منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

.......................................

__________________

فيمكن التأمل فيه بأن أصل الكبرى التي فرضنا وان كانت لا تخلو عن قرب بعد حملها على ان يكون المراد من إرادة الشك غير المسانخ ما لو نحو ارتباط بالشك في الصحة لا مطلق الشك غير المسانخ ولو كان أجنبيا بالمرة عن الشك في الصحة إذ لا وجه له محصل.

ووجه قرب ذلك : ان الشك في الصحة وان كان حادثا بعد العمل إلا ان المرفوع بقاعدة الفراغ هو الشك في أداء الوظيفة والخروج عن العهدة ، ومع وجود الشك السابق ، لا يرجع الشك في الصحة إلى الشك في أداء الوظيفة لأن الشك السابق معين لوظيفة خاصة على المكلف والمعلوم عدم أدائها.

لكن الإشكال في تطبيقها على ما نحن فيه ، فانها تختص بما إذا كان الشك السابق حادثا حين العمل لا ما إذا كان قبل العمل بمدة واحتمل الالتفات حال العمل ، والعمل بما هو مقتضى وظيفة الشاك من الوضوء ورفع الحدث الاستصحابي ، فان أداء الوظيفة مشكوك في هذا الحال لا معلوم العدم. فلا مانع من جريان القاعدة.

وعلى هذا فالتفصيل بين الصورتين كما أفاده المحقق النائيني وجيه. فتدبر.

ثم ان المحقق العراقي تعرض إلى البحث في جهتين آخرتين :

الجهة الأولى : في ان المضي على المشكوك فيه في مورد قاعدة التجاوز رخصة أو عزيمة ، وقد ذهب قدس‌سره إلى انه عزيمة ، فلا يجوز الإتيان بالمشكوك ولو برجاء الواقع ويكون الإتيان به من الزيادة العمدية بالنسبة إلى المشكوك والغير الّذي دخل فيه وذلك يوجب البطلان ، واستند في ذلك إلى ظهور الأمر بالمضي في اخبار الباب وقوله عليه‌السلام : « بل قد ركعت » في وجوب البناء على وجود المشكوك فيه وتحققه في محله ، فلا يشرع الاحتياط لعدم الموضوع له بعد حكم الشارع بوجود المشكوك. هذا ما أفاده قدس‌سره.

ويمكن المناقشة في استدلاله وما رتبه من الأثر على مدعاه.

أما استدلاله ، فلأنه من الواضح ان قوله عليه‌السلام : « بلى قد ركعت » لا يراد به الاخبار عن تحقق الركوع واقعا ، وانما هو تعبد ظاهري بتحقق الركوع ومن البين ان الحكم الظاهري لا يمنع من الاحتياط فيما نحن فيه ، لأنه مسوق مساق التأمين والتعذير فهو رخصة لا عزيمة.

وأما الأمر بالمضي ، فهو أمر واقع مورد توهم الحظر يعني : حظر المضي ولزوم العود وإتيان

٢٢١

.......................................

__________________

المشكوك ، فلا يفيد سوى عدم الحظر وعدم لزوم العود لا لزوم المضي وحرمة العود ، فالتفت.

وأما ما رتبه من الثمرة ، وهو ان الإتيان بالمشكوك يكون من الزيادة العمدية ، فيرد عليه : انه لا يتم في الاجزاء التي يتقوم صدق زيادتها بإتيانها بقصد الجزئية كالقراءة والتشهد ونحو ذلك ، إذ بالإتيان بها رجاء لا تصدق الزيادة لعدم قصد الجزئية.

نعم ، في مثل السجود والركوع بناء على القول بتحقق زيادتهما بمجرد الإتيان بهما بذاتهما ولو لم يقصد بهما الجزئية يتأتى ما ذكره. مع إمكان الرجوع إلى أصالة عدم زيادة الركوع في نفى عروض المبطل على الصلاة الواقعية. فتأمل.

