منتقى الأصول - ج ٧

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٧

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٦

ولعل الوجه هو : انه لما كان موضوع الأثر في هذه الصورة هو وقوع العقد الصادر على العبد ، إذ لا أثر لوقوعه على الحر أصلا ، لأنه يكون حينئذ بمنزلة العدم ، فجريان أصالة الصحة في العقد الواقع لا يثبت كون المبيع هو العبد فلا أثر لجريانها ، فلا تجري ، فتكون أصالة عدم السبب الناقل بلا حاكم.

وهذا بخلاف صورة ما إذا كان موضوع الدعوى هو الثمن ، وانه حر أو عبد ، لأن مورد الأثر صحة العقد الواقع على المثمن المعين وتحقق النقل والانتقال به ، فجريان أصالة الصحة يجدي في ترتب الأثر ويلزمه ثبوت الثمن في ذمة المشتري وان لم يكن معينا ـ لأن الأصل المزبور لا يعينه ـ.

وان كان قد يرد على هذا التوجيه : بأنه في الصورة الأولى يمكن جريان أصالة الصحة باعتبار طرف الثمن فانه يشك في ثبوت الثمن في ذمة القابل بواسطة العقد الواقع فتجري أصالة الصحة فيه ، فتأمل. ولكنه ليس بمهم إذا المهم هو إثبات ان عدم إجراء أصالة الصحة في المثال لم يكن لما ادعاه المحقق قدس‌سره من عدم تمامية الأركان لإجرائها فيما لو كان الخلاف في الثمن. أما توجيه الفرق بما ذكر فليس إثبات صحته بمهم.

وعبارة الشيخ قدس‌سره ـ في بعض النسخ ـ في مقام الجواب لا تخلو عن إبهام ..

والّذي يظهر منها التفريق بين صورة التمليك المجاني والعوضي.

أما الأول : فحيث ان المالك بدعواه تمليك الحر لا يدعي على الآخر شيئا ولا يطالبه بشيء ، وانما الأثر على ثبوت دعوى تمليك العبد ، كان موضوع الدعوى وأحكامها هو دعوى ثبوت تمليك العبد ـ أما دعوى تمليك الحر ، فهي ساقطة عن الاعتبار لعدم الأثر ـ فيكون القول قول منكر التمليك المذكور فعليه اليمين إن لم تقم البينة على خلافه. ولا مجال لأصالة الصحة للشك في تحقق موضوعها لعدم العلم بتحقق التمليك كي تجري فيه أصالة الصحة. أما التمليك الواقع فجريان أصالة

١٠١

الصحة فيه لا يثبت وقوعه على العبد كما لا يخفى.

وأما الثاني : فهو داخل في المسألة المعنونة في كلام الأصحاب. وقد أجرى بعضهم أصالة الصحة. ولا يفرق فيه ـ كما يظهر من تعبيره بالعوضين ـ بين أن يكون الاختلاف في الثمن أو المثمن ، وإن كان ظاهر عنوان المسألة كون الاختلاف في الثمن. لكن الملاك في كلتا الصورتين واحد. فالتفت وتدبر. فعبارته ومقابلته لا تخلو من غموض ، وأكثر نسخ الكتاب قد حذف فيها الشق الأول من الترديد. وعلى كل فليس الأمر بهذه المثابة من الأهمية.

وأعلم ان الأعلام المتأخرين قدس‌سرهم عدلوا عن تحرير محل النزاع بنحو ما ذكره الشيخ رحمه‌الله إلى نحو آخر وهو : ان أصالة الصحة هل يختص جريانها في ما إذا كان الشك في صحة العقد ناشئا عن الشك في شرائط العقد بما هو عقد ، كالماضوية والعربية وغيرهما. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي يعتبر في العقد أو المتعاقدين أو العوضين مع إحراز شرائطه العرفية. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي أو عرفي مع إحراز إنشاء البيع؟ وجوه وأقوال ...

وقد ذهب المحقق النائيني إلى الأول ، واستدل عليه : بان معقد الإجماع القولي على أصالة الصحة هو أصالة الصحة في العقود ، وظاهره تعلق الصحة والفساد بالعقد بما هو عقد ، وذلك انما يتحقق فيما إذا كان الشك في أحد شرائط العقد بما هو عقد. أما إذا كان الشك في أحد شرائط المتعاقدين أو العوضين ، فالشك في الصحة والفساد لا يتعلق بالعقد ابتداء ، بل هو يتعلق بأمر آخر ، ولازمه تعلق الشك بالعقد ، فاتصاف العقد بالصحّة حينئذ من باب الوصف بحال متعلق الموصوف ، وإلاّ فالعقد بما هو لا قصور فيه وانما القصور من جهة المتعلق أو العاقد (١).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٤٥ ـ الطبعة القديمة.

١٠٢

وقد دفعه المحقق الأصفهاني قدس‌سره بوجوه ثلاثة :

الأول : بان قصور معقد الإجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العملية على إمضاء المعاملات المشكوكة ولو كان منشأ الشك هو الشك في الإخلال بشرط من شرائط العوضين أو المتعاقدين.

الثاني : ان الصحة والفساد في أي حال تضافان إلى العقد دون غيره. وهذا لا يرتبط بإضافة الشرط إلى غيره ، فكون الشرط لغيره لا يضر في إضافة الفساد للعقد عند انتفاء هذا الشرط. ومعقد الإجماع هو البناء على صحة العقد عند الشك لا البناء على وجود شرط العقد ، كي لا يكون شاملا لمورد يكون الشك فيه في شرط المتعاقدين أو العوضين.

الثالث : ان الدعوى المذكورة تبتني على انعقاد إجماعين قولين أحدهما في باب العبادات والآخر في باب العقود والإيقاعات بعنوانها.

وأما مع انعقاد الإجماع على البناء على صحة كل عمل له أثر ـ سواء كان عباديا أم معامليا ـ فلا وجه للدعوى المذكورة ، لأن الصحة في معقد الإجماع لم تسند إلى العقد بما هو عقد ، بل إلى العمل العبادي أو المعاملي ، وظاهر أن جميع الشرائط دخيلة في ترتب الأثر على المعاملة بما هي معاملة (١).

ولا يخفى أنه يمكن توجيه ما أفاده المحقق النائيني بنحو لا يرد عليه الوجهان الأخيران ، ببيان : ان المتداول في تعبيرات الفقهاء هو إطلاق الصحة على العقد بمجرد تمامية شرائطه الراجعة إليه ، مع عدم إطلاقهم الصحة على مثل العوضين والمتعاقدين ، بل يطلقون القابلية على العوضين والأهلية على المتعاقدين فيقولون عقد صحيح وقع من أهله وفي مورد قابل. إلاّ ان الّذي يهون الخطب اننا لا نعترف بحجية مثل هذا الإجماع كما عرفت ، والدليل الّذي لدينا على أصالة الصحة هو

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣١٣ ـ الطبعة الأولى.

١٠٣

السيرة خاصة ، فلا بد من ملاحظة موردها ، وعلى هذا فالأمر في صحة ما ذكره النائيني وعدمه سهل.

وقد ذهب المحقق العراقي إلى ما نتيجته توافق ما ذهب إليه الشيخ ـ وهو جريان الأصل عند الشك في أي شرط مع إحراز الشرائط العرفية للعقد الّذي هو الوجه الثاني ـ فانه بعد أن ذكر أمرين :

أحدهما : ان الشرائط المعتبرة في صحة العقد وتأثيره الفعلي لترتب الأثر ليست على نمط واحد ..

فمنها : ما يرجع اعتباره إلى دخله في السبب ، وهو العقد ، كالموالاة بين الإيجاب والقبول ، والماضوية وغيرهما.

ومنها : ما يرجع اعتباره إلى دخله في قابلية المسبب للتحقق ، وهذه الطائفة بين ما يكون محله المتعاقدين كالبلوغ والعقل وغيرهما. وبينما يكون محله العوضين كالمعلومية والمالية. وبين ما يكون محله نفس المسبب كعدم الربوية والغررية في البيع.

وثانيهما : ان صحة كل شيء بحسبه ، لكونها بمعنى التمامية ، وتمامية كل شيء انما هي بلحاظ وفائه بالأثر المرغوب عنه في قبال فاسدة الّذي لا يكون كذلك فصحة الإيجاب بمعنى أنه لو تعقبه قبول صحيح لحصل أثر العقد.

وصحة العقد عبارة عن تماميته في نفسه ، بحيث لو ورد على محل قابل لأثر فيه النقل والانتقال وترتب عليه الأثر المرغوب. فهي ـ أعني : الصحة ـ في العقد عبارة عن مفاد قضية تعليقية لا تنجيزية ، وهو كونه بحيث لو ورد على محل قابل لا تصف بالمؤثرية الفعلية.

بعد أن ذكر هذين الأمرين. أفاد : ان الشك في الصحة والفساد ..

ان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط العرفية للسبب أو المسبب ، كالشك في التوالي بين الإيجاب والقبول المعتبر عرفا ، ومطلق المالية في

١٠٤

العوضين ، فلا تجري أصالة الصحة لا في السبب ولا في المسبب ، لرجوع هذا الشك إلى الشك في مجرى أصالة الصحة ، مع انه لا بد من إحراز عنوان موضوعه عرفا.

وان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط الشرعية مع إحراز الشرائط العرفية ، فان كان الشرط المشكوك فيه من شرائط العقد جرت أصالة الصحة في العقد ، لأنه عقد عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من شرائط المسبب كالبيع ، فلا تجري أصالة الصحة في العقد لإحراز صحته ، لأنها مفاد قضية تعليقية وهي محرزة ولو مع القطع بانتفاء شرط المسبب ، وانما تجري في نفس المسبب وهو البيع مثلا ، لأنه بيع عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من شرائط السبب والمسبب ، بان كان الشك من الجهتين ، جرت أصالة الصحة في السبب والمسبب (١).

هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي قدس‌سره ، وهو نتيجة يوافق الشيخ وان كان يختلف عنه بحسب المقدمات.

وقد استدل على ذلك بالسيرة ولزوم اختلاف النظام ، وانهما يقتضيان التعميم لجميع صور الشك مع إحراز عنوان موضوع الصحة عرفا ، ولا بد حينئذ من التفصيل بين موارد الأصل من كونه السبب أو المسبب.

ولكن السيد الخوئي ـ كما في بعض تقريرات بحثه ـ لم يرتض هذا الاستدلال ، ولذلك التزم بما التزم به المحقق الثاني والعلامة وأستاذه النائيني من اختصاص جريان أصالة الصحة في مورد الشك في شروط العقد دون غيره ، إذ اعتبر في جريانها إحراز القابلية الشرعية والعرفية في الفاعل والمورد.

فانه بعد ما حرر موضوع المسألة ، وبيّن صور الشك ، وذكر ان المحقق الثاني والعلامة قدس‌سرهما ذهبا إلى عدم جريان أصالة الصحة عند الشك في قابلية

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٨٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٠٥

الفاعل أو المورد العرفية والشرعية. حكم بصحة ما ذهب إليه متمسكا لذلك بعدم وجود دليل لفظي لأصالة الصحة كي يتمسك بعمومه وإطلاقه ، بل دليلها ليس سوى السيرة ولم يحرز قيامها على ترتيب آثار الصحيح عند الشك في القابلية ـ وهو كاف في الحكم بعدم جريان أصالة الصحة ـ بل المحرز قيامها على عدم ترتيب الآثار ، وضرب لذلك مثالين :

أحدهما : ما لو باع زيد دار عمرو مع اعترافه بكونها دار عمرو ، وشك في كونه وكيلا عن عمرو أو لا.

والثاني : ما لو طلق زيد زوجة عمرو وشك في كونه وكيلا عنه.

فان العقلاء لا يرتبون آثار البيع الصحيح أو الطلاق الصحيح على ما صدر من زيد ، وهذا لا يرجع إلا لعدم ترتيب آثار الصحة عند الشك في القابلية. ثم أشار إلى ما ذكره الشيخ من قيام السيرة على ترتيب آثار الصحة على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابلية الفاعل. وذكر ان ترتيب الآثار ليس من جهة أصالة الصحة بل من جهة قاعدة اليد وإحراز القابلية باليد ، ولذلك لا تجري أصالة الصحة فيما تقدم من المثالين لعدم كونه موردا لقاعدة اليد (١).

وللمناقشة فيما ذكره مجال ، فان السيرة قائمة على إجراء أصالة الصحة في الموارد التي لا يكون هناك أصل أو أمارة يستند إليها ، كالشك في البلوغ ، أو الرشد ، أو في مجهولية العوضين ، أو زيادة أحدهما على الآخر في المعاملة الربوية ، أو وقوع الطلاق في أيام الطهر ، أو حضور عدلين عند إنشائه ، وغير ذلك مما لا طريق إلى إثباته من يد أو غيرها. واليد انما تثبت المالكية ، أما بلوغ البائع أو رشده فلا تقتضي شيئا منهما ، فلا وجه لما ذكره من أن قابلية الفاعل تحرز بقاعدة اليد. مع أن الشك لا ينحصر في قابلية الفاعل ، إذ قد يكون في قابلية المورد.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٢٧ ـ الطبعة الأولى.

١٠٦

وأما ما ذكره من النقض ، فهو لا يدل على المدعى من جهتين :

الأولى : ان استناد العقد أو الإيقاع إلى المالك مما هو مأخوذ في موضوع أصالة الصحة ، لأن مفاد أصالة الصحة مفاد : ( أوفوا ) في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وظاهر أنه قد أخذ في موضوع الوفاء استناد العقد إلى المالك كما أخذ في موضوعه العقد ، لظهور الكلام في ذلك عرفا بحيث لا يكون ما يدل على عدم نفوذ بيع غير المالك مخصصا لعموم : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).

وعليه ، فعدم جريان أصالة الصحة انما هو لأجل عدم إحراز موضوعها وهو العقد المستند إلى المالك ، لا من جهة قيام السيرة على عدم جريانها عند الشك في القابلية.

الثانية : أن حصول الأثر وترتبه في المثالين يتوقف على إحراز المالك أو الزوج استناد المعاملة إليه ، لا من جهة كون الاستناد مأخوذا في موضوع النفوذ ، بل من جهة أن المالك انما يجب عليه تسليم الدار للمشتري إذا صدر منه العقد ، وهكذا الزوج. وأصالة الصحة في العقد الواقع لا تثبت خصوصية استناد العقد إلى المالك كي يجب على المالك ترتيب الآثار ، بل هي أجنبية عن المالك.

وبالجملة : عدم جريان أصالة الصحة في المثالين ليس لأجل قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار عند الشك في القابلية ، بل هو من جهة خصوصية في المقام ، فلا يرد النقض بهما.

وعلى هذا ، فالالتزام بجريان الأصل المزبور عند الشك في مطلق الشرائط الشرعية المعتبرة في العقد أو في غيره مع إحراز الشرائط العرفية للعقد مما لا إشكال فيه ، لتمامية الدليل ، وهو السيرة واختلال النظام ، سواء قلنا بان صحة العقد مفاد قضية تعليقية ـ كما هو شأن المقتضيات أجمع ـ وان الأصل يجري في المسبب ـ كما ذهب إليه المحقق العراقي على ما عرفت ـ. أو قلنا بان للعقد صحة أخرى هي التي تكون مجرى الأصل لا تلك ، وهي صحة فعلية منتزعة عن تأثيره وترتب الأثر

١٠٧

عليه ـ فانه وإن كان مقتضيا للأثر لا علة تامة ، والشرائط متممات التأثير وشرائط تأثيره ، لكنه هو المباشر للتأثير ، فانه هو المؤثر والأثر يترتب عليه ، كمباشرة النار للإحراق مع كونها مقتضية له لا علة تامة ، فصحته يراد بها هذا المعنى وهي فعلية ـ فالأصل دائما يجري في العقد ولو كان الشك في شرائط غيره ، لأنه سبب للشك في صحته ـ كما سيتضح لك ذلك عن قريب إن شاء الله تعالى ـ ولا يجري في المسبب اما لعدم الحاجة إلى ذلك ، أو لعدم قابليته للاتصاف بالصحّة والفساد ، كما يذكر ذلك في مبحث الصحيح والأعم ، وتحقيقه ليس هذا موضعه.

كما انه لا يمكن الالتزام بما التزم به المحقق الأصفهاني قدس‌سره من جريان أصالة الصحة مع الشك في الشرائط العرفية ، لما سنذكره في بعض التنبيهات إن شاء الله تعالى. فانتظر.

ثم ان السيد الخوئي ( حفظه الله ) بعد كلامه المزبور نسب إلى الشيخ قدس‌سره جريان أصالة الصحة ـ مع التنزل والالتزام بعدم جريان الأصل مع الشك في القابلية ـ فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد المتعاقدين مع إحراز قابلية الآخر. بتقريب : انه مع إحراز قابلية الموجب ـ مثلا ـ وكان الشك في صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل تجري أصالة الصحة في الإيجاب ، فيحكم بتأثير الإيجاب وهو معنى صحة العقد. وأورد عليه بان صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الجزء معناها قابليته للجزئية ولا يثبت بها وجود الجزء الآخر ولا صحته ، فجريان أصالة الصحة في الإيجاب لا يثبت وجود القبول ولا صحته فلا وجه لما ذكره.

ولكن ما نسبه إلى الشيخ وأورد عليه بما عرفت أجنبي عن ظاهر كلام الشيخ. فانه في مقام الإيراد على المحقق الثاني الّذي ادعى ان ظاهر حال المسلم لا يصح ان يتمسك به المضمون له ـ فيما إذا اختلف مع الضامن في وقت الضمان ـ وانه كان قبل بلوغ الضمان أو بعده ـ لأنه لا يتم إلا مع استكمال العقد للأركان التي

١٠٨

منها شروط المتعاقدين. وان كلامه على إطلاقه ممنوع لإمكان التمسك به في صورة وتعدد طرفي العقد وإحراز قابلية أحد الطرفين لأن الظاهر انه لا يتصرف فاسدا.

وأين هذا من جريان أصالة الصحة في الإيجاب وترتب الأثر عليه؟ بل هو أجنبي عن أصالة الصحة بالمرة. فالتفت ولا تغفل.

المقام الثالث : في اختلاف الصحة بحسب مواردها. وبيان ذلك : ان الصحة على نحوين تأهلية ، وفعلية.

فالأولى عبارة عن قابلية الشيء لترتب الأثر عليه لو انضم إليه غيره مما له الدخل في ترتب الأثر.

والثانية : تنتزع عن ترتب الأثر الخارجي فعلا على الشيء والصحة التأهلية انما يتصف بها أجزاء المؤثر ولا تتصف بغيرها لأن الأثر لا يترتب فعلا على كل جزء بل على المجموع ، فالصحة في الجزء عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه سائر الاجزاء والشرائط لترتب الأثر ، فالصحيح ما كان بهذه الