منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

لو كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء ، فالتفت وتأمل جيدا والله سبحانه ولي التوفيق.

المقام السادس : في معارضة أصالة الصحة مع غيرها من الأصول.

والكلام.

تارة : يكون في حكم الأصل بالنسبة إلى الأصل الحكمي الجاري في نفسه في جميع مواردها ، وهو أصالة عدم ترتيب الأثر وتحقق النقل والانتقال في العقود.

وأخرى : يكون في حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي الجاري في نفسه في بعض الموارد ، كأصالة عدم البلوغ عند الشك في صحة العقد وفساده من جهة الشك في البلوغ ، فان البلوغ أمر حادث فالأصل عدمه.

ثم انه حيث لم يثبت أمارية القاعدة أو أصليتها ـ وان لم يكن فرق بينهما من حيث عدم ثبوت اللازم والملزوم بها كما أشرنا إليه ـ لا بد من الكلام من الجهتين ، فيتكلم في حكمها بناء على الأمارية ، كما يتكلم في حكمها بناء على الأصلية.

أما نسبتها مع الأصل الحكمي ، فهما في رتبة واحدة لاتحاد موردهما ، فأصالة الصحة معناها ترتب الأثر ، كما ان أصالة الفساد معناها عدم ترتب الأثر.

فان قلنا بأنها أمارة ، سواء أثبتت اللازم أو لم تثبته ، تكون مقدمة على الأصل الحكمي بالورود ـ كما حققناه ـ وإلاّ فبالتخصيص لا بالحكومة ، وان كانت قول المشهور. وعلى كل فهي مقدمة عليه لا محالة ، لأنها رافعة لموضوعه اما تكوينا ـ كما هو مبنى الورود ـ أو تنزيلا ـ كما هو مبنى الحكومة ـ.

وان قلنا بأنها أصل ، فمقتضى القاعدة التي تقتضيها الصناعة هو تعارضهما وتساقطهما ، لكن الاتفاق تم على تقدم أصالة الصحة ، إما للزوم اللغوية ـ لأن أكثر مواردها بل كلها يوجد فيها أصل حكمي ، فيلزم من سقوطها تخصيص الأكثر وهو قبيح ـ أو للزوم اختلال النظام ، أو لقيام سيرة المتشرعة على جريانها في مثل هذه الموارد.

١٢١

وأما حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي ..

فان قلنا بأنها إمارة وهي تثبت اللازم والملزوم ، كانت حاكمة على الأصل أو واردة عليه ـ على الخلاف الّذي عرفته ـ لأن قيامها على الصحة يثبت تحقق الموضوع المشكوك ، فلا يبقى مجال للأصل النافي لقيام الأمارة في مورده.

وان قلنا بأنها أمارة ، ولكن لا تثبت اللوازم والملزومات ..

فقد يتوهم : تقدم الأصل عليها ، حيث أنه أصل موضوعي وهي أمارة حكمية ، وما هو في رتبة الموضوع ـ ولو كان أصلا ـ مقدم على ما هو في رتبة الحكم ـ ولو كان أمارة ـ.

ولكنه توهم فاسد ، لأنه انما يتم إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ـ أعني : ثبوت الحكم للموضوع بنحو القضية الحقيقية ـ فان الأصل الجاري في رتبة الموضوع ينقح الموضوع فيتقدم عليها.

أما إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم في مورد الشك في الموضوع ـ كما فيما نحن فيه ـ لم يكن الأصل الجاري في الموضوع مقدما عليها ، لأنه وان رفع الشك تعبدا ، ولكنه ـ أعني : الشك ـ لم يؤخذ في موضوع الأمارة كي ينتفي موضوعها بجريانه ، بل هو مأخوذ بنحو الموردية.

وعليه ، فالأمارة في نفسها لا مانع من جريانها. كما ان الأصل الموضوعي يترتب عليه نفي ترتب الأثر ، فيتعارضان والنتيجة هي التساقط.

وان قلنا بأنها أصل لم يكن شك ـ بمقتضى القواعد الصناعية ـ في تقدم الأصل الموضوعي عليها لرفعه لموضوعها كما لا يخفى.

ولكن الصناعة وان كانت على هذين القولين تقتضي عدم جريان أصالة الصحة فعلا. ولكن الالتزام بها في هذه الموارد قول الأصحاب ، وعللوه : بلزوم اللغوية والسيرة العقلائية. وكلا التعليلين غير صالحين لإسناد القول المذكور.

أما لزوم اللغوية فلأن دليل أصالة الصحة ليس لفظيا كي يقال بأنه يلزم من

١٢٢

نفي أصالة الصحة في هذه الموارد استعمال المطلق في الفرد النادر.

