منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

بتقريب : أن موضوع الأثر ليس هو القصد ، بل ما يلازم القصد عقلا من تعنون العمل بعنوان المأمور به أو جهة نشوء الأفعال عن قصد العنوان المأمور به ـ كما قد يظهر من كلامه ـ أعني : الترديد في موضوع الأثر فإثبات تحقق القصد بالقاعدة لا يقتضي ثبوت الجهة المرغوبة.

ووجه النّظر فيه : أن الشك في تحقق القصد ملازم للشك في تعنون العمل بعنوان المأمور به أو نشوء الأفعال عن قصد العنوان ، فلا ملزم حينئذ لإجراء قاعدة التجاوز في نفس القصد كي يتأتى ما ذكره ، بل يمكن حينئذ إجراء القاعدة في نفس موضوع الأثر ـ وهو أحد الأمرين ـ لتحقق الشك فيه بالشك في تحقق القصد ، فلا يرد ما أفاده كما لا يخفى.

الثاني : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض نفسه لعدم إحراز عنوان العمل مع اعتباره في جريانها قياسا على أصالة الصحة في عمل الغير ، لأنهما من سنخ واحد والاختلاف في مورد جريانهما.

ووجه النّظر فيه : ان هذا ـ على تقدير تسليمه ـ انما يتأتى في صورة الشك في تحقق أصل قصد العنوان كالشك في تحقق قصد الصلاتية ، لعدم إحراز العنوان. أما مع العلم بقصد الصلاتية والشك في خصوصية القصد من الظهرية والعصرية ونحوهما ، فلا مجال لما ذكره من منع جريان قاعدة الفراغ ، لإحراز عنوان العمل من كونه صلاة والشك في صحته وفساده.

مع ان ما ذكره من لا بدية إحراز عنوان العمل في جريان قاعدة الفراغ ، كاعتباره في قاعدة الصحة غير مسلم لأن اعتباره في أصالة الصحة لم يكن لقيام دليل عليه ، بل لعدم الدليل على عدم اعتباره ، حيث ان دليل أصالة الصحة ـ كما عرفت ـ دليل لبي لا لفظي ، وهو السيرة العقلائية ، ومعه يقتصر على القدر المتيقن بمجرد الشك ، فمع الشك في اعتبار إحراز عنوان العمل وعدمه ، يبنى على الاعتبار من باب عدم الدليل على عدمه والأخذ بالقدر المتيقن من دليل الأصل ، وهو غير

٢٠١

صورة عدم الإحراز.

وما نحن فيه ليس كذلك ، لأن دليل قاعدة الفراغ ليس دليلا لبيا بل هو دليل لفظي ، يمكن التمسك بعمومه مع الشك ولم يقم دليل آخر على اعتبار إحراز العنوان ، فلا وجه لتخصيص القاعدة بصورة إحرازه ، بل الوجه تعميمها لصورة عدم الإحراز تمسكا بالعموم.

وعليه ، فيصح جريانها فيما نحن فيه للشك في أن هذا العمل المأتي به مطابق للمأمور به أو غير مطابق ، فتجري فيه قاعدة الفراغ وتثبت صحته ولو لم يحرز العنوان ، فتدبر.

وبالجملة : لا دليل صناعيا على ما أفاده ، فلا وجه لرفع اليد عن العموم لأن الشك في الصحة يجامع الشك في العنوان فيشمله الدليل. إلا ان يدعى انصراف لفظ الشيء في قوله : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (١) ، إلى كونه مشيرا إلى الأفعال بعناوينها المأخوذة في ترتب الأثر لا إلى ذات العمل ، وهي غير سهلة الإثبات.

الثالث : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في تحقق قصد القربة ، بتقريب : انه لا شك في صحة المأتي به بمعنى مطابقته للاجزاء والشرائط المأمور بها شرعا ، للعلم بالمطابقة مع اليقين بعدم تحقق قصد القربة فضلا عن صورة الشك فيه.

ووجه النّظر فيه : انه بعد عدم معقولية أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بالعمل أو في متعلق أمر آخر ، وحكم العقل بوجوب الإتيان بالعمل مقارنا لقصد القربة ، لتوقف تحقق الغرض عليه وتحصيله واجب في مقام الامتثال ، لا يمتنع على الشارع الاكتفاء في مقام الامتثال بالإتيان بما يحتمل معه تحقق الغرض ، إذ لا مانع من ذلك عقلا ، إذ أي محذور في ان يقول الآمر بأني اكتفي في مقام الامتثال باحتمال تحقق الغرض دون الجزم به.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ ـ ٣٣٦ باب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث : ٣.

٢٠٢

وإذا ثبت ذلك في نفسه ، فيمكن أن يثبت فيما نحن فيه ، بان يكتفي الشارع بالإتيان بما يحتمل تحقق الغرض به في الامتثال ، فيكتفي بما يحتمل مقارنته لقصد القربة.

ويكون الدليل المتكفل لذلك هو عموم دليل قاعدة الفراغ ، فانه يدل على عدم الاعتناء بالشك والاكتفاء بالمأتي في مقام الامتثال ، ومنه ما نحن فيه ، فيكون من الاكتفاء بما يحتمل تحقق الغرض به ، وقد عرفت انه لا مانع منه ، وانه من صلاحيات الشارع. فالتفت.

الرابع : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الأثناء مع الشك في الشرط الشرعي للعمل ، إلا إذا كان ما مضى من الاجزاء بنحو يعد عملا من الأعمال.

فانه غير وجيه ، لأنه إن كان لأجل استفادته من بعض النصوص كقوله عليه‌السلام : « كل ما مضى من صلاتك وطهورك ... » ـ فانه يستفاد منه كون مجرى القاعدة أمرا ذا عنوان مستقل كعنوان الصلاة والطهور ـ فذلك يدفعه إطلاق قوله عليه‌السلام : « كل ما شككت فيه مما مضى فشكك ليس بشيء » ، فانه بإطلاقه يشمل الكل والجزء وذا العنوان وغيره.

