منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

ولكن الإنصاف ان ما ذكره من شمول إطلاق الأدلة للفرض وعموم التعليل له غير ثابت ، وذلك لأن الظاهر من الأدلة ان الشيء المتجاوز عنه مما له محل بالنظر إلى ذاته وبقول مطلق ، بحيث لا يختلف فيه مكلّف عن آخر.

وهذا غير متحقق بالنسبة إلى ما له محل عادي ، فان كون محل الشيء هو هذا ليس بلحاظ ذاته بل بالإضافة إلى الشخص أو النوع ، فمثل هذا لا يكون مشمولا للأدلة من رأس.

ونظير هذا ما يقال من عدم شمول ما دل على حرمة الصلاة في اجزاء محرم الأكل لما كان محرما بالعرض بالنسبة إلى مكلف خاص ـ كما لو كان لحم الغنم مضرا له فيحرم أكله عليه ـ ، باعتبار ظهور الدليل في إرادة محرم الأكل بقول مطلق وبالنظر إلى ذاته.

وأما التعليل ، فهو لا يقتضي التعميم ، لأن ظاهره انه مقام تقديم خصوص ظهور حال المسلم في انه في مقام أداء الوظيفة الشرعية لا يترك ما هو جزء أو شرط على الأصل لا مطلق ظهور حاله ، فلا يشمل تقديم ظهور حاله في عدم ترك ما اعتاده النوع أو بشخصه بلحاظ الاعتياد النوعيّ أو الشخصي كما ذكره قدس‌سره ، لعدم دخله في مقام أداء الوظيفة الشرعية ، لعدم ارتباطه بها ، كما لا يخفى.

الثاني : في اعتبار الدخول في الغير وتعيينه.

لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة التجاوز ، لأخذه في الرواية في موضوع القاعدة. وإنما الإشكال في أن الغير الّذي لا بد من الدخول فيه هل هو مطلق الغير ولو لم يكن مترتبا شرعا على المشكوك كما هو مقتضى إطلاق الغير في النصوص ، كمقدمات الأفعال ، نظير الهوي إلى السجود بالنسبة إلى الركوع؟

أو خصوص الغير المترتب شرعا ، كالسجود بالنسبة إلى الركوع ، فلا يدخل ما كان من قبيل المقدمات؟. فان كان المراد هو مطلق الغير ، كان قيد الدخول في الغير المأخوذ في الرواية قيدا توضيحيا للتجاوز والخروج عن الشيء ، لأن التجاوز لا

١٦١

يتحقق إلاّ بالدخول في الغير ، ولا يكون قيدا احترازيا.

ومن هنا لا يتضح المراد من ما ذكره الشيخ في الموضع الثالث من أن الدخول في غير المشكوك تارة : يكون محققا للتجاوز. وأخرى : لا يكون ، بل يكون التجاوز حاصلا بدونه ، لأن التجاوز مطلقا لا يتحقق إلا بالدخول في الغير (١).

وقد ذهب المحقق العراقي قدس‌سره إلى : ان مقتضى الإطلاقات الدالة على اعتبار التجاوز عن المحل هو اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، لعدم تحقق التجاوز عن المحل بدونه ، وان أخذه في لسان النصوص لأجل كونه محققا للتجاوز عن المحل لا لخصوصية فيه (٢).

أقول : ان التجاوز عن المحل لا يتحقق إلا بالاشتغال بما يكون بينه وبين المتجاوز عنه طولية وترتب ، فالاشتغال بالذكر في أثناء القيام لا يعد تجاوزا عن محل القراءة لعدم الترتب والطولية بينهما ، بخلاف ما إذا دخل في الركوع.

وبما ان الركوع عن قيام لا يمكن بدون الهوي إليه عقلا فاعتبار القراءة عن قيام واعتبار الركوع بعدها مستلزم لترتب الهوي إلى الركوع على القراءة ، وتأخره عنها إما بحكم الشرع بدعوى ان اعتبار ذي المقدمة ـ وهو الركوع ـ مستلزم لاعتبار مقدمته. واما بحكم العقل بلحاظ توقف الركوع على الهوي ، فإذا فرض تأخر الركوع عن القراءة كان الهوي إليه متأخرا عنها أيضا. وعليه فالدخول في الهوي مستلزم للتجاوز عن محل القراءة وهو القيام غاية الأمر التجاوز عن محله العقلي لا الشرعي ، لعدم أخذ الهوي متعلقا للأمر.

وعليه ، فلا بد من البحث في ان المحل الّذي يعتبر التجاوز عنه هو المحل الشرعي ، كالدخول في الركوع بالنسبة إلى القراءة ، أو ما يعم المحل العقلي كالدخول

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١١ ـ الطبعة القديمة.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٥٤ ـ طبعة المؤسسة النشر الإسلامي.

١٦٢

في الهوي بالنسبة إليها.

وأما الالتزام باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا لأجل تقوم التجاوز به فهو ، مصادرة وأول الدعوى ، إذ عرفت ان التجاوز عن المحل يتحقق بالدخول في مثل الهوي. نعم ، التجاوز عن المحل الشرعي لا يكون إلاّ بالدخول في الغير المترتب شرعا ، فينبغي إيقاع الكلام في هذه الجهة كما عرفت.

هذا مضافا إلى ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من : ان عنوان التجاوز عن المحل لم يؤخذ في لسان النصوص ، بل المأخوذ التجاوز عن الشيء المشكوك ، والمراد به التجاوز بالعناية والمسامحة ، لأن التجاوز الحقيقي لا يصدق إلا إذا فرض وجود الشيء. ومن الواضح صدق التجاوز عن القراءة مسامحة إذا دخل في الهوي ، ولا يعتبر فيه الدخول في المترتب شرعا.

إذن ، فالمطلقات لا تقتضي اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، بل يكفى مطلق المترتب ، ويقع الكلام بعد ذلك في وجود ما يقيد هذه العمومات أو المطلقات ظاهره اعتبار الدخول في المترتب شرعا.