وأما السيرة العقلائية ، فلأنها انما تكون حجة لو لم يردع عنها. ويمكن ان يكون الشارع قد اكتفي في مقام الردع بهذه الأصول النافية للترتب الأثر ، فلا دليل على حجيتها. نعم ، الّذي يمكن التمسك به في إثبات القول المذكور هو قيام سيرة المتشرعة بما هم متشرعة على التمسك بأصالة الصحة في هذه الموارد. فتدبر.

هذا بالنسبة إلى أصل المطلب. يبقى الكلام في كلام الشيخ بالنسبة إلى الأصل الموضوعي ، فقد اضطربت نسخ الرسائل في نقل كلام الشيخ ووقع الخلط فيها بين كلامه وكلام السيد الشيرازي قدس‌سرهما. والّذي نقله المحقق الأصفهاني عن الشيخ يخالف ما في النسخ بالمرة ، فقد نقل كلاما له والسيد الشيرازي وذكر ان الشيخ صحح كلام السيد الشيرازي كما رآه بخطه الشريف.

أما ما نقله عن الشيخ ، فمحصله : ان أصالة الصحة تقتضي صحة العقد ، بمعنى جامعيته للشرائط التي منها البلوغ ـ مثلا ـ فيترتب عليها النقل والانتقال. والاستصحاب يقتضي ـ بضميمة الجزء الآخر المحرز بالوجدان وهو العقد ـ عدم ترتب الأثر لتمامية موضوع الفساد ، وهو العقد الصادر من غير البالغ. فيتعارض الأصلان.

ثم اعترض على هذه المعارضة : بأن الأثر يترتب على العقد الصادر من البالغ ، فنفي هذا الأثر بإثبات ضد السبب يكون بالملازمة ، لأن عدم الأثر بعدم السبب لا بوجود ضد السبب ، فيبقى الاستصحاب بلا أثر فلا يجري فتبقى أصالة الصحة بلا معارض.

ثم عدل عن هذا الأصل ـ أعني : أصالة عدم البلوغ ـ إلى أصل آخر وهو أصالة عدم السبب الناقل ، أو أصالة عدم صدور العقد من البالغ الّذي هو موضوع عدم الأثر ـ كما مر ـ فتتحقق المعارضة بين الأصلين ، لأن أحدهما ينفي الأثر والآخر يثبته.

ولكنه قدس‌سره أجاب عن هذه المعارضة : بان أصالة عدم السبب

١٢٣

بالنسبة إلى نفي الأثر من باب اللااقتضاء ، لأن عدم السبب انما لا يقتضي وجود المسبب لا انه يقتضي عدمه. وأصالة الصحة بالنسبة إلى إثبات الأثر من باب الاقتضاء ، لأنها تثبت مقتضى الأثر ، ولا مزاحمة بين ما له الاقتضاء وما لا اقتضاء له. وعليه فتجري أصالة الصحة بلا مزاحم ولا معارض وتتقدم على الأصل الموضوعي.

هذا ما نقله عن الشيخ قدس‌سره (١).

والإشكال على ما ذكره أخيرا واضح ، لأن ما يتكفل لبيان شيء بنحو اللااقتضاء وما يتكفل لبيان ضده بنحو الاقتضاء لم يثبت كون تنافيهما من باب التزاحم ، كي يقال بعدم المزاحمة ، بل سيأتي انه من باب التعارض. وعلى تقدير كونه من باب التزاحم فهما انما لا يتزاحمان فيما لو لم يكن في الدليل الدال على الأمر اللااقتضائي اقتضاء للااقتضاء. أما مع وجود المقتضى للاقتضاء يحصل التزاحم طبعا. وما نحن فيه كذلك ، لأن التعبد بالأصل انما يكون بلحاظ وجود المصلحة في المتعبد به والمقتضي لثبوته ، فالامر اللااقتضائي الثابت بالاستصحاب له مقتضي قهرا فيحصل التزاحم.

واما ما ذكره عن السيد الشيرازي (٢) ، فحاصله : ان المراد بالصحّة في أصالة الصحة إن كان نفس ترتب الأثر ، فلا إشكال في تقدم أصالة عدم البلوغ عليها ، لأن الشك في ترتب الأثر يكون ناشئا عن الشك في بلوغ العاقد ، والأصل المذكور يرفعه تعبدا كما هو شأن كل أصل سببي مع الأصل المسببي. وان كان بمعنى استجماع الشرائط التي منها البلوغ ، يحصل التعارض بين الأصلين بلا حكومة لأحدهما على الآخر ، لأن أصالة الصحة مقتضاها صدور العقد من البالغ ، ومقتضى الاستصحاب ـ بضميمة الجزء الآخر ـ صدوره من غير البالغ.

وبعد ان ذكر هذا اعترض على هذه المعارضة : بان مفاد أصالة الصحة هو

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٢٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣٢٣ ـ الطبعة الأولى.

