منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

ومبنى الاستصحاب على اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحيث يصدق النقض أو الإبقاء.

ومع الالتزام بان المشكوك فرد غير الفرد المتيقن لا يتحقق حينئذ ما هو الأساس في الاستصحاب من الاتحاد ، وهذا خلاف الفرض والواقع ، فان تبدل الحالات لا يوجب التعدد.

فالأولى في الإيراد أن يقال : بان مفاد الرواية كون الغاية هي الوصول وفعلية الحكم لا مجرد وروده ولو آناً ما ، وهي غير متحققة حال الشك ، لأن الحكم فيه غير وأصل وليس فعليا لفرض الشك. وكونه فعليا في السابق لا يجدي في تحقق الغاية لأنها : « ما وصل حكمه فعلا » لا : « ما كان حكمه واصلا » كما هو مقتضى التعبير بالمضارع.

وأورد قدس‌سره أيضا على الوجه الثاني : بان ظاهر الرواية كون الغاية ورود النهي عن الشيء بعنوانه الأولي لا بما انه مشكوك الحكم ، والنهي الثابت بالاستصحاب بعنوان كونه مشكوكا ، وإلا فيمكن عكس القضية بان يقال : ان النهي عن النقض انما يثبت في صورة عدم ثبوت الإباحة بالأصل ، فيختص الاستصحاب في غير مورد جريان البراءة.

وتقريب ما ذكره بنحو لا يتجه عليه ما قد يوجه من ان ذلك مجرد دعوى : بان أساس كون الرواية من أدلة البراءة إرادة الوصول والعلم بالحكم من الورود لا ثبوته الواقعي ـ وإلا خرجت عن أدلة البراءة ـ فمفادها يكون كل شيء مجهول الحكم مطلق حتى يعلم حكمه الواقعي ، ففرض الجهل والعلم بالحكم يقتضي أخذ الحكم المعلوم أو المجهول في مرحلة سابقة على الشك والجهل الفعلي ، سواء كان ثبوته السابق للشيء بعنوان الأولي أو بعنوان الشك كالحكم الثابت بالأصل سابقا ثم يشك في استمراره.

وعليه ، فالغاية هي العلم بالحكم الثابت في المرحلة السابقة عن الشك

٢٤١

الفعلي ، فلا يكون النهي الثابت بالاستصحاب محققا للغاية ، لأن ثبوته كان بلحاظ الشك الفعلي لا في المرحلة السابقة عليه. فالتفت.

وأما ما ذكره الشيخ قدس‌سره ، فهو انما يتم بناء على ان مفاد أدلة الاستصحاب تنزيل الشك منزلة اليقين والحكم بان الشاك متيقن ، فان الغاية وهي العلم بالحكم تتحقق به تنزيلا فيكون حاكما. أما بناء على ان مفادها تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ـ كما هو مذهب الشيخ ـ ، فلا تتم دعوى الحكومة ، لأن الغاية هي العلم بالواقع والحكم لا ثبوت الواقع ، فثبوت الحكم تعبدا بالاستصحاب لا يحقق الغاية.

ولا بد (١) ، في تحقيق الحال في نسبة الاستصحاب مع البراءة من بيان المجعول

__________________

(١) العمدة في الإشكال ما كان من أدلة البراءة مفاده جعل الحلية الظاهرية كقوله عليه‌السلام : « كل شيء حلال ... ». وأما ما كان مفاده رفع المؤاخذة ، فقد عرفت انه كالبراءة العقلية.

ودعوى ارتفاع موضوع الحلية الظاهرية تعبدا بقيام الاستصحاب لتكفل دليله جعل اليقين وفرض الشاك متيقنا ، فيكون الاستصحاب حاكما.

يدفعها ـ بعد تسليم ذلك ـ أولا : ان موضوع الحلية ليس امرا عدميا وهو مجرد عدم العلم والجهل كي يرتفع بالإثبات ، بل هو أمر وجودي وهو الاحتمال وذلك لعدم جريان دليل البراءة في حق الغافل مع انه غير عالم ، بل تجري في حق الملتفت المتردد ، فيكشف ذلك عن أخذ جهة وجودية في الموضوع وليس هو مجرد عدم العلم ، وليست تلك الخصوصية سوى الاحتمال والتردد ، ومن الواضح ان التعبد بالعلم لا يلازم التعبد بعدم الاحتمال ، فان التعبد بأحد الضدين لا يلازم التعبد بعدم الآخر.

وعليه ، فلا يرتفع موضوع البراءة بقيام الاستصحاب.

وثانيا : ـ وهو العمدة ـ ان ظاهر دليل الاستصحاب المتكفل للنهي عن النقض بمثل « لا ينبغي » الظاهر في كون متعلقه أمرا اختياريا ـ لعدم صحة حمل « لا ينبغي » على الإرشاد ـ كون المجعول هو اليقين بمعنى لزوم ترتيب آثار بقائه عملا ، فلا نظر في الدليل إلى جعل صفة اليقين والتعبد بها ، بل نظره إلى لزوم ترتيب آثار اليقين بقاء ، وأين هذا من جعل اليقين؟! فلا يتصرف

٢٤٢

بأدلة الاستصحاب ، فنقول ـ وبه سبحانه الاعتصام ـ : الأقوال في المجعول ثلاثة :

الأول : ـ وهو ما اختاره الشيخ (١) ، والخراسانيّ (٢) ـ ان المجعول بها هو المتيقن ، بمعنى ان التعبد انما كان بالمتيقن حال الشك فاليقين والشك لوحظا مرآتا لمتعلقهما موضوعا أو حكما ولم يلحظا بأنفسهما.

الثاني : ان المجعول هو الطريقية ، بمعنى أن التعبد بنفس اليقين من جهة طريقيته وكاشفيته عن الواقع.

الثالث : ـ وهو الّذي التزم به المحقق النائيني (٣) ـ ان المجعول هو نفس اليقين ، ولكن لا من باب الطريقية بل بلحاظ الجري العملي.

