منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

الحقيقي ، وهذا لا مجال له بالنسبة إلى بعض النصوص (١) ، مما يمكن ان تكون نسبة التجاوز والمضي فيها إلى الشيء بمعناه الحقيقي نسبة حقيقية ، فانه مع إمكان حمل اللفظ على ظاهره اللغوي لا وجه للتصرف فيه وحمله على غير معناه الموضوع له.

وأما الاحتمال الثالث ـ وهو رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ بالتقريب السابق الّذي ذكرناه في دفع المحذور الرابع من كون المجعول أولا هو قاعدة الفراغ ثم نزل الشك في وجود الجزء منزلة الشك في الكل في خصوص باب الصلاة ـ فهو ممتنع من جهتين.

الأولى : عدم اختصاص قاعدة التجاوز موردا بالصلاة ، بل تجري في غيرها كما ستعرف.

الثانية : انه مع تسليم الاختصاص بالصلاة ، فلا دليل على ان ذلك ـ أعني عدم الاعتناء بالشك في الجزء فيها ـ كان من باب التنزيل أو الحكومة ، كما قرره قدس‌سره ، كي يرجع الجعل إلى قاعدة واحدة هي قاعدة الفراغ ، إذ لا ظهور من لفظ النصوص في ذلك.

هذا ، ويمكن ان يقرب ما أفاده قدس‌سره : ان الروايات الواردة في إلغاء الشك في اجزاء الصلاة مذيلة بحكم عام ، كقوله عليه‌السلام في رواية زرارة الآتية : « إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (٢) ، وقوله في رواية إسماعيل الآتية : « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (٣). وهذا الحكم العام ظاهر في كون موضوعه الشك في الصحة لا الوجود ، كما هو مقتضى لفظ التجاوز والمضي على المشكوك والخروج منه فان جميع ذلك ظاهر في كون الشيء مفروغا عن وجوده ، وإنما الشك في شأن من شئونه وهو

__________________

(١) كقوله عليه‌السلام : كل شيء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.

(٢) وسائل الشيعة ٥ ـ ٣٣٦ باب : ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث : ١.

(٣) وسائل الشيعة ٤ ـ ٩٧١ باب : ١٥ من أبواب السّجود ، الحديث ٤.

١٤١

الصحة.

وإذا تم هذا ، يظهر ان تطبيق هذا الحكم على المصاديق المذكورة في الصدر لا يكون إلا من باب تنزيل الشك فيها منزلة الشك في الصحة ، وهو مما يقتصر فيه على مورده المتيقن وهو خصوص اجزاء الصلاة.

هذا غاية ما يمكن ان يوجّه به ما أفاده قدس‌سره ، لكن يرد عليه : ان الذيل إذا كان ظاهرا في كون الموضوع هو الشك في الصحة فالتحفظ عليه يستلزم التصرف في ظهور الصدر وحمل المصاديق المذكورة فيه على بيان مصاديق الشك في الصحة لا الوجود ، إذ ليست دلالتها على إرادة الشك في الوجود بنحو النص الّذي لا يمكن التصرف فيه.

فتكون الروايات ظاهرة صدرا وذيلا في بيان قاعدة الفراغ كما سنقرّبه.

ولو لم يمكن الجمع بذلك ، فما أفاده من الجمع بحمل الرواية على التنزيل ليس جمعا عرفيا ونتيجة ذلك إجمال النصوص وعدم استفادة شيء منها. فلاحظ.

وأما الاحتمال الأخير ( الرابع ) ـ وهو عدم الأساس لقاعدة التجاوز ، وان المجعول ليس إلاّ قاعدة الفراغ ، فلا يلغي الشك في الوجود شرعا ـ فهو وان كان احتمالا في قبال الفتاوى والإجماع ، لكنه مما يمكن الجزم به عند لحاظ روايات الباب المستدل بها على ثبوت القاعدة ، فان عمدتها روايتا زرارة (١) ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟. قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ؟. قال عليه‌السلام : يمضي. قلت : شك في القراءة وقد ركع؟. قال عليه‌السلام : يمضي ، قلت : شك في الركوع وقد سجد؟. قال عليه‌السلام : يمضي على صلاته. ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ ـ ٣٢٦ باب : ٢٣ من أبواب الخلل الحديث : ١.

١٤٢

في غيره فشكك ليس بشيء ـ وإسماعيل بن جابر (١) ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه ـ.

وقبل الكلام فيهما لا بد من بيان شيء ، وهو : ان الشك في الشيء قد يطلق ويراد به الشك في أصل وجود الشيء. وقد يطلق ويراد به الشك في شأن من شئون الشيء مما يرجع إلى صحته مع تسليم وجوده ، فهو قابل لكلا الإطلاقين ، إلاّ انه مع عدم القرينة ظاهر عرفا في الأول ـ أعني الشك في وجود الشيء ـ إذا عرفت هذا فنقول :

أما رواية زرارة ، فصدرها وان كان يشتمل على التعبير بالشك في الشيء الظاهر عرفا في الشك في وجوده ، إلاّ ان ذيلها الوارد بنحو تطبيق كبرى كلية على الموارد الجزئية المذكورة في الصدر ظاهر في كون الشك في صحة الشيء ، لقوله فيه : « يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء » ، فان الخروج من الشيء ظاهر عرفا في كون أصل الشيء موجودا ، لأنه مع عدم وجوده لا يتحقق الخروج عنه.

فلو لم نقل بان ظهور الذيل في الشك في الصحة مع الفراغ عن أصل الوجود موجب لتغيير ظهور الصدر في الشك في الوجود ، بأن يكون المراد من الشك في صحة الشيء ، فان التعبير قابل لذلك ، لأنه وارد مورد التطبيق ، وأقوائية ظهوره في مؤداه من ظهور الصدر. فلا أقل من تصادم الظهورين ، فتكون الرواية مجملة لا يعتمد عليها في شيء من القاعدتين.