مضافا إلى ان ما ذكره هاهنا ينافي ما ذكره في آخر كلامه من كون الجزء المشكوك في شرطه موردا لقاعدة الفراغ في نفسه ، إلا انها لا تجري لانتفاء الأثر.

وأما ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز عن ما لا محل له من الشروط الشرعية كالستر والاستقبال وقصد القربة ـ على أحد القولين ـ فيعرف صحته بإطلاقه وعدم صحته مما نقحناه سابقا. فراجع.

الجهة الحادية عشرة : في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث.

والتحقيق : انه لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشك في فعل من افعال الوضوء بعد الدخول في غيره وقبل الفراغ من الوضوء فقد انعقد الإجماع على ذلك ، وادعى الشيخ ورود الاخبار الكثيرة في ذلك (١).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١٢ ـ الطبعة القديمة.

٢٠٣

وقد ألحق الأصحاب الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز ، فأدلة قاعدة التجاوز مخصصة بالأخبار والإجماع.

هذا كله مما لا كلام فيه ، وانما الكلام في موثقة ابن أبي يعفور : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء. انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » (١) ، حيث ان ظاهرها إلغاء الشك في أحد الاجزاء الوضوء مع الدخول في الجزء الآخر ، وهو يقتضي جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء.

وذلك ينافي معقد الإجماع ودلالة الاخبار على خروج أفعال الوضوء عن عموم القاعدة.

وقد تخلص الشيخ من هذه المنافاة بإرجاع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء ، فيكون مفاد الصدر إلغاء الشك في جزء الوضوء مع الدخول في غير الوضوء لا غير الجزء من الاجزاء الأخرى. وهذا لا يتنافى مع معقد الإجماع والأخبار ، لأن مفادهما عدم إلغاء الشك ما دام في الأثناء.

ثم أنه قدس‌سره أفاد : ان الظاهر من الموثقة كون هذا الحكم ـ وهو عدم إلغاء الشك في أثناء الوضوء ـ ليس حكما تعبديا صرفا خارجا عن مقتضى القاعدة وثبت بالتخصيص ، وانما هو حكم على طبق القاعدة ، بمعنى انه حكم جزئي لقاعدة كلية تنطبق موردا على الوضوء ، كما هو مقتضى ذيلها ، فان ظاهره انه حكم كلي طبق على المورد ، فالمستفاد من الرواية قاعدة كلية مقتضاها عدم إلغاء الشك في جزء العمل ، ما دام في أثناء العمل واختصاص الإلغاء بما إذا دخل في غير العمل (٢).

ومن هنا يتوجه عليه إشكالان :

أحدهما : ان هذا يستلزم إلغاء الشك في جزء من اجزاء الوضوء باعتبار

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٣٠ ، باب : ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث : ٢.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١٢ ـ الطبعة القديمة.

٢٠٤

الشك في جزئه بعد الدخول في غيره ، كالشك في غسل بعض اليد بعد الفراغ منها والدخول في غيرها من إعمال الوضوء ، لأنه يصدق عليه انه شك في جزء العمل بعد الفراغ عن العمل والدخول في غيره ، مع ان إلغاء هذا الشك خلاف الإجماع لانعقاده على الاعتناء بمطلق الشك في الأثناء.

والآخر : هو حصول التعارض بين هذا الخبر وبين الأخبار الدالة على إلغاء الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، فيما إذا شك في جزء من أجزاء الوضوء بعد الدخول في غيره من الاجزاء وقبل الفراغ من الوضوء ، إذ باعتبار انه شك بعد تجاوز المحل يكون مشمولا لاخبار قاعدة التجاوز. وباعتبار انه شك في جزء العمل قبل الفراغ عن العمل يكون موردا لهذا الخبر.

وقد يستشكل : بان التعارض المذكور حاصل دائما بين منطوق دليل قاعدة التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء بعد تجاوزه وقبل الفراغ عن العمل ، إذ مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشك ومفهوم قاعدة الفراغ الاعتناء به لأنه في الأثناء.

ولكنه فاسد جدا ، لما عرفت ان هذا التعارض البدوي ينحل بحكومة دليل قاعدة التجاوز على دليل قاعدة الفراغ ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في الجزء ، فيرتفع بجريان قاعدة التجاوز فيه.

وهذا غير ما نحن فيه ، لأن المورد واحد لكلتا القاعدتين ، وموضوع إحداهما عين موضوع الأخرى ، إذ لا شك الا شك واحد تنطبق عليه كلتا القاعدتين.

وقد تفصى الشيخ رحمه‌الله عن هذين الإشكالين : بان الوضوء بأجزائه كلها فعل واحد بنظر الشارع ، بمعنى : ان هذا الأمر المركب في الحقيقة اعتبره الشارع أمرا واحدا ، فلم يلحظ كل جزء منه فعلا مستقلا بل لوحظ المجموع فعلا واحدا. والمصحح لهذا الاعتبار هو وحدة المسبب وهو الطهارة ، فانها أمر بسيط غير مركب يترتب على الوضوء ، وهذا أمر ليس بالغريب المستبعد لارتكاب المشهور مثله

٢٠٥

بالنسبة إلى افعال الصلاة ، فانهم لم يجروا قاعدة التجاوز في كل جزء من اجزاء الفاتحة أو الآية أو الكلمة ، بل الظاهر كون الفاتحة ـ بل القراءة ـ بنظرهم فعلا واحدا ، بل القرينة على هذا الاعتبار والشاهد له هو إلحاق المشهور الغسل والتيمم بالوضوء في هذا الحكم ، إذ لا وجه له بحسب الظاهر إلا ملاحظة كون الوضوء أمرا واحدا باعتبار وحدة مسببه ، فيطرد في الغسل والتيمم. وإذا ثبت هذا الأمر وتقرر ، فلا وجه حينئذ لكلا الإشكالين ، لأن اجزاء الوضوء لم تلحظ بنظر الشارع أفعالا مستقلة كي يتحقق التجاوز عنها والدخول في غيرها ـ فتكون موردا للتعارض ـ أو يتحقق الشك في اجزائها بعد الفراغ عنها ـ فيشملها الذيل فيلزم مخالفة الإجماع ـ ، بل لوحظ مجموعها فعلا واحدا ، فالتجاوز عنها لا يتحقق إلاّ بعد الفراغ من الوضوء ، فالاعتناء بالشك في الأثناء انما كان لعدم صدق التجاوز بنظر الشارع.