والوجه الأخير لا نعرف له وجها في مقام الثبوت ، لأن المجعول ان كان هو نفس الجري العملي ، بمعنى ان التعبد انما هو بتحقق الجري العملي نحو المكلف به ، فهو أجنبي عما نحن بصدده من إثبات الحكم أو نفيه بالاستصحاب لأنه مرتبط بمقام الامتثال ، ومفاده الحكم بموافقة الأمر وتحقق الامتثال ، والمفروض انه بالاستصحاب يثبت التكليف ـ مثلا ـ ، فيجب امتثاله ، لا أن مفاده انه لا يجب عليه لموافقته وعمله

__________________

دليل الاستصحاب في موضوع البراءة بل هو يتنافى معها رأسا ، لأن مقتضاها الحلية ومقتضاه الإلزام فيتصادمان من دون مرجح على الآخر.

ولكن الّذي يهون الخطب ، انا لم نلتزم بجعل الحلية في الشبهات الحكمية لاختصاص الدليل بالشبهات الموضوعية. ولا نعهد ـ فعلا ـ موردا يصطدم فيه الاستصحاب الحكمي مع البراءة فيها ، وأما الاستصحاب الموضوعي فهو مقدم على البراءة ، لما سيجيء من تقديم الأصل السببي على المسببي. فلاحظ وسيأتي التوقف في ذلك بالنسبة إلى البراءة وبيان الحكومة بوجه آخر.

وأما ما ذكره في الكفاية من تقديم الاستصحاب على البراءة بما ذكر وجهه في حاشيته على الرسائل ـ كما حكي عنه ـ فجوابه ظاهر كما أفاده المحقق الأصفهاني فراجع تعرف.

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١٨ الطبعة القديمة.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٣٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٣

بالأمر (١).

وان كان التعبد باليقين ـ لا بنفس الجري العملي ـ ولكن بلحاظ الجري العلمي ـ كما هو الظاهر من كلامه ـ فلا يخفى ان المحركية والجري العملي على طبق اليقين فرع انكشاف الواقع باليقين وتنجزه عليه ، فليس هو متفرعا على اليقين رأسا ، بل عليه بضميمة جهة الطريقية فيه ، فلا معنى لاعتباره بهذا اللحاظ بلا لحاظ جهة الطريقية ، فيرجع حينئذ إلى القول الثاني الّذي فرّ منه.

وعلى هذا فالأمر ثبوتا يدور بين القولين الأولين ، وهما : جعل المتيقن. وجعل اليقين من باب الطريقية.

وأما إثباتا ، فروايات الاستصحاب على نحوين :

فمنها : ما هو بلسان الاخبار عن عدم انتقاض اليقين بالشك ، وهذا النحو ظاهره التعبد بنفس اليقين ، وذلك لأنه يرجع إلى الاخبار عن اعتبار عدم نقض اليقين بالشك ، واعتبار صفة اليقين في مرحلة الشك ، إذ لا معنى للاخبار عن عدم الانتقاض حقيقة كما لا يخفى.

ومنها : ما هو بلسان الإنشاء كقوله : « ولا ينقض اليقين بالشك ». ولا يخفى ان النهي عن نقض اليقين بالشك لا معنى له على حقيقته ، لانتقاضه حقيقة فالنهي عنه محال لأنه تكليف بغير الممكن ، فلا بد من رجوعه إلى أمر ممكن وهو النهي عن النقض عملا وإيجاب الإبقاء عملا.

والعمل على طبق اليقين لازم لأمرين : أحدهما : اليقين باعتبار كاشفيته ومحركيته. والآخر : المتيقن ، فان الامتثال بنظر العامل من آثار نفس المتيقن والواقع المنكشف باليقين دون نفس اليقين ، ولكنه في الحقيقة من آثار اليقين فهو عمل على

__________________

(١) لاحظ ما ذكرناه حول كلام المحقق المذكور في بيان عدم إمكان تكفل الأدلة لجعل الاستصحاب وقاعدة اليقين ، فعله ينفعك.

٢٤٤

طبق اليقين. فالنهي عن النقض عملا كما يمكن ان يكون للتعبد بنفس اليقين كذلك يمكن ان يكون للتعبد بنفس المتيقن. والكلام وان كان ظاهرا في الأول ، لكنه يظهر في الثاني بعد ملاحظة بعض النصوص مما يكون التعبد فيها بلحاظ ما يترتب على الوجود الواقعي للمتيقن لا العلمي ، كرواية زرارة الأولى التي يكون التعبد فيها بلحاظ ما يترتب على الطهارة من الآثار ، كالدخول في الصلاة وأمثاله. فان الطهارة شرط واقعي للصلاة لا علمي ، فلا بد من رجوع التعبد فيها إلى نفس المتيقن ـ وهو الطهارة ـ لا إلى اليقين بها ، إذ اليقين بها ليس الملاك في ترتيب الأثر المرغوب عليه.

ويشهد لما ذكرنا أيضا : ان سؤال السائل في أغلب الروايات انما هو عما يترتب على شكه ، وانه بشكه هل يبني على انقلاب الواقع عما كان عليه أو على عدم ترتيب آثاره أو يبني على بقائه وعدم تبدله فتترتب عليه آثاره؟. فالتفت.