وقد ذهب الشيخ رحمه‌الله إلى ذلك وأفاده في بيانه : ان الظاهر من صحيحة إسماعيل بن جابر ـ المتقدمة ـ هو ذلك ، وذلك لظهور انه عليه‌السلام ذكر الأمثلة المذكورة في الصدر توطئة وتحديدا للقاعدة الكلية المذكورة في الذيل ، فمقتضاه ان الغير الّذي لا بد من الدخول فيه في جريان القاعدة ما كان من قبيل السجود بالنسبة إلى الركوع والقيام بالنسبة إلى السجود ، وان ما كان من قبيل الهوي والنهوض لا يعد غيرا ، يكون الدخول فيه محققا لموضوع القاعدة ، وإلاّ لقبح ذكر السجود والقيام في مقام التحديد والتوطئة. « انتهى » (١).

وقد نفاه المحقق الأصفهاني قدس‌سره : بان الظاهر ان الأمثلة المذكورة في

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١١ ـ الطبعة القديمة.

١٦٣

الصدر من باب التمثيل لا التحديد ، وإلاّ للزم الأخذ بجميع خصوصيات الصدر فيقتصر فيها على مورده وهو الشك في الركوع بعد الدخول في السجود والشك في السجود بعد الدخول في القيام.

والقول بالتفكيك بين موضوع الشك والغير ، بحمل ذكر الأول على التمثيل وذكر الثاني على التحديد تحكم بحت. وعدم تعرض الإمام عليه‌السلام للانتصاب والهوي ليس من جهة عدم اعتبار الدخول فيهما ، بل لأجل ان الغفلة الموجبة للشك لا تحصل ـ عادة ـ في حالهما لقربهما من الفعل المشكوك (١).

ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به ، لظهور ان ذكر الخصوصيات في رواية إسماعيل انما هو في مقام تحديد الغير.

واما ما ذكره من استلزام ذلك للالتزام بجميع خصوصيات الصدر المستلزم للاقتصار على خصوص مورد الرواية ..

فهو ممنوع ، للعلم بأن خصوصية الركوع والسجود لم تؤخذ في موضوع الشك ، وإلا لكان تعقيب الصدر بالقاعدة الكلية لغوا محضا ـ كما لا يخفى ـ فبالجملة : ان الصدر ظاهر في كونه في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة الكلية ، وهو يشتمل على جهتين :

موضوع الشك.

والغير الّذي لا بد من الدخول فيه.

ومقتضى القواعد الأولية هو الأخذ بكلتا الجهتين بخصوصياتهما ، إلاّ انه حيث كان هناك مانع من الأخذ بخصوصيات الجهة الأولى لاستلزامه لغوية ذكر القاعدة الكلية اقتصر على الأخذ بخصوصيات الجهة الثانية حيث لا مانع منه.

فالتفكيك في الصدر بالقول بأنه تحديد من جهة وتمثيل من جهة مما لا بد منه

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٠٩ ـ الطبعة الأولى.

١٦٤

فتدبر.

إلحاق : أفتى صاحب المدارك قدس‌سره بعدم الاعتناء بالشك في الركوع لو كان في حال الهوي إلى السجود ، وبالاعتناء بالشك في السجود في حال نهوضه إلى القيام (١).

وقد أشكل عليه صاحب الحدائق رحمه‌الله ، بان هذه الفتوى أشبه بالفتوى بالمتناقضين (٢).

وقد أورد على صاحب الحدائق : بان هذا الكلام مما لا يصلح صدوره من الفقيه ، لأن قاعدة التجاوز ليست من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص والتقييد ، بل هي من القواعد التعبدية التي يقتصر فيها على مورد الدليل ، فكما لا تجري القاعدة بالنسبة إلى اجزاء الوضوء لورود النص ، فكذلك يمكن ان لا تجري في مورد الشك في السجود في حال النهوض لورود النص أيضا (٣).

ولكنه يمكن الاعتذار عنه ، بان نظره إلى ان قاعدة التجاوز من القواعد العامة ، فاما أن يكون دليلها شاملا لمورد الشك في الشيء بعد الدخول في مقدمة الفعل الآخر فيكون عاما لجميع الموارد. واما ان لا يكون شاملا فيكون عالما لجميع الموارد أيضا. فالتفكيك بين الموارد غير ظاهر.

وعلى كل ، فالظاهر استناد صاحب المدارك في فتواه إلى روايتي عبد الرحمن الواردتين في كلا الموردين المتضمنتين لمضمون الفتوى ..

أما الأولى فهي : « قلت لأبي عبد الله : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟. قال عليه‌السلام : قد ركع » (٤).

__________________

(١) العاملي الفقيه السيد محمد. مدارك الأحكام ٤ ـ ٢٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة ٩ ـ ١٧٧ ـ الطبعة القديمة.

(٣) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٠٢ ـ الطبعة الأولى.

(٤) وسائل الشيعة ٤ ـ ٩٣٧ باب : ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث : ٦.

١٦٥

وأما الثانية ، فهي : « قلت لأبي عبد الله رجل رفع رأسه عن السجود فشك قبل أن يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟. قال عليه‌السلام : يسجد قال : فرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟. قال عليه‌السلام : يسجد » (١).

وهاتان الروايتان غير متباينتين منطوقا لاختلاف موردهما.

وانما الكلام في نسبتهما مع رواية إسماعيل بن جابر .. فمن يذهب إلى اعتبار الدخول في مطلق الغير بمقتضى الإطلاق ـ كالمحقق الأصفهاني ـ كان في سعة ، لأن غاية ما يترتب على قوله هو خروج الدخول في النهوض عن الاعتبار بمقتضى الرواية الثانية بالتقييد ، لأن المستفاد من رواية إسماعيل قاعدة كلية يقيد إطلاقها في هذا المورد.