ومن الغريب ما جاء في تقريرات السيد الخوئي ( دام ظله ) من حمل كلام الشيخ في نفي جريان قاعدة التجاوز في الوضوء على : ان المطلوب في باب الوضوء هو الطهارة ، وهي أمر بسيط لا اجزاء له ، وأما الوضوء فهو مقدمة للمأمور به وليس متعلقا للأمر الشرعي ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز. ثم أورد عليه بإيرادين (١). ووجه الغرابة : ان كلام الشيخ في المقام لا غموض فيه ، بل هو صريح فيما بيناه ولا إشارة فيه إلى ما جاء في التقريرات. فلاحظه تعرف.

وقد أورد المحقق العراقي قدس‌سره على الشيخ في تقريبه المزبور بوجهين :

الأول : ان وحدة الوضوء الاعتبارية ( لا تجتمع مع ) تنافي التصريح في صدر الرواية بالشك في شيء من الوضوء الّذي يفيد كون الوضوء عملا ذا أجزاء.

الثاني : انه لو كان الملاك والعلة في هذا الاعتبار وحدة الأثر المترتب على العمل ، لاطرد ذلك في سائر العبادات من الصلاة وغيره ، فان الصلاة مما يترتب

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ـ ٣ ـ ٣١٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٦

عليها أثر واحد بسيط وهو النهي عن الفحشاء ونحوه ، مع انه لا إشكال في عدم اطراده لعدم الاعتناء بالشك في جزء الصلاة بعد التجاوز عنه وقبل الفراغ من الصلاة ، بلا ريب ولا إشكال. وذلك دليل عدم اعتبار الوحدة ، وإلاّ لما جرت قاعدة التجاوز في الأثناء (١).

وكلا الوجهين مخدوش فيهما :

أما الأول : فلأن الواحد بالاعتبار لا بد وان يكون مركبا في نفسه وواقعه ، وإلا لما احتيج إلى اعتبار وحدته.

وعليه ، فهو ذو مرتبتين : مرتبة الاعتبار ، وهو فيها أمر واحد بسيط. والمرتبة السابقة على الاعتبار ، وهو فيها أمر مركب ذو أجزاء. ولا إشكال في صحة إطلاق المركب عليه باعتبار المرتبة السابقة على الاعتبار ، بل لا إشكال في صحته مع التصريح باعتبار الوحدة ، بان يقول المعتبر : « هذا الأمر ذو الاجزاء قد اعتبرته واحدا » ، فمع قيام الدليل وثبوت اعتبار الوحدة يحمل التعبير الدال على التركيب على لحاظ المرحلة السابقة على الاعتبار ، ومنه ما نحن فيه ، فالتعبير في الصدر بالشك في شيء من الوضوء لا ينافي اعتبار الوحدة لو ثبت وتم الدليل عليه.

وأما الثاني : فلأن الأثر الّذي يترتب على العمل تارة : يكون تكوينيا. وأخرى : يكون جعليا. والأثر الشرعي تارة : تكون نسبته إلى ذي الأثر نسبة الحكم إلى الموضوع. وأخرى : تكون نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب ـ والفرق بين السبب والموضوع ليس محل بيانه هنا بل يذكر في مبحث النهي عن المعاملة ـ والأثر المترتب على الوضوء وأخويه أثر شرعي نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب. فملاكية وحدة المسبب لاعتبار وحدة الوضوء انما تقتضي اطراد ذلك في كل أمر يترتب عليه أثر نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب دون كل أمر

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٤٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٠٧

يترتب عليه أثر ما.

وهذا انما يكون في العقود ، لأنها سبب في ترتب آثار عليها. أما الصلاة ونحوها من العبادات فآثارها تكوينية لا جعلية ، فلا تصلح مادة للنقض على الاطراد ، لعدم اعتبار الوحدة فيها ، بل النقض انما يتوجه بباب العقود.

ولكن لم يثبت الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في اجزائها قبل تمامها كي يكون ذلك دليلا على عدم اعتبار الوحدة مع وحدة المسبب. كما ان عدم الالتزام بها في هذا الباب لا يستلزم أي محذور.

ثم أنه قدس‌سره ذكر تقريبا للتخلص عن منافاة الموثقة للأدلة الخاصة ، ومحصله : انه يلتزم برجوع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء بقرينة الإجماع والنص وقرب المرجع ، وذلك يرجع إلى الالتزام بتقييد التجاوز عن المشكوك فيه في خصوص اجزاء الوضوء بالتجاوز الخاصّ المساوق للتجاوز عن الوضوء مع إبقاء التجاوز في الذيل على إطلاقه وظهوره في مطلق التجاوز عن الشيء ، ومرجع الالتزام بتقييد التجاوز في باب الوضوء إلى التوسعة في محل الجزء وانه لا يتحقق التجاوز عن محله الا بعد الفراغ من الوضوء.