وعليه ، فإذا تعيّن ان المجعول انما هو المتيقن لا صفة اليقين ، فيشكل الأمر في تقدم الاستصحاب على البراءة المأخوذ في موضوعها الجهل بالحكم وفي غايتها العلم بالحكم ـ بل يشكل الأمر أيضا في تقدم الأمارات عليها بناء على ما هو التحقيق من كون مفاد أدلتها تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ لأن التعبد بنفس الحكم لا بالعلم به كي يكون حاكما عليها لتكفله تحقيق الغاية ورفع الموضوع تنزيلا وتعبدا. وقد تقدم إيضاح ذلك في نفي حكومة الأمارات على الأصول إذا كان مؤداها تنزيل المؤدى منزلة الواقع ـ والعلم الوجداني بهذا الحكم المتعبد به لا يكفى في الورود ، لما عرفت من أخذ متعلق العلم الحكم السابق في ثبوته على مرحلة الشك الفعلي ، والحكم المتعبد باستمراره ودوامه انما هو بلحاظ حال الشك ـ كما لا يخفى ـ فلا يكون العلم به محققا للغاية ـ

وتوهم : ان ملاك الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر بمدلوله اللفظي ، وهو متحقق هاهنا ، لأن التعبد وان كان واقعا بالحكم لكنه بلسان التعبد باليقين فيكون حاكما على الأدلة المأخوذ في موضوعها اليقين ، نظير : « لا شك لكثير الشك »

٢٤٥

و : « الطواف بالبيت صلاة » ، فان التعبد فيها واقعا بالحكم والآثار مع أنها حاكمة على الأدلة الأخرى باعتبار أخذ نفس الشك والصلاة في الدليل.

فاسد : لأن تحقق نظر أحد الدليلين إلى الآخر فيما إذا كان التعبد فيه بنفس آثار الموضوع أو بنفيها بلسان إثبات الموضوع أو نفيه كما في : « لا شك » ، فان المتعبد به نفي الآثار المترتبة على الشك بلسان نفي الشك ، ولذلك كان ناظرا لأدلة اعتبار الشك ، ومثله على العكس : « الطواف بالبيت صلاة » (١).

أما ما نحن فيه ، فليس كذلك ، لأن التعبد لم يكن بآثار اليقين بلسان التعبد باليقين حتى يكون ناظرا إلى الأدلة الأخرى وحاكما عليها. بل التعبد بالمتيقن بلسان التعبد باليقين ، والمتيقن ليس من آثار اليقين كما لا يخفى. فلا يكون الدليل المتكفل واقعا للتعبد به ناظرا إلى أدلة اليقين ، ولو كان التعبد بلسان اليقين فلا يكون حاكما ، لأن التنزيل الموجب للحكومة هو التوسعة أو التضييق في الموضوع بلحاظ ترتيب آثاره أو نفيها. دون غيره ، فالتفت.

وتحقيق الحال بوجه يرتفع به الإشكال : ان روايات البراءة على أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : ما كان بنحو : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون ». والتحقيق : ان المراد بالعلم فيها ليس هو الصفة الوجدانية النفسانيّة ، بل مطلق الحجة والدليل على الحكم ، وذلك لأنه مما لا إشكال فيه ان مفادها ليس هو نفي الواقع بعدم العلم وبيان ان ثبوت الحكم الواقعي دائر مدار العلم ، كما انه لا إشكال في عدم كون الشارع في مقام إهمال الواقع وعدم نصب طرق وأمارات عليه. فالمفهوم من هذا النص ان الشارع في مقام عدم العلم والطريق إلى الواقع لم يجعل الاحتياط ـ إذ كان بإمكانه جعله فلم يجعله ـ لأنه إذا لم يكن في مقام نفي الواقع ورفعه واقعا ، كما انه ليس في مقام إهمال الواقع وإيكال العلم به إلى الصدفة والاتفاق ، فلا بد ان يكون المراد هو

__________________

(١) إشارة إلى ان التعبد فيها بنفس الآثار لا بنفيها بلسان إثبات الموضوع.

٢٤٦

عدم جعل الاحتياط ورفع الحكم ظاهرا عند عدم الطريق إلى الواقع ، وإلا ـ فلو كان المراد رفع الحكم وعدم جعل الاحتياط والطرق ـ لكان إهمالا للواقع ، وهو خلف.

وبتقريب آخر : انه لا إشكال في وجود طرق غير علمية إلى الواقع. ولا إشكال انه عند ورود هذا النص لم يفهم منه أحد إلغاء اعتبار هذه الطرق ، بل المفهوم انما هو رفع التكليف وعدم جعل الكلفة بالاحتياط منة على الأمة ولطفا.

وبما ان نفي الاحتياط امتنانا انما يتحقق في مقام يكون في جعله كلفة ، وهذا انما يكون مع عدم وجود ما يثبت التكليف ، أما مع وجود الدليل المثبت له فنفي الاحتياط لا يكون منة ولطفا ، إذ ليس فيه رفع كلفة.

فبهاتين المقدمتين ـ وهما : كون الرواية في مقام نفي الاحتياط فقط لا نفى طرق الواقع أجمع من أمارة واستصحاب واحتياط ، لأنه ليس في مقام إهمال الواقع ، كما انه ليس في مقام نفيه ، وكون نفي الاحتياط من باب الامتنان وهو انما يتحقق في صورة عدم الطريق المثبت للحكم. بهاتين المقدمتين ـ يثبت كون موضوع البراءة عدم الطريق والحجة على الحكم لا عدم العلم الوجداني.

وان أبيت إلا عن استظهار الصفة الوجدانية من العلم ، فنقول : ان البراءة انما تجري في حال عدم العلم في صورة عدم وجود الطريق إلى الحكم ، فيرجع ذلك إلى تقييد الموضوع. وبهذا يكون الاستصحاب واردا على البراءة لأنه رافع لموضوعها حقيقة ببركة التعبد.

ولو لم يثبت ـ جدلا ـ ما ذكرناه ، فلا مفرّ عن الالتزام بالمعارضة بين الاستصحاب والبراءة.

ولكن نحو المعارضة يختلف باختلاف الآراء في مفاد الرواية ، فانه اختلف في ان المرفوع بها ما هو؟ والأقوال ثلاثة :

الأول : كون المرفوع بها الحكم الكلي ، فتختص بالشبهات الحكمية.

٢٤٧

الثاني : كون المرفوع بها مطلق الحكم الكلي والجزئي ، فتعم الشبهات الحكمية والموضوعية.

الثالث : ان المرفوع بها خصوص الموضوع ، فتختص بالشبهات الموضوعية.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : ان الرفع في السابق متعلق بنفس الحكم الجزئي ، وهاهنا متعلق بموضوعه ، وان كان في الحقيقة متعلق به بلسان رفع موضوعه.

