منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

صورة الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار السابق ، وهو ان الملتفت لا يترك التسليم ويأتي بالتعقيب ، فمع إتيانه بالتعقيب يصدق التجاوز عن التسليم بالعناية.

فالفرق الّذي ذكره مع الالتزام بهذا القول لا يكون فارقا.

وأما الثاني : وهو النقض ، فحله بناء على الالتزام بهذا الرّأي بان صدق التجاوز المسامحي عن الشيء غير المترتب شرعا انما يتحقق بملاك ان الملتفت لا يجمع بين الأمر الداخل فيه وترك المشكوك عمدا. وهذا الملاك انما يوجب الصدق المسامحي فيما لو كان عدم ترك المشكوك لأجل امتثال الأمر المتعلق به ، أما لو كان عدم تركه ليس لأجل امتثال الأمر المتعلق به ، بل لأجل امتثال الأمر المتعلق بالغير الداخل فيه ، فلا يكون هذا الملاك موجبا لصدق التجاوز المسامحي عن المشكوك ، فلا يكون المورد مجرى لقاعدة التجاوز.

بيان ذلك فيما نحن فيه : ان عدم ترك التسليم والدخول في التعقيب عمدا من الملتفت انما يكون لأجل امتثال الأمر المتعلق بالتسليم ، ولأن تركه يوجب بطلان الصلاة وليس هو لأجل تحقق مشروعية التعقيب ـ لأنه غير مشروع قبل انتهاء الصلاة ـ وان كان بعدم الترك يصير مشروعا. أما عدم ترك الصلاة عمدا من الملتفت والدخول في التعقيب ، فهو ليس إلا لأجل تحقق مشروعية التعقيب وحتى لا يكون الإتيان به بدون الصلاة لغوا ، وليس لأجل امتثال الأمر المتعلق بالصلاة ، إذ بالترك لا يتحقق شيء ولا يفوت محلها.

ولأجل ذلك لا يصدق التجاوز عن الصلاة فلا تكون موردا لقاعدة التجاوز ، بخلاف التسليم فانه يصدق التجاوز عنه فتجري فيه قاعدة التجاوز. فالفرق بين الصورتين بجريان قاعدة التجاوز في الأولى دون الثانية هو هذه الجهة ، فالتفت ولا تغفل.

ثم انه قد يشكل على جريان القاعدة في التسليم بعد الدخول في التعقيب ..

١٨١

بان رواية إسماعيل لما كانت واردة في مقام التحديد ، فهي كما تدل على تحديد الغير بالغير المترتب شرعا كذلك تدل على تحديد موضوع الشك والغير بالجزء الشرعي ، بحيث يكون كل من المشكوك المتعبد به والغير الداخل فيه جزء للعمل ، فلا تشمل القاعدة ما كان الشك في جزء مع الدخول في غير الجزء المترتب كالتسليم والتعقيب. ولو تنزل عن ظهورها في ذلك ، فلا أقل من احتماله ومع احتمال ذلك يلزم إجمال العموم المذكور في الذيل من هذه الجهة ، لاحتفافها بما يصلح للقرينية ، فلا يصح التمسك به على التعميم ، بل يقتصر فيه على القدر المتيقن ، وهو ما ذكرناه من كون المشكوك والمدخول فيه جزءين لعمل واحد.

والجواب : منع ظهورها في ذلك ، فانه لا دلالة في الكلام على ذلك كي يؤخذ به بمقتضى مفهوم التحديد. وأما احتماله فهو وان كان موجبا لإجمال العام المذكور في الذيل ، إلاّ ان ذلك لا يضر بالتعميم لعموم رواية زرارة ، وإجمال رواية إسماعيل لا يضير بظهور عموم رواية زرارة في التعميم.

الرابع : ان يكون الشك فيه بعد الدخول في المنافي المطلق ـ أعني : العمدي والسهوي ـ كالاستدبار والحدث.

ولا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز لو التزم باعتبار الدخول في الغير المترتب ، لأن المنافي غير مترتب كما لا يخفى.

وأما مع الالتزام بكفاية الدخول في مطلق الغير ، فلا مانع من جريان القاعدة فيه لصدق التجاوز المسامحي بالملاك السابق الذّكر.

وقد بنى السيد الخوئي على عدم جريانها ، لعدم صدق التجاوز عن المحل لأن التسليم غير مأخوذ سابقا على المنافي (١).

ولكنه يرد عليه ما عرفت من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل ، بل ليس

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٩٣ ـ الطبعة الأولى.

١٨٢

المعتبر إلا صدق التجاوز العنائي. وقد عرفت صدقه.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس‌سره في المقام : بان مختاره في الدورة السابقة كان جريان القاعدة حيث يصدق الدخول في الغير المترتب شرعا ، لأن المنافي مباح بعد الصلاة لقوله : « تحليلها التسليم » فيكون مترتبا على الصلاة ، لأن التسليم محلل للمنافيات. إلا انه عدل عنه في هذه الدورة باعتبار اختصاص أدلة القاعدة بما كان الغير المدخول فيه من اجزاء المركب أو من ملحقاته لا مطلق الغير ولو كان أجنبيا ، فلا تكون الصورة مجرى للقاعدة ، لأن الغير المدخول فيه أجنبي عن المركب (١).

ولكن ما ذكره أخيرا يندفع بإطلاق النصوص وعدم ظهورها في الاختصاص بمورد خاص.

وأما ما ذكره أولا ـ والظاهر ارتضاؤه له بنفسه وعدم عدوله عنه بذاته ، بل انما عدل عن نتيجته ـ من ترتب المنافي على التسليم باعتبار كون التسليم محللا ، فلا نعرف له وجها ظاهرا ، لأن المنافي كالاستدبار لا معنى لترتبه بلحاظ ذاته على التسليم ، وانما يتصور ترتبه باعتبار حكمه ، وهو ذو أحكام أربعة : الحرمة التكليفية ، والحرمة الوضعيّة ـ وهي القاطعية والمنافاة ـ والجواز التكليفي والجواز الوضعي.