١٢٤

التعبد بوجود العقد الصحيح ، ومفاد الاستصحاب التعبد بعدم سببية العقد الموجود ، ولا تقابل الا بين وجود العقد الصحيح وعدمه ، أو بين سببية العقد الموجود وعدمها.

وهذا الاعتراض مجمل المفاد ويحتمل فيه وجوه ثلاثة :

الأول : ما ذكره الشيخ من كون الاستصحاب من الأصول المثبتة ، لأن نفى الأثر المترتب على الضد بإثبات الضد الآخر يكون بالملازمة.

الثاني : ان الأثر انما يترتب على وجود العقد الصحيح ، فنفي صحة العقد الواقع لا تستلزم نفي ترتب الأثر ، بل الّذي يستلزم هو نفي العقد الصحيح ، وهو غير مفاد الاستصحاب.

الثالث : اختلاف مورد الأصلين ، فان المعارضة بين الأصلين انما تكون إذا كان موردهما واحدا ، وأما مع تعدد موردهما ، فلا يحصل بينهما التعارض. ومورد الاستصحاب هو عدم سببية العقد الموجود ، ومورد أصالة الصحة هو وجود العقد الصحيح ، فمورد كل منهما يختلف عن الآخر ، فلا تعارض بينهما.

وهذا الوجه هو الّذي حمل عليه المحقق الأصفهاني عبارة السيد ، مستشهدا على ذلك بما ذكره السيد في مقام دفع هذا الاعتراض ، بان مفاد أصالة الصحة ليس هو التعبد بوجود العقد الصحيح ، بل هو التعبد بصحة العقد الواقع ، فيتحد مورد النفي والإثبات ، فيحصل التعارض.

وعليه ، فالسيد التزم بالمعارضة بين أصالة الصحة والاستصحاب الموضوعي الجاري في المقام.

وعليه ، فمقتضى الصناعة تساقط الأصلين ، ولكن سيرة المتشرعة قائمة على العمل بأصالة الصحة في هذه الموارد كما ذكرنا. فتدبر جيدا والله ولي التوفيق. انتهى الكلام في أصالة الصحة (١) والكلام بعده في :

__________________

(١) وذلك في يوم الأربعاء ١٩ ـ ٨ ـ ٨٢.

١٢٥
١٢٦

قاعدة الفراغ والتّجاوز

١٢٧
١٢٨

قاعدة الفراغ والتجاوز

والكلام فيها في جهات :

الجهة الأولى : في أنها قاعدة أصولية أو قاعدة فقهية.

لا إشكال في كونها قاعدة فقهية ، لأن جميع التعاريف للمسألة الأصولية بشتى أنواعها تشترك في كون مورد المسألة الأصولية هو الشبهة الحكمية ، ومورد القاعدة التي نحن بصددها انما هو الشبهة الموضوعية كما لا يخفى ، فلو انطبقت جميع خصوصيات المسألة الأصولية على القاعدة لما استلزم كونها مسألة أصولية لكون موردها هو الشبهة الموضوعية.

هذا ولكن تقدم تعريف المسألة الأصولية بما لا يختص إجراؤه بالمجتهد ، بل بما يعم حكمه الشبهة الموضوعية ، فراجع.

إلاّ ان يراد من بيان ضابط المسألة الأصولية بيان الضابط لمسائل معينة

١٢٩

حررت لغرض الاستنباط ، فلا تشمل مسائل الشبهة الموضوعية والأمر سهل.

الجهة الثانية : ان الشك تارة : يكون متعلقا بوجود الشيء ، وأخرى : يتعلق بصحة العمل الموجود والأول مورد قاعدة التجاوز والثاني مورد قاعدة الفراغ فما يتكفل الإلغاء حكم هذين الشكين هل هو قاعدة واحدة أو قاعدتان؟. وقع الكلام ، في ذلك ، وهو يقع في مرحلتين : مرحلة الثبوت ، ومرحلة الإثبات.

أما مرحلة الثبوت فالكلام فيها يقع في إمكان كون ما يتكفل إلغاء الشكين قاعدة واحدة.

وقد بين في وجه عدم إمكان كونه قاعدة واحدة تقريبات متعددة :

أحدها : ان متعلق الشك الأول وجود الشيء ، وهو مفاد كان التامة ، ومتعلق الشك الثاني صحة الموجود ، وهو مفاد كان الناقصة. وهما ـ أعني : نسبة كان التامة ونسبة كان الناقصة ـ نسبتان متغايرتان لا جامع بينهما ، كي يمكن بيان حكمهما بدليل واحد.

ولكن نسب إلى الشيخ قدس‌سره المناقشة في هذا التقريب ببيان : انه يمكن إرجاع الشك في صحة العمل الموجود إلى الشك فيها بمفاد كان التامة ، وذلك بان يكون الشك في وجود العمل الصحيح ، وهو مفاد كان التامة ، فكلا المتعلقين بهذه النسبة ، فيمكن بيان حكم الشكين بدليل واحد ، لإمكان الجامع (١).