فبناء على القول الأول : لا تجري البراءة ـ بهذا الدليل ـ في الشبهات الموضوعية ، فتختص المعارضة في خصوص الشبهات الحكمية ، ولا محذور في الالتزام بالمعارضة وعدم الالتزام بالاستصحاب في هذه الشبهات ـ كما قد التزم به بعض بغير هذا الوجه.

وبناء على القول الثاني : تختص المعارضة أيضا في موارد الشبهات الحكمية ، لأن الاستصحاب الجاري في الموضوع يكون حاكما على البراءة الجارية في الحكم الجزئي ـ كما سيأتي بيانه في الشك السببي والمسببي ـ وبناء على القول الثالث : ـ تكون المعارضة بين الاستصحاب والبراءة في مطلق موارد الشك الموضوعي ، فالالتزام بالتساقط مشكل ، إذ يلزم منه نفي جريان الاستصحاب مطلقا أو في الغالب وهو مما لا يمكن الالتزام به ، فلا بد من الالتزام بتقدمه عليها بالتخصيص ، كما لا بد من الالتزام بذلك في تقدم الأمارات على البراءة ـ لعين الملاك فلاحظ ـ

ولكن عرفت ان النوبة لا تصل إلى هذا الحل ، بل الأمارات والاستصحاب واردة على البراءة على الأقوال كلها ، فتدبر.

النحو الثاني : قوله : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ». ولم تثبت صراحة هذه الرواية في ثبوت أصالة البراءة ، إذ يمكن ان يكون المراد من الورود الثبوت الواقعي للأحكام ، فيكون مفادها بيان الإباحة الأصلية للأشياء حتى يتعلق بها

٢٤٨

نهي من المولى ، وبهذا يكون مفادها أجنبيا عن البراءة بالكلية.

نعم ، لو لم يكن المراد بالورود هو الثبوت الواقعي ، بل الوصول كانت دليلا على البراءة ، ولكنه لم يؤخذ في الغاية إحراز النهي والوصول العلمي بل أخذ مطلق الوصول والورود وظاهره إرادة وصول الحكم الواقعي وثبوته في ذمة المكلف بأي طريق كان ، ومنه الاستصحاب ، فيكون واردا لأنه محقق للغاية تكوينا ، كما لا يخفى.

النحو الثالث : مثل : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه .. ». ودلالة هذه الرواية على البراءة مناقشة في ان ثبوت الحلية في المصاديق المذكورة في الموثقة انما هو بواسطة الأصول والأمارات الموضوعية السابقة بالرتبة على الاستصحاب والبراءة ، كأصالة الصحة وقاعدة اليد ، فيكون الحكم بالحلية حكما بمفاد تلك القواعد الظاهرية وفي مقام الأمر بعدم الاعتناء بالاحتمال الناشئ عن الوسواس ونحوه مع وجود القواعد ، لا حكما بمفاد أصالة البراءة كي يستكشف جعل البراءة في مثل هذه الموارد.

وأما أصالة الاشتغال ..

فالاستصحاب مقدم عليها ، لأن موردها الشك في براءة الذّمّة بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل ، ومع قيام الاستصحاب على التعيين يزول احتمال الضرر لقيام الحجة الشرعية على تعيين أحد الافراد.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى أصالة التخيير. فان حكم العقل بالتخيير في فرض التحير ، وبالاستصحاب يرتفع التحير.

وبالجملة : الاستصحاب وارد على الأصول العقلية من براءة واحتياط وتخيير ، لأنه رافع لموضوعها تكوينا ببركة التعبد الشرعي.

٢٤٩

تعارض الاستصحابين (١)

ويقع الكلام بعد ذلك في تعارض الاستصحابين.

وقد ذكر الشيخ (٢) رحمه‌الله صورا متعددة للاستصحابين المتعارضين من كونهما موضوعيين أو حكميين أو مختلفين. ومن كونهما وجوديين أو عدميين أو مختلفين. وغير ذلك. إلا أن هذا الاختلاف لا أثر له في اختلاف حكم المتعارضين.

وانما الكلام يقع في صورتين هما الجامع بين هذه الصور المختلفة في محل الكلام ، وهما :

الأولى : ان يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، كالشك في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء كان متيقن الطهارة ، فان الشك في بقاء نجاسة الثوب مسبب عن الشك في بقاء طهارة الماء.

الثانية : ان يكون الشك فيهما مسببا عن أمر غيرهما.

وأما تصور كون الشك في كل منهما مسببا عن الآخر ـ كما ينسب إلى المحقق النراقي ـ فهو باطل لما ستعرفه من ان السببية والمسببية تنشئان من كون أحد المشكوكين من أحكام الآخر ، وهذا يعني كون أحدهما موضوعا للآخر ، فيمتنع ان يكون كل من المشكوكين موضوعا للآخر ـ كما لا يخفى ـ وعليه ، فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في الشك السببي والشك المسببي.

وتحقيق الكلام فيه : انه مما لا إشكال فيه عند الاعلام تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي ، وانما الإشكال في وجه التقديم من حكومة ، وورود وغيرهما ،

__________________

(١) لم أتوفق لحضور درس سيدنا الأستاذ ( حفظه الله ) في هذه المباحث لبعض الموانع ونظرا إلى طلبي منه تقريرها لي ، أجابني إلى ذلك. ولعل هذا التقرير يخالف تقريرات الآخرين نظرا لتبدل الرّأي. فلينتبه.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٤ ـ الطبعة القديمة.

٢٥٠

فالكلام في جهتين :

الجهة الأولى : في وجه التقديم.

وقد ذكر لذلك وجوه متعددة :

الأول : ما ذكره الشيخ من الإجماع على ذلك كما يظهر للمتتبع ، فان الفقهاء لا يتوقفون في تقدم الأصل السببي على المسببي.