والأولان يترتبان عليه إذا حصل في الأثناء ، والأخير ـ ان يترتبان عليه إذا حصل بعد الفراغ. فإذا كان المنافي محكوما بهذه الأحكام بالاعتبارين ، فلا يتصور ترتبه بنفسه على الصلاة كي يكون الدخول فيه محققا للدخول في الغير المترتب ، وانما هو بأحد صوره مترتب وهو الفرد المحلل ، ولكن الواقع حيث لا يعلم حاله فلا يمكن الجزم بأنه الفرد المترتب أو غيره فلا يعلم بتحقق الدخول في الغير المترتب. نعم ، لو كان بجميع أحكامه ملحوظا بعد الفراغ كان مترتبا شرعا ولكنه ليس كذلك ، فتصور ترتب مثل الاستدبار على التسليم غير واضح. فتدبر.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٧٢ ـ الطبعة الأولى.

١٨٣

تنبيه :

قد يقال : بان اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا يستلزم عدم جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء ، لما عرفت من ان الترتيب بين أجزاء الجزء ليس بشرعي ، بل هو مقوم للمأمور به بحيث يكون الإخلال به إخلالا بنفس الجزء المأمور به لا إتيانا به بغير ترتيب ، كما تقدم تقريبه في تكبيرة الإحرام. وعليه فمع الشك في جزء الجزء مع الدخول في الجزء الآخر للجزء ، كالشك في كلمة : « الله » مع الدخول في كلمة : « أكبر » لا يتحقق الشك بعد الدخول في الغير المترتب شرعا لعدم ترتب كلمة : « أكبر » على كلمة : « الله » شرعا ، بل الترتيب بينهما عقلي ، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز.

ولكنه يمكن التفصي عن هذا الإشكال بأحد وجهين :

الأول : أن الترتيب وان كان مقوما للمأمور به عقلا إلا ان هذا لا ينافي تعلق الأمر به ، وذلك لأن المأمور به إذا كان متقوما بالترتيب كان مركبا من مادة وصورة ، فالمادة هي نفس الألفاظ الخاصة كلفظ : « الله » و : « أكبر » في التكبير ، والصورة هي الهيئة الخاصة التي يؤتى بالألفاظ عليها. وحينئذ فالأمر بهذا المركب أمر بمادته وصورته ، لأن معناه الإتيان بهذه الألفاظ بالنحو الخاصّ من التقديم والتأخير ، فالصورة التي هي عبارة أخرى عن الترتيب مأمور بها كما أن المادة مأمور بها ، وذلك لا يتنافى مع تقوم المأمور به بالترتيب. فمثلا بيت الشعر عبارة عن الألفاظ الخاصة على الهيئة المخصوصة بحيث إذا كان الإتيان بالألفاظ لا على الهيئة المخصوصة لا يعد ذلك شعرا ، فالوزن مقوم لصدق الشعر ، فالأمر بالشعر لما كان معناه الأمر بالألفاظ الموزونة يكون في الواقع أمرا بالوزن كما هو أمر بنفس الألفاظ.

وعليه ، فإذا كان الترتيب مأمورا به شرعا كان الدخول في الجزء الآخر للجزء دخولا في الغير المترتب شرعا.

١٨٤

الثاني : انه لو تنزل عن هذا وقيل بعدم تعلق الأمر بالترتيب ، فرواية إسماعيل لا دلالة لها على عدم إلغاء الشك في جزء الجزء بعد الدخول في غيره غير المترتب شرعا ، وذلك لأن غاية ما تدل عليه بمقتضى مفهوم التحديد هو عدم اعتبار الدخول في المقدمات عند الشك في الجزء ، أما عدم اعتبار كون المشكوك جزءا مستقلا للعمل فهو وان كان محتملا إلا انه لا دلالة لها بوجه على ذلك ، كما لا دلالة لها على اعتبار كون المشكوك وظرف الشك جزءين لعمل واحد على ما عرفت.

وعليه ، فيمكن التمسك على تعميم القاعدة لجزء الجزء برواية زرارة فالتفت.

هذا تمام الكلام فيما يعتبر في جريان قاعدة التجاوز.

الجهة التاسعة : في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ.

والكلام في هذه الجهة في مقامين :

المقام الأول : فيما إذا كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في غير الجزء الأخير ، بحيث يتحقق الفراغ بمجرد الإتيان بالجزء الأخير.

فهل يعتبر الدخول في الغير مطلقا ، أو لا يعتبر مطلقا بل يكتفي بمجرد الفراغ ، أو يفصل بين الوضوء وغيره فيعتبر في الأول دون الثاني؟ وجوه وأقوال.

ومقتضى إطلاق الأدلة الدالة على اعتبار القاعدة عدم اعتبار الدخول في الغير ، إذ لم يؤخذ في موضوعها سوى تحقق المضي عن العمل ، وهو يتحقق بمجرد الفراغ ولو لم يدخل بعد في غير العمل.

وقد قيل بتقييد هذه المطلقات برواية زرارة الواردة في باب الوضوء عن أبي جعفر عليه‌السلام : قال عليه‌السلام : « إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو لم تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى الله مما

١٨٥

أوجب الله عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه .. » (١).

بتقريب : انه أخذ في إلغاء الشك بعد الفراغ الصيرورة في حال أخرى ولم يكتف بمجرد الفراغ. وهي وان كان موضوعها الشك في الوضوء إلاّ انه بضميمة عدم القول بالفصل بين الوضوء وغيره من الأعمال تدل بالالتزام على اعتبار الدخول في الغير عند الشك في غير الوضوء بعد الفراغ عنه ، فيبنى حينئذ على تقييد المطلقات بهذه الرواية كما هو شأن كل مطلق ومقيد.