وأما رواية إسماعيل ، فالكلام فيها كالكلام في سابقتها ، فان قوله : « شك فيه »

__________________

(١) وسائل الشيعة ٤ ـ ٩٧١ باب : ١٥ من أبواب السجود ، الحديث : ٤.

١٤٣

ظاهر ـ كما عرفت ـ في الشك في الوجود ، ولكن قوله : « جاوزه » ظاهر في التجاوز عن نفس الشيء ، وهو يقتضي تحقق وجود الشيء ، فيتصادم الظهوران ، لدوران الأمر بين حمل : « جاوزه » على خلاف ظاهره والتصرف فيه بإسناده إلى المحل ، أو حمل : « شك فيه » على الشك في صحته. ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، بل إبقاء ظهور لفظ التجاوز على اسناده الحقيقي أولى ، لظهور قوله : « فليمض عليه » في ان تحقق أصل الشيء مفروغ عنه وإلاّ فلا يتحقق المضي عليه ، كما لا يخفى.

فالمتحصل : عدم إمكان الاعتماد على هاتين الروايتين في إثبات قاعدة التجاوز ، فلا يثبت لها أساس في النصوص ، فلا يبقى الا قاعدة الفراغ.

وعلى هذا فلو شك في الصلاة في جزء سابق وقد دخل في غيره ، ينبغي له العود للإتيان به ، إلاّ إذا كان قد دخل في ركن لفوات محل التدارك حينئذ ، حتى مع العلم بترك الجزء. وعليه فان كان الجزء المشكوك من غير الأركان ، كالقراءة أو التشهد فلا يبطل عمله بمقتضى حديث : « لا تعاد ». وان كان من الأركان ، كالركوع بعد دخوله في السجدة الثانية حكم ببطلان عمله ولزوم الإعادة.

ولو انتفى هذا الاحتمال أو لم يمكن الالتزام به ، فلا محيص عن الالتزام بتعدد القاعدتين ، وان أحدهما ـ وهي قاعدة التجاوز ـ موضوعها الشك في وجود الشيء بعد التجاوز عن محله. والأخرى ـ وهي قاعدة الفراغ ـ موضوعها الشك في صحة الشيء بعد فرض وجوده ، وعلى هذا البناء يقع الكلام في الجهات الأخرى للبحث.

الجهة الثالثة : في عموم قاعدة التجاوز لجميع صور الشك في الوجود ، أو اختصاصها بالصلاة ، كما ذهب إليه المحقق النائيني على ما عرفت.

وقد استدل للعموم بإطلاق لفظ : « شيء » في رواية زرارة ، وعموم لفظ : « كل شيء » في رواية إسماعيل. فانهما غير ظاهرين في خصوص شيء دون آخر ، فلا محيص عن الالتزام بالعموم ، لدلالتهما على ذلك.

ولكن من خص جريانها باجزاء الصلاة قرب عدم دلالة الروايتين على

١٤٤

العموم ، بان : « شيء » في رواية زرارة لفظ مطلق ودلالة المطلق على الإطلاق انما هو بتمامية مقدمات الحكمة ، وإحداها عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهي منتفية في المقام لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهو اجزاء الصلاة ـ باعتبار كونها مورد الرواية ـ فلا يمكن التمسك بإطلاق لفظ : « شيء » لعدم انعقاده. واما لفظ : « كل شيء » ، فهو كسابقه ، لأن ، « كل » لا تدل على العموم بنفسها وانما بلحاظ دلالة مدخولها ، وبعبارة أخرى : ان : « كل » تدل على عموم ما يراد من مدخولها ، وإلاّ فهي بنفسها غير دالة على الاستغراق والعموم ، فتتوقف دلالتهما على العموم على انعقاد مقدمات الحكمة في لفظ : « شيء » الّذي هو مدخولها ، وإحداها ـ وهي عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب ـ منتفية ، لوجوده وهو مورد السؤال.

ولكن هذا التقريب انما يتجه صدوره ممن يقول باعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة ـ كالمحقق الخراسانيّ ـ اما من لا يقول بتوقف انعقاد الإطلاق على عدم وجود القدر المتيقن ـ كالمحقق النائيني ـ ، فصدور هذا التقريب منه غير واضح الوجه.

مع ان نفس المبنى مناقش فيه ، إذ لا يلتزم أحد بحمل المطلقات على خصوص مواردها ـ حتى المحقق الخراسانيّ ـ فلا وجه لاعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب في التمسك بالمطلقات.

ولو تنزل على ذلك ، فما ذكر في الرواية الثانية من ان لفظ : « كل » لا تدل على العموم بالوضع ، بل بمقتضى دلالة مدخولها ، فالمتبع هو عموم المدخول ، وهو يكون بتمامية مقدمات الحكمة ، وهي غير تامة كما عرفت.

غير وجيه ، لما حقق في محله من ان : « كل » من ألفاظ العموم بحيث تدل عليها بالوضع ، فلا يحتاج في دلالتها عليه إلى تمامية مقدمات الحكمة. وكلام المحقق الخراسانيّ مختلف من هذه الناحية.

وبالجملة : فما ذكر في التخصيص باجزاء الصلاة انما يتم بتمامية أمرين :

١٤٥

أحدهما : اعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة.

والآخر : عدم دلالة : « كل » على العموم بالوضع ، بل باعتبار ما يراد من مدخولها.

أما قاعدة الفراغ ، فهي عامة لجميع الأعمال ، لأنه وان كانت بعض رواياتها واردة في الطهور والصلاة ، إلاّ ان هناك روايتين يتمسك بهما للعموم :

إحداهما : رواية : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » فان : « كل » دالة على العموم ولا ظهور لها في فرد دون آخر.