وبالجملة : الموثقة صدرا وذيلا ظاهرة في اعتبار القاعدة ، إلا أن موضوعها ـ وهو التجاوز ـ مقيد بنحو خاص في خصوص مورد الرواية وهو الوضوء. ولا محذور في تقييد المورد ، بل هو واقع ، مثل تقييد مورد مفهوم آية النبأ المفروض كونه في الموضوعات الخارجية بصورة انضمام خبر عدل آخر ، مع إبقاء الكبرى على شمولها لقبول خبر العادل بلا ضميمة خبر عدل آخر إليه في غير المورد.

وبهذا البيان يندفع ما ذكر من الإشكال على الموثقة.

وقد ذكر الإشكالات وبيان اندفاعها بهذا التقريب. ولا حاجة لنا ببيانه.

وما ذكره قدس‌سره من توجيه الرواية وان كان أمرا دقيقا وجيها في نفسه ، إلاّ ان إرادته من مثل هذا التعبير لا يساعد عليه الذوق العرفي لأساليب

٢٠٨

الكلام ، وذلك لأن لفظ الوضوء وان كان اقرب إلى الضمير من لفظ : « شيء » ، لكن المسوق له الكلام هو : « شيء » ، والوضوء ملحوظ من متعلقات ما هو المسوق له الكلام ، وذلك يقتضي كون مرجع الضمير هو : « شيء » ، لا الوضوء. مضافا إلى ان تقييد مورد العام ، أو المطلق بقيد وإثبات حكم العام له بلسان ثبوت الحكم لسائر افراد العام ـ كما لو قال : « أكرم زيدا العالم إذا كان عادلا » لوجوب إكرام العالم ـ مستهجن عرفا وان رجع إلى أخذ الموضوع في المورد بنحو خاص ، كما لا يخفى على من له مرانة في كلام العرب.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى آية النبأ ففيه : ان مورد الآية لم يطرأ عليه تقييد ، إذ ليس المورد هو الموضوع الخارجي ، بل موردها خبر الفاسق في الموضوع الخارجي. والمفروض ان الآية نفت حجيته بلا تقييد.

والمتحصل : ان ما أفاده الشيخ قدس‌سره في مدلول الرواية وتوجيهه بنحو لا يرد عليه الإشكالات وان كان في نفسه متينا ولكنه احتمال لا دليل عليه. كما ان ما ذكره المحقق العراقي وجيه لو لا بعده عن الذوق العرفي.

فالأولى في حل إشكال معارضة الإجماع والنص أن يقال : (١) ان الضمير في

__________________

(١) ان ضمير « غيره » يرجع إلى الجزء المشكوك فيه ، ولكن المراد بالشك فيه ليس الشك في وجوده ـ كما هو ظاهره الأولى مثل الشك في صحته ـ ، فتكون الرواية ناظرة إلى إهمال الشك في صحة الجزء بعد الدخول في غيره ، فلا تنافي بما دل على الاعتناء بالشك في وجود الجزء إذا كان في أثناء الوضوء ، كرواية زرارة المتقدمة ، والقرينة على حمل الشك في الشيء في رواية ابن أبي يعفور على الشك في الصحة هي الذيل الوارد مورد التطبيق ، وذلك لأن تجاوز الشيء لا يصدق إذا لم يكن نفس الشيء موجودا. فقوله و « انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » ظاهر في المفروغية عن تحقق الشيء ، فيكون قرينة على كون المراد بالشك فيه هو الشك في صحته لا في وجوده ، وقد تقدم صحة إرادة الشك في الصحة من الشك في الشيء ، وان كان خلاف الظهور الأول لكن يحمل الكلام عليه مع القرينة.

٢٠٩

« غيره » وان كان بالظهور البدوي راجعا إلى الشيء المشكوك فيه ، إلاّ ان إرجاعه إلى الوضوء بقرينة الإجماع والنص على عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، وقرب المرجع لا يكون فيه مخالفة صريحة للظاهر ، فإذا أرجع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء ، كان الصدر ظاهرا في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، وان عدم الاعتناء بالشك انما يكون بعد الفراغ من الوضوء ، وحينئذ يرتفع التنافي بين الصدر وبين الإجماع والنص كما لا يخفى.

يبقى تطبيق الحصر في الذيل على الصدر ، والأفضل ان يقال فيه : ما أشرنا إليه سابقا في روايات الباب ، وهو : ان الذيل ليس ظاهرا في ضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة التجاوز ـ كما أفاده العراقي ـ بل يمكن ان يكون لضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة الفراغ ، وذلك بقرينة اسناد التجاوز إلى نفس الشيء الظاهر في كون أصل الشيء مفروغا عن وجوده والشك في صحته ، وان كان الشك في الشيء ظاهرا بدوا

__________________

ويمكن ان يحل الإشكال في الرواية بوجه آخر وهو أن يقال : بان المراد من ضمير : « غيره » هو الوضوء والملحوظ في الرواية نفي الشك في الصحة لا في الوجود ، بأن يكون المراد بالشك في الشيء ليس مدلوله المطابقي بل المدلول الالتزامي بنحو الكناية وهو الشك في الصحة ، لأن الشك في وجود بعض الأجزاء يلازم الشك في صحة الوضوء ، فتكون رواية ناظرة بصدرها وذيلها إلى بيان جريان قاعدة الفراغ في الوضوء إذا كان الشك بعد الانتهاء عنه ، وعدم جريانها إذا كان الشك في الأثناء.

وبهذا البيان نتخلص عن إشكال تقييد المورد الّذي تقع فيه إذا كان المنظور في الصدر جريان قاعدة التجاوز. ولكن هذا الوجه انما نلتزم به ونرفع اليد عن الوجه الأول الّذي هو أقرب للظاهر إذا فرض ان رواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء تشمل مطلق الشك الأعم من الشك في صحة الجزء أو وجوده ، فتكون قرينة على التصرف في هذه الرواية وحمل صدرها على إرادة الدخول في غير الوضوء واما لو فرض استظهار كون موردها خصوص الشك في وجود الجزء ـ كما هو القريب ـ فلا وجه لرفع اليد عن التوجيه الأول وحمل الرواية على بيان جريان قاعدة الفراغ في أثناء الوضوء مع الشك في صحة الجزء ، فتدبر.