إلاّ ان هذا القول غير وجيه ، إذ لم يثبت عدم الفصل بين الوضوء وغيره ، فيحتمل ان يكون الوضوء له خصوصية تقتضي اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه ، وهي لا توجد في غيره من الأعمال ، بل ثبت بعدم قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء وجريانها في غير اجزائه ، وجود الفرق بين الوضوء وغيره ، فلا يبعد ان يعتبر الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه دون غيره.

ثم انه قد استشكل في دلالة الرواية على أصل المدعى ـ أعني : اعتبار الدخول في الغير ـ من وجوه :

الأول : أن موضوع الشك بعد الفراغ لم يبين في الرواية ، فيمكن ان يحمل على الجزء الأخير فيكون الدخول في الغير من محققات الفراغ عن الوضوء لا أمرا زائدا عليه.

ووجه الحمل : هو ظهور المطلقات في كفاية مطلق الفراغ ، فوجه الجمع بينهما حمل الرواية على كون موضوع الشك هو الجزء الأخير ، فلا يكون هناك تغاير وتناف بينهما حتى بالإطلاق والتقييد ، بل تكون الرواية واردة في بيان إحدى صغريات الكبرى الدالة عليها المطلقات ، لما عرفت ان المضي عن العمل لا يتحقق مع الشك في الجزء الأخير إلاّ بالدخول في الغير.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٣٠ ، باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث : ١.

١٨٦

وفيه ما لا يخفى : فان هذا انما يتجه ان يقال لو لم يذكر في الصدر مورد الشك ، فيقال الرواية مجملة من هذه الجهة فتحمل على إرادة الشك في الجزء الأخير جمعا بينها ، وبين المطلقات. أما بعد ان ذكر صريحا في الصدر بكون موضوع الشك هو جميع اجزاء الوضوء من غسل ومسح ، فلا وجه لهذا القول حينئذ ، وذلك لأن الظاهر من الرواية هو المقابلة بين حال القعود على الوضوء وحال القيام عنه في الحكم المترتب على الشك في الاجزاء ، وهي تقتضي ان يكون موضوع الشك الّذي أخذ في حال القعود عينه موضوعا للشك الحاصل في حال القيام ، وإلا لانتفت المقابلة ، لأن المقابلة انما تتحقق بين الحكمين ، إذا كانا واردين على موضوع واحد ، أما إذا تعدد موضوعهما واختلف فلا مقابلة بينهما كما لا يخفى.

وبالجملة : فموضوع الشك بعد القيام هو عين موضوع الشك حال القعود وهو جميع الأجزاء.

الثاني : أن ظاهر الرواية كون الذيل بيانا لمفهوم الصدر ، وهو : « إذا كنت قاعدا ... » لا لخصوصية فيه بنفسه ، فالظاهر حينئذ كون المدار هو الشك في الأثناء كما هو مقتضى المنطوق ، والشك بعد الفراغ كما هو مقتضى المفهوم ، سواء دخل في الغير أو لم يدخل.

وعليه ، فلا منافاة بين هذه الرواية وبين المطلقات ، بل هما بمفاد واحد.

والجواب : ان الذيل ليس كذلك ، لأن المذكور فيه موضوع وجودي ، فلا معنى لكونه مفهوما للصدر ، لأن المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الأمر المترتب عليه فلا بد ان يؤخذ فيه موضوع عدمي يترتب عليه عدم الحكم ، كما ان مفهوم الشرط فيما نحن فيه : « إذا لم يكن قاعدا » بنحو السالبة بانتفاء الموضوع وليس هو « إذا كنت قائما » عن الوضوء أو نحوه من التعبيرات.

وبالجملة : ترتيب الحكم على موضوع وجودي أجنبي عن بيان المفهوم ، وكون الحكم المترتب عليه باعتبار كونه محققا لمفهوم الشرط ، فالتفت.

١٨٧

الثالث : ان الفراغ عن العمل ملازم مع الكون على حال أخرى ولو كانت هي السكون ، وإلا لما صدق الفراغ. وليس المذكور في الرواية الا الصيرورة في حال أخرى وهو ليس بأمر زائد عما يقتضيه صدق الفراغ والمضي ، فليس في الرواية قيد زائد على نفس الموضوع وهو الفراغ والمضي. فلا دلالة لها على التقييد.

وهذا الوجه انما يتجه لو لم تفسير الحال الأخرى في الرواية وذكرت مطلقة ، إذا يمكن حملها على ما لا يزيد على تحقق الفراغ ، إلا انها فسرت في الرواية بالدخول في ما يغاير العمل الّذي كان فيه ، كما يدل عليه قوله : « وصرت إلى حال أخرى في الصلاة وغيرها » ، فلا يتجه هذا القول حينئذ ، فالتفت.

فالمحصل : ان هذه الوجوه غير ناهضة لنفي دلالة الرواية على التقييد مطلقا. فلا بد من الالتزام بدلالتها على التقييد بالدخول في الغير لكن لا مطلقا بل في خصوص الوضوء.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى اعتبار الدخول في الغير مطلقا سواء في ذلك الوضوء وغيره.

ببيان : ان الأدلة الدالة على حجية القاعدة منها ما يدل على التقييد بالدخول في الغير كرواية زرارة ، ومنها ما لم يعتبر في أكثر من المضي والتجاوز كموثقتي ابن بكير وابن أبي يعفور. فيدور الأمر بين حمل المطلق على الفرد الغالب ، فان الغالب من موارد الشك موارد الدخول في الغير. وبين حمل القيد على الغالب ، فلا يظهر في كونه قيدا احترازيا. والأول هو المتعين ، لا من جهة اقتضاء الدليل المقيد للمفهوم ولا لحمل المطلق عليه ، وانما هو لأجل انصراف المطلق في نفسه إلى الفرد الغالب باعتبار كون الماهية تشكيكية بحيث يكون شمولها للفرد النادر خفيا بنظر العرف ، فان ذلك يوجب انصراف المطلق عنه إلى الفرد الغالب لا باعتبار نفس الغلبة فانها لا توجب الانصراف. ولو تنزل عن ذلك فلا أقل من كونه قدرا متيقنا في مقام

١٨٨

التخاطب ، فالمطلق في نفسه قاصر عن شمول مورد عدم الدخول في الغير (١).