الجهة الثانية : في انه إذا دار امر الجزء الفائت بين ما يستلزم فواته البطلان كالركن وما لا يستلزم فواته البطلان كغير الركن ، فهل تجري قاعدة التجاوز في كلا الجزءين وتسقط بالمعارضة أو لا؟ كما لو علم إجمالا بفوات الركوع منه أو التشهد فانه قد يقال ان كلا من الركوع والتشهد مجرى القاعدة ومقتضى ذلك التساقط. لكنه « قدس‌سره » ذهب إلى عدم جريان القاعدة في مثل التشهد ، وذلك لأنه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون المشكوك على تقدير وجوده واقعا مما يجزم بأنه مأتي به على طبق أمره ، فلو لم يكن المشكوك كذلك لم تجر القاعدة لعدم ترتب أثر عملي على التعبد بالمضي عليه ، وما نحن فيه كذلك ، لأن وجود التشهد ملازم لفوات الركوع وهو مستلزم لبطلان صلاته ، فلا يترتب على وجوده أثر عملي حتى يثبت بالقاعدة.

وببيان آخر يقال : انه في الفرض يعلم تفصيلا بعدم الإتيان بالتشهد موافقا لأمره ، إما لعدم الإتيان به رأسا واما للإتيان به في صلاة باطلة. ومع العلم التفصيليّ المزبور لا مجال لجريان القاعدة فيه. فتكون قاعدة التجاوز في الركوع بلا معارض.

وقد تلقي ما أفاده بالقبول وطبق في فروع متعددة من فروع العلم الإجمالي في العروة الوثقى.

وهو بيان علمي رصين ، لكنه لا يخلو عن مناقشة وذلك : لأن قاعدة التجاوز إما ان يكون مفادها الصحة الفعلية للصلاة بحيث يكون مقتضى جريانها إثبات الأمر بغير المشكوك فيكون العمل المأتي به موافقا للأمر ، واما ان يكون مفادها الصحة من جهة المشكوك خاصة فهي تتكفل التأمين من ناحية المشكوك من دون إثبات أمر ظاهري آخر غير الأمر بالمقام.

فعلى الأول : لا يمكن إجراء القاعدة مع تعدد الجزء المشكوك ركنا كان أم غير ركن ، لأن

٢٢٢

الجهة السادسة عشرة : في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان منشأ الشك احتمال عدم صدور الأمر من المولى ، كما لو صلى ثم شك في دخول وقتها حين الإتيان بها وعدمه ، فان الشك في الصحة هاهنا ناشئ عن الشك في تعلق الأمر بالصلاة. وكما لو اغتسل للجنابة ثم شك في انه كان جنبا فيصح غسله أو لا؟.

وقد ذكر السيد الخوئي ـ كما في مصباح الأصول ـ انه لا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ ، لأن قاعدة الفراغ أمارة على وقوع الفعل من المكلف باجزائه وشرائطه ، فلا كاشفية لها بالنسبة إلى ما هو من فعل المولى وصدور الأمر منه. ويدل عليه ما ورد من التعليل بالأذكرية ، فانه من المعلوم ان كونه أذكر حال العمل

__________________

إجراءها في كل واحد منهما يقتضي إفادة الصحة الفعلية وإثبات أمر ظاهري بغير المشكوك وهذا يمتنع مع فرض الشك في إتيان الجزء الآخر المستلزم للشك في الصحة ، وليس لدينا قاعدة واحدة تجري في كلا الجزءين المشكوكين معا ، لأن كل جزء مشكوك موضوع مستقل لعموم دليل القاعدة.

وعلى الثاني : فلا مانع من جريان القاعدة في التشهد في نفسه لعدم العلم بتركه والمفروض انهما تتكفل التأمين من ناحية عدم الإتيان به خاصة وهو غير معلوم ، فلا يتجه ما ذكره من العلم بعدم امتثال أمره إما لتركه أو لترك الركن الموجب للبطلان ، فانه يتم لو فرض تكفل القاعدة للتأمين الفعلي لا التأمين من جهة كما هو الفرض.

نعم ، يبقى إشكال اللغوية وان التأمين من ناحية التشهد لا أثر له مع عدم صحة العمل.

ويندفع : بان قاعدة التجاوز الجارية في الركوع تثبت الصحة وتنفي البطلان. فلا يكون جريانها في التشهد بلا أثر ولغوا.