٢١٠

في الشك في أصل وجود الشيء ، إلاّ انه يحمل على الشك في الصحة بقرينة اسناد التجاوز ، وكونه تطبيقا على الصدر الّذي عرفت انه من موارد قاعدة الفراغ.

وحمل الذيل على ما أفاده الشيخ خلاف الظاهر ، لأنه يستلزم ان يكون متعلق الشك غير متعلق التجاوز ، وهو خلاف ظاهر الكلام ، كما انه يلزم منه التأويل المذكور للتخلص عما يرد عليه من الإشكال وهو مئونة زائدة غير ظاهرة من الكلام.

فالحاصل : ان الرواية أجنبية بالمرة عن جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، بل هي متكفلة صدرا وذيلا لبيان جريان قاعدة الفراغ فيه ، فلا منافاة بينها وبين الإجماع والنص فالتفت.

ثم انه لا وجه لإلحاق الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز بعد اختصاص الإجماع والنص بالوضوء ، لشمول مطلقات القاعدة لهما بلا مخصص ومقيد. فتدبر (١).

__________________

(١) قد عرفت عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء. فهل تجري قاعدة الفراغ فيها مع الشك في صحتها أو لا؟. فمثلا إذا دخل في غسل اليد اليسرى وشك في صحة غسل اليمنى أو الوجه لفقد بعض شرائطه ، فهل تجري قاعدة الفراغ لإثبات صحة الغسل أو لا؟.

ولا يخفى ان البحث في ذلك بعد الفراغ عن جريان القاعدة في الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه بقول مطلق وفي سائر المركبات.

والتحقيق : ان مقتضى العموم كقوله عليه‌السلام : « كل شيء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » هو جريان القاعدة في الوضوء. وانما الشبهة من جهة رواية زرارة الآنفة الذّكر الدالة على الاعتناء بالشك في الأثناء. لكن عرفت انها ظاهرة في كون موضوعها خصوص الشك في وجود الجزء فلا تشمل الشك في صحة الجزء المشكوك.

هذا وقد استثنى السيد الخوئي ـ كما في مصباح الأصول ـ من ذلك ما إذا كان الشك فيما سماه الله سبحانه في كتابه كما لو شك في الغسل بالماء المطلق أو المضاف ، فانه لا تجري قاعدة الفراغ في الجزء المشكوك لكون الشك فيما سماه الله كما يظهر من قوله : « فاغسلوا وجوهكم ... » بضميمة

٢١١

الجهة الثانية عشرة : هل يختص جريان قاعدة الفراغ بصورة الشك في الغفلة والذّكر حال العمل أو يعم صورة ما إذا علم بالغفلة ولكنه احتمل الإتيان بالمشكوك من باب الاتفاق؟.

التزم المحقق النائيني (١) ، بالتعميم لعموم الأدلة. وخالفه السيد الخوئي (٢) ،

__________________

« فان لم تجدوا ماء » ، وإذا كان الشك فيما سماه الله سبحانه كان مشمولا لرواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك فيه.

وما ذكره حفظه الله تعالى لا يخلو عن كلام وذلك : لأن المستفاد من رواية زرارة إن كان الاعتناء بالشك في خصوص وجود الاجزاء غسلا أو مسحا بحيث كان قوله عليه‌السلام فيها :

« مما سماه الله ... » قيدا توضيحيا ، لأن جميع الغسلات والمسحات مما ذكرت في الكتاب الكريم ، فلا نظر للرواية حينئذ إلى الشك في مثل الغسل بالماء أو من الأعلى أو غير ذلك مما يرتبط بصحة الجزء.

وإن كان المستفاد منها هو الاعتناء بالشك في كل ما يرتبط بالوضوء من اجزاء وشرائط بقول مطلق ، فيكون قوله عليه‌السلام « مما سماه الله » قيدا احترازيا.

ومن الواضح ان مقتضاها حينئذ تخصيص قاعدة الفراغ أيضا فلا تشمل مورد الشك في أثناء الوضوء ، لكن لا يخفى ان التقييد بما سماه الله كما يستلزم طرح قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء في خصوص ما إذا رجع الشك فيه إلى الشك فيما سماه الله كذلك يستلزم تقييد إلغاء قاعدة التجاوز في خصوص ذلك المورد ، فالالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء وشرائطه بقول مطلق ، وتخصيص عدم جريان قاعدة الفراغ بخصوص ما إذا رجع الشك إلى الشك فيما سماه الله ليس بصحيح. فما أفاده لا يخلو عن إشكال ، وبعبارة أوضح نقول : ان القدر المتيقن من الرواية هو نظرها إلى إلغاء قاعدة التجاوز في الوضوء بلا إشكال لدى الكل ، وعليه فيكون التقييد المزبور راجعا إلى تقييد إلغاء قاعدة التجاوز لا خصوص قاعدة الفراغ. فانتبه.

ثم أنك قد عرفت ان الرواية تختص بالشك في خصوص وجود الغسلات والمسحات ولا نظر لها إلى غير ذلك. وعليه فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء بقول مطلق. فتدبر.

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٨١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٠٦ ـ الطبعة الأولى.

٢١٢

فالتزام بالتخصيص ، بمقتضى التعليل المذكور في الرواية ، ولكون مرجع القاعدة إلى أصالة عدم الغفلة ، وهي انما تجري مع الشك في الغفلة ، اما مع العلم بها فلا وجه لجريانها.

والتحقيق ان يقال : ان القاعدة إن كانت من الأصول التعبدية ، فمقتضى عموم دليلها هو تعميم جريانها للصورتين لتحقق موضوعها وهو الشك في الصحة.