وهذا الّذي ذكره لا تمكن الموافقة عليه بجميعه ، لوجوه :

الأول : انه عدّ رواية زرارة من أدلة قاعدة الفراغ ، مع انك عرفت انها تعد من أدلة قاعدة التجاوز ـ وان ناقشنا في دلالتها على ذلك ـ الثاني : أنه جعل وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مانعا عن انعقاد الإطلاق ، مع انه : قدس‌سره لا يرى ذلك في مبحث المطلق والمقيد ، ويورد على المحقق الخراسانيّ في اختياره ذلك (٢).

الثالث : ان ما ذكره من إيجاب التشكيك للانصراف مناقش فيه كبرويا وصغرويا ..

أما كبرويا ، فلأنه قد حقق في محله بان نظر العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم وتشخيصها من حيث السعة والضيق ، أما نظره في تشخيص المصداق فهو مردود لا يعتمد عليه ، فعدم صدق المطلق على الفرد النادر بنظر العرف لخفائه غير قادح في التمسك بإطلاقه ولا يوجب صرفه عنه بعد ان كان يصدق عليه حقيقة.

وأما صغرويا ، فلان التشكيك انما يوجب الانصراف ـ لو سلم كبرويا ـ فيما كان التفاوت بين الافراد من حيث الظهور والخفاء. أما فيما كان التفاوت بينها من حيث الأظهرية والظهور ، بمعنى ان صدق الطبيعة على هذا الفرد كان أظهر من صدقها على ذلك فلا يتحقق الانصراف. وما نحن فيه كذلك ، فان صدق الطبيعة ( الفراغ ) على مورد الدخول في الغير أظهر من صدقه على مورد عدم الدخول في الغير كما لا يخفى ، لا ان صدقه على مورد عدم الدخول في الغير خفي وصدقه على مورد الدخول ظاهر. فتدبر.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٧١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٠ ـ الطبعة الأولى.

١٨٩

وإذا لم يثبت القول بالتقييد مطلقا ولم يثبت القول بعدم التقييد مطلقا ، فالالتزام بالتفصيل بين باب الوضوء وبين غيره باعتبار الدخول في الغير فيه دون غيره هو المتعين.

والمقام الثاني : فيما كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في الجزء الأخير. ولا بد من تحقق الدخول في الغير ـ في الجملة ـ في جريان القاعدة لتوقف صدق الفراغ عن العمل والمضي عنه بالدخول في الغير ، لأنه مع عدم الدخول في الغير وبقاء محل التدارك لا يتحقق مضي العمل ، إذ يمكن ان لا يكون قد أتى بالجزء الأخير المحقق للمضي والفراغ.

وقد ذكر بعضهم ان الشك في الجزء الأخير تارة : يكون بعد الدخول في الغير.

وأخرى : يكون قبل الدخول في الغير إلاّ انه كان قد حصل اليقين آناً ما بتحقق الفراغ عن العمل. وثالثة : يكون قبل الدخول في الغير وعدم حصول اليقين بتحقق الفراغ. فالقاعدة في الصورتين الأولتين تجري دون الصورة الثالثة (١).

وأورد الشيخ قدس‌سره عليه في ذهابه إلى جريان القاعدة في الصورة الثانية : بأن الفراغ لا يصدق باليقين به آناً ما ، ونفس اليقين الآني السابق المتبدل إلى الشك لا موضوعية له ، بل هو طريق إلى الواقع ، فلا دليل على حجيته بعد تبدله بالشك إلا أحد أمرين ... قاعدة اليقين ، وهي غير ثابتة. وظهور حال اليقين في كونه مطابقا للواقع ، وهذا الأمر لا دليل عليه وغير ثابت.

وأما جريان القاعدة في الصورة الأولى وعدم جريانها في الثلاثة ، فملاكه واضح لا يحتاج إلى بيان ولا إشكال فيه (٢).

__________________

(١) النجفي الفقيه الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام ٢ ـ ٣٦١ ـ الطبعة الحديثة.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة ـ ١٦٢ ـ الطبعة القديمة.

١٩٠

ولكن ما ذكره الشيخ رحمه‌الله يمكن الخدشة فيه بتقريب : ان صدق الفراغ والمضي عن العمل المركب يكون بأحد امرين ... الإتيان بالجزء الأخير منه. وقطعه والاقتصار على بعض أجزائه بعد مضي قسم منه يصدق عليه لفظ المركب في نفسه ، فانه بالإتيان بهذا المقدار لا يصدق الفراغ عرفا ما دام مشغولا بباقي الاجزاء ، ولكنه مع قطعه وعدم المضي في باقي الاجزاء يصدق تحقق العمل والفراغ منه. وهذا واضح ولا إشكال فيه.

ولما كانت وحدة المركبات الاعتبارية ـ ومنها الصلاة ـ انما هي بالقصد والنية ـ إذ لا وحدة لها حقيقية لاختلاف اجزائها ماهية ومقولة ـ كان اليقين بالفراغ ولو آناً ما سببا لتحقق الفراغ ، لأنه موجب لتبدل القصد والنية فيتحقق الانقطاع ، وبذلك يصدق العمل والفراغ عنه.

فجريان القاعدة في هذه الصورة ليس من جهة موضوعية اليقين في نفسه ، بل لأجل تحقق الانقطاع بحصوله الموجب لصدق موضوع القاعدة ، وهو الشك في صحة العمل بعد الفراغ عنه.