ولكن المحقق العراقي رحمه‌الله (٢) ، أورد على الشيخ : بان مورد الأثر

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١٤ ـ الطبعة القديمة.

(٢) التحقيق ان ما أفاده قابل للمناقشة ، فان الأثر العملي يترتب على مجرد وجود العمل الصحيح ، سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات.

اما العبادات ، فلأنه يكفي في فراغ الذّمّة وحكم العقل بالبراءة إحراز تحقق العمل الصحيح ، ولو لم يعلم صحة هذا المأتي به ، لأن الامتثال يتحقق بإتيان المأمور به.

وأما في المعاملات :

١٣٠

يختلف ، فتارة : يكون موضوعه وجود الشيء بمفاد كان التامة. وأخرى : يكون اتصاف شيء بشيء بنحو مفاد كان الناقصة. فإرجاع الشك في الصحة إلى الشك بنحو مفاد كان التامة لا يجدي في ترتب الأثر المرغوب ، حيث أخذ مورد الأثر الشك في اتصاف العمل بالصحّة ، وهو مفاد كان الناقصة (١).

كما أورد عليه المحقق الأصفهانيّ قدس‌سره : بان العمل الصحيح المأخوذ وجوده في موضوع الشك إما ان يكون بالإضافة إلى الصحة مطلقا ، بمعنى انه لا يلحظ فيه كونه صحيحا ، بل يلحظ الشك في وجوده فيرجع إلى القسم الأول من الشك. واما ان يكون بالإضافة إليها مقيدا ، بان يلحظ العمل المتصف بالصحّة

__________________

فقد يشكل بان إحراز وقوع العقد الصحيح لا ينفع في ترتب الأثر ، بل لا بد من إحراز ان هذا العقد صحيح.

وفيه : انه يكفي في ترتب الأثر إحراز وقوع البيع الصحيح على العين الكذائية بين الشخصين ، لأن مقتضاه انتقال كل من العينين إلى مالك الأخرى. ولا حاجة إلى إحراز صحة العقد الواقع.

واما ما ذكره قدس‌سره من مثال قضاء السجدة المنسية وبيان ترتب الأثر فيه على إحراز صحة العمل الواقع ، ولا يكفي مجرد وقوع العمل الصحيح.

ففيه : ان دليل لزوم قضاء السجدة لم يقيد بما إذا كانت الصلاة صحيحة ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، وانما اعتبر صحة العمل في لزوم القضاء من جهة استظهار ورود الأمر بالقضاء لتصحيح العمل ، فلا يثبت الأمر به مع فساد العمل للغويته.

ولا يخفى ان اللغوية ترتفع في ما إذا ترتب على القضاء فراغ الذّمّة والقطع بالامتثال ولو لم يحرز ان هذا العمل صحيح ، وما نحن فيه كذلك ، فانه إذا ثبت بالقاعدة المبحوث عنها وجود الصلاة الصحيحة وجاء المكلف بالسجدة بعد العمل الّذي في يده ، يحرز فراغ ذمته. بخلاف ما إذا ترك القضاء ، فانه لا يقطع بفراغ الذّمّة ، فالأثر لا ينحصر بصورة إحراز صحة العمل الموجود بمفاد كان الناقصة ، بل يترتب على إحراز وجود الصحيح بمفاد كان التامة.

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٣٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٣١

فيكون بنحو مفاد كان الناقصة. كما انه لا يمكن ان يكون مهملا ، لامتناع الإهمال في مقام الثبوت.

ولكنه قدس‌سره أفاد في مقام التفصي عن هذا الإشكال ـ أعني : إشكال اختلاف النسبتين ـ مع التزامه بان مورد الأثر الشك في الصحة : ان الصحة المشكوكة تارة تلحظ بمفاد كان التامة. وأخرى تلحظ بمفاد كان الناقصة. فان لوحظ في مورد الشك وجود الصحة بلا لحاظ اتصاف عمل خاص بها ، كان ذلك بمفاد كان التامة. وان لوحظ وجود اتصاف عمل بها ، بان لوحظت وصفا لعمل خاص كانت بمفاد كان الناقصة. وعليه فلا ملزم للالتزام بان الملحوظ في هذا القسم هو اتصاف العمل بالصحّة ، بل ليس هو إلاّ صحة العمل فانه مورد الأثر ، فيمكن لحاظه بمفاد كان التامة.

وعليه ، فلا مانع للجمع بين القاعدتين من جهة تباين نسبتيهما ، لاتحادهما ذاتا (١).

ثانيها : ما ذكره المحقق الأصفهاني بعد تفصيه عن إشكال تباين النسبتين بما عرفت وهو : انه لا جامع بين الشك في وجود الشيء والشك في صحة الشيء كي يتكفل بيان حكمهما دليل واحد (٢).