وان (١) كانت من الأمارات ، فالأمر يختلف باختلاف ملاك الأمارية ، فقد ذكر لها ملاكات ثلاثة :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني ، وهو الملازمة النوعية بين الإرادة المتعلقة بالمركب والإتيان بالجزء ، فان إرادة المركب هي المحركة لكل واحد من الاجزاء في محله وان كان الجزء حال الإتيان به مغفولا عنه إلاّ ان الإتيان به ناش عن الإرادة الإجمالية الارتكازية ولا يحتاج إلى تعلق الإرادة التفصيلية به (٢).

الثاني : ان العاقل إذا أراد الإتيان بعمل ما فمقتضى القاعدة عدم غفلته عن الإتيان بخصوصياته واجزائه ، فهذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى أصالة عدم الغفلة.

الثالث : ان العاقل إذا اعتاد على عمل ما ، وأراد الإتيان به فهو بمقتضى طبعه وعادته لا يترك اجزاء العمل وخصوصياته.

__________________

(١) تحقيق الحال في ذلك بإجمال : ان ما ذكر لكون قاعدة الفراغ أمارة وجوه استحسانية لا دليل عليها ، مع ان الأول يرتبط بقاعدة التجاوز ولا يشمل قاعدة الفراغ ، لأن من مواردها المتيقنة مورد احتمال الغفلة من حين العمل ، ولا يتأتى فيه الملاك المزبور.

واما استفادة الأمارية من التعليل المذكور في رواية الوضوء ، وهو قوله عليه‌السلام : « هو حين يتوضأ اذكر من حين يشك » فسيأتي الكلام فيه وبيان اختصاصه بصورة خاصة ، فلا يصلح لتقييد المطلقات.

اذن ، فالعمل على طبق مطلقات الباب الشاملة لصورة العلم بالغفلة متعين.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٦٣ ـ الطبعة الأولى.

٢١٣

فعلى الملاك الأول ، يختص جريان القاعدة بصورة العلم بتحقق الالتفات أول العمل المركب وان احتمل تبدله إلى الغفلة في الأثناء ، إذ مع عدم العلم بالالتفات لا يحرز تحقق ملاك جريان القاعدة ، وهو الملازمة بين إرادة المركب والإتيان بالجزء ، إذ لا يعلم بتحقق الإرادة للمركب.

وعلى الملاك الثاني : تشمل القاعدة صورة الشك في الغفلة والذّكر من أول العمل لأصالة عدم الغفلة من العاقل عن خصوصيات العمل الّذي يشرع فيه.

ولكنها لا تشمل صورة العلم بالغفلة وان احتمل تبدلها إلى الذّكر في الأثناء لمزاحمة استصحاب الغفلة لهذا الأصل العقلائي في أماريته وكشفه.

وعلى الملاك الثالث : فالقاعدة تشمل جميع الصور حتى صورة العلم بالغفلة واستمرارها إلى ما بعد محل المشكوك فيه ، لثبوت الملاك في هذه الصورة ـ وهو اقتضاء الطبع والعادة للإتيان بالجزء وان كان مغفولا عنه بالمرة ـ نعم ، يستثنى منها صورة ما إذا كانت الغفلة عن الجزء أو الشرط ناشئة عن الجهل بحكمه فان العادة لا تقضي بالإتيان به لعدم تحققها بالنسبة إليه ، كما لو لم يكن يعلم بوجوب السورة ولم يكن يخطر على باله وجوبها وشك بعد الإتيان بالعمل في أنه جاء به مع السورة أو بدونها.

فالمتحصل ان الصور أربع :

الأولى : العلم بتحقق الالتفات حال العمل والشك في تبدله في الأثناء إلى الغفلة.

الثانية : الشك في تحقق الغفلة أو الذّكر حال العمل.

الثالثة : العلم بالغفلة حال العمل والشك في تبدله إلى الالتفات في الأثناء.

الرابعة : العلم بالغفلة واستمرارها.

فالقاعدة بالملاك الأول تجري في خصوص الصورة الأولى.

وبالملاك الثاني تجري في الصورتين الأولتين.

٢١٤

وبالملاك الثالث تجري في جميع الصور إلا ما عرفت استثناءه من الصورة الأخيرة.

وقد يستدل على جريان قاعدة الفراغ في صورة العلم بالغفلة عن المشكوك فيه برواية الحسين بن أبي العلاء : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال : حوّله من مكانه. وقال : في الوضوء تديره فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة » (١) ، فانها تدل على عدم الاعتناء بالشك في وصول الماء إلى البشرة بعد الفراغ مع العلم بالغفلة عن ذلك وعدم الالتفات إليه لنسيان تحريك أو تحويل الخاتم.

وقد نوقش الاستدلال بها : بان الظاهر من الخبر ان التحويل والإدارة مطلوبان في أنفسهما لا باعتبار وصول الماء إلى البشرة المخفية بالخاتم ، إذ لا وجه لذكر التحويل في الغسل والإدارة في الوضوء لو كانا مطلوبين لا لإيصال الماء لكفاية العكس في ذلك ، بل كل منهما كاف في ذلك في الوضوء والغسل. فهذا التفريق بينهما شاهد في مطلوبيتهما في أنفسهما ، غاية الأمر علم من الخارج عدم وجوبهما ، بل نفس الخبر يدل على ذلك لقوله : « فان نسيت فلا آمرك ان تعيد الصلاة » ، فانه يدل على انهما ليسا شرطين لصحة الغسل والوضوء ، بل هما امران راجحان فيهما. وعلى كل فالخبر أجنبي عن المدعى.

ولكن هذه المناقشة لا تخلو من إشكال ، فانه مما لا يخفى على من له أدنى ذوق ان سؤال السائل عن الخاتم في الغسل ليس إلاّ لما يترتب عليه من منع لوصول الماء أو شك في ذلك ، أما السؤال عن الخاتم لاحتمال خصوصية فيه فهذا بعيد عن ظاهر السؤال. فتوجيه الجواب بما ذكر بعيد عن ظاهر السؤال.

