالات في ضابط التعارض ثلاثة :

الأول : انه تنافي المدلولين ، كأن يكون أحد المدلولين منافيا للآخر ، كما إذا كان أحدهما الوجوب والآخر الحرمة. وهو الّذي ينسب إلى المشهور.

الثاني : انه تنافي الدليلين بلحاظ تنافي مدلوليهما ، فالتنافي أولا وبالذات بين المدلولين أنفسهما ، وينسب إلى الدليلين بالمسامحة ـ لما هناك من المناسبة بين الدليل والمدلول ـ ولا تنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة حقيقة ، لأن كلا منهما يفيد الظن النوعيّ ، بل مورد الكلام ما كان الدليلان كذلك.

٢٧٩

نعم ، لو كان دليلية الدليل من باب الظن الشخصي ، لكان التنافي الحقيقي بينهما ممكن الوقوع ، إذ لا مجال لإفادتهما معا الظن الشخصي كما لا يخفى ، لكنه خلاف الفرض.

وهذا التنافي المسامحي هو الّذي ينطبق عليه التعارض حقيقة ، فالتنافي منسوب إلى الدليلين بالمسامحة ، والتعارض منسوب إليهما حقيقة ، ولا منافاة كما لا يخفى.

الثالث : انه تنافي الدليلين لكن لا بلحاظ تنافي مدلوليهما ، بل بلحاظ مقام الإثبات والدليليّة ، فان كلا منهما يحاول إثبات ما ينافي ما يريد إثباته الآخر.

وينفي الاحتمال الأول بما أفاده بعض الأعاظم من : ان التعارض انما يتحقق بين أمرين موجودين خارجا ـ فيعارض أحدهما الآخر ـ والمدلولان بذاتيهما لا يمكن وجودهما لتنافيهما ، فلا معنى لحصول التعارض بينهما ، فتأمل (١).

فيدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين.

ويمكن ان يقال في ترجيح الاحتمال الثالث : ان المفهوم من لفظ التعارض عرفا هو المدافعة الحاصلة بين شيئين أو أشياء على شيء واحد ، بحيث تكون غاية كل منهما الحصول على ذلك الشيء.

وهذا للاحتمال الثالث اقرب منه إلى الاحتمال الثاني ، فان كلا من الدليلين ـ على الاحتمال الثالث ـ يحاول إثبات مضمونه وجعله حقيقة خارجية.

وليس على الاحتمال الثاني هذا المعنى ، إذ ليس هناك امر يدافع أحد الدليلين الآخر لغاية الحصول عليه.

هذا مع عدم تصور التنافي في مقام الدلالة والكشف بعد اعتبار الظن النوعيّ في الحجية لا الظن الشخصي ، وحمله على التنافي مسامحة وكون التنافي حقيقة بين ذات المدلولين خلاف الظاهر.

__________________

(١) الخراسانيّ الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٠