وبذلك يظهر انه لا محيص عن الالتزام بما ذكره صاحب الجواهر من جريان القاعدة في الصورتين الأولتين ، وانه لا وجه لما ذكره الشيخ في مقام الإشكال عليه.

ولبعض الفقهاء تقريب لتصحيح كلام الجواهر والخدشة في كلام الشيخ بيانه :

انه مع اعتبار تحقق الفراغ في جريان القاعدة يدور الأمر بين إرادة الفراغ الحقيقي ، وإرادة الفراغ الادعائي ، وإرادة الفراغ البنائي ـ يعنى البناء على تحقق الفراغ عن العمل ـ لا يمكن الالتزام بإرادة المعنى الحقيقي والمعنى الادعائي للفراغ.

أما الأول ، فلأنه انما يصدق عند الإتيان بالعمل بجميع أجزائه وشرائطه ، فاعتباره يلزم تعطيل قاعدة الفراغ ، لأن موردها الشك في صحة العمل لفقد جزء أو شرط ، والفراغ الحقيقي غير صادق مع هذا الشك.

وأما الثاني ، فلأنه يصدق بالإتيان بمعظم الاجزاء ، فاعتباره يستلزم صحة

١٩١

جريان القاعدة مع الشك في الصحة بعد الإتيان بالمعظم وقبل الانتهاء من العمل ، مع انه لا إشكال في عدم صحة ذلك ، لعدم صحة جريان القاعدة في أثناء العمل.

وإذا لم يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي ولا الفراغ الادعائي تعين الالتزام بإرادة الفراغ البنائي ، وهو يحصل باليقين بالتمام. فجريان القاعدة مع تحقق اليقين الآني بالفراغ ليس لأجل حجية اليقين بعد زواله أو لأجل ظهور الحال كي ينفى بعدم الدليل عليه بل لأجل صدق الموضوع المأخوذ في لسان الدليل ، وهو الفراغ البنائي (١).

ولكن ما ذكره لا تمكن الموافقة عليه لوجهين :

الأول : انه يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي بلا استلزام للمحذور المذكور ـ أعني : محذور التعطيل ـ وذلك بالالتزام بكون متعلق الفراغ العمل الجامع بين الصحيح والفاسد ـ لا خصوص العمل الصحيح كي يلزم ما ذكر ـ وبذلك يتحقق الفراغ الحقيقي بلا عناية ولا تكلف مع الشك في فقد جزء أو شرط كما لا يخفى.

وتوهم : أن الأمر يدور حينئذ بين التصرف في لفظ الفراغ والتصرف في متعلقه بحمله على الأعم فما هو المرجح؟ كي يلتزم بالأخير.

فاسد ، فان التصرف في المتعلق بحمله على الأعم مما لا بد منه على القولين ، بل هو صريح الروايات ، لأن فيها اسناد الفراغ إلى العمل مع الشك فيه مما يكشف عن إرادة الأعم ، فالالتزام بإرادة المعنى الحقيقي للفراغ لا يستدعي مئونة زائدة بخلاف العكس.

الثاني : ان اعتبار تحقق الفراغ البنائي في جريان قاعدة الفراغ مطلقا يستلزم عدم جريان القاعدة مع الإتيان بالجزء الأخير والشك في الإتيان بما قبله بلا فصل ، كالإتيان بالتسليم مع الشك في التشهد ، فانه في حال الشك لا يقين له بالفراغ ، إذ

__________________

(١) الحكيم الفقيه السيد محسن ، مستمسك العروة الوثقى ٢ ـ ٥١٨ ـ الطبعة الأولى.

١٩٢

يحتمل ان يكون إتيانه بالتسليم عن غفلة لا أنه عن التفات وبعد الإتيان بالتشهد ، وفي تلك الحال كان غافلا ، فلم يتحقق منه الفراغ البنائي أصلا. مع أنه لا إشكال في جريان القاعدة في هذه الصورة.

فالمحصل : ان ما ذكره هذا القائل لا يعرف له وجه ظاهر ، فالمتعين هو ما ذكرناه.

بقي الكلام في جريان قاعدة الفراغ في الصور الأربع التي ذكرناها للشك في الجزء الأخير عند الكلام في جريان قاعدة التجاوز فيه.

فالتحقيق : ان جريان القاعدة في الصورتين الأوليتين ـ وهما : صورة تحقق الشك مع عدم الاشتغال بشيء مناف أصلا وعدم تحقق السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة. وصورة تحقق الشك مع الإتيان بالمنافي العمدي كالكلام بالنسبة إلى الصلاة ـ انما يصح لو تحقق في الحالين اليقين بالفراغ ولو آناً ما. أما مع عدم تحققه فنفس الحالين لا يحققان المضي والفراغ كما لا يخفى.

وأما الصورتان الأخيرتان ـ وهما : صورة تحقق الشك مع الاشتغال بأمر مرتب على العمل ، كالتعقيب بالنسبة إلى الصلاة. وصورة تحقق الشك مع الاشتغال بالمنافي العمدي والسهوي ـ فالقاعدة جارية فيهما.

أما جريانها في الأخيرة فواضح ، لانقطاع العمل بالاشتغال بالمنافي وتحقق الفراغ عنه وصدق مضيه كما لا يخفى.

وأما جريانها في الثلاثة ، فلأن الاشتغال في الأمر المترتب بعنوانه الخاصّ ـ كالاشتغال في التعقيب بما انه تعقيب لا بما انه دعاء أو ذكر مثلا ـ لا يكون إلا بعد البناء على الفراغ واليقين بالانتهاء من العمل ، وذلك موجب لصدق المضي ، لانقطاعه بتبدل القصد. هذا تمام الكلام في جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الصحة للشك في الجزء.