نعم ، لمكان العلم الإجمالي تتحقق المعارضة بين القاعدتين ، وبعبارة أخرى : يكفي في رفع اللغوية ترتب المعارضة على جريانها لأن اللغوية ترتفع بأدنى أثر. ولا وجه لطرح قاعدة التجاوز في التشهد خاصة. فتدبر والله سبحانه العالم.

٢٢٣

بالنسبة إلى ما يصدر منه من الأعمال دون ما هو من أفعال المولى (١).

ولكن التحقيق أن هذا التقريب لعدم الجريان غير واف فيه ، فان الشك في كلا المثالين يرجع إلى ما هو من أفعال المكلف ، فالتعليل بالأذكرية يشمله بلا توقف.

أما مثال الصلاة ، فلأن صحة الصلاة لا تدور مدار تعلق الأمر بها فعلا ، كما يدل على ذلك صحة صلاة الصبي بعد دخول الوقت وقبل بلوغه لو بلغ في أثناء الوقت ، مع انه لم يكن مأمورا بها فريضة. بتقريب : ظهور دليل وجوب الصلاة كون المقصود تحققها بشرائطها المعتبرة فيها ، فلا يشمل الدليل من تحققت منه الطبيعة التي تكون متعلقا للأمر ولو كان ذلك بلا أمر ، بل المدار هو تحقق ما هو قابل في نفسه لتعلق الأمر به ـ وبعبارة أخرى : تحقق فرد الطبيعة التي تعلق بها الأمر وان لم يشمل الأمر هذا الفرد ـ وهو الصلاة بشرائطها ومنها الوقت. فالشك يرجع إلى الشك في كون الصلاة في الوقت أو لا ، وهذا من أفعال المكلف ، وان لازم الشك في صدور الأمر من المولى. فالمورد مشمول للتعليل كما هو ظاهر.

نعم ، هاهنا شيء وهو ان الظاهر من لسان أدلة قاعدة الفراغ وإلغاء الشك في العمل بعد مضيه ، ان الإلغاء يكون في مقام لولاه لوقع المكلف في كلفة الإعادة ، فهي بلسان رفع الكلفة. أما في غير هذه الصورة فلا تجري القاعدة ولا يتحقق الإلغاء.

وعلى هذا فلا بد اتباع السيد الطباطبائي « قدس‌سره » (٢) في التفصيل فيما نحن فيه بين ما إذا كان الشاك في صحة الصلاة للشك في دخول الوقت جازما بدخول الوقت حال الشك فتجري القاعدة. وما إذا لم يكن جازما بدخول الوقت حال الشك ، بل كان شاكا أيضا ، فلا تجري القاعدة. اما جريانها في الأول ، فلأنه مع

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٠٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى ـ المسألة الخامسة في أحكام الأوقات.

٢٢٤

عدم الحكم بإلغاء الشك يكون المكلف مأمورا بالصلاة حال الشك لدخول الوقت ، فيقع في كلفة الإعادة ، وهذا مما تنفيه أدلة القاعدة.

وأما عدم جريانها في الثاني ، فلأنه لو لم يحكم بصحة الصلاة لا يقع المكلف في الكلفة لفرض الشك فعلا بدخول الوقت الملازم للشك في صدور الأمر ، وبمقتضى استصحاب عدم دخول الوقت يثبت عدم الأمر تعبدا ، فيكون هذا المورد خارجا عن الأدلة في نفسه.

وأما مثال الغسل ، فلأن الشك فيه شك فيما يرجع إلى المكلف ، وهو الكون جنبا ، فهو مشمول للتعليل بالأذكرية ، فيكون من موارد القاعدة في نفسه. لكن المشهور والمسلم عدم جريانها فيه.

ولعل السر فيه ما يقال من : أن عدم وجوب الوضوء للصلاة لا يترتب على صحة الغسل ، بمعنى ان صحة الغسل موضوع لعدم وجوب الوضوء ، حتى يكون إجراء قاعدة الفراغ في الغسل ذا أثر شرعي وهو رفع وجوب الوضوء وجواز الدخول في الصلاة بدونه ، لأن وجوبه يترتب على أمرين ـ بنحو الجمع ـ وهما : تحقق الحدث الأصغر ، وعدم الكون جنبا ، فمع تحققهما يجب الوضوء.