ولكن الاعتماد على الإجماع في مثل ما نحن فيه مشكل ، إذ لا يحرز كونه إجماعا تعبديا بعد وجود الوجوه العقلية وغيرها المستدل بها على التقديم ، فلا يكشف عن قول المعصوم عليه‌السلام.

الثاني : (١) ما أفاده الشيخ أيضا ـ وهو المهم من الوجوه التي ذكرها ـ من ان

__________________

(١) ما ذكره الشيخ رحمه‌الله في الوجه الثاني مرجعه [ حمل السيد الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الشيخ على ما حمل عليه في الدرس في الدورة السابقة ، لا على ما هو مذكور في المتن. فالتفت ( المقرر ) ] إلى الورود ويمكن ان يقرب بوجهين :

الأول : ان يكون المراد بالشك عدم الحجة فيكون نقض اليقين في مورد الأصل المسببي بالحجة وفيه :

أولا : انه ينافي ما التزم به قريبا من حكومة الأمارة على الاستصحاب لا ورودها كما هو مقتضى هذا التوجيه.

وثانيا : ان المراد بالحجة الرافعة هي الحجة على الواقع المتيقن في السابق كالخبر فان مفاده الكشف عن الواقع والمفروض انه حجة في مؤداه. وليس الاستصحاب كذلك ، لأنه حكم ظاهري مجعول في ظرف الجهل لا بعنوان انكشاف الواقع ، وان تكفل التنجيز والتعذير كسائر الأحكام الظاهرية كأصالة الطهارة.

الثاني : ان يكون المراد بالشك عدم العلم ولو بعنوان آخر ، ومع العلم بالحكم بعنوان ظاهري يرتفع الموضوع قهرا.

٢٥١

........................................

__________________

وفيه : ما تقدم في مناقشة صاحب الكفاية عند البحث في تقدم الأمارة على الاستصحاب فراجع.

وقد يوجه كلام الشيخ رحمه‌الله بان الأصل السببي يحقق موضوع دليل الحكم الثابت لمجراه فيكون هو الحكم ، وهو المقدم على الأصل المسببي لا الأصل.

وهذا مما لا تأباه عبارته ، ولعله مأخذ ما ذكره صاحب الكفاية من إجزاء الأمر الظاهري الجاري في تحقيق متعلق التكليف كأصالة الحل والطهارة واستصحابهما.

وقد أورد على هذا الالتزام بإيرادات متعددة عمدتها ان مقتضاه الحكم بطهارة المغسول بالماء المستصحب الطهارة ولو انكشف بعد ذلك انه نجس وهو مما لا يلتزم به أصلا. وفي مراجعة مبحث الاجزاء فائدة.

ثم ان هذا الوجه يختص بما إذا كان مجرى الأصل السببي حكما شرعيا قابلا للجعل بنفسه كالطهارة والحلية ونحوهما. ولا يتأتى فيما إذا كان مجراه موضوعا تكوينيا كالعدالة والحياة ، لعدم ثبوته به حقيقة حتى يمكن تطبيق الدليل. فانتبه.

وبالجملة : فما أفاده الشيخ رحمه‌الله في الوجه الثاني غير تام.

وأما ما ذكر في الوجه الثالث : فقد تصدى قدس‌سره لمناقشته بما لا يخلو عن إشكال.

والتحقيق في مناقشته : ان قلة المورد لا تعد محذورا إذا لم يساعد الدليل على العموم ، فأي ضرر في أن يكون الاستصحاب قاعدة في موارد خاصة.

وإن كان مراد المستدل ان ذلك يتنافى مع مورد الرواية ، حيث ان موردها إجراء الاستصحاب في الموضوع وهو الطهارة. ففيه : انه يمكن ان لا يكون المنظور في النص إجراء الاستصحاب في نفس الطهارة والوضوء ، بل في عدم وجوب الوضوء كما هو مورد السؤال ، فالمستصحب هو المسبب رأسا لا السبب. ومما يؤيد عدم تقدم الأصل السببي على المسببي انه لم يتصد في النص إلى إجراء الاستصحاب في السبب وهو عدم الرافع ، وهو النوم.

وأما ما ذكره في الوجه الرابع ، ففيه : ان الاشتغال لا يكون مجرى للاستصحاب كما تقدم بيانه في مبحث الأقل والأكثر ، والأصل المسببي في مورد الرواية هو الأصل الجاري في نفي وجوب الوضوء وهو يوافق الأصل السببي ، وقد تقدم إمكان كون المنظور في الرواية هو جريان الأصل في المسبب رأسا.

٢٥٢

........................................

__________________

وأما ما أفاده أخيرا تحت عنوان .. ، ففيه : ان الكلام ليس في ترتيب آثار الأصل السببي بل الكلام في عدم معارضته بالأصل المسببي وليس فيما ذكره إشارة إلى ان ارتكاز العرف عليه ، مع ان المبحث عقلي لا عرفي.

والمتحصل : ان شيئا من هذه الوجوه الأربعة لا يفي بالمطلوب. ولا يخفى عليك ان مقتضى الوجه الثاني هو الورود ، أما الثالث والرابع فمقتضاه من هذه الجهة مجمل ، وانما هما يتكفلان التقديم لا أكثر.

وأما دعوى تقديم الأصل السببي على المسببي بالحكومة ـ كما عليه المحقق النائيني على ما نقل كلامه في المتن ـ فيدفعها ما عرفت في تقديم الاستصحاب على البراءة من ان المفهوم من أدلة الاستصحاب بملاحظة النهي عن النقض بمثل « لا ينبغي » إرادة النقض والإبقاء العملي ، وهذا لا يرجع إلى جعل اليقين واعتباره ، بل إلى الأمر بترتيب آثار بقاء اليقين. هذا مع غض النّظر عما أشرنا إليه في المتن من ان التعبد باليقين بشيء لا يستلزم التعبد باليقين بآثاره. والنافع في دعوى الحكومة إثبات التعبد باليقين بالأثر لا التعبد باليقين بالموضوع. فلاحظ.