١٩٣

الجهة العاشرة (١) : في تحقق جريان قاعدة الفراغ لو كان منشأ الشك هو

__________________

(١) تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز أو الفراغ عند الشك في الشرط ، ان يقال : ان الشرط على أقسام :

ما يكون شرطا مقوما للمأمور به عقلا بحيث يتقوم به صدق عنوان المأمور به كقصد الصلاتية في تحقق عنوان الصلاة ، وقصد الظهرية في تحقق عنوان الظهر.

وما يكون شرطا مقوما للجزء ، كقصد الركوع في تحقق الركوع ، إذ ليس كل انحناء ركوع بل الانحناء الركوعي هو المأتي بعنوان الركوع. وكالموالاة بين الحروف في تحقق الكلمة.

وما يكون شرطا شرعيا للكل ، كالاستقبال بالنسبة إلى الصلاة.

وما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر بالنسبة إلى القراءة.

أما الشرط المقوم عقلا للمأمور به كالنية ، فقد التزم البعض بجريان قاعدة التجاوز فيه إذا تحققت شرائطها. وذهب البعض إلى عدم جريانها فيه ، كما يظهر من مراجعة الفرع الأول من فروع العلم الإجمالي من العروة وما كتب حوله.

والتحقيق : ان متعلق الأمر هو عنوان الصلاة أو الظهر ، وقصد الصلاتية أو الظهرية محقق لعنوان المأمور به. من دون ان يلحظ في متعلق الأمر جزء أو شرطا وانما هو شرط تكويني.

وعلى هذا فلا معنى لإجراء القاعدة فيه ، إذ لا يقع مثله مورد التعبد الشرعي لعدم دخله شرعا في المأمور به ، فالتعبدية لا يجدي شيئا ولا يترتب عليه أثر شرعي مترقب ، وترتب عنوان المأمور به عليه ترتب عقلي لا ينفع فيه التعبد.

وبهذا يظهر انه لا وجه يقتضي جعله موردا للكلام كما ارتكبه الاعلام.

ولعله إلى ذلك ينظر المحقق العراقي في منعه جريان القاعدة فيه معللا بان المعتبر في العمل نشوؤه عنه لا نفسه ، فانه يمكن ان يكون نظره إلى ما ذكرناه من عدم اعتباره في العمل وانما المعتبر هو عنوان الصلاتية أو الظهرية.

ولو تنزلنا عن هذه الجهة فنقول : ان القصد المعتبر إما يكون قصدا واحدا مستمرا وعليه يبتني مبطلية نية القطع أو القاطع ، كما التزم به بعضهم ، واما يكون متعددا بتعدد الاجزاء فهو معتبر في كل جزء ولذا لا تبطل الصلاة بنية القطع.

١٩٤

...................................

__________________

ولا يخفى ان قاعدة التجاوز انما تجري في القصد إذا كان اعتباره بالنحو الثاني لصدق التجاوز عنه بتجاوز الجزء.

أما إذا كان اعتباره بالنحو الأول ، فلا مجال لجريان القاعدة فيه لأن المفروض انه امر واحد مستمر ومحله جميع العمل ، فلا يتحقق التجاوز عنه في الأثناء.

هذا بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في النية. وأما بالنسبة إلى قاعدة التجاوز في نفس العنوان المأمور به ، فتحقيق الحال فيه : انه يتصور على أنحاء.

فتارة يقال : انه أمر واحد مستمر يعنون به مجموع العمل.

وأخرى يقال : انه متعدد بتعدد الاجزاء ، وهو تارة : يكون متقوما بمجموع الاجزاء بحيث لا ينطبق إلا على المجموع ، نظير الحمى القائمة باجزاء البدن فان كل جزء لا يقال انه محموم ، بل مجموع البدن محموم. وأخرى : يكون متقوما بكل جزء فكل جزء ينطبق عليه انه صلاة أو ظهر.

ولا يخفى انه لا مجال لتوهم جريان قاعدة التجاوز في العنوان بناء على الاحتمالين الأولين ، لعدم تحقق التجاوز عنه بعد تقومه بالكل.

نعم ، لتوهم جريان القاعدة فيه مجال على الاحتمال الثالث لتجاوز محله بتجاوز الجزء ، وان وقع محل الإشكال من جهات أخرى.

وأما الشرط المقوم للجزء عقلا ، كقصد الركوعية في الركوع ، فقد ظهر الحال فيه مما ذكرناه في شرط الكل ، إذ عرفت انه لا مجال لتوهم جريان القاعدة في الشرط العقلي التكويني لعدم ترتب أثر شرعي عليه.

وأما إجراء القاعدة في وصف الركوعية ، فللمنع عنه مجال ، لأن الانحناء الركوعي مباين عرفا للانحناء غير الركوع والذاتان متباينان ، والمطلوب هو الذات المعنونة بعنوان الركوع. ومن الواضح ان إثبات تحقق الركوعية لا يثبت تحقق الذات المعنونة وهي الركوع إلا بالملازمة.

وأما إجراء القاعدة في نفس الركوع فقد تقدم الاستشكال فيه بدعوى انصراف اخبار القاعدة إلى الشك في أصل الوجود لا في اتصاف الموجود بعنوان الجزء.

نعم ، يمكن إجراء قاعدة الفراغ في الانحناء وإثبات صحته بناء على عدم اعتبار إحراز العنوان في جريانها. وسيجيء البحث فيه.

وأما الشرائط الشرعية المعتبرة في الكل ، فالحق فيها هو التفصيل بين ما هو معتبر حال

١٩٥

.........................................

__________________

العمل كالاستقبال والستر ونحوهما ، وما هو معتبر سابقا على العمل كالوضوء على قول ، فتجري القاعدة في الثاني دون الأول.