ولا يخفى انه بجريان القاعدة في الغسل مع الشك في أصل الجنابة لا يثبت تحقق الجنابة كي ينتفي موضوع وجوب الوضوء ، فانه أجنبي عن مفاد القاعدة ، فباستصحاب عدم الجنابة يثبت موضوع وجوب الوضوء ، فلا يجدي إثبات صحة الغسل في رفع كلفة الوضوء ، فتبقى القاعدة بلا أثر ، فلا يتجه جريانها من جهة عدم الأثر.

الجهة السابعة عشرة : في كون القاعدة من الأصول أو الأمارات.

وقد ذكرنا انه قد ذكر للأمارية ملاكات ثلاثة :

أحدها : ما ذكره المحقق النائيني من الملازمة النوعية بين إرادة المركب

٢٢٥

والإتيان بالجزء في محله ولو مع الغفلة حال الجزء (١).

والثاني : ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من كون الإتيان بالاجزاء والشرائط أمرا بمقتضى العادة والطبع المستند إليها (٢).

والثالث : ما قرره السيد الخوئي ، من الأصل في العاقل القاصد للإتيان بالمركب عدم الغفلة عن الإتيان بأجزائه وشرائطه (٣).

وكل من هذه الملاكات غير صالح لاعتبار قاعدة الفراغ من باب الأمارية والكشف.

أما الأول : فلعدم ثبوت الملازمة النوعية بين إرادة المركب والإتيان بالجزء في ظرفه ولو مع الغفلة ـ بلا استناد إلى العادة ـ إلا في صورة كون الاجزاء من سنخ واحد كالمشي والقراءة المتكررة ونحوهما. أما ما كانت الاجزاء فيها ليست من سنخ واحد بل متغايرة ، فالملازمة مع الغفلة لا تثبت إلا مع الاعتياد ، بحيث يكون الإتيان به مستندا إلى العادة لا إلى الملازمة.

وأما الثاني : فهو مختص بصورة الاعتياد على العمل ، فلا ينبغي ـ مع اعتبار القاعدة بلحاظه ـ أن تجري في صورة عدم الاعتياد ، ككثير من المعاملات وبعض العبادات كالحج لغير المعتاد وكالصلاة في أول الإسلام أو التكليف إذا لم يسبق منه الاعتياد على الصلاة.

وأما الثالث : فهو يقتضي إلغاء قاعدة الفراغ بالمرة ، لأن أصالة عدم الغفلة من الأصول العقلائية المسلمة فاعتبار القاعدة بلحاظه لا يكون إلا إمضاء للعمل به لا تأسيسا لقاعدة مستقلة.

مضافا إلى أنه لم يعلم من حال العقلاء العمل بهذا الأصل في عمل الشخص

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٦٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٠٥ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٦٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٦

نفسه بل المتيقن هو العمل به في عمل الغير ، فلا يصلح للملاكية لظهور كون موارد القاعدة عمل الشخص نفسه. فتدبر جيدا.

فالمتحصل : ان شيئا من هذه الملاكات لا يصلح ملاكا لأمارية قاعدة الفراغ.

يبقى الكلام في التعليل بالأذكرية الوارد في بعض الروايات وهو قوله « عليه‌السلام » : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ».

وهو يحتمل معان ثلاثة :

الأول : التعبد بالواقع من باب غلبة الذّكر نوعا.

الثاني : التعبد بالذكر الشخصي من باب غلبة الذّكر النوعيّ ، فيثبت الواقع بالملازمة.

الثالث : التعبد بالذكر الشخصي رأسا بلا لحاظ شيء فيه ، فيثبت الواقع بذلك.

فمع حمل التعليل على الوجه الأول يكون شاملا لصورة العلم بالغفلة الشخصية. بخلاف ما إذا حمل على الوجهين الأخيرين ، فانه لا يكون شاملا لهذه الصورة ، إذ يمتنع التعبد بالذكر الشخصي مع العلم بالغفلة.