والّذي يمكن ان يقال في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي : هو ان الأصل السببي ناظر إلى مفاد الأصل المسببي وملغ له ، فيكون حاكما. وذلك لأن التعبد بطهارة الماء ـ مثلا ـ مرجعه إلى ترتيب آثار طهارته ومن جملتها حدوث الطهارة للمغسول به بعد نجاسته وصيرورته طاهرا.

ومن الواضح ان مرجع التعبد بالحدوث هنا إلى إلغاء الحالة السابقة وعدم الاعتناء بها ، وهذا ينافي جريان الاستصحاب في المغسول به ، لأن إبقاء الحالة السابقة يتنافى مع إلغائها وعدم الاعتناء بها. فيكون الأصل السببي ناظرا لمفاد الأصل المسببي فيتقدم عليه بالحكومة.

وبالجملة : إطلاق دليل الاستصحاب الشامل لمورد الشك السببي يمنع من شمول الإطلاق للشك المسببي.

وهذا هو معنى الحكومة في ما نحن فيه ، فلا يرد الإشكال فان الحكومة تكون بين دليلين لا في دليل واحد.

إلا ان هذا انما ينفع في إثبات حكومة الاستصحاب السببي على خصوص الاستصحاب الجاري في الشك المسببي ، لأنه متفرع على ملاحظة الحالة السابقة ، فيكون محكوما لما يقتضي إلغاءها.

٢٥٣

........................................

__________________

ـ وأما مثل أصالة الإباحة أو الطهارة الجارية في الشك المسببي فلا ينفع البيان المزبور لإثبات محكوميتها للاستصحاب السببي لعدم النّظر فيها إلى الحالة السابقة ، بل هي تتكفل مجرد الثبوت.

فتصطدم مباشرة مع أثر الأصل السببي.

وتحقيق الكلام في هذا المجال : ان المولى إذا ألزم المكلف المتحير والمتردد بين احتمالين بأحد الطرفين بأي لسان كان الإلزام. من جعل المؤدى أو جعل اليقين وصفا أو عملا أو المنجزية ، كان مرجع الإلزام ـ عرفا ـ إلى إلغاء الاعتناء بالطرف الآخر من الترديد ولعل هذا ما يقصده الشيخ بإلغاء احتمال الخلاف ـ لا بمعنى جعل العلم واعتباره ـ لأنه يلتزم بجعل المؤدى ونتيجة ذلك هو نفي ما يقتضي اعتباره لأن لسانه لسان نفي ترتيب الأثر لا مجرد عدم الاعتناء به. وعليه فيكون الاستصحاب حاكما على البراءة في مورده ،

لتكفل دليل الاستصحاب تعيين أحد طرفي الترديد لأن لسانه لسان عدم النقض والإبقاء وهو ناظر إلى إلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به فينفي أصالة الإباحة الراجعة إلى الاعتناء بالاحتمال. وهكذا الكلام في أصالة الطهارة.

ولا تصح دعوى العكس ، لأن كلا من أصالة البراءة وأصالة الطهارة لا يتكفل تعيين أحد المحتملين ، بل تتكفل بيان وظيفة المكلف مع فرض تردده وشكه وغض النّظر عن الواقع. وليس كذلك الأمارة والاستصحاب.

والمتحصل : ان حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي بالبيان السابق.

وأما حكومة الاستصحاب السببي على البراءة وأصالة الطهارة في الشك المسببي بل مطلقا فهي بالبيان الأخير. فتدبر واعرف. ومن هذا البيان ظهر تقريب حكومة الأمارة على الاستصحاب لو لم تتم دعوى الورود بالبيان السابق ، فان الأمارة بمقتضى دليل اعتبارها تتكفل إلغاء احتمال الخلاف فتنصرف في موضوع الاستصحاب وتنفيه ، والاستصحاب وان كان كذلك لكن لم يؤخذ الجهل موضوعا في الأمارات بل موردا.

ومعه لا وجه لإنكار صاحب الكفاية ـ في مباحث التعادل والترجيح ـ دعوى الحكومة بعدم النّظر ، إذ عرفت منشأ نظر دليل اعتبار الأمارة إلى دليل الاستصحاب ولو لم يلتزم بان المجعول فيها الطريقية.

وأما ما يظهر من عبارته ـ في ذلك المبحث ـ من احتمال تكفل دليل الاعتبار مطلقا ولو في الأصول لإلغاء احتمال الخلاف فهو غير واضح ، إذ لا يحتمل هذا المعنى في أدلة البراءة أصلا.

٢٥٤

الأصل السببي بجريانه يمنع من شمول العموم لمورد الأصل المسببي ، وذلك لأن العام انما هو عدم نقض اليقين بالشك ، ومع جريان الأصل السببي لا يكون نقض اليقين في مورد الأصل المسببي بالشك ، بل بالدليل ، وان كان موضوع الحكم وهو الشك واليقين ثابتا. بخلاف العكس ، فانه بجريان الأصل المسببي لا يرتفع صدق النقض بالشك في مورد الأصل السببي ، فالأصل السببي بجريانه يتصرف في محمول الأصل المسببي ـ وهو النقض بالشك ـ لا في موضوعه ـ وهو الشك ـ فالتفت (١).

والإشكال عليه : بان ما ذكر من عدم قابلية مورد الشك المسببي لشمول العموم له انما يتحقق على تقدير الالتزام بالأصل السببي ، ولكنه محل الكلام وما هو الوجه في الالتزام به وطرح الأصل المسببي؟.

مندفع : بان مقتضى شمول العام ـ وهو حرمة النقض في مورد الشك السببي ـ ثابت لصدق النقض بالشك والمانع مشكوك فينفي بأصالة عدم التخصيص. بخلاف الشك المسببي ، فان مقتضى الشمول ـ وهو صدق النقض بالشك ـ معلق على عدم ثبوت العام في مورد الشك السببي ، وقد عرفت ثبوته بأصالة عدم التخصيص.