وربما يقال : انه يمكن تصوير الجامع بان يكون عنوان المشكوك ، فيتكفل الدليل إلغاء الشك ، والبناء على تحقق المشكوك وثبوته أعم من نفس العلم وصحته.

ويشكل على هذا : بان موضوع الكلام تصوير الجامع في مرحلة متقدمة على الشك ، فالمطلوب تصوير الجامع في متعلق الشك ، بحيث يكون الدليل متكفلا لبيان إلغاء الشك فيه فيعم القسمين ، وهو لا يتصور بين الصحة والوجود.

وللمحقق الأصفهاني بيان لإمكان تصوير الجامع وعدم مانعية ما ذكره من

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية ٣ ـ ٢٩٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية ٣ ـ ٢٩٦ ـ الطبعة الأولى.

١٣٢

اختلاف متعلق الشك وعدم الجامع له ، محصله : ان الصحة التي تكون متعلقا للشك ويكون الشك فيها موردا للقاعدة ، تارة : تكون بمعنى ترتب الأثر. وأخرى : تكون بمعنى استجماع العمل للاجزاء والشرائط وثالثة : تكون عنوانا انتزاعيا للاستجماع.

فإن كان المراد بها الأول والثالث ، كان ما ذكر من عدم تصور الجامع بين المتعلقين مسلما كما لا يخفى. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس مفاد القاعدة المتكفلة لإلغاء الشك ترتب الأثر ولا العنوان الانتزاعي ، إذ ليس هو موضوعا للأثر ، بل مفادها استجماع العمل للشرائط والاجزاء الّذي هو موضوع الآثار الشرعية والعقلية ، فيرجع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الكل ، فيكون متعلق الشك بقسميه هو الوجود ـ وان اختلف موضوعه ، حيث انه تارة يكون الكل وأخرى يكون الجزء ـ وذلك كاف في تحقق الجامع (١).

ولكن ما أفاده قدس‌سره لا يجدي شيئا ، لما أشار إليه المحقق العراقي (٢) من : ان موضوع الأثر قد يكون صحة العمل الخارجي لا وجود العمل التام وتحققه في الخارج ، فرجوع متعلق الشك إلى وجود الكل ، بحيث يكون مفاد القاعدة وجود الكل لا كلية الموجود. لا يتلاءم مع ما ذكرناه من كون موضوع الأثر في بعض الموارد تمامية الموجود لا وجود التام.

هذا ، ولكن بعد ان أرجعت الصحة إلى مفاد كان التامة ، بحيث اتحد المتعلقان نسبة ، فما ذكر من عدم تصور الجامع بالتقريب الثاني لا مجال له ، إذ يمكن تصور جامع عنواني يشار به إلى كلتا الصورتين ـ لأنه لا يلزم كونه جامعا حقيقيا ذاتيا ـ كلفظ الموصول ، أو لفظ : « شيء » ، فيقال مثلا : « إذا شككت في وجود شيء فابن على وجوده » أو : « كل ما شككت في وجوده فابن عليه » ، فانه يعم الشك في وجود

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية ٣ ـ ٢٩٦ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد حسين. نهاية الأفكار ٤ ـ ٣٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٣٣

ذات العمل ووجود صحة العمل فانها شيء من الأشياء.

ثالثها : ان متعلق أحد الشكين أصل وجود الشيء ومتعلق الآخر صحة الشيء مع الفراغ عن أصل وجوده. فالشيء في أحدهما مفروض الوجود وفي الآخر ليس بمفروضه ، ولا جامع بين ما هو مفروض الوجود وما هو ليس بمفروضه.

ولكن هذا التقريب غير تام كأخويه السابقين ، لأنه بعد ان عرفت ان إمكان أخذ متعلق كلا الشكين بمفاد كان التامة ، فلا ملزم حينئذ لأخذ فرض الوجود في أحدهما بل هو غير ملحوظ أصلا ، لأنه فرع كون المأخوذ مفاد كان الناقصة ، بحيث يكون أصل الوجود مفروغا عنه والشك فيما يتعلق به من الصحة. أما مع أخذ المتعلق هو الصحة بمفاد كان التامة ، فلا تصل النوبة إلى أخذ فرض الوجود في المتعلق ، إذ لا معنى له.

نعم ، العمل في المورد مفروض الوجود ، ولكن ذلك أجنبي عن متعلق الشك.

رابعها وخامسها : ان الجزء لما كان في مرحلة جزئيته مندكا في الكل فلا يلاحظ مع لحاظ الكل إلاّ بنحو الاندكاك وباللحاظ الآلي ، وانما يلاحظ بالاستقلال في مرحلة سابقة عن لحاظ الكل ، فلحاظه الاستقلالي سابق رتبة على لحاظه الآلي.