والظاهر منه هو الوجه الأخير ، فانه عليه‌السلام يسند الأذكرية إلى نفس الشاك بلا تعليل بشيء من غلبة الذّكر نوعا ونحوه.

ثم انه لا يخفى ان الالتفات والذّكر غير قابل للتفضيل مع اتحاد موضوعه ، فان الشخص إما أن يكون ملتفتا أو غير ملتفت ، فالتفاضل في الالتفات والذّكر لا يكون إلا بنحو المسامحة.

وعليه ، فلا بد من أن يكون التفضيل المسند إلى الذّكر بلحاظ موجباته ، فيكون المراد أن موجبات الذّكر في حال العمل أكثر منها في حال الشك ، وإنما جعل التفضيل في نفس الذّكر تسامحا وتجوزا.

ثم أن المشهور في معنى التعليل : ان المكلف في حال العمل أذكر منه في حال

٢٢٧

الشك ، فهو يأتي بالعمل في محله وظرفه لالتفاته إليه.

ولكن الوجه المذكور أجنبي عن مدلول الكلام ، لأن الشاك ملتفت إلى نفس الجزء في حال شكه ، فليس هو في حال العمل أكثر التفاتا منه في حال الشك.

كما أنه ليس الملحوظ في حال الشك هو الإتيان فعلا بالجزء ، كي يقال بأنه في حال العمل أذكر منه فيأتي به دون حال الشك لعدم التفاته ، بل متعلق الشك انما هو تحقق إيقاع العمل المشكوك في محله ، وانه هل جاء به أو لا؟ فمورد التفضيل انما هو هذا الأمر.

فيكون مفاد الرواية (١) : ان المكلف في حال العمل تكون موجبات الالتفات إلى تحقق جزء العمل منه بالنسبة إليه أكثر منها في حال الشك ، لقربه من محل الجزء حال العمل وبعده منه حال الشك ، ولوجود بعض القرائن من حس أو حال قد يغفل عنها بعد عمله ، فاستمراره في العمل وبناؤه على الإتيان بالجزء ، يكون كاشفا

__________________

(١) التحقيق في مفاد الرواية : انها ناظرة سؤالا وجوابا إلى صورة خاصة ، فلا تصلح للتقييد ، لأن المسئول عنه صورة خاصة لا مطلق الشك بعد الفراغ كي يكون التعليل مقيدا.

وتوضيح ذلك : ان المراد بالأذكرية هاهنا هو توفر موجبات الذّكر والالتفات لا التفاضل في نفس الذّكر ، فانه لا يقبل التفاضل ـ كما أشير إليه في المتن.

وعليه ، فالمراد ان الإنسان حين وضوءه تكون موجبات ذكره أزيد مما إذا كان في حالة أخرى ، وذلك لأنه يستطيع أن يرى ما غسل وما لم يغسل من أعضائه ، بخلاف حالة شكه ، فان الأعضاء تيبس فلا يستطيع التمييز ، وهذا أمر يقال في حق الوسواسي الّذي يكثر من التأمل والغسل ثم يحصل له الوسوسة بعد الشك فلا يستطيع ان يتميز ما غسله عما لم يغسله ، فيقال له :

انك حين العمل تستطيع المعرفة أكثر من حال الشك ، فالرواية واردة في مثل هذا الشخص ، والقرينة على ذلك نفس السؤال بلفظ المضارع : « رجل يشك بعد ما يتوضأ » ، فانه ظاهر في كونه أمرا استمراريا لا من باب الصدفة ، وهذا إنما يكون عند الوسواسي.

وإذا كان المسئول عنه صورة خاصة ، كان الجواب مختصا بها ، ولا نظر له إلى مطلق الشك بعد الفراغ فتدبر.

٢٢٨

عن تحقق الجزء منه ، فيلغى الشك فيه ولا يعتنى به ، لأن بناءه على الإتيان به في حال كثرة موجبات الالتفات يكون مقدما على الشك فيه في حال قلتها.

ولا يخفى ان هذا يختص بصورة تحقق الالتفات منه حال العمل والبناء على تحقق المشكوك ، ثم حدث عنده الشك بعد العمل.