فالتحقيق في الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية ، أن يقال : ان طريق العلم

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٢٩ ، باب ٤١ من أبواب الوضوء ، الحديث : ٢.

٢١٥

بوصول الماء إلى البشرة تحت الخاتم وعدمه موجود غالبا ، وذلك بملاحظة الخاتم من ناحية الضيق والسعة ، ولو وصل إليه الماء فهو بغير الشرط الشرعي من الترتيب ، فلا بد من حمل الرواية على صورة العلم بعدم وصول الماء ـ لا الشك فيه لعدم تحققه غالبا ـ فيكون غرض الإمام عليه‌السلام هو الأمر بإيصال الماء ولزوم غسل ما تحت الخاتم ، والإدارة والنزع طريقان إليه والاختلاف بينهما تفنن في التعبير لا لخصوصية فيهما والإشارة إلى كفايتهما معا. ثم ما ذكره من عدم الأمر بالإعادة عند النسيان يحمل على العفو عن عدم وصول الماء إلى بعض البشرة في صحة الصلاة بعد فراغها ويكون مقيدا لحديث : « لا تعاد » ان التزمنا بشموله لصورة الإخلال بغسل بعض البشرة ، ولم نقل بظهوره في الاختصاص بصورة ترك أصل الطهارة ولا يشمل صورة الإخلال بها.

الجهة الثالثة عشرة : في جريان القاعدة مع الشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

وتوضيح الحال : ان الشك في الصحة تارة : يكون ناشئا عن الشك في أمر اختياري للمكلف ، كالإتيان بالجزء أو الشرط. وأخرى : يكون ناشئا عن الشك في أمر غير اختياري له ، كما لو صلى إلى جهة معينة ، ثم يشك في ان هذه الجهة هي القبلة أو لا؟ فان كون هذه الجهة هي القبلة ليس بأمر اختياري للمكلف. ويعبر عن هذه الصورة بالشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

فالقسم الأول ، هو القدر المتيقن من موارد قاعدة الفراغ.

وأما القسم الثاني ، فهو محل الكلام.

وقد اختار المحقق النائيني عدم جريان القاعدة فيه ، لأن الأدلة انما تشمل صورة الشك في انطباق المأتي به على المأمور به. أما صورة الشك في انطباق المأمور

٢١٦

به على المأتي به ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا تشمله الأدلة (١).

ولم يذكر وجه عدم شمول الأدلة له.

ولا يخلو الحال في الوجه فيه عن أحد أمور ثلاثة :

اما إجمال الأدلة فيقتصر فيها على القدر المتيقن ، وهو غير هذه الصورة.

واما انصرافها إلى غير هذه الصورة.

واما دعوى : ان سياق الكلام يدل على ان مورد القاعدة ما إذا كان الشك راجعا إلى العمل بحيث يكون محله العمل لا ان يكون المشكوك فيه أمرا خارجا عنه وان ارتبط به.

والأول : لا يعترف به قدس‌سره ، إذ لا يقول بإجمال الأدلة.

والثاني : ممنوع في نفسه ، مضافا إلى أنه لا يقول بالانصراف الا في موارد خاصة ـ وهي موارد التشكيك في الصدق ـ ليس ما نحن فيه منها.

والثالث : لا يخلو عن المغالطة ، لأن الشك وان تعلق أولا ، وبالذات بالأمر الخارج عن العمل ، لكنه يسبب الشك في صحة العمل باعتبار تحقق الشرط بالموجود ، فيكون موردا للقاعدة.

وبهذا البيان يندفع ما يظهر منه قدس‌سره من : ان الشك هاهنا راجع إلى وجود الأمر ، ومجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الامتثال ، ووجه اندفاعه : ان أصل وجود الأمر لا شك فيه ، إذ لا شك في شرطية الاستقبال ، وانما يشك في موافقة ما أتي به لما هو المأمور به ، وهو مجرى القاعدة.

فالتحقيق ان يقال : ان بني على أصلية القاعدة ، فالقول بجريانها في هذه الصورة متعين ، لإطلاق الأدلة ، ولا دليل يعتد به على التخصيص ، إلاّ ان يدعى انصرافها إلى ما إذا كان الشك في الموافقة وعدمها إلى ما يرجع إلى اختياره بحيث

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٨٢ ـ الطبعة الأولى.

٢١٧

يكون عدم مطابقة المأتي به للمأمور به ناشئة عن تركه الاختياري ، لا عن امر آخر ، فتأمل.

وأن بني على الأمارية بمقتضى التعليل بالأذكرية ، أو بغيره من الملاكات ، فلا وجه لجريانها ، لأن الأذكرية انما هي بالنسبة إلى ما يمكن صدوره منه وتحققه باختياره ، أما بالنسبة إلى ما هو خارج عن اختياره فلا يتحقق ملاك الأذكرية ، إذ الشك في الصورة لا يرجع إلى الغفلة وعدم الالتفات ولا يرتبط بها أصلا ، إذ هو حاصل حتى مع العلم بالاتجاه إلى هذه الجهة والالتفات إليه. فتدبر.

الجهة الرابعة عشرة : فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشبهة الحكمية ، كما لو صلى وشك في ان صلاته كانت مع السورة أو بدونها مع الجهل بوجوب السورة.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس‌سره : ان الشك تارة : يكون في مطابقة عمله لفتوى مجتهده الّذي تحقق منه تقليده. وأخرى : يكون في مطابقة عمله للمأمور به الواقعي مع عدم تحقق تقليد منه.

ففي الشق الأول تجري القاعدة ، لكون الشك في مطابقة المأتي به للمأمور به المعين ، فيكون كالشبهة الموضوعية.