والوجه في ذلك ـ على سبيل الإجمال ـ أن التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما هو معتبر في حال العمل لا يصدق ولو مع دخول المكلف في الجزء اللاحق ، إذ غاية ما يمكن تصوير تحقق التجاوز عن محل الشرط مع الدخول في الجزء اللاحق هو ما يقال : من ان المعتبر في كل جزء تقيده بالشرط المفروض ، فمع التجاوز عن الجزء يتحقق التجاوز عن التقييد المأخوذ فيه فتجري القاعدة في تقيده بالشرط ، ويترتب الأثر مع إحراز التقيد بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة.

ولكن هذا المطلب لا يمكن الالتزام به ، فان التقيد من شأن المفاهيم والعوارض ولا يتصور في المعاني المتباينة مثل الطهارة والركوع ، فان كلا منهما يباين الآخر فلا معنى لأن يكون أحدهما مقيدا بالآخر إذ الطهارة من عوارض المكلف لا الركوع.

نعم ، يتصور أخذ التقييد بنحو آخر ، وهو ان يكون الواجب هو الركوع المقارن للطهارة ، فيؤخذ القيد وصف المقارنة للطهارة.

ولكن هذا مما لا يلتزم به ، وإلا لأشكل الأمر في استصحاب الطهارة ، فانه لا يثبت الوصف الملحوظ المأخوذ في الواجب وهو وصف المقارنة.

وعليه ، فالذي يلتزم به في باب الشروط هو أخذ الشرط بنحو المعية في الوجود مع الجزء ، نظير نفس الاجزاء فيما بينها إلا ان الفرق تعلق الأمر بالجزء دون الشرط.

ومن الواضح ان أخذ الشرط بهذا النحو لا يستلزم كون الجزء محلا له وظرفا بحيث يكون التجاوز عنه تجاوزا عن الشرط ، بل بالإتيان بالجزء دون الشرط لم يفت محل الشرط ويمكن الإتيان به مع الجزء في كل وقت ولو بإعادة الجزء.

وقد يلتزم في باب الشروط بوجه آخر وهو اعتبار الإضافة إلى الشرط بمعنى ان الواجب هو إيقاع الجزء في ظرف الشرط ، فيلحظ الجزء مضافا إلى الزمان الخاصّ وهو زمان الشرط.

ولكن لو تم هذا لم ينفع في المطلوب ، لأن طرف الإضافة هو نفس الزمان دون الخصوصية ، فالشك في الخصوصية ـ أعني الشرط ـ لا يستلزم الشك في طرف الإضافة بل في خصوصيته.

والوجه فيه :

١٩٦

.........................................

__________________

ان طرف الإضافة لو كان هو الزمان الخاصّ لا شكل الأمر في مثل استصحاب الشرط كالطهارة ، لعدم إثباته إضافة الجزء للطهارة حتى يتحقق طرف الإضافة ، فكيف يجدي في الامتثال؟ فمقام الثبوت والإثبات يساعدان على كون طرف الإضافة نفس الزمان والخصوصية للزمان نفسه لا مأخوذة في الإضافة ، فيعتبر ان تكون الصلاة في زمان فيه طهارة ، فيصح إجراء استصحاب الطهارة لإثبات خصوصية الزمان ، نظير استصحاب الخمرية لإثبات حرمة شرب المائع المشكوك ، فانه لا يثبت كون شرب هذا المائع شرب خمر ، ولكن يثبت به انه شرب مائع هو خمر ، وليس الملحوظ في الحكم أزيد من ذلك ، فليس المحرم الشرب المضاف إلى الخمر بل الشرط المضاف إلى مائع هو خمر.

وعليه ، فإذا ثبت ان طرف الإضافة هو الزمان ، والشرط لوحظ كخصوصية للزمان لا طرفا للإضافة ، فالمشكوك لا يكون طرف الإضافة بل خصوصية الطرف ، وهي مما لم يفرض لها محل.

هذا مع أخذ الشرط طرفا للإضافة لا يظهر منه سوى كون الشرط ظرفا للجزء لا العكس ، فاعتبار كون الركوع في حال الطهارة ظاهر بحسب لسان الدليل في كون الطهارة ظرفا للركوع لا كون الركوع ظرفا للطهارة فانتبه.

فتبين من جميع ذلك انه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في الشرط المقارن.

وأما الشرط السابق على العمل ، فالقاعدة تجري فيه إذا شك فيه بعد الدخول في العمل لتجاوز محله بعد الدخول ، لأن ظرفه هو الزمان السابق على العمل. وهذا مما لا إشكال فيه. إنما الإشكال في انه هل يعتبر إحرازه للاجزاء اللاحقة أو لا؟ ذهب المحقق العراقي إلى لزوم ذلك ، وان القاعدة لا تنفع إلا في ما مضى من الاجزاء ، إذ ما يأتي من الاجزاء لم يتجاوز عنه ، ودليل القاعدة انما يتعبد بها بمقدار ما تحقق التجاوز عنه ، وهذا منه مبني على اعتبار التجاوز عن نفس المشروط لا خصوص المشكوك ، وهو مما لا دليل عليه ، إذ غاية ما يدل عليه الدليل اعتبار التجاوز عن المشكوك ، وهو فيما نحن فيه حاصل ، إذ الشرط إذا كان مأخوذا سابقا على العمل فمع الدخول في العمل يتحقق التجاوز عن محله حتى بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لأن شرطها هو الفعل السابق عن العمل.

نعم ، بالنسبة إلى الأعمال المستقلة الأخرى كصلاة ثانية لا تنفع ، لأن قاعدة التجاوز

١٩٧

الشك في الشرط ، وذلك يتوقف على بيان أقسام الشروط.

وقد ذكر المحقق العراقي قدس‌سره أقساما عديدة للشروط وذكر حكمها مما يرتبط بما نحن بصدده من جريان قاعدة الفراغ ، مع ذكره حكمها بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز.

ومحصل ما أفاده : ان الشروط.