والأخرى : رواية باعتبار ما ذكر فيها من قوله عليه‌السلام : « فانه حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » ، فانه وان لم يكن تعليلا ـ كما قيل ـ لكنه أشبه به ، ولسانه لا يختص بالوضوء ـ وان كان موضوعه ـ بل هو ظاهر في ان الشخص حين يتوجه للعمل أو حين يشتغل فيه يكون أكثر التفاتا إلى خصوصيات العمل وجزئياته المعتبرة فيه من وقت شكه ، وهذا لا يختص بعمل دون آخر.

فالمتحصل مما ذكرناه : ان كلتا القاعدتين تجريان في جميع الموارد التي تنطبقان عليها.

الجهة الرابعة : في عموم قاعدة التجاوز للشك في جزء الجزء ، كما لو شك في الآية السابقة وهو في اللاحقة ، أو في الكلمة السابقة في الآية وهو في اللاحقة ، أو في الحرف السابق من الكلمة وهو في اللاحق.

وقد قرب عدم عمومها واختصاصها بجزء العمل بوجوه ثلاثة :

الأول : ما قرره المحقق النائيني من : انه لا وجود لقاعدة التجاوز كي يتمسك بعموم دليلها أو إطلاقه ، وانما هي من باب تنزيل الجزء منزلة الكل ، وإلحاقه حكما بالكل ، فلا بد من الاقتصار على المقدار المنزل منزلة الكل ، وليس في أدلة التنزيل ما يتكفل تنزيل جزء الجزء منزلة الكل ، بل هي مقتصرة في التنزيل على خصوص الاجزاء كما لا يخفى على من لاحظ الروايات.

١٤٦

وهذا الوجه قد عرفت ما فيه من عدم الدليل إثباتا على تكفل الدليل تنزيل الجزء منزلة الكل ، بل ظاهره ـ لو تم ـ بيان قاعدة كلية عامة.

الثاني : ان المعتبر في قاعدة التجاوز ، التجاوز عن محل المشكوك ، فلا بد من فرض محل له قد جعله الشارع وقرره ، بحيث يكون فرض المحل امرا زائدا على المأمور به لا أمرا يتقوم به المأمور به ، فمع عدم وجود محل مقرر له شرعا لا يتحقق موضوع قاعدة التجاوز ، فلا وجه لجريانها ، وجزء الجزء لا محل له كي يقال تجاوز عنه ، فمثلا : امر الشارع بتكبيرة الإحرام في الصلاة وهي : « الله أكبر » ، فسبق كلمة : « الله » على كلمة : « أكبر » ليس امرا ملحوظا لدى الشارع ومأمورا به ، بل ليس المأمور به الا التكبيرة لا إجزاءها ، والسبق المذكور من مقوماتها ، فلا يقال لمن عكس وقال : « أكبر الله » انه جاء بالمأمور به ( التكبيرة خ ل ) من غير ترتيب ، بل يقال انه لم يجئ بالمأمور به ، فالترتيب المذكور من مقومات المأمور به لا أمر زائد عليه تعلق به الأمر الشرعي.

وهذا الوجه غير تام ، لأنه لا دليل على ما ذكره فيه من فرض كون المحل امرا زائدا على المأمور به مقررا من قبل الشارع ، بحيث يلحظ الترتب الشرعي ، بل الأدلة بالنسبة إلى المحل عامة فهي تدل على انه لو تجاوز عن محل الشيء المقرر له مطلقا سواء كان التقرير شرعيا ـ كأجزاء الصلاة ـ أو غيره ـ كما في آيات السورة وكلمات الآية وأحرف الكلمة ـ فانه يصدق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى كل هذه الأمور.

الثالث : دعوى الانصراف ببيان : ان لفظ : « الشيء » في الروايات منصرف إلى الأجزاء بخصوصها دون أجزائها ، فعليها يحمل اللفظ ، فتختص القاعدة بها. وهذا كانصراف لفظ : « الحيوان » في أدلة عدم جواز الصلاة في اجزاء غير المأكول منه عن الإنسان إلى غيره.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تمامية هذه الدعوى بالنسبة إلى أحرف

١٤٧

الكلمة ، لأنها وان كانت شيئا بالدقة ، لكن لفظ : « الشيء » في الرواية لا يشملها عرفا وينصرف عنها.

وهذه الدعوى لا تبتني على برهان كي يناقش فيه ، بل هي دعوى وجدانية يسهل لكل أحد المناقشة فيها بدعوى عدم الانصراف.

والتحقيق : ان المعتبر في جريان قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير المترتب ، بحيث تكون ذات الغير المأمور بها محرزة ، وان لم يحرز بكونها امتثالا لفرض الشك في الجزء السابق.

وعليه ، نقول : ان المركب المؤلف من اجزاء ..

تارة : يكون الإخلال بأحد اجزائه لا يوجب سلب وصف الجزئية عن سائر الاجزاء بحيث يكون ذات الجزء متحققة ، كما لو لم يجئ بالركوع وأتى بالسجود ، فانه يصدق على السجود انه ذات الجزء المترتب عليه ، فمع الشك في الركوع وهو في السجود يكون الشك بعد الدخول في غير المترتب.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بل يكون الموجود من الاجزاء في ظرف فقدان البعض الآخر مباينا عرفا للموجود مع وجود البعض الآخر ، وفي مثله لو شك في بعض الاجزاء وقد دخل في غيرها لا يصدق انه دخل في الغير المترتب على المشكوك لاحتمال فقدان المشكوك ، فيكون هذا الجزء مباينا للمأخوذ في العمل بذاته ، فلا يكون قد دخل في الغير المترتب ـ ولو كان ترتبه عقليا ـ وهذا نظير اجزاء الكلمة الواحدة فان الراء من : « أكبر » لا تتصف بأنها جزء : « أكبر » إلاّ إذا جيء بالكلمة بتمامها ، فالانضمام كما هو شرط للامتثال يكون مقوما لصدق عنوان المأمور به وصيرورة كل حرف جزء لذات المأمور به.