أما صورة العلم بالغفلة أو التردد فيها ، فلا يشملها التعليل ، لعدم تحقق الظاهر المقدم على الشك لديه ـ وهو البناء على تحقق المشكوك في حال كثرة موجبات الالتفات ـ أو عدم إحرازه.

ومن هنا يمتنع القول بكون هذا الكلام واردا للتعليل بحيث يدور الحكم مداره وجودا وعدما وضابطا وملاكا للأمارية ، ضرورة أن صورة الشك في الغفلة وعدمها من الموارد المتيقنة لجريان قاعدة الفراغ ، مع أنها تخرج بمقتضى هذا الكلام.

مضافا إلى عدم ظهور ذلك من نفس اللفظ ـ كما لا يخفى ـ فلا محيص عن الالتزام بكونه من قبل الحكمة لا العلة ، وبهذا يثبت عدم الدليل على لحاظ جهة الطريقية والكشف في جعل قاعدة الفراغ ، بل لو ثبت ذلك لم يكن دليلا على كونها من الأمارات ، بل تكون من الأصول المحرزة التي تتفق مع الأمارة بلحاظ جهة الطريقية فيها ، وتختلف عنها بكون الشك مأخوذا في موضوعها ـ كما هو الحال في قاعدة الفراغ ـ دون الأمارة.

فالحاصل : انه لا دليل على أمارية القاعدة ولو ثبت لحاظ جهة الطريقية في اعتبارها ، فيتعين كونها من الأصول.

الجهة الثامنة عشرة : في شمول القاعدة لصورة احتمال الإخلال العمدي.

والمقصود بالكلام ليس هو احتمال الإخلال العمدي في الأثناء ، إذ العاقل لا يستمر بالعمل عادة إذا أخلّ به عمدا ، وانما الفرض هو ما إذا رأى نفسه خارجا عن العمل واحتمل ان يكون لانتهائه عن العمل ، أو لرفعه اليد عنه عمدا لغاية من الغايات. وعلى هذا ، فالتعليل الوارد في رواية الوضوء لا يشمل المورد بالتقريب

٢٢٩

الّذي أفاده الشيخ وتبعه عليه العراقي ، وهو ان مفاد التعليل ان احتمال الترك السهوي خلاف فرض الذّكر ، واحتمال الترك العمدي خلاف إرادة الإبراء ، لأنه يحتمل انه عدل عن قصد الإبراء. نعم ، المطلقات تشمل المورد.

وقد تقدم المراد من التعليل وانه بنحو لا يصلح لتقييد المطلقات. فلاحظ.

الجهة التاسعة عشرة : في نسبتها مع الاستصحاب.

ولا إشكال في تقدمها عليه ..

أما مع فرض الأمارية أو كونها من الأصول المحرزة دون الاستصحاب ، فواضح.

وأما مع فرض تساويهما في الأصلية ، فتقدمها عليه بالتخصيص ، إذ ما من مورد قاعدة الفراغ إلا والاستصحاب جار فيه موضوعا ، فيلزم من تقدم الاستصحاب عليها إلغاؤها بالمرة ، فتدبر جيدا وتأمل.

وقد تقدم ـ بحمد الله ـ الكلام في قاعدتي الفراغ والتجاوز في يوم الأحد الموافق ١ ـ ٢ ـ ١٣٨٣. والكلام بعده في :

٢٣٠

القرعة

٢٣١
٢٣٢

القرعة

وقد وردت فيها روايات مختلفة المؤدى ـ كما قيل ـ فمورد : « القرعة لكل أمر مجهول » (١) ، و : « القرعة لكل أمر مشتبه » (٢) ، و : « القرعة لكل أمر مشكل » (٣).

وقد أفاد المحقق العراقي : بان دليل القرعة ..

ان كان هو الأخير ، لم يكن هناك علاقة للقرعة بأي أصل من الأصول ، لظهور المشكل فيما لا تعين له في الواقع ، كما لو أعتق أحد عبيده ، وما لا تعين له في الواقع ـ وبعبارة أخرى الأمر المردد ـ لا يكون موردا لأصل من الأصول.