منها : ما يكون شرطا عقليا في تحقق عنوان المأمور به من الصلاتية والظهرية ونحوهما ، كالنية ، فان هذه العناوين لما كانت أمورا قصدية فلا تتحقق إلا بالقصد والنية.

ومنها : ما يكون شرطا شرعيا لصحة المأمور به بعد الفراغ عن تحقق عنوانه ، كالطهور والستر والاستقبال ونحوها.

ومنها : ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء ، بمعنى كونه مما يتوقف عليه وجود الجزء عقلا ، كالموالاة بين حروف الكلمة.

ومنها : ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر والإخفات بناء على القول بكونهما شرطا للقراءة ، لا للصلاة في حال القراءة.

ثم ما كان شرطا شرعيا إما أن يكون مما له محل مقرر شرعا ، بان يكون قبل

__________________

انما تتعبد بالمشكوك بمقدار التجاوز عنه ، والوضوء للصلاة الأخرى لم يتجاوز عن محله بالدخول في هذه الصلاة.

نعم ، هو تجاوز عن محل الوضوء لهذه الصلاة ، فلا تثبت القاعدة إلا وضوء هذه الصلاة لا غير ، فيلزمه الوضوء للصلوات الأخرى. ومن هنا ظهر الحال ما إذا شك في صلاة الظهر بعد دخوله في صلاة العصر ، فان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر انما تثبت تحقق صلاة الظهر بمقدار تأثيرها في صحة العصر ، واما صلاة الظهر بما هي واجبة مستقلا فلم يتجاوز عن محلها ، إذ لا يعتبر فيها ان تكون قبل العصر بل المعتبر ان تكون العصر بعدها فيلزمه على هذا الإتيان بالظهر بعد العصر. هذا تمام الكلام في الشروط

١٩٨

الدخول في المشروط كصلاة الظهر بالنسبة إلى العصر ، وكالطهارة على قول. أو لا يكون له محل مقرر ، كالستر والاستقبال.

فالأقسام خمسة.

أما ما كان شرطا عقليا لعنوان المأمور به ، بمعنى أنه مقوم لتحققه عقلا كالنية ، فلا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز فيه مع الشك ، وذلك لأنه مضافا إلى عدم وجود محل له مقرر شرعا مع اختصاص القاعدة بذلك ، لا تكون القاعدة تجدي في إحراز عنوان المشروط ، فان جهة نشوء الأفعال عن قصد الصلاتية ونحوها من اللوازم العقلية للقصد والنية ، فالتعبد بوجود القصد لا يجدي في إثبات هذه الجهة. وكذلك لا تجري قاعدة الفراغ في المشروط مع الشك ، لاختصاصها بما إذا كان العمل محرزا بعنوانه وكون الشك في صحته وفساده ، نظير قاعدة الصحة في عمل الغير ـ فانهما من سنخ واحد ـ ومع فرض الشك في القصد يشك في تعنون العمل بعنوانه المطلوب ، فلا مجال لقاعدة الفراغ.

هذا بالنسبة إلى النية المقومة لعنوان المأمور به.

أما بالنسبة إلى النية بمعنى قصد القربة ، فمع الشك فيها في الأثناء لا تجري قاعدة التجاوز ـ وان قلنا بكونها مأخوذة في المأمور به شرعا لا عقلا ـ لعدم كونها ذات محل مقرر شرعا كي يصدق عليها عنوان التجاوز من المحل.

وأما قاعدة الفراغ فهي تجري بناء على كونها شرطا شرعيا ولو بنحو التقييد. وأما بناء على القول بكونها شرطا عقليا فلا تجري ، لعدم الشك في صحة المأتي به الشرعية ، بمعنى استجماع المأتي به للاجزاء والشرائط الشرعية ، فانه محرز مع القطع بعدم اقترانه بقصد القربة فضلا عن الشك.

وأما ما كان شرطا شرعيا للصلاة مع عدم وجود محل له شرعي كالستر ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق التجاوز عن المحل بالدخول في المشروط.

وأما قاعدة الفراغ : فتجري في المشروط للشك في صحته بالشك في الشرط.

١٩٩

هذا بعد الفراغ منه. أما إذا كان الشك في الأثناء ، فقاعدة الفراغ انما تجري إذا كانت الاجزاء الماضية بنحو يكون لها بنظر العرف عنوان مستقل كالركعة ، دون غيره مما لا يعد كذلك كالآية. إلا ان قاعدة الفراغ انما ينفع جريانها في الأثناء لو كان الشرط محرزا حال الشك بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، أما مع الشك فيه حتى بالإضافة إلى الاجزاء اللاحقة والحالية ، فلا ينفع جريانها فيما مضى من الاجزاء ، فلا مجال على هذا لجريانها.

وأما الشرط الشرعي ذو المحل ، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر ونحوها ، فما ذكره قدس‌سره مما يرتبط بالمقام من جريان قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ لا يزيد عما ذكرناه سابقا نتيجة فراجع.

وأما ما يكون شرطا عقليا للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة ، فلما كان الشك فيه يرجع إلى الشك في وجود الكلمة ، تجري فيها ـ أي : في الكلمة ـ قاعدة التجاوز.

وأما ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر والإخفات ـ لو قيل بكونهما شرطا للقراءة ـ فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق الشيء على مثله ، فالأدلة منصرفة عنه.

وأما المشروط ، فهو وان صدق عليه الشيء إلا ان الشك ليس في وجوده بل في صحته ، فهو مورد لقاعدة الفراغ. إلا ان البحث عنه قليل الجدوى لورود النص على عدم الإعادة مع نسيان الجهر والإخفات فضلا عن صورة الشك ، ولم نعثر على مثال للفرض غير هذا.

هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره (١) ، ولكن في كلامه مواقع للنظر.

الأول : ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز مع الشك في تحقق القصد

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٦٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٠٠