فإذا أريد بيان حكم الشك في الكل والجزء بدليل واحد ، فلا بد من لحاظهما معا بنحو الاستقلال ، فيلزم حينئذ اجتماع لحاظين للجزء أحدهما آلي والآخر استقلالي ، كما ويلزم تأخر المتقدم رتبة وهو اللحاظ الاستقلالي كما لا يخفى. وكلا هذين الأمرين ممتنعان.

وقد تفصى المحقق النائيني قدس‌سره عن ذلك بما محصله : ان الشك في الاجزاء لم يلحظ في جعل القاعدة الواحدة كما لوحظ نفس المركب ، وانما المجعول ابتداء هو عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن العمل ، ثم قامت الأدلة الخاصة على اعتبار القاعدة في موارد الشك في الاجزاء ، فهي حاكمة على الأدلة الأولية.

١٣٤

فلو لا قيام الأدلة الخاصة لاختص مورد القاعدة بالشك بعد الفراغ ، ولذلك يقتصر في التعدي إلى الاجزاء بمقدار ما قام الدليل بالنسبة إليه.

ومن هنا يظهر الوجه في خروج اجزاء الطهارات الثلاث عن موضوع القاعدة ، لاختصاص الأدلة باجزاء الصلاة ، فلا يتعدى منها إلى غيرها لعدم الدليل على إلحاقها بها ، كما انها ليست بداخلة « تحت خ ل » في ضمن الدليل الأولي.

ولا حاجة بعد هذا إلى تعليل خروجها بورود تخصيصها بالأخبار أو الإجماع.

هذا ملخص ما أفاده المحقق المذكور قدس‌سره. ووجه التفصي به واضح بين ، إذ الملحوظ ابتداء ليس إلاّ الكل فلا يجتمع لحاظان كما لا يلزم تأخر المتقدم (١).

ولكنه غير تام ، لأن الدليل الحاكم المتكفل لبيان اعتبار القاعدة في الاجزاء ..

ان كان لسانه ومفاده هو الكشف عن أن المراد بموضوع الحكم في الدليل الأولي أعم من الجزء والكل ، فيكون مفاده إخباريا ، ويثبت للجزء نفس الحكم الثابت للكل بدليله ، عاد المحذور بالنسبة إلى الدليل الأولي ـ كما لا يخفى ـ وان كان مفاده تنزيل الجزء منزلة الكل في الحكم بجعل حكم مماثل له ، كان ذلك التزاما بتعدد القاعدة ، وهذا يعني الالتزام بالمحذور.

وبالجملة : فما ذكره قدس‌سره إما لا يجدي في دفع المحذور ، أو يرجع إلى الالتزام بالمحذور.

فالأولى في التفصي عنه أن يقال : ان المحذور انما يرد لو كان الملحوظ عند جعل القاعدة نفس الجزء والكل ، ولكن لحاظ المصاديق بخصوصياتها في جعل الحكم عليها غير لازم ـ كما هو الحال في القضايا الحقيقية ـ بل هو غير ممكن

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٣٢ ـ الطبعة الأولى.

١٣٥

بالنسبة إلى بعض الموارد لعدم تناهي المصاديق أو تميزها فيها ، بل يكفي في جعل الحكم على المصاديق من لحاظها بعنوانها المنطبق عليها ـ كما يقرر ذلك في بيان الوضع العام والموضوع له الخاصّ ـ والحكم عليها بواسطة العنوان ، فيكون موضوع الحكم هو العنوان وهو الملحوظ دون المصاديق.

وعلى هذا فلا ملزم للحاظ الجزء والكل بأنفسهما عند جعل القاعدة ، بل مع لحاظ جامعهما العنواني وهو لفظ : « الشيء » مثلا وجعله موضوع الحكم فيها.

وعليه ، فلا يبقى لما ذكر مجال ، لوحدة اللحاظ وعدم تعدده ، كي يلزم ما ذكر من اجتماع اللحاظين وتأخر السابق لعدم لحاظ الجزء ولا الكل بأنفسهما.

سادسها : ما ذكره الشيخ في التنبيه الرابع لا بعنوان المحذور (١) ، ولكن المحقق النائيني ذكره محذورا يتحقق من وحدة القاعدة ، وهو محذور التدافع.

ومحصل ما ذكره قدس‌سره : انه إذا شك في الإتيان بالجزء في أثناء العمل بعد التجاوز عن محله ، فباعتبار لحاظ الجزء بنفسه يصدق انه تجاوز عن محله فلا يعتنى بالشك وباعتبار لحاظ المركب بما هو يصدق انه لم يتجاوزه فيجب عليه التدارك. فيلزم التدافع في مفاد القاعدة بلحاظ الاعتبارين.