وعليه ، فمع الشك في التلفظ بالكاف وقد دخل في الراء لا يصح إجراء قاعدة التجاوز ، لعدم إحراز الدخول في الغير. ومثله التكبير المتقوم بكلمة : « الله أكبر ». بالنحو الخاصّ ، فان انضمام الكلمتين مقوم لصدق عنوان التكبير على اجزائه ، وكل

١٤٨

كلمة بمفردها لا تكون جزء للتكبير ، فمع الشك في قول : « الله » وهو في : « أكبر » لا مجال لإجراء قاعدة التجاوز. ولعل مثله اجزاء الآية ، وكل عنوان واقعي يتقوم بالمجموع كالحمد والشهادة ونحو ذلك.

والضابط : هو ما عرفت من عدم تحقق ذات الجزء مع الإخلال بالجزء الآخر ، بحيث يعد المتحقق مباينا بذاته لجزء المأمور به المنضم إلى غيره وقد يقع الإشكال في تشخيص بعض المصاديق.

فالتفصيل في جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء بالنحو الّذي عرفت هو المتعين.

ثم إن ثمرة هذا المبحث تكون كثيرة لو لم نقل بجريان قاعدة الفراغ في مورد الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه ، فانه مع البناء على جريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى جزء الجزء لو شك بعد الفراغ من الجزء في جزء الجزء لا تجب الإعادة ، ومع البناء على عدم جريانها تجب.

أما مع القول بجريان قاعدة الفراغ في الجزء بعد الفراغ منه ، فلا يختلف الحال عملا في مورد الشك بعد الفراغ عن الجزء في جزئه باختلاف البناءين ، لجريان قاعدة الفراغ في الجزء نفسه ، لأن الشك المذكور يرجع إلى الشك في صحته بعد الفراغ منه ، وهو مورد القاعدة. فظهور الثمرة العملية ينحصر ـ على هذا القول ـ في مورد الشك في أثناء العمل.

الجهة الخامسة : في عموم قاعدة التجاوز للشك في الشرط في أثناء المشروط.

وقد ذكر الأصفهاني لمنع العموم وجوها وأجاب عنها.

الأول : ان نسبة الشرط إلى جميع الاجزاء نسبة واحدة ، فمع الشك في تحققه في الجزء السابق يشك قهرا بتحققه في الجزء اللاحق الفعلي ، فإحرازه بالقاعدة بالنسبة إلى الجزء السابق لا يجدي شيئا ، لعدم إمكان إحرازه بها بالنسبة إلى الجزء

١٤٩

الفعلي ، لعدم تحقق التجاوز عنه ، فيكون اعتبار قاعدة التجاوز في الفرض لغوا ، للتلازم بين الشك في شرط الجزء السابق وشرط الجزء الفعلي اللاحق.

والجواب : ان هذا الوجه انما يتم بالنسبة إلى ما لا يمكن تبدله ( حدوثه خ ل ) في الأثناء كالطهارة ، أما ما يمكن تبدله كالستر ، فلا يتم هذا الوجه فيه ، ومثاله : لو لبس في أثناء الصلاة ما يستره قطعا وشك بعد ذلك في ان ما كان لابسه سابقا كان ساترا أو لم يكن ، فانه لا ملازمة في مثل الفرض كما لا يخفى ، فاعتبار قاعدة التجاوز لا يكون لغوا لجريانها في هذه الموارد ، وهو كاف في رفع اللغوية ، فإطلاق المنع لا يخلو عن الخدش.

الثاني : انه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون الشيء ذا محل ، والشروط لا محل لها كي يتحقق التجاوز عنه.

والجواب : انه ...

ان أريد بعدم المحل ان المشروط ليس ظرفا ومحلا للشرط ، كما ان الكل ليس محلا للجزء ، فهذا لا يختص بالشرط المقارن بل يعمه ويعم السابق واللاحق ، فكما تجري القاعدة بالنسبة إلى الشرط السابق ـ كالوضوء على القول بشرطية نفسه ـ باعتبار كون محله هو الزمان السابق ، فكذلك فلتجر بالنسبة إلى المقارن باعتبار كون محله الزمان المقارن وقد تجاوز عنه الفاعل.

وان أريد بان الشرط انما هو شرط للمجموع لا لكل جزء جزء ، فلا محل له ، وانما المجموع محله. ففيه : انه قد حقق في محله ان الشرط انما هو للمركب ، وثبت بان المركب هو عين الاجزاء بالأسر ، فهو شرط للاجزاء بأسرها فيكون شرطا لكل جزء جزء.

واستشهد على ذلك : بأنه لو انتفى الشرط في بعض الاجزاء دون بعض وأمضى العمل ، لا يقال بتبدل الشرط وانه شرط جديد باعتبار ان الشرط الواقعي للمجموع وهذا للبعض ، بل يقال بانتفائه في بعض دون آخر. فالتفت.

١٥٠

الثالث : ان الشروط من الكيفيات والحالات للمشروط ، فلا يتحقق التجاوز عنها لا بالحقيقة ولا بالمسامحة ، بل التجاوز بكلا معنييه يتحقق بالنسبة إلى المتكيف بها دونها ، فلا مجال حينئذ لجريان قاعدة التجاوز فيها ، لعدم صدق موضوعها.