وأما لو كان دليلها الروايتين الأوليين ، فتكون موردا للتعارض مع الأصول ، ولكنه في خصوص موارد الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي دون الشبهة الحكمية مطلقا والشبهة الموضوعية البدوية ، لظهور المشتبه والمجهول في كونه وصفا لذات الشّيء المعنون من جهة تردده بين الشيئين أو الأشياء ، لا وصفا لحكمه ولا

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٨٩ باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : ١١.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٨٩ باب ١٣ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : ١١.

(٣) عوالي اللئالي ٢ ـ ١١٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٣٣

عنوانه ، فلا يشمل موارد الشبهات الحكمية لأن الاشتباه فيها في حكم الشيء لا في ذاته ، ولا الشبهات الموضوعية لأن الاشتباه في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم على الموجود الخارجي لا فيما قد انطبق عليه العنوان بعد الفراغ عن تحقق الانطباق خارجا ، بل يختص في المشتبه موضوعا المردد.

ثم أنه في هذا الحال ..

تارة : يكون المشتبه متعلقا لحكم الله ، فلا تجري القرعة لوجود المانع ، وهو العلم الإجمالي المنجز غير المنحل بالقرعة. ثم استقرب انحلاله بها ، لكونها من باب جعل البدل ، فالعمدة في المنع هو الإجماع على عدم جريانها في المورد.

وأخرى : يكون متعلقا لحق الناس ، فلا بد فيه من الاحتياط التام أو الناقص ـ ان لم يمكن التام ـ للعلم الإجمالي ، ومع عدم إمكان كلا النحوين من الاحتياط كالولد المردد كان المورد من موارد القرعة ، وان احتمل العمل بقاعدة العدل والإنصاف في بعض هذه الموارد. ثم يتعرض بعد ذلك إلى نسبتها مع الاستصحاب (١).

هذا فهرست ما أفاده قدس‌سره ، ولكنه لا يخلو من نظر في أغلب مقطوعاته ..

فما ذكره من تفسير المشكل ، وتفسير المشتبه بنحو يختص بالشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي ، ومن عدم انحلال العلم الإجمالي بها. كل ذلك موضوع المناقشة ، وليس المورد محل الكلام فيها ، لأنه لا أثر يترتب عليه.

وانما الّذي لا بد ان يقال : هو أن القرعة بمقتضى رواياتها عامة لجميع موارد الاشتباه البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي الحكمية والموضوعية.

ولكن الاستصحاب التزموا بها في موارد خاصة ولم يلتزم بها أحد في جميع الموارد.

فلا بد من رفع اليد عن ظاهر الأدلة ، لأن إبقاءها يستلزم تخصيص الأكثر

__________________

(١) البروجردي. الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٠٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٣٤

المستهجن.

وبهذا يظهر انه لا يتجه البحث عن نسبتها مع الاستصحاب ، لأنه إذا قام الدليل من إجماع أو رواية على العمل بها في خصوص مورد ، فلا يتوهم حينئذ تقدم الاستصحاب أو غيره من الأصول أو الأمارات عليها ، بل يكون الدليل مخصصا لعموم أدلة الأصول والأمارات.

ومع عدم قيامه على العمل بها في خصوص مورد لم يكن مجال لأن يعمل بها فيه كي تلاحظ نسبتها مع الأصول الجارية في ذلك المورد. فتدبر والتفت والله الموفق (١).

وقد تم البحث فيها في يوم الثلاثاء ٣ ـ ٢ ـ ١٣٨٣.

__________________

(١) الكلام في القرعة من ناحيتين :

الناحية الأولى : في تحقيق مواردها ، والضابط العام لمجراها ، وهي ناحية فقهية ليس المقام محل ذلك الناحية الثانية : في نسبتها مع الاستصحاب وسائر الأصول ، وهي محل الكلام فيما نحن فيه ..

وقد يتوهم معارضتها للأصول باعتبار ورود قوله عليه‌السلام : « كل مجهول ففيه القرعة » الظاهر في جريان القرعة هي جميع موارد الجهل. ولكن التحقيق انه توهم فاسد ، لأن أدلة الأصول أخص منها ، لأن كل أصل يشبه دليله في مورد خاص من موارد الجهل.