وبعد ان ذكر هذا ، أورد على نفسه : بان التدافع حاصل على القول بتعدد القاعدة ، فانه بمقتضى قاعدة التجاوز لا يعتني بالشك لحصول التجاوز عن محل المشكوك ، وبمقتضى قاعدة الفراغ يعتني بالشك لعدم حصول التجاوز عن المركب.

وأجاب عنه : بأنه مع تعدد الجعل تكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ ، لأن الشك في صحة العمل وفساده مسبب عن الشك في الإتيان بالجزء ، والمفروض ان الشك السببي يلغى بقاعدة التجاوز فينتفي موضوع قاعدة الفراغ تعبدا ، وهو الشك في الصحة والفساد.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١٢ ـ الطبعة القديمة.

١٣٦

ثم أورد على نفسه : بأنه لا فرق في حكومة أحد الأصلين على الآخر بين ان يكونا مجعولين بجعلين ـ كما هو الحال في الاستصحاب والبراءة ـ أو بجعل واحد ـ كحكومة أحد الاستصحابين على الآخر ـ. فمع شمول القاعدة لمورد قاعدة التجاوز ـ وهو الشك في الجزء بعد التجاوز عنه ـ تتحقق الحكومة بلا فرق بين الجعل الواحد والجعلين.

وأجاب عنه : بان حكومة أحد الأصلين على الآخر ـ المجعولين بجعل واحد ـ تتوقف على تحقق موردهما في حد أنفسهما ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لأن جريان قاعدة الفراغ يتوقف على الانتهاء من العمل ، وهو غير متحقق لفرض الشك في الأثناء ، فلا موضوع لقاعدة الفراغ كي يقال بحكومة قاعدة التجاوز عليها ، بل المتحقق فيه عكسها. فالمورد باعتبار يدخل في القاعدة ، وباعتبار آخر يدخل في عكسها ، ولا وجه لدعوى الحكومة في مثل هذا.

هذا ملخص ما أفاده في تقريب المحذور (١).

ولكنه لا يرجع إلى محصل ، لأن التدافع المدعى ..

ان كان بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ ، فالمفروض انه لا موضوع لقاعدة الفراغ ، لكون الشك في أثناء العمل ـ وبذلك قرر عدم الحكومة ـ فليس في البين إلاّ قاعدة التجاوز.

وان كان التدافع بين منطوق القاعدة ومفهومها بلحاظ الاعتبارين ، فإذا كان المورد ـ بلحاظ الجزء ـ مشمولا للقاعدة الواحدة المجعولة ـ لأنه مورد قاعدة التجاوز المفروض شمول القاعدة لمواردها لأنها قاعدة جامعة ـ يندفع التدافع بالحكومة ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في وجود الجزء كما عرفت ، فجريان القاعدة بلحاظ الجزء يوجب انتفاء الشك بلحاظ الكل تعبدا.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٦٥ ـ الطبعة الأولى.

١٣٧

هذا ، مع انه يمكن ان يقال : بعدم وصول النوبة إلى الحكومة ، وذلك لأنه سيأتي في دفع المحذور السابع : انه قد أخذ التجاوز في مورد القاعدة ـ بناء على وحدتهما ـ بالمعنى الأعم من الحقيقي ـ المتحقق في الشك في الصحة ـ والادعائي المسامحي ـ المتحقق في الشك في الوجود على ما سيظهر ـ فمورد الحكم بالتعبد هو التجاوز بالمعنى الأعم ، ومقتضى ذلك انه إذا تحقق التجاوز بأي معنى كان يتحقق موضوع التعبد والحكم بإلغاء الشك ، والمفروض ان التجاوز بأحد معنييه ـ وهو المسامحي ـ متحقق في الفرض فيتحقق موضوع القاعدة ، وتجري بلا إشكال ولا تدافع. فالتفت.

سابعها : ان اسناد التجاوز إلى الشيء في مورد قاعدة التجاوز اسناد مجازي مسامحي ، لأن الشيء لا يعلم تحققه كي يتجاوز عنه ، وانما يسند حقيقة في هذا المورد إلى المحل. واسناده إلى الشيء في مورد قاعدة الفراغ اسناد حقيقي لتحقق العمل خارجا فيصدق التجاوز عنه حقيقة ، فنسبة التجاوز إلى الشيء في أحد الموردين مجازية وفي الآخر حقيقية ، وحيث لا جامع بين النسبتين ـ لأن النسبة من المعاني الحرفية ـ امتنع تكفل دليل واحد لبيان حكم الموردين بالنسبة إلى المتجاوز عنه.

ويمكن التخلص من محذور هذا التقريب بان اختلاف النسبتين انما يتحقق في صورة ما إذا أريد من التجاوز في كلا الموردين معناه الحقيقي الموضوع له ، فان اسناده إلى الشيء يختلف حقيقة ومجازا باختلاف الموردين.