والجواب : ان الشروط على قسمين : قسم له وجود مستقل ، كالستر والاستقبال والطهارة ، وقسم لا يكون كذلك ، بل يكون كيفا للغير ، كالترتيب والموالاة. فالقسم الأول يتحقق بالنسبة إليه التجاوز ، فلا يكون مشمولا لهذا التقريب. نعم يبقى القسم الثاني ، فان الكلام فيه تام ، لأنه من كيفيات المشروط فلا وجود له إلا بتبع مشروطه.

إلى هنا يظهر ان المحقق الأصفهاني يلتزم بالتفصيل بين ما له وجود مستقل من الشروط وبين ما لا وجود له كذلك ، فتجري القاعدة في الأول دون الثاني.

وقد سبقه إلى ذلك الشيخ وتقريبه واضح ، لأخذ الشيء موضوعا للشك الّذي هو مورد القاعدة ، وواضح عدم صدقه عرفا على ما لا وجود له بنفسه.

إلا أنه قدس‌سره ذكر بيانا آخر يحقق فيه عدم جريان القاعدة في مطلق الشروط ، ومحصله : ان التجاوز قد فسر في بعض النصوص بالخروج عن الشيء والدخول في غيره ، وهذا يستدعي المغايرة بين المتجاوز عنه والمتجاوز إليه ، ولا إشكال في عدم صدق هذا المعنى عرفا في الشروط. فان الاستقبال ـ مثلا ـ واحد مستمر ، لأنه متعدد بحيث يصدق على الاستقبال في الركعة الثانية انه غير الاستقبال في الأولى ، ومع عدم المغايرة لا يتحقق الخروج والدخول في الغير كما لا يخفى ، فلا موضوع لقاعدة التجاوز في الشروط ، فلا مجال لجريانها (١).

وهذا التقريب وان كان بحسب النّظر الأولى وجيها ، إلاّ انه يمكن المناقشة فيه بما ذكر في باب استصحاب الأمور التدريجية ، من : ان الأمر التدريجي وان كان

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٠٢ ـ الطبعة الأولى.

١٥١

مستمرا ومتصلا وواحدا دقة إلاّ انه قد يعد عرفا متعددا بلحاظ طرو بعض الحالات عليه ، كما بالنسبة إلى الليل والنهار ، فانهما يعدان عرفا أمرين ، مع ان الزمان مستمر لا انقطاع فيه.

وعليه ، فالاستقبال ـ مثلا ـ وان كان مستمرا غير منقطع ، إلاّ انه بلحاظ اعتبار الشروط للمركب ـ وهو الاجزاء بالأسر ـ يعد شرطا لكل جزء ، فيرى متعددا بنظر العرف بهذه الجهة وان كان واحدا بالنظر الدقي ، فتتحقق المغايرة عرفا بين الاستقبال في جزء والاستقبال في جزء آخر ، فيصدق الخروج عن الشيء والدخول في غيره.

هذا كله بالنسبة إلى الشروط التي تكون بنفسها متمحضة في الشرطية وليس فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية.

وبعده يقع الكلام في الشروط التي تكون فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية ، بأن تكون بنفسها متعلقا للأمر وموضوعا لأثر ما ، نظير صلاة الظهر ، فانها شرط في صحة صلاة العصر مع انها بنفسها متعلق للأمر وموضوعا للأثر ، فهل مثل هذه الشروط يكون الشك فيها مجرى قاعدة التجاوز بعد الفراغ والبناء على جريانها في الشروط الأخرى.

ووجه تخصيصها بالكلام جهتان :

الأولى : احتمال اختصاص أدلة القاعدة بموارد الشك في القسم الأول من الشروط مضافا إلى الاجزاء.

ويدفعه : ان الأدلة عامة لجميع موارد الشك في الوجود مما كان المشكوك ، له محل مقرر ولو كان مركبا تاما ، فيتمسك بعمومها ، ولا وجه لاحتمال اختصاص الأدلة بموارد دون أخرى.

ويؤيده ورود إلغاء الشك في النص بالنسبة إلى الأذان والإقامة ، مع انها ليست جزءا للصلاة ، وهي مأمور بها بالاستقلال ، لكن لها جهة ارتباط بالصلاة ،

١٥٢

ومثلها الأذان.

الثانية : ان مفاد قاعدة التجاوز ليس هو ترتيب الأثر على وجود المشكوك ، بل هو البناء على تحقق المشكوك ووجوده ، بحيث لا يلزم الإتيان به بعد هذا.

وعليه ، فجريان القاعدة في صلاة الظهر في أثناء العصر أو بعدها يقتضي عدم لزوم الإتيان بالظهر بعد تمام العصر ، لأن مفادها هو البناء على تحقق المتجاوز عنه ، فمقتضاها تحقق الإتيان بالظهر ، فلا وجه حينئذ لوجوب الإتيان بها بعد العصر ، مع انه لا يلتزم به أحد. فالالتزام بجريان قاعدة التجاوز يلزم منه ما ذكر ، كما ان عدم الالتزام به يستلزم تخصيص دليلها بلا وجه.

والتحقيق في رفع هذه الشبهة ، والتوفيق بين عدم الالتزام بعدم لزوم الإتيان بالظهر وجريان القاعدة فيها : ان قاعدة التجاوز وان كان مفادها هو البناء على وجود المشكوك وتحققه ، إلاّ انها انما تقتضي التعبد بالمشكوك بمقداره.

والمشكوك الّذي يكون موردا للقاعدة هاهنا ليس هو صلاة الظهر بقول مطلق ، لأنها بنفسها وبلحاظها ذاتها ، لم يتجاوز عن محلها ، وانما يكون التجاوز عن محلها بلحاظ جهة شرطيتها لصلاة العصر. فالمشكوك الّذي يكون مورد القاعدة في الفرض انما هو صلاة الظهر بهذا الاعتبار ـ أعني باعتبار شرطيتها للعصر ودخالتها في صحة العصر ـ لا بلحاظها نفسها وذاتها ، فجريان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر لا ينافي الالتزام بوجوب الإتيان بها بعد العصر.