حتى الاحتياط ، فانه وان كان عقليا ، لكن ورد في موارده تقرير الشارع له وعدم إيجاب القرعة.

فالالتزام بالقرعة يوجب طرح جميع الأصول وهو مما لا معنى له ، فلا بد من حمل القول المزبور على تقدير صحة سند الرواية ، اما على إرادة المجهول المطلق ، من حيث الواقع والظاهر المساوق للمشكل ، فتكون موارد الأصول خارجة موضوعا ، أو على بيان أصل تشريع القرعة في المجهول وعدم تشريعها في غير موارد الجهل ، ردا على احتمال جريانها مطلقا. الّذي يمكن ان يكون جاء في ذهن السائل والسؤال مجمل من هذه الناحية ، فيكون الجواب مما لا إطلاق له ، فلاحظ. والحمد لله رب العالمين.

انتهى مبحث القرعة في هذه الدورة الثلاثاء ٢٥ ـ ١١ ـ ١٣٩٤ ه‍.

٢٣٥
٢٣٦

تعارض الاستصحاب مع الأصول

٢٣٧
٢٣٨

تعارض الاستصحاب مع الأصول

أما أصالة البراءة ..

فما كان منها مدركه العقل لا يعارض الاستصحاب لأنه بيان للحكم الظاهري ، فينتفي موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومثله ما كان مدركه النقل المساوق لحكم العقل ، كالمستفاد من الآية الشريفة : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) بناء على دلالتها على البراءة.

وإذا كان مدركه مثل قوله عليه‌السلام : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي (٢) ، فقد ذكر في الرسائل وجوها ثلاثة لعدم المعارضة :

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١٥.

(٢) وسائل الشيعة : ١٨ ـ باب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٦٠.

٢٣٩

الوجه الأول : ان مورد الاستصحاب خارج تخصصا عن عموم هذه الرواية ، لأنه يصدق على المستصحب انه شيء ورد فيه نهي ولو بلحاظ الزمان السابق.

الوجه الثاني : ان مورد الاستصحاب خارج بالورود ، وذلك لأن النهي الثابت بعدم نقض اليقين محقق للغاية ، فترتفع به الرخصة المغياة.

الوجه الثالث : ـ وهو الّذي اختاره الشيخ قدس‌سره ـ هو تقريب الحكومة.

وبيانه : ان مفاد الاستصحاب هو تعميم النهي السابق إلى الزمان اللاحق تنزيلا ، فيكون رافعا لموضوع الإباحة تعبدا ، فيتقدم على البراءة الثابتة بالرواية بالحكومة ، فانه كما لو ثبت بنفس الدليل الأولى للحرمة استمرارها وعمومها لجميع الأزمان حقيقة يتقدم ذلك الدليل على البراءة ، فكذلك ما يتكفل لإثبات الاستمرار تنزيلا وان كان الأول يتقدم بالتخصص أو الورود.

والثاني : بالحكومة والاستصحاب من قبيل الثاني فانه بمنزلة المعمم للنهي إلى الزمان اللاحق ، فيكون حاكما على البراءة ، فان الرخصة مغياة بورود النهي المحكوم عليه بالدوام ، والاستصحاب يثبت الدوام ولو بنحو التنزيل.

وقد أورد الشيخ قدس‌سره (١) على الوجه الأول : بان الفرد المشكوك حرمته لا حقا غير المعلوم حرمته سابقا ، فهما فردان متغايران ، فورود النهي عن أحدهما لا يوجب صدق وروده عن الآخر ، كالأفراد العرضية لكلي ، فكما ان النهي عن فرد لا يكون نهيا عن الآخر ، فكذلك ما نحن فيه. والتفريق في الافراد بين ما كان تغايرها بتبدل الأحوال والأزمان ـ وهي الافراد الطولية ـ وغيرها من الافراد شطط من الكلام.

وفيه ما لا يخفى : فان المفروض ان المورد في نفسه من موارد الاستصحاب ،

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٣ ـ الطبعة القديمة.

٢٤٠