ولا محذور فيه ولا التواء. هذا مع ان التأمل في الرواية الثانية يقرب حملها على قاعدة الفراغ ، وذلك لأنه في سؤاله الأول فرض رفع رأسه عن السجود ثم تحقق الشك ، وهو ظاهر في وقوع السجود منه ، فشكه في السجود وعدمه لا بد ان يرجع إلى الشك في انه سجد واحدة أو اثنتين ، ولكنه لا يتلاءم مع تقييد الشك بما قبل الاستواء جالسا ، إذ لا يختلف الحال في ذلك بين كونه قبل الجلوس أو بعده. مع ان ظاهر النص كون المشكوك فيه نفس ما رفع رأسه عنه.

وعليه ، فاما ان تحمل الرواية على إرادة رفع رأسه عن السجود متخيلا ذلك ثم شك فيه ، أو تحمل على إرادة الشك في صحة سجوده الواقع ، ويمكن ان ينفى السجود بانتفاء بعض خصوصياته المعتبرة فيه ـ فالشك فيها يصحح قوله : « أسجد أم لم يسجد » ـ كما ورد في بعض النصوص انه لا سجود لمن لم يصب أنفه بما يصيب جبينه ، وهو مستعمل عرفا وليس ببعيد ، وفي مثله يحتمل الفرق بين الجلوس وما

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ ـ ٩٧٢ باب : ١٥ من أبواب السجود ، الحديث : ٦.

١٦٦

قبله باعتبار ان الجلوس حالة أخرى والسائل يشك في ان النهوض للجلوس هل هو حالة أخرى أو لا؟. وقد ورد في بعض روايات قاعدة الفراغ اعتبار الدخول في حالة أخرى وحمل النص على هذا الاحتمال اقرب عرفا (١) ، فيكون أجنبيا عن قاعدة التجاوز فتدبر. ومثله سؤاله الآخر ، لوحدة السياق واتحاد التعبير في السؤالين.

وأما من يرى دلالة الرواية على اعتبار الدخول في خصوص الغير المترتب شرعا ، فالتنافي بين هذه الرواية ـ أعني : رواية إسماعيل ـ والرواية الأولى عنده حاصل ، لأن رواية إسماعيل بصدرها تقتضي ـ بمقتضى ورودها للتحديد ـ إلغاء الدخول في الهوي عن الاعتبار ، وهذه الرواية ـ أعني : رواية عبد الرحمن ـ تدل على اعتباره ، فالتنافي ظاهرا حاصل بينهما. أما الرواية الثانية فهي واردة على مقتضى القاعدة المستفادة من رواية إسماعيل. فلا بد من علاج هذا التنافي وحلّه.

وقد قرب المحقق النائيني عدم التنافي والعلاج بما بيانه : ان السجود تارة : نقول بأنه من الأفعال. وأخرى : نقول بأنه من الهيئات.

فعلى الأول : لا بد من القول باعتبار آخر مرتبة الهوي المتصل بالهيئة الساجدية أو تمام الهوي بعد الركوع في حقيقة السجود ، فإذا تحقق أول جزء منه فقد تحقق السجود.

وعلى هذا لا تكون هناك منافاة بين الروايتين ، لأنه على الاعتبار الثاني ـ أعني : اعتبار تمام الهوي في حقيقة السجود ـ تكون رواية عبد الرحمن موضوعها الشك في الركوع بعد السجود ، لأن المفروض انه دخل في السجود بمجرد تحقق الهوي منه ، وهذا الموضوع هو بنفسه موضوع رواية إسماعيل.

__________________

(١) لم يظهر وجه الأقربية ، بل الأقرب هو الأول ، فيكون المورد من موارد قاعدة التجاوز قبل الدخول في الغير المترتب وهو الجلوس بعد السجود. فلاحظ ( منه عفي عنه ).

١٦٧

وعلى الاعتبار الأول ـ أعني : اعتبار آخر مراتب الهوي في حقيقة السجود ـ تحمل رواية عبد الرحمن على هذه المرتبة بقرينة رواية إسماعيل الواردة في مقام التحديد ، فيتحد موردهما ، فلا منافاة بينهما بل بينهما تمام الوفاق.

وعلى الثاني : فيخرج الهوي عن حقيقة السجود ، فيحصل التعارض بين الروايتين ، إلاّ انه يمكن علاجه بالالتزام بتقييد رواية إسماعيل لرواية عبد الرحمن ، وذلك لأن دلالة رواية عبد الرحمن على كفاية مطلق الدخول في الهوي انما كانت بالإطلاق ، فيمكن تقييده وحمله على خصوص الهوي المنتهى إلى السجود بواسطة رواية إسماعيل الدالة على اعتبار الدخول في السجود (١).

ولكن (٢) ما أفاده في بيان تقييد رواية عبد الرحمن عجيب منه ، وذلك لما تقرر من ان التقييد إنما يقتضي تخصيص موضوع الحكم بالطبيعة الملازمة للقيد.

وبعبارة أوضح انه عبارة عن تقييد موضوع الحكم في الدليل المطلق ، وهو الطبيعة السارية بحصة خاصة منه مع المحافظة على موضوعية الطبيعة للحكم ، فأحد الدليلين انما يكون مقيدا للآخر فيما كان مفاده أن موضوع الحكم ليس هو الطبيعة على الإطلاق بل الطبيعة المتقررة في الفرد الخاصّ منها.

أما إذا كان مفاد أحد الدليلين أن موضوع الحكم هو الحصة الخاصة لا الطبيعة المتحصصة ، فلا يكون هذا مقيدا للدليل الآخر الدال على ان موضوع الحكم

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٧٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) يمكن ان يناقش أيضا : ان دلالة رواية إسماعيل على الاعتناء بالشك قبل السجود إنما هي بالمفهوم ـ على ما يأتي ـ ومن الواضح ان المفهوم بالنسبة إلى رواية عبد الرحمن مطلق لشموله لحالتي القيام والهوي ، واختصاص رواية عبد الرحمن بحالة الهوي ومقتضى القواعد الصناعية تقييد المفهوم برواية عبد الرحمن والالتزام بتعدد الشرط في إلغاء الشك في الركوع.