ثم إن الشيخ رحمه‌الله فصّل ـ احتمالا لا اختيارا ـ بين الشروط التي يكون محل إحرازها قبل العمل ـ كالوضوء ـ والشروط التي يكون محل إحرازها أثناء العمل ـ كالاستقبال ـ فأجرى قاعدة التجاوز في الأول مع الشك في أثناء العمل دون الثاني ، لأنه لا بيد من إحرازه للاجزاء المستقبلة.

فلا بد من الكلام في هذه الجهة ، كما لا بد من دفع توهم سراية ما ذكر بالنسبة إلى صلاة الظهر بالإضافة إلى اجزاء العمل ، لأن فيها جهة الشرطية للاجزاء

١٥٣

اللاحقة ـ لارتباطيتها ـ فإحراز الإتيان بالجزء يجدي لما سبق من الاجزاء دون ما لحق لعدم التجاوز عن محله.

وتوضيح الكلام على وجه يتضح به الحال يتوقف على بيان أقسام الشروط ـ بلحاظ جهة ارتباطها بالعمل التي هي شرط له ـ وأحكامها.

فنقول : الشروط على أقسام أربعة :

الأول : ان يكون فيه جهة زائدة على جهة الشرطية ، كأن يكون موضوعا لحكم بنفسه مضافا إلى جهة شرطيته ، كأجزاء الصلاة ، فان كلا منها مأمور به بنفسه ، كما انه شرط لغيره.

الثاني : ان يكون متمحضا في جهة الشرطية ، وكان بوجوده الواحد المستمر أو بوجوده المجموعي شرطا لكل جزء من أجزاء العمل ، كما لعله يظهر من أدلة اعتبار الاستقبال انه كذلك وأنه أمر واحد معتبر في جميع أجزاء الصلاة.

الثالث : ما كان كذلك وكان شرطا لكل جزء في ظرفه ، كالتستر.

الرابع : ما كان كذلك ، ولكنه كان مما لا بد من إحرازه قبل العمل ، كالوضوء ـ على قول ـ أما النحو الأول ، فلا إشكال في ان جريان قاعدة التجاوز فيه في الأثناء مجد ، لأنه بذاته له محل مقرر شرعا قد تجاوز عنه ، فإذا جرت قاعدة التجاوز فيه بلحاظ جهة جزئيته تحقق هذا الجزء تعبدا ، فيتحقق شرط الاجزاء اللاحقة تعبدا.

فلا وجه حينئذ لأن يقال بعدم إجرائه لعدم تحقق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما لحق من الاجزاء ، لأن إجراءها فيه لا يكون بلحاظ جهة شرطيته كي يتأتى ما ذكر ، بل لحاظه نفسه وجهة جزئيته.

وأما النحو الثاني ، فلا مجال لقاعدة التجاوز فيه في الأثناء مع فرض إحرازه بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لوجهين.

الأول : إن الشرط انما هو الشرط المستمر لا كل جزء منه ، فجريان قاعدة

١٥٤

التجاوز فيه بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يثبت الشرط إلاّ بالملازمة ـ كما لا يخفى ـ وهو بنفسه لا أثر له شرعا ، لأن الأثر يترتب على وجوده المستمر.

وقد يقال : بأنه يمكن إجراء قاعدة التجاوز فيه ويضم إليها الاستصحاب ، بان يستصحب فيثبت استمراره بالاستصحاب ، لأنه موضوعه ، فيترتب الأثر لأن الشرط هو موضوع الاستصحاب ، ولا مانع من استصحاب الشرط كيف ما كان.

لكنه يشكل : بان الاستصحاب يتوقف على ثبوت اليقين السابق بالمستصحب إما الوجداني ، أو التعبدي ، وكلاهما منتف.

أما الأول : فواضح ، لأنه الفرض.

وأما الثاني : فلأنه انما يثبت بقاعدة التجاوز ، وجريانها يتوقف على كون موضوعها مما يترتب عليه الأثر بنفسه ، وقد عرفت ان لا أثر له مطلقا ، فلا تجري بنفسها فيه.

الثاني : انه يعتبر في جريانها تحقق التجاوز عن محل المشكوك ، وإذا كان الشرط هو المجموع أو المستمر لا يتحقق التجاوز عنه ما دام في الأثناء ، كما لا يخفى.

وأما النحو الثالث ، فلا يرى هناك مانع لجريانها بالنسبة إلى الاجزاء السابقة ، لأن المفروض كونه شرطا لكل جزء في ظرفه ، فقد تحقق التجاوز عنه بالتجاوز عن نفس الجزء.

وأما النحو الرابع ، وهو موضوع الكلام الشيخ ، فالحق فيه عدم جريانها فيه في الأثناء ، لعدم إجرائها. وذلك لأن ذات الشرط لا يكون مأمورا به بنفسه ، وإلاّ لكان دخيلا في المركب فيكون جزءا ، وهو خلاف الفرض ، وانما أخذ التقيد به دخيلا ، وجزءا في الصلاة ، فالشرطية تنتزع عن أخذ التقيد بالعمل. ومعنى التقيد في هذا النحو من الشروط ، هو كون العمل المركب مسبوقا بالعمل وهو الوضوء ، فحيث ان العمل المركب عبارة عن اجزائه ، فكل جزء أخذ فيه مسبوقيته بالوضوء ، فإحراز المسبوقية بالقاعدة بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يجدي بالنسبة إلى اللاحقة ، لأنها

١٥٥

لم يتجاوز عن محلها ، فلا يتحقق موضوع القاعدة بالنسبة إليها.