وأما الشق الثاني ، فلا تجري فيه القاعدة ، لأن التكاليف الواقعية تكون منجزة بواسطة العلم الإجمالي ، فيجب الخروج عن عهدته اما بإحراز إتيانه أو بإتيان بدله الظاهري ، كما في صورة الانحلال بالتقليد. وقاعدة الفراغ لا تثبت انطباق الأمر الواقعي المجهول على المأتي به (١).

وما أفاده في كلا الشقين ممنوع ..

أما الشق الأول ، فلا بد من التفصيل بين الأمارية والأصلية ، فتجري على

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٨١ ـ الطبعة الأولى.

٢١٨

الثاني دون الأول ، لعدم تحقق ملاكها مع الجهل بالحكم حال العمل كما تقدم.

مع ان ما ذكره من كونه من الشبهة الحكمية عجيب ، لأنه بعد تقليده تعين لديه المأمور به وانه مع السورة ـ مثلا ـ فالشك يرجع حينئذ إلى انه جاء بالمأمور به أو لا ، وهذا شك في الموضوع كما لا يخفى. نعم ، قبل التقليد كان جاهلا حكما ، إلا أنه في حال إجراء القاعدة بعد التقليد يرتفع جهله الحكمي ، فالشق المذكور من صور الشبهة الموضوعية.

وأما الشق الثاني ، فما ذكره من عدم انحلال العلم الإجمالي وتنجزه ، ان كان تمهيدا لبيان عدم جريان القاعدة ، فلا كلام فيه ، واما ان كان تتمة للاستدلال على عدم جريانها ، فلا يعرف له وجه ، لأن قاعدة الفراغ مؤمنة في صورة العلم التفصيليّ بالتكليف ، فضلا عن صورة العلم الإجمالي ، فلا فرق في الانحلال بين التقليد وعدمه.

الجهة الخامسة عشرة : هل يعتبر في جريان قاعدة الفراغ ان يكون الشك حادثا بعد العمل أو لا ، فتجري ولو كان الشك قد حدث في الأثناء؟

التحقيق : هو الأول.

أما على القول بان القاعدة أمارة ، فواضح : لأنه إذا فرض ان الشك كان في أثناء العمل فلا تتحقق أذكريته ، بل لا معنى لها ، إذ حاله قبل الفراغ كحاله بعد الفراغ لأنه شاك في الحالين.

وأما على القول بأنها أصل ، فلظهور الروايات في كون موضوع الإلغاء هو الشك المتعلق حدوثا بالعمل الماضي المفروغ عنه لا الشك الحادث قبل الفراغ المستمر إلى ما بعد الفراغ كما لا يخفى (١).

__________________

(١) وقد تعرض بعض الاعلام في هذا المبحث إلى فرع تقدم تحقيق الكلام فيه في أوائل الاستصحاب وهو ما إذا شك الإنسان قبل صلاته في الطهارة والحدث وكانت حالته السابقة هي الحدث فاستصحبه ثم غفل وصلى ، وبعد صلاته تنبه ، وحصل له الشك في صحة صلاته لاحتمال الطهارة واقعا.

٢١٩

.......................................

__________________

ولهذا الفرع صورتان : إحداهما : ان يعلم بأنه لم يتوضأ بعد الاستصحاب وانما يتمحض احتمال الصحة باحتمال الطهارة الواقعية ، والأخرى : ان يحتمل أنه توضأ بعد الاستصحاب كما يحتمل ان يكون غفل وصلى بدون وضوء رافع للحدث الثابت بالاستصحاب.

وقد التزم المحقق النائيني بجريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية دون الأولى ، ووجّه جريانها بان حكم استصحاب الحدث لا يزيد على حكم اليقين الوجداني به ولا شك انه مع اليقين بالحدث قبل الصلاة ثم شك بعد الصلاة في أنه توضأ ثم صلى أو غفل وصلى تجري في حقه قاعدة الفراغ ، فكذلك ما إذا كان مستصحب الحدث.

وأما عدم جريانها في الصورة الأولى ، فلأجل الاستصحاب الجاري قبل العمل وعدم احتمال انتقاضه ، وقاعدة الفراغ ناظرة إلى الاستصحاب الجاري بعد العمل بلحاظ الشك الحاصل بعد العمل ، ولا نظر لها إلى الاستصحاب الجاري قبل العمل بلحاظ الشك الحاصل قبل العمل.

وقد ناقشه المحقق العراقي : بأنه لا وجه للتفكيك بين الصورتين ، فإن القاعدة لا تجري في كلتا الصورتين ، وذلك لأن المعتبر في القاعدة ان لا يكون الشك في الصحة مسبوقا بشك آخر قبل العمل من سنخه أو غير سنخه. وبما ان الشك في كلتا الصورتين مسبوق بشك آخر قبل العمل لم يكن من موارد القاعدة.

كما انه ناقش ما أفاده في الصورة الأولى من عدم حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب الجاري قبل العمل ، بان الاستصحاب بما أنه حكم مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير فلا يجري إلا مع الالتفات ، اما مع الغفلة كما هو المفروض فيما نحن فيه فلا مجال لتأثيره لامتناع التنجيز في حق الغافل ، إذن فلا استصحاب أثناء العمل كي يكون مقدما على قاعدة الفراغ.

أقول : قد تقدم منا تقريب جريان استصحاب الحدث مع الغفلة ببيان : ان الاستصحاب إنما يتكفل التنجيز في الأحكام التكليفية دون الوضعيّة كالحدث والطهارة والملكية والزوجية ونحو ذلك ، فلا مانع من جريانه مع الغفلة ، فكما أن وجودها الواقعي لا يرتفع بالغفلة كذلك وجودها الظاهري ، ولذا تترتب آثار الملكية ونحوها من الأحكام الوضعيّة مع الغفلة عنها.

وأما ما أفاده في مناقشة جريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية ، من عدم جريان قاعدة الفراغ في الشك المسبوق بشك آخر من سنخه أو من غير سنخه.

٢٢٠