ويحتمل ان إلغاء الشك حال الهوي يستلزم إلغاء خصوصية الشك حال السجود ، لأنه متأخر عن الهوي ، فيتحقق التعارض بين النصين ، فلاحظ. ( منه عفي عنه ).

١٦٨

هو الطبيعة السارية ، بل يكون متعارضا معه ومنافيا له.

فحمل المطلق على المقيد انما يصلح لو كان لسان المقيد بالنحو الأول لا الثاني. فمثلا لو ورد : « أكرم العالم » ثم ورد : « أكرم العادل » ، فتارة : يستفاد من الدليل الثاني تقييد موضوع الحكم وهو العالم بالعادل. وأخرى : يستفاد منه ان موضوع الحكم هو العادل بلا دخل للعلم فيه.

فعلى الأول : يحمل المطلق عليه. وعلى الثاني : لا يحمل لتنافيهما في مقام الدلالة ـ كما لا يخفى ـ وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن مفاد رواية عبد الرحمن على ما ذكره الاعتبار بالشك الحادث حال الهوي مطلقا سواء تعقبه السجود أو لم يتعقبه.

ومفاد رواية إسماعيل الاعتبار بالشك الحادث في خصوص السجود ، فقد أخذ حدوثه في حال السجود موضوعا للحكم فيها. وأما بقاؤه إلى حال السجود مع كون حدوثه حال الهوي فهو غير معتبر في هذه الرواية.

وبالجملة : ليس مفاد رواية إسماعيل على اعتبار الشك الحاصل في السجود ولو بقاء كي يقيد به إطلاق رواية عبد الرحمن لعدم المنافاة بينهما حينئذ ، بل مفادها ان موضوع الاعتبار هو الشك الحادث في السجود دون الحادث في حال الهوي ، فهما متنافيان مفادا ، ولا وجه لحمل إحداهما على الأخرى ، إذ مقتضى كونها مقيدا للإطلاق كون مفادها هو عدم الاعتناء بالشك الحاصل حال الهوي المتعقب بالسجود ، وهو أجنبي عن مفادها بالمرة كما هو واضح جدا.

كما أن أعجب منه إيراد السيد الخوئي عليه : بان التنافي بين المنطوقين غير حاصل ، وإنما هو بين مفهوم رواية إسماعيل ومنطوق رواية عبد الرحمن ، ولا مفهوم لرواية إسماعيل إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لأخذ الشك في مدخول الشرط ،

١٦٩

فلا تصلح للتقييد حينئذ (١).

ووجه العجب : ان الاستدلال برواية إسماعيل على نفي اعتبار الدخول في الهوي لم يكن باعتبار مفهوم الشرط كي يقال بأنه هنا سالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم آية النبأ. بل كان باعتبار مفهوم التحديد الّذي قيل عنه بأنه أقوى المفاهيم وان لم يذكر في كتب الأصول ، وهو تام هاهنا كما لا يخفى. فالإيراد بما ذكر خروج عن الفرض.

مع انه يمكن الالتزام بمفهوم الشرط هاهنا وعدم كون الشرط لبيان تحقق الموضوع ، كي يكون المفهوم بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. بتقريب ان موضوع الكلام في الحديث هو الشاك والمقام مقام بيان حكمه ، فقوله عليه‌السلام : « ان شك في الركوع بعد ما سجد » تفصيل في الشاك ، فالموضوع المقسم هو الشاك في الركوع ، فيكون المفهوم انه ان شك قبل ما سجد يعتني بشكه ، وليس الموضوع هو الشاك في الركوع بعد السجود ، فانتبه.

هذا ، مع ان الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع إذا كان مقيدا بما لا يكون دخيلا في الموضوع عقلا ـ كما فيما نحن فيه وآية النبأ ـ قد يلتزم بثبوت المفهوم فيه إذا انتفى ذلك القيد ، وان ناقشناه في محله ، فراجع مبحث الاستدلال على حجية خبر الواحد بمفهوم آية النبأ ، وقد تقدم ان من جملة القائلين بالمفهوم السيد الخوئي.

ثم أنه ( حفظه الله ) أجاب عن الصحيحة بقصورها عن إثبات المدعى بنفسها.

بتقريب : انه قد عبر فيها بلفظ : « أهوى » بصورة الماضي ، وهو يدل على تحقق الهوي ومضيه ، فيكون موردها هو الشك بعد الوصول إلى السجود ، ولا دلالة فيها على عدم الاعتناء بالشك في الركوع حال الهوي.

نعم ، لو عبر بلفظ المضارع لدلت على المدعى ، واستشهد لما ذكر بمراجعة

__________________

(١) الواعظ الحسيني. محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٠٣ ـ الطبعة الأولى.

١٧٠

الاستعمالات العرفية وان قولنا : « زيد يصلي » يختلف مفادا عن : « زيد صلى » ، فالأوّل يدل على اشتغاله في الصلاة والثاني يدل على انتهائه منها وتحققها منه.

وهذا التقريب منه غير تام ، فان لفظ : « أهوى » وان دل على تحقق الهوي ومضيه ، إلا انه لا ينافي إرادة الشك حال الهوي ، نظير قوله عليه‌السلام في بعض النصوص : « بعد ما سجد » وشبهه ، فانه لا إشكال في إرادة الشك حال السجود منه مع دلالة اللفظ على تحققه بعد تحقق السجود.

نعم ، ما ذكره في مثل : « صلى » و « يصلي » تام ، ونكتة الفرق : ان اللفظ تارة يكون موضوعا لمجموع اجزاء العمل بحيث لا يصدق على كل جزء بخصوصه.