وهذا الكلام بعينه جار في مورد الشك في صلاة الظهر في أثناء العصر ، لأن الصورتين بملاك ونحو واحد.

هذا تمام الكلام في جريان قاعدة التجاوز في الشروط ، فتدبر جيدا.

الجهة السادسة : في عموم قاعدة الفراغ للإجزاء ، بمعنى انه إذا شك في صحة الجزء بعد الفراغ عنه ، فهل تجري قاعدة الفراغ فيه فيبني على صحته ، أو لا بل تختص بمورد الشك في صحة الكل؟. الّذي يقتضيه عموم رواية زرارة : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » هو جريانها في مورد الشك في صحة الجزء ، إذ لا وجه لاختصاصها بالكل. وان كانت الرواية الثانية موضوعها الصلاة والطهور. والتمسك بالعموم على التعميم كاف في المطلوب ، فلا حاجة حينئذ إلى الاستدلال بفحوى قاعدة التجاوز ، من انه إذا كان الشك في وجود الجزء ملغى في نظر الشارع فإلغاء الشك في صحته أولى.

مضافا إلى انه لم يعلم كون هذه الأولوية من أي نوع هي ، هل هي من الأولوية القطعية أو الظنية التي ترجع إلى القياس؟

نعم ، يستثنى من ذلك ما إذا كانت جهة الشك مقومة لتحقق الجزء كالموالاة في حروف الكلمة ، أو الترتيب بين حروفها ، فانه مع الشك فيها لا يمكن إجراء القاعدة لإثبات صحة الكلمة لعدم إحراز الكلمة كي يتعبد بصحتها ، فتدبر.

الجهة السابعة : في ان قاعدة الفراغ هل تعم ما إذا كان منشأ الشك في الصحة هو الشك في الشرط أو لا؟ والحق العموم ، لمقتضى عموم رواية زرارة السابقة ، إذ لا ظهور فيها في كون المنشأ هو الشك بالإخلال بجزء دون شرط.

ثم ان للشيخ رحمه‌الله كلاما في الموضع السادس يرتبط بهذه الجهة من الكلام ، وهذا نصه : « ان الشك في صحة المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان ، بل هو هو ، لأن مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح ، ومحل الكلام ما لا يرجع

١٥٦

فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية. لكن الإنصاف ان الإلحاق لا يخلو عن إشكال ، لأن الظاهر من اخبار الشك في الشيء انه مختص بغير هذه الصورة ... ».

وهذه العبارة لا تخلو عن غموض ، وهي مع قطع النّظر عن التعليل المذكور يمكن حملها على أن قاعدة الفراغ محكومة لقاعدة التجاوز ، لأن نسبتها إليها نسبة الأصل المسببي إلى الأصل السببي ، لأن الشك في الصحة ينشأ من الشك في وجود جزء أو شرط ، ويمكن إحرازه بقاعدة التجاوز ، فلا يبقى لقاعدة الفراغ موضوع تعبدا. وبذلك يكون حكم الشك في الصحة حكم الشك في الإتيان.

وهذا انما يتحقق فيما إذا كان منشأ الشك مما له وجود مستقل بحيث يصدق التجاوز عنه ويكون قابلا للتعبد بنفسه ، أما ما لا يكون كذلك ، كالموالاة بين حروف الكلمة والترتيب بين الكلمات ، فلا يتم ما ذكر ، لعدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذه الأمور لعدم استقلاليتها في الوجود فلا يتحقق التجاوز عنها فهذه الفروض تكون محل إشكال.

ولكن هذا التفسير لا يتلاءم مع التعليل المذكور لأن ظاهره رجوع مورد قاعدة الفراغ إلى مورد قاعدة التجاوز لا انتفاء موضوعها تعبدا بجريان قاعدة التجاوز الظاهر في تعدد المورد نوعا.

وعلى هذا تكون العبارة غير واضحة المراد ، لأن ما ذكره بعد التعليل من كون محل الكلام ما لم يرجع الشك فيه إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة كالموالاة. غير تام ـ بحسب النّظر البدوي ـ لأن المنشأ إذا كان هو الشك في مثل الموالاة يرجع الشك إلى الشك في وجود العمل الصحيح أيضا.

فالجمع بين التعليل وما ذكره بعده مشكل (١).

__________________

(١) يمكن ان يكون نظره قدس‌سره إلى التفصيل بين الشرائط المعتبرة شرعا في الصحة مما

١٥٧

ويمكن ان يقال في مقام التوفيق : ان ما يعتبر في الصحة عنوانا تارة : يكون في نفسه خارجا عن حقيقة الشيء ، كالطهارة والاستقبال ، فانهما من شروط الصلاة ولكنهما خارجان عن حقيقتهما ، إذ صدق الصلاة لا يتقوم بهما. وأخرى : يكون مقوما ، كالموالاة بين الحروف والكلمات ، فانها مقومة عقلا لصدق الكلمة والآية وبدونها لا تصدقان ، ولذلك كانت من الشروط العقلية ، فإذا وجد الشك في الموالاة حصل الشك في وجود نفس الكلمة أو الآية.

ومن هنا يتضح المراد من كون محل الكلام ما لم يكن من هذا القبيل ـ أعني : من قبيل الشك في الموالاة ـ ، فان ما كان من هذا القبيل تجري فيه قاعدة التجاوز رأسا ، فلا إشكال فيه.

فالمراد : ان محل الكلام في السراية ـ أعني : سراية أدلة قاعدة التجاوز إليه باعتبار رجوع الشك فيه إلى الشك في الوجود ـ هو النحو الأول. أما النحو الثاني فلا إشكال فيه لأن الشك فيه شك في الوجود ، فلا يتكلم في السراية بالنسبة إليه لشموليته لقاعدة التجاوز بلا كلام.