اما إذا أرجعنا المسامحة في الإسناد المتحققة في مورد قاعدة التجاوز إلى المسامحة في الكلمة ، بان التزمنا في التجاوز بمعنى أعم ، بحيث يكون اسناده إلى الشيء في هذا المورد بهذا المعنى حقيقيا. لم تختلف النسبتان حينئذ.

وبالجملة : التخلص عن المحذور يكون بالالتزام بمعنى للتجاوز أعم من معناه الحقيقي ، بحيث يكون اسناده إلى الشيء في كلا الموردين بهذا المعنى حقيقيا ، فيرجع

١٣٨

المجاز إلى الكلمة لا الإسناد ، فانه بذلك لا اختلاف بين النسبتين ، فيمكن تكفل دليل واحد لحكمهما معا.

وبهذا جميعه تبين انه لا مانع ثبوتا من الجمع بين القاعدتين ووحدتهما ، إذ لم يتم شيء من هذه المحذورات المذكورة كما عرفت.

وفي قبال القول بعدم إمكان وحدتهما ثبوتا القول بلا بدية وحدتهما ثبوتا ، ورجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز. بتقريب : ان الشك في صحة العمل ينشأ دائما عن الشك في وجود جزء أو شرط في ذلك العمل باعتبار ان الصحة عبارة عن الوصف الانتزاعي المنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به. وقاعدة التجاوز تتكفل إلغاء الشك في وجود الشيء بعد تجاوز محله ، فيرتفع الشك في الصحة تعبدا ، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا يكون لغوا (١).

ولكنه محل نظر ، لأن قاعدة الفراغ تجري في موارد لا تجري فيها قاعدة التجاوز ، كما لو شك بعد الفراغ من الصلاة في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة أو كلمات الآية ، فان مثل هذا الموالاة لا تعد عرفا وجودا مستقلا يتعلق به الشك ويكون الشك فيه موضوعا للتعبد بإلغائه ، كي يكون الشك فيها من موارد قاعدة التجاوز ، بل الشك فيها يرجع في نظر العرف إلى الشك في صحة الكلمة أو الآية ـ لأنها بنظره من شئونهما وأطوارهما ـ ، ففي مثل هذا المورد لا يكون الشك في صحة الصلاة مسببا عن الشك في وجود شيء كي يكون محكوما بقاعدة التجاوز ومرتفعا بها تعبدا.

وأيضا : يعتبر في قاعدة التجاوز ـ كما سيتضح ـ الدخول في الغير المترتب على المشكوك ، وهذا لا يعتبر في قاعدة الفراغ ، بل المعتبر فيها هو البناء النفسيّ على الانتهاء من العمل ، سواء دخل في الغير أم لم يدخل. وبذلك يتعدد موردهما أيضا

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٧١ ـ الطبعة الأولى.

١٣٩

ولا يتحد كي ترجع الثانية إلى الأولى للحكومة ولزوم اللغوية ، وذلك كما يظهر في مثل ما لو شك بعد الفراغ من العمل في الجزء الأخير منه ولم يكن قد دخل في عمل آخر مترتب عليه ، فانه لا مجال في مثل هذا لجريان قاعدة التجاوز لعدم توفر شرطها مع انه مورد لقاعدة الفراغ.

والمتحصل : ان ما ذكر انما يتم لو كانت موارد قاعدة الفراغ كلها أو الأغلب منها قابلة لجريان قاعدة التجاوز ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان هناك موارد جمة تكون مجرى لقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز ، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا لا يكون لغوا.

هذا ، مع أن الحكومة انما تثبت في موارد السببية والمسببية الشرعية وليس ما نحن فيه كذلك ، لأن الصحة ليست من الآثار الشرعية لوجود الجزء بل هي معنى انتزاعي يحكم به العقل ، وليس مجعولا شرعيا فالأصل الجاري في إثبات الجزء لا يكون حاكما على الأصل الجاري في إثبات الصحة ، فلاحظ ولا تغفل.

هذا كله في مقام الثبوت ، الّذي بقين منه : انه يمكن ثبوتا أن يكون كل من القاعدتين قاعدة مستقلة بنفسها ، كما يمكن كونهما قاعدة واحدة ، كما يمكن رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ ـ كما عليه المحقق النائيني ـ وهناك احتمال آخر وهو عدم وجود قاعدة التجاوز بالمرة وانه ليس إلا قاعدة الفراغ ، فالاحتمالات أربعة.

وأما الكلام في مقام الإثبات ، فهو حول ما يتكفله الدليل من تعيين أحد هذه الاحتمالات الأربعة ، فنقول ـ وبالله الاعتصام ـ.

أما الاحتمال الثاني ـ وهو كونهما قاعدة واحدة ـ فلا يساعد عليه الدليل ، لأنه مبني ـ كما عرفت ـ على الالتزام بالتوسع في معنى التجاوز وكونه أعم من المعنى

١٤٠