وعليه : فقد يشكل : بأنه بعد فرض ان موضوع الحكم في كلا الموردين ثابت وهو اليقين السابق والشك اللاحق ـ ولما كانت نسبة الحكم بعدم النقض إليهما على حد سواء إذ نسبة حكم العام إلى افراده بالسوية ، لأنها جميعها في عرض واحد ، لم يكن وجه لجعل شمول الحكم العام لفرد ببناء العقلاء على أصالة عدم التخصيص مانعا عن شموله لفرد آخر ، لأن أصالة عدم التخصيص جارية فيهما على حد سواء مع قطع النّظر عن الآخر.

وعليه ، فلا وجه لجعل أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي مانعة عن شمول العام لمورد الشك المسببي ، إذ لو لا جريانه وثبوت حكم العام لمورد الشك

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٥ ـ الطبعة القديمة.

٢٥٥

السببي بواسطتها ، كان حكم العام ثابتا في مورد الشك المسببي ، ولم يثبت بناء العقلاء على جريانها في الفرد السببي دون المسببي ويندفع بما أفاده قدس‌سره : من الوجه العقلي في بيان عدم صلاحية الشك المسببي لمانعيته عن شمول حكم العام للشك السببي.

ومحصله : ان فردية الشك المسببي لحكم العام بحيث يكون مشمولا له انما تتحقق بعد فرض رفع اليد عن حكم العام في مورد الشك السببي المفروض فرديته ، ورفع اليد عنه في هذا المورد لا وجه له بعد فرض فرديته إلا ثبوت حكم العام وشموله لمورد الشك المسببي ، وهذا دور ، فمانعية الأصل المسببي عن الأصل السببي انما تكون بوجه دائر ، فثبوت أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي واقتضائها لشمول حكم العام له لم يكن عن دعوى تعبد محض من العقلاء ، كي يقال بعدم ثبوت ذلك منهم ، بل كان من جهة ثبوت المقتضي فيه وعدم صلاحية الشك المسببي للمانعية عنه إلا على وجه دائر.

وبالجملة : أن الأصل في مورد الشك السببي يجري لثبوت مقتضى الجريان فيه ، وبجريانه لا يبقى مورد الشك المسببي قابلا لفرديته الفعلية لحكم العام وشمول الحكم له للتصرف في محموله ، وهو النقض بالشك ، ويمتنع كون الأصل المسببي مانعا عن جريان الأصل السببي إلا على وجه دائر. فلا وجه حينئذ لطرح الأصل السببي والأخذ بالأصل المسببي ، لثبوت مقتضية وعدم المانع بخلاف العكس كما عرفت. هذا محصل ما يمكن ان يستفاد من عبارة الرسائل فانها تبدو بألفاظها ومعانيها مرتبكة غير متلائمة.

الثالث : ما أفاده الشيخ رحمه‌الله بعنوان الجواب عن الإشكال الأخير على الوجه الثاني بقوله : « وان شئت قلت : ان حكم العام من قبيل لازم الوجود للشك السببي كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ... » (١) وقد حملها المحقق الخراسانيّ في

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٦ ـ الطبعة القديمة.

٢٥٦

حاشيته على الرسائل وتابعة المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (١) على ما يبدو منها أولا من أن الشك المسببي باعتبار كونه معلولا للشك السببي وان حكم العام باعتبار كونه ـ بالنسبة إلى الشك السببي ـ من قبيل لوازم الوجود كانا متأخرين عن الشك السببي وفي مرتبة واحدة ، فيمتنع ان يكون الشك المسببي محكوما بحكم العام لأنه يستلزم كونه موضوعا له وذلك يقتضي تقدمه عليه ولو بالطبع وهو خلاف المفروض من كونهما في مرتبة واحدة.

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني إيرادات متعددة. والوجه الّذي اشترك به مع أستاذه الخراسانيّ هو ما قرره من ان عموم « لا تنقض » ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الموضوع ، فالحكم الّذي يقصد ترتبه على الشك المسببي غير الحكم الّذي وفرض كونه معه في مرتبة واحدة. كما لا يخفى.

ولكنه يبعد حمل كلام الشيخ قدس‌سره على هذا التقريب لوضوح فساده ، فالأولى ان يقال ان مراده قدس‌سره ان الشك المسببي لا يصلح لأن يكون مانعا عن حكم العام الثابت للشك السببي لأن المانع عن الشيء يكون سابقا عليه في المرتبة لأنه في مرتبة موضوعه وعلته ، وحكم العام والشك المسببي في مرتبة واحدة ، لأنهما معا من قبيل لوازم الوجود بالنسبة إلى الشك السببي ، فيمتنع ان يكون الشك المسببي مانعا عن الحكم الثابت في مورد الشك السببي لأن مانعيته عنه تقتضي تقدمه عليه ولو طبعا.

وعلى هذا الوجه لا يرد شيء مما أورده المحقق الأصفهاني. فلاحظ.

الرابع : ما ذكره المحقق النائيني (٢) : من أن الأصل في الشك السببي رافع تشريعا لموضوع الأصل في الشك المسببي. وبما ان جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقة فلا نظر للحكم إلى وجود موضوعه وعدمه ، بل الدليل يتكفل ثبوته على تقدير وجود الموضوع.

__________________

(١) المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٣٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٦٨٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي

٢٥٧

وعليه ، فلا يصلح الأصل في الشك المسببي للمنع عن الأصل السببي ، لأن مانعيته عنه معناها المحافظة على موضوع نفسه ، لأنه يمنع عما يمنع عن موضوعه ، وقد عرفت أن الحكم لا يصلح لذلك وانما هو يثبت على تقدير ثبوت الموضوع اما انه يكون بنحو يثبت الموضوع فذلك أجنبي عن مفاد أدلة الأحكام ، فانها انما تتكفّل ثبوت الأحكام على تقدير ثبوت موضوعاتها ، ولا تتكفل ثبوت الموضوعات.

وهذا الوجه غير تام نقضا وحلا ..