وأخرى يكون موضوعا للمجموع ولكن يصدق على كل جزء من أجزائه. فالأوّل نظير لفظ : « الصلاة » ، فانها موضوعة لمجموع الاجزاء ولا يصدق على كل جزء لفظ : « الصلاة » ، ولا تصدق الصلاة قبل الإتيان بالمجموع. والثاني نظير لفظ السجود ، فانه يصدق على كل جزء من هذه الهيئة الخاصة سجود ، ويصدق السجود بتحقق أول جزء منه.

فما كان من قبيل الأول لا يصح التعبير به بلفظ الماضي بعد تحقق مجموع الاجزاء ، ولذلك كان التعبير بلفظ : « صلى » ، دالا على تحقق الصلاة منه ومضيها ، والتعبير بلفظ : « يصلي » دالا على الاشتغال بها.

أما ما كان من قبيل الثاني ، فيصح التعبير به بلفظ الماضي بعد الإتيان بأول جزء منه ولو لم ينته منه ، فيقال : « زيد سجد » إذا تحقق منه السجود ولو كان حين الاخبار عنه مشغولا بعد بالسجود. ومن قبيل : « السجود » لفظ : « الهوي » فانه لم يوضع لمجموع اجزاء العمل الخاصّ بل يصدق على كل جزء منه لفظ الهوي ، فلا مانع من التعبير بلفظ : « أهوى » الدال على تحقق الهوي ومضيه مع إرادة حال الهوي ، ولا منافاة بين الأمرين ويشهد له التعبيرات الكثيرة الواردة في لسان

١٧١

النصوص ، فراجع.

وعليه ، فلا ظهور في الرواية في كون موردها هو الشك في الركوع بعد الوصول إلى السجود.

فالأولى في الجمع بين الروايتين أن يقال : أن رواية عبد الرحمن تدل على إلغاء الشك الحاصل بعد تحقق الهوي ، وهذا مطلق يحتمل فردين :

الأول : الشك حال الهوي.

الثاني : الشك بعد الانتهاء منه والوصول إلى السجود.

فان كلا منهما يصدق عليه شك بعد الهوي. ورواية إسماعيل تدل على إلغاء خصوص الفرد الثاني من الشك دون الأول ، فيقيد بها إطلاق رواية عبد الرحمن. ولا يرد على هذا الحمل الإشكال المزبور الّذي ذكرنا وروده على ما ذكره المحقق النائيني ، لأن المطلق لم يؤخذ هاهنا هو الشك حال الهوي ، كي يقال بان رواية إسماعيل منافية مفادا لتلك الرواية ، لأن مفادها كون موضوع الحكم هو الشك الحادث حال السجود فقط ، فالطبيعة السارية غير مأخوذة في موضوع الدليل المقيد ، بل أخذ هاهنا الشك بعد الهوي ، وهو مأخوذ في موضوع رواية إسماعيل ، لأن موضوعها هو الشك الحادث حال السجود ، وهو شك بعد الهوي كما لا يخفى.

هذا ، مع ان التحقيق عدم تصور تحقق التجاوز عن الركوع بالهوي إلى السجود ، لأن الهوي إذا لم يكن قد وصل إلى حد الركوع وشك في الركوع لم يكن متجاوزا عن محل الركوع لتمكنه من الركوع فعلا بلا أي شيء ، بل هذا الهوي من مقدمات الركوع. وان كان الهوي متجاوزا حد الركوع ، فهو ليس بنفسه مما يترتب على الركوع بل المترتب هو مجموع الهوي بين القيام والسجود. إذن فلا يتصور تحقق التجاوز عن الركوع بتحقق الهوي ، لأنه بكلا حدّيه غير محقق للتجاوز ، لأنه ليس من الدخول في الغير المترتب ولو بالترتب غير الشرعي.

١٧٢

وعليه ، فاما ان تحمل الرواية على بيان حكم تعبدي بإلغاء الشك في الركوع إذا وجد الإنسان نفسه مشغولا بالهوي إلى السجود ولو لم يكن من مصاديق قاعدة التجاوز. واما ان تحمل على تحقق الشك بعد السجود لا قبله ويكون المراد بقوله : « أهوى إلى السجود » هو الكناية عن سجوده. والاحتمال الأول بعيد جدا بل يقطع بخلافه فيتعين الثاني (١).

__________________

(١) ثم انه يقع الكلام في موردين :

المورد الأول : في جريان قاعدة التجاوز مع الدخول في جزء مستحب كالشك في القراءة بعد الدخول في القنوت.

وتحقيق الكلام : انه إما ان نلتزم بان القنوت جزء مستحب بالتصوير المتقدم في أواخر مبحث الصحيح والأعم ، واما ان لا نلتزم بذلك ، ونقول باستحالته كما ذهب إليه بعض ونلتزم بأنه مستحب في واجب.

فعلى الأول : تجري قاعدة التجاوز في القراءة.

وعلى الثاني لا تجري. وذلك لأن التجاوز عن المحل المعتبر في قاعدة التجاوز لا يتحقق إلا إذا فرض أخذ المشكوك سابقا على المدخول فيه بان اعتبر سابقيته عليه كما اعتبر تأخر المدخول فيه عنه.

وإلا فمجرد الدخول في الغير المترتب المعتبر تأخره عن المشكوك لا يوجب صدق التجاوز عن محل المشكوك ، لعدم أخذ المشكوك سابقا عليه ، فلم يفت محله ، ولا يصدق التجاوز عنه.

ولذا بيّنا ان قاعدة التجاوز لا تجري في صلاة الظهر مع الشك فيها بعد الدخول في صلاة العصر ، لعدم اعتبار سابقيتها على صلاة العصر فيها وان اعتبر ذلك في صلاة العصر ، نعم ، بمقدار شرطيتها لصلاة العصر تجري فيها قاعدة التجاوز.