__________________

ـ لا يتقوم بها العمل المشروط كالطهارة والاستقبال بالنسبة إلى اجزاء الصلاة ، وبين الشرائط المقومة عقلا للعمل وليست معتبرة شرعا في صحته ، ولا وجود لها مستقل عن وجود المشروط كالموالاة في الكلمة ، فان فقدانها يستلزم عدم صدق الكلمة على الحروف الملفوظة. ففي الأول تجري القاعدة مع الشك في الشروط لأنها ذات وجود مستقل ومتعلقة للأمر الشرعي.

واما في الثاني فيشكل جريانها في نفس الشرط لعدم تعلق الأمر به ولا في المشروط لظهور الأدلة في كون موضوع القاعدة هو الشك في أصل الوجود لا ما إذا علم وجود شيء وشك في انه هو الجزء أو غيره. فمراده ان محل الكلام في إلحاقه بالشك في الوجود هو القسم الثاني لا الأول لأن الأول ، مجرى القاعدة بنفسه بلا حاجة إلى الإلحاق. كما انه يشكل الإلحاق في القسم الثاني للاستظهار المتقدم ، فلا بد من التماس دليل آخر على إثبات صحة العمل مع الشك فيه. فتدبر. وقد تحمل بعض الاعلام في توجيه كلام الشيخ رحمه‌الله والله سبحانه العالم.

١٥٨

وبهذا لا يكون هناك تناف بين التعليل وما ذكره بعده ، إذ ليس المفاد ما قد يستظهر من ان ما كان من قبيل الموالاة محل إشكال في إرجاعه إلى مورد قاعدة التجاوز كي تشمله أدلتها ، بل المفاد انه من مواردها فلا كلام فيه ، وانما الكلام في غيره.

وعليه ، فلا وجه لما ذكره المحقق الأصفهاني من : انه ان أراد عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض فهو وجيه ، لأن موردها الشك في صحة الموجود لا في الموجود. وان أراد عدم جريان قاعدة التجاوز في نفس الموالاة فهو وجيه أيضا ، لعدم استقلالها في الوجود ، إلاّ انه يمكن جريان القاعدة في نفس الجزء للشك في وجوده ( انتهى ). فانه لا مجال حينئذ إلى مثل هذا كما لا يخفى.

الجهة الثامنة : فيما يعتبر في قاعدة التجاوز. والكلام في موضعين :

الأول : في اعتبار التجاوز عن المحل وتعيينه.

لا إشكال في اعتبار التجاوز عن المحل في جريان قاعدة التجاوز ، فانه من مقومات موضوعها ، لما عرفت من ان التجاوز عن نفس المشكوك مع فرض الشك غير متصور إنما الإشكال في تعيين المحل الّذي لا بد من تحقق التجاوز عنه ، فهل هو خصوص المحل الشرعي الّذي قرره الشارع ، أو هو أعم منه ومن غيره من العقلي والعادي؟ ـ فان المحل ..

تارة : يكون مقررا من قبل الشارع ، كمحل اجزاء الصلاة ، فان الترتيب الخاصّ بينها من مقررات الشارع.

وأخرى : يكون مقررا من قبل العقل بمقتضى الوضع أو غيره وليس مقررا من قبل الشارع ، نظير تقدم : « الله » على « أكبر » في التكبيرة ، أو تقدم حروف الكلمة بعضها على بعض ، فان ذلك ليس من مجعولات الشارع بحيث يكون العكس إتيانا بالمأمور به من غير ترتيب ، بل من مقررات العقل ، فلو عكس لم يتحقق المأمور به بالمرة بنظر العقل.

١٥٩

وثالثة : يكون بمقتضى العادة والالتزام العادة والالتزام النوعيّ أو الشخصي ، كما لو كان من عادة شخص الصلاة في أول الوقت أو الموالاة في الغسل أو نظير ذلك ـ.

أما التجاوز عن المحل الشرعي فمما لا كلام فيه أصلا.

وانما الكلام في التجاوز عن المحل العقلي أو العادي ، فهل تجري قاعدة التجاوز مع حصوله أو لا.

أما التجاوز عن المحل العقلي ، فالتحقيق كفايته في جريان القاعدة لإطلاق الأدلة ، إذ لم يقيد التجاوز فيها بالمحل المقرر شرعا بل أخذ مطلقا ، ويصدق على الدخول في الغير مطلقا تجاوز عن محل الشيء ، ولو كان الترتيب غير شرعي ، فيكون مشمولا للأدلة.

هذا مع انه يمكن ان يقال : ان المحل العقلي معتبر شرعا ، فيكون محلا شرعيا ، وذلك لأن الأمر يتعلق بالكلمة بكيفيتها الخاصة لا بذات الحروف كيف ما تحققت. وبعبارة أخرى : ان الأمر متعلق بالكلمة الخاصة ، وهي عبارة عن الحروف بالكيفية الخاصة ، فالترتيب بين حروف الكلمة ملحوظ في متعلق الأمر ، فيكون شرعيا.

هذا مع ما تقدم من عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل الكلمة والتكبيرة مع الشك في جزئها مع قطع النّظر عن كون المحل عقليا أو شرعيا. وعلى هذا فالبحث المزبور يخلو عن الفائدة ، فالتفت.

وأما التجاوز عن المحل العادي ، فقد بنى الشيخ رحمه‌الله على التأمل في كفايته في جريان القاعدة ، لإطلاق الأدلة وعموم التعليل في قوله : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » ، فانه ظاهر في تقديم الظاهر على الأصل ، فالمدار على الظهور النوعيّ ولو كان من العادة ، ولأنه يلزم من جريانها تأسيس فقه جديد ومخالفة إطلاقات كثيرة (١).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١١ ـ الطبعة القديمة.

١٦٠