أما الأول ، فانه ينتقض بالمتزاحمين ، فان الحكم في كل منهما يمنع عما يمنع عن موضوعه ، وهو الحكم الآخر الموجب لصرف القدرة إلى متعلقه المانع عن موضوع ذاك الحكم ، وهو القدرة ، نظير التزاحم بين وجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الغريق ، فان وجوب إنقاذ كل منهما يقتضي صرف القدرة إلى متعلقه وهذا يعنى المحافظة على موضوعه والمنع عن الحكم الآخر المانع عن موضوعه باقتضائه صرف القدرة إلى متعلقه.

وأما الثاني : فمجمله ان امتناع كون حكم الشك المسببي مانعا عن حكم الشك السببي ، إما لأجل ان دليل الحكم في القضايا الحقيقية يتكفل ثبوته على فرض ثبوت الموضوع ، فيمتنع حينئذ تكفله للمحافظة على موضوعه لأنه خلف. وإما لأجل ان الحكم بعد فرض كونه ثابتا على تقدير الموضوع كان متأخرا عن موضوعه ، فيمتنع ان يؤثر فيما هو في رتبة العلة لموضوعه ، وهو المانع ، لاستلزامه تقدم المتأخر على مرتبته وهو محال.

فان كان المحذور هو الأول ، فهو تام في نفسه ، إذ محافظة دليل الحكم على موضوع الحكم خلف فرض كونه متكفلا لثبوته على تقدير الموضوع ، ولكنه انما يمتنع ذلك بالمباشرة. اما إذا كان دليل الحكم مؤثرا في شيء يلزمه الموضوع ، فلا محذور فيه ، نظير تأثير الحكم المأخوذ في موضوعه القدرة في حكم العقل بعدم

٢٥٨

صحة تعجيز المكلف نفسه المستلزم لتحصيل القدرة والمحافظة عليها بنفس الخطاب المتكفل لبيان الحكم. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان دليل الحكم انما يؤثر في رفع المانع المستلزم لثبوت الموضوع ، وليس تأثيره في ثبوت الموضوع بالمباشرة.

وان كان الثاني فحلّه ـ في نفسه ـ بوجهين : ـ وان كان ما يرتبط بما نحن فيه هو الثاني دون الأول ، إلاّ أنه ذكرناه استقصاء للحل بالنسبة إلى غير ما نحن فيه من الموارد ـ

الأول : ان يكون التأثير بقاء لا حدوثا بمعنى : ان الحكم الثابت لموضوعه فعلا يؤثر في المحافظة على موضوع استمرار الحكم ، فالحكم المتأخر عن الموضوع المحافظ عليه هو الحكم في مرحلة الاستمرار والبقاء.

أما الحكم المؤثر فهو الحكم في مرحلة الحدوث ، وهو غير متأخر رتبة عن موضوع الحكم في مرحلة استمراره وبقائه.

الثاني : ان يكون التأثير في مرحلة الاقتضاء ، وذلك لأن الحكم الثابت على تقدير ثبوت موضوعه انما هو الحكم الفعلي. اما الحكم في مرحلة الاقتضاء وقبل الوصول إلى حد الفعلية فهو ثابت ولو لم يثبت الموضوع ، فيمكن ان يكون المؤثر في رفع المانع عن الموضوع فيما نحن فيه إنما هو الحكم في مرحلة الاقتضاء الثابت قبل ثبوت الموضوع ، وهو غير متأخر رتبة عن مرحلة الموضوع وعلله ، وبالمحافظة على الموضوع يثبت الحكم الفعلي فتدبر جيدا.

الخامس : ما عن المحقق النائيني قدس‌سره من أن الأصل المسببي لا يصلح لمعارضة الأصل السببي ، لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه ، لأن الشك السببي علة للشك المسببي ، والحكم المترتب عليه ـ أي على المسبب ـ في رتبة متأخرة عنه ضرورة تأخر كل حكم عن موضوعه. والحكم في الشك السببي بما أنه رافع للشك المسببي يكون في رتبة سابقة عليه ، فمعارضة الحكم في الشك المسببي للحكم في الشك السببي يستلزم تقدم الشيء على نفسه ـ لأنه متأخر عنه

٢٥٩

بمرحلتين ـ ، وهو محال (١).

وهذا الوجه كسابقه غير تام ، لأن اتحاد الرتبة بين الأصلين المتعارضين ليس شرطا في إمكان التعارض ـ كي تكون معارضة المتقدم للمتأخر مستلزمة للمحال من تقدم الشيء على نفسه ـ ، بل المعارضة تصح بين المتقدم والمتأخر زمانا فضلا عن فرض التقدم والتأخر الرتبي. نظير تعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي في الأمور التدريجية.

الجهة الثانية : في كيفية التقديم ، فهل هو بالورود أو الحكومة؟ أو غيرهما؟

الحق انه بالورود ، وبيانه يتضح بذكر وجه التقديم فانتظر.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى انه بالحكومة ، بتقريب انه حيث : تعتبر السببية الشرعية بين الشك السببي والمسببي ، بان يكون أحد المشكوكين من آثار المشكوك الآخر شرعا.

ويعتبر أيضا كون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي ، وهو الشك.

يكون الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي ، لأنه رافع لموضوعه.

والإشكال فيه : بان من مقومات الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر في مرحلة دلالته ، وهذا لا يتم في مثل الاستصحابين ، إذ الاستصحاب بجميع افراده مدلول لدليل واحد ، لأن استناد الحكم الاستصحابي في شتى موارده من دليل واحد ، فلا يتحقق فيه شرط الحكومة ، وان قلنا بانحلال الدليل العام إلى قضايا متعددة بتعدد موارده ، إذ ذلك لا يستلزم تعدد الأدلة وتحقق النّظر المقوم للحكومة ، إذ لا معنى له في القضايا الانحلالية الحاصلة بالتعمل العقلي.

مندفع : بان هذا ناشئ عن عدم التفريق بين الحكومة الظاهرية والحكومة الواقعية ، فان اعتبار نظر أحد الدليلين إلى الآخر المستلزم لتعدد الدليل خارجا انما

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٦٨٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٦٠