وعلى هذا فإذا كان القنوت جزء للواجب بحيث يشمله الأمر المؤكد على ما قربناه ، كان يعتبر في القراءة المتعلقة لهذا الأمر ان تكون سابقة على القنوت ، فإذا دخل في القنوت تحقق التجاوز عن القراءة فمع الشك فيها تجري القاعدة.

وأما إذا لم يكن القنوت جزء ، بل كان مستحبا ظرفه الصلاة. فهو وان اعتبر فيه ان يكون

١٧٣

.....................................

__________________

مسبوقا بالقراءة. لكن لم يؤخذ في القراءة ان تكون سابقة على القنوت ولذا لو تركه لا يلزم إخلال في القراءة. ومقتضاه ان الدخول في القنوت لا يحقق التجاوز عن القراءة لعدم فوات محلها ، فلا تجري قاعدة التجاوز فيها مع الشك إلا بمقدار تصحيح القنوت بها ، لأنها بهذا المقدار مما تحقق التجاوز عنه ، كما في مثل صلاة الظهر وصلاة العصر. فتدبر.

المورد الثاني : في جريان قاعدة التجاوز في مثل السجدة إذا شك فيها وهو في القيام للثالثة مع علمه بنسيان التشهد.

والحق عدم الجريان ووجهه : ان المعتبر في التجاوز الدخول في ذات الغير المترتب ـ كما عرفت ـ. ومن الواضح ان القيام المترتب على السجود هو القيام المسبوق بالتشهد لا مطلق القيام. فمع العلم بعدم تحقق التشهد يعلم بان هذا القيام ليس هو القيام المترتب بذاته على السجود ، فلا يتحقق به التجاوز عن محل السجدة.

وهذا الوجه هو العمدة. لا ما ورد في بعض الكلمات من لغوية القيام شرعا في تنزيله منزلة العدم ، أو انه بالعود إلى التشهد يكون الشك شكا في المحل. فتدبر. هذا حكم ما لو علم بترك التشهد.

أما لو شك فيه أيضا بان شك في الإتيان بالسجدة والتشهد فله صورتان :

إحداهما : ان يشك فيهما بنحو التلازم وبشك واحد ، بان كان يدور أمره بين الإتيان بهما معا وتركهما معا.

والأخرى : ان يشك في كل منهما بشك مستقل بلا تلازم بينهما.

أما الصورة الأولى : فالحكم فيها انه لا تجري فيها قاعدة التجاوز لا في السجدة ولا في التشهد.

أما في السجدة ، فلأنه مع الشك في تحقق التشهد لا يعلم ان القيام الّذي هو فيه المترتب على السجود أو غيره ، كما أشرنا إليه ، فلا يجوز تحقق التجاوز ، فيكون من موارد الشبهة المصداقية لعموم القاعدة.

وأما في التشهد ، فلعدم إحراز تجاوز المحل بالنسبة إليه وذلك لأن المعتبر في التشهد ان يكون بعد السجود وقبل القيام ، فمحله ما بين السجدة والقيام ، فمع الشك في تحقق السجدة لا يحرز تجاوز محل التشهد عند الدخول في القيام ، لأن تجاوز محله يتوقف على تحقق السجدة ، والمفروض

١٧٤

تذنيب : (١) في الشك في الجزء الأخير من العمل ، وهو يتصور على وجوه :

__________________

تحقق الشك فيها.

ومن هنا يظهر الحال في الصورة الثانية وانه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في السجدة ولا في التشهد.

(١) تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الجزء الأخير : ان الاحتمالات أو الأقوال فيها أربعة :

عدم الجريان مطلقا سواء دخل في امر مرتب شرعا كالتعقيب ، أو دخل في المنافي السهوي والعمدي كالاستدبار.

والجريان مطلقا.

والتفصيل بالجريان في الأول دون الثاني.

والتفصيل بالعكس.

وهذا هو الأقوى. وبيانه : ان التجاوز عن المحل يعتبر فيه أخذ المتجاوز عنه سابقا على المدخول فيه ولا يكفي فيه مجرد أخذ المدخول فيه متأخرا عن المشكوك كما عرفت في القنوت والقراءة وصلاة الظهر وصلاة العصر. وبعبارة أخرى ، يكون السبق مأخوذا في صحة السابق ، ولا يكفي أخذه في صحة اللاحق.

وعليه ، فمثل التعقيب وان أخذ متأخرا عن التسليم ، إلا أنه لم يؤخذ في التسليم ان يكون قبل التعقيب ، بل يصح ولو لم يتعقبه تعقيب. فلو قدم التعقيب لم يبطل التسليم ، بل يبطل التعقيب لفقدان شرطه. وعليه فلا يتحقق التجاوز عن التسليم بالدخول في التعقيب ـ كما ادعي لأجل انه دخول في الغير المترتب شرعا ـ ، نظير الوضوء لو أخذ بنفسه شرطا للصلاة فانه قد عرفت ان قاعدة التجاوز انما تجري فيه بمقدار ما يصحح به الصلاة لا بإتيانه بقول مطلق وهكذا في مثل صلاة الظهر لو شك فيما بعد الدخول في العصر.

ومن الغريب ان من يذهب في تلك الموارد إلى عدم إجراء قاعدة التجاوز إلاّ بمقدار تصحيح المشروط بالمشكوك ، يذهب في ما نحن فيه إلى جريان القاعدة لإثبات التسليم ، مع انهما من واد واحد. فتدبر. فظهر بهذا البيان وجه عدم جريان القاعدة عند الشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب.

١٧٥

.................................

__________________

وأما جريانها عند الشك فيه بعد الدخول في المنافي السهوي والعمدي ، فقد ينفي بان المنافي ليس أمرا مترتبا على التسليم كي يكون الدخول فيه محققا للتجاوز.

ولكن التحقيق : ان التسليم وان لم يؤخذ سابقا على المنافي في لسان الأدلة. إلا انه من ملاحظة دليل مانعية المنافي إذا وقع أثناء الصلاة يستفاد اعتبار تعقب التسليم للتشهد بلا فصل بالمنافي ، فيعتبر في التسليم ان يقع عقيب التشهد بلا ان يفصل المنافي بينهما. فمحل التسليم بعد التشهد بلا فصل ، فإذا فرض تحقق المنافي في الأثناء لزم من ذلك فوات محل التسليم وتجاوزه ، فالشك فيه والحال هذه يكون من الشك بعد التجاوز ، فيكون من موارد القاعدة.

هذا تحقيق الحال في هذه المسألة وقد ظهر مما ذكرناه وجوه الأقوال الأخرى ومناقشتها. هذا بالنسبة إلى قاعدة التجاوز.

وأما جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير فتحقيق الكلام فيه بإجمال : ان الشك في الجزء الأخير تارة : يكون مع عدم الدخول في الغير أصلا ، بل هو بعد على هيئة المصلى ولكن يشك انه جاء بالجزء الأخير أو لم يجئ. وفي مثله لا تجري قاعدة الفراغ لعدم العلم بتحقق المضي والفراغ من العمل لاحتماله ان يكون سكوته من الآنات المتخللة بين أفعال الصلاة ، لا الآن المتعقب للتسليم ، فلا يحرز موضوع القاعدة. وأخرى : يكون مع الدخول في المنافي السهوي كالاستدبار. ومحل الكلام ما إذا وجد نفسه في حالة غير صلاتية ، بمعنى انه لم يكن ناويا للصلاة وشك في أن ذلك كان منه قبل التسليم سهوا أو انه كان منه بعده ، ومثّل له بما إذا أفاق فرأى نفسه في السجود وشك في انه سجود الشكر بعد الصلاة أو انه سجود الركعة الأخيرة ، فان حالته الفعلية حالة غير صلاتية ، وقد اعتبر المحقق النائيني في جريان القاعدة بتحقق معظم الاجزاء.

ونوقش بان تحقق المعظم يلحظ في تحقق عنوان الصلاة في قبال عدمه لا في كون الشك بعد الفراغ في قبال كونه في الأثناء الّذي هو المقصود فيما نحن فيه.

والتحقيق : ان المراد من لفظ الفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل فان مفهومه يساوق ذلك فانه بمعنى الخلو ، ومن الواضح ان تحقق المنافي السهوي بالنحو الّذي فرضناه يحقق عدم الاشتغال بالعمل والخلوّ عنه لعدم كونه ناويا للصلاة فعلا ، فيصدق به الفراغ فيكون من موارد القاعدة. وليس المراد بالفراغ هو الإتمام والانتهاء من العمل في قبال كونه في الأثناء ، بل صدق الفراغ على

١٧٦

...........

__________________

الإتمام من باب استلزامه للخلو وعدم الشغل.

ولو سلم كون المراد منه هو إتمام العمل والانتهاء منه ، فلا يخفى ان المراد بالعمل ما يعم الصحيح والناقص لا خصوص الصحيح التام ، لأنه ينافي فرض الشك في الصحة. ومن الواضح انه يصدق بتحقق المعظم ، فإذا تحقق المعظم صدق الفراغ عن العمل والانتهاء منه بعد الدخول في القاطع ، فان الدخول في القاطع دخول في حالة مباينة للصلاة ، والمفروض تحقق الصلاة بتحقق المعظم ، فقد صدق الانتهاء من الصلاة ـ بالمعنى الأعم ـ ولعل هذه النكتة هي السبب في اعتبار المحقق النائيني تحقق المعظم في جريان القاعدة ، فلا يتوجه عليه النقاش المزبور.

هذا مع انه ليس في روايات الباب ما ورد فيه التعبير بالفراغ الا رواية زرارة الواردة في الوضوء المتكفلة للتفصيل بين الشك في أثناء الوضوء والشك بعده وهي واضحة الدلالة بملاحظة صدرها على كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل وعدم الخلو منه. فلا فلاحظها.

هذا كله بالنسبة إلى عنوان الفراغ.

وأما لفظ المضي ، فقد ذهب السيد الخوئي إلى انه بمعنى الفوات وعدم إمكان التدارك ولذا لم يلتزم بجريان القاعدة إذا كان الشك بعد الدخول في المنافي العمدي خاصة كالتكلم لاحتمال كونه سهويا فيمكن التدارك.

ولكن فيه : انه لا قرينة على هذا الظهور بل الظاهر انه بمعنى التحقق في الزمان الماضي والسابق ، وعليه ، فلا يختلف الحال فيه بين الدخول في المنافي السهوي أو العمدي ، بعد تحقق معظم الاجزاء لصدق مضي الصلاة إذا وجد نفسه فعلا في حالة غير صلاتية. كما هو محل الكلام.

ثم لا يخفى انه بناء على ما ذكرناه من كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل ، لا يتحقق الفراغ إلا بالبناء على تمامية العمل ، فيكون الفراغ المقصود هو الفراغ البنائي ، لكن لا من باب استعمال لفظ الفراغ في الفراغ البنائي دون الحقيقي كي يقال انه لا دليل عليه بعد كونه خلاف الظاهر ، بل الفراغ مستعمل في الفراغ الحقيقي ، لكن الفراغ الحقيقي بالمعنى الّذي عرفته لا يتحقق إلا بعدم نية العمل وبنائه على تماميته ، إذ ما دام ناويا للعمل يكون مشتغلا به.

نعم ، الفراغ بمعنى الإتمام والانتهاء في مقابل الأثناء يتحقق حقيقة ولو بدون بناء إذ العمل يتم

١٧٧

الأول : أن يكون الشك فيه مع عدم الاشتغال بشيء أصلا وعدم تحقق السكوت الطويل الموجب لفوات محل التدارك ، ولا إشكال في عدم كون مثل هذا الشك موردا لقاعدة التجاوز ، لعدم تحقق التجاوز عن المحل والدخول في الغير المعتبر في جريان القاعدة.

الثاني : ان يكون الشك بعد الاشتغال بأمر غير مرتب على الجزء الأخير ولكنه كان منافيا له بوجوده العمدي ، كما لو شك في التسليم وهو مشغول في الكلام.

وقد بنى السيد الخوئي ( حفظه الله ) ـ في مصباح الأصول ـ على عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذا الفرض ، لعدم التجاوز في مثل هذا الفرض ، لعدم التجاوز عن المحل وإمكان التدارك لكون المفروض انه ليس منافيا للجزء الأخير بوجوده المطلق بل بوجوده العمدي ، فيمكن التدارك لاحتمال كون الكلام صدر عن سهو (١).

وفيه :

أولا : ان فوات محل التدارك ليس مقوما لتحقق التجاوز عن المحل وإلا للزم أن يخص جريانها في موارد الشك في الشيء مع الدخول في الغير الركن ، فلا تشمل مورد الشك في التكبيرة وهو في القراءة والشك في السجود وهو في التشهد أو في القيام ، ولا ملتزم بذلك ، كيف؟ وهذه الموارد مورد النصوص.

وثانيا : انه لم يؤخذ في لسان الرواية التجاوز عن المحل من مقومات قاعدة التجاوز كي يقال بأنه في مثل هذا الفرض لا تجري القاعدة لعدم التجاوز عن المحل ، بل المقوم لجريان القاعدة هو صدق التجاوز عن الشيء بالعناية ، سواء تجاوز عن المحل أم لم يتجاوز ، لأنه هو المأخوذ في لسان الرواية موضوعا للقاعدة.

__________________

ولو فرض انه بعد بانيا على عدم التمامية اشتباها وسهوا. واما الاشتغال فلا حقيقة له الا نية العمل لأن الصلاة معنى قصدي يتقوم بالقصد فما دام ناويا للصلاة فهو بعد مشتغلا بها ولو كان اشتغاله سهويا ، فلاحظ تعرف.

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٩٣ ـ الطبعة الأولى.

١٧٨

وفي مثل الفرض يصدق التجاوز بالعناية باعتبار أن الملتفت إلى العمل لا يترك الجزء الأخير ويأتي بالمنافي ، فمع إتيانه بالمنافي يصدق لا محالة التجاوز عن التسليم بالعناية ، فيتحقق موضوع القاعدة.

وهذا الوجه مأخوذ مما أفاده المحقق الأصفهاني في مقام تحقيق معنى الغير الّذي لا بد من الدخول فيه ، وبه جزم بان المراد به مطلق الغير مما لا يجتمع مع ترك المشكوك حال الالتفات (١).

ومما ينبغي ان يعلم ان هذا الكلام في هذا الفرض مبني على اعتبار الدخول في مطلق الغير ، وإلا فمع اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا بالخصوص لا إشكال في عدم جريان القاعدة حينئذ.

الثالث : ان يكون الشك فيه بعد الاشتغال بأمر مرتب عليه شرعا ، ولكنه غير مانع من تداركه ، كالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب.

وقد بنى المحقق النائيني قدس‌سره في هذا المثال بالخصوص على جريان قاعدة التجاوز لصدق الدخول في الغير ، واستشهد على ذلك بإلغاء الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة الوارد في رواية زرارة السابقة. بتقريب : ان الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة يشرف الفقيه على القطع بعدم الاعتناء بالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب ، لاتحادهما في الخروج عن حقيقة الصلاة (٢).

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه الله ) بإيرادين :

الأول : انه لا ملازمة بين الموردين في جريان قاعدة التجاوز ، لأنه منوط بالتجاوز عن المحل ، وهو لا يصدق إلاّ فيما كان محل المشكوك سابقا بحسب الجعل

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٠٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٣٤ ـ الطبعة الأولى.

١٧٩

الشرعي على الغير الّذي صار الشك بعد الدخول فيه ، وكان محل الغير مؤخرا عن المشكوك فيه.

وهذا المعنى موجود في الأذان والإقامة دون التسليم والتعقيب فان الأذان قد أخذ محله شرعا سابقا على الإقامة أخذ محلها متأخرا عن الأذان ولو بلحاظ أفضل افرادها.

والتعقيب وان أخذ مؤخرا عن التسليم ، لكن التسليم لم يؤخذ شرعا سابقا على التعقيب ، إذ لا يشترط في التسليم وقوعه قبل التعقيب كما لا يخفى ، فالتجاوز عن المحل صادق عند الشك في الأذان حال الاشتغال بالإقامة ، وغير صادق عند الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب ، فجريان قاعدة التجاوز هناك لا يستلزم جريانها هنا.

الثاني : بالنقض بما لو شك في إتيان الصلاة حال الاشتغال بالتعقيب ، فانه مع الالتزام بجريان القاعدة في الشك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، لا بد من الالتزام بجريانها في الشك في الصلاة مع الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار ، لأن التعقيب مترتب شرعا على الصلاة. مع انه لا ملتزم بذلك من الفقهاء بل المتفقهين (١).

وهذان الإيرادان وجيهان في الجملة ، ولكنه يمكن مناقشتهما في أنفسهما ..

أما الأول : فهو تام لو لم يلتزم بما أفاده المحقق الأصفهاني الّذي ذكرناه في الوجه الثاني ، لتقوم صدق التجاوز عن المحل باعتبار السابقية على الغير شرعا.

أما مع الالتزام بما أفاده قدس‌سره من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل في جريان القاعدة ، بل المعتبر هو صدق التجاوز بالعناية ، فلا يبقى فرق فارق بين الصورتين ـ أعني : صورة الشك في الأذان وصورة الشك في التسليم ـ لتحققه في

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٩٤ ـ الطبعة الأولى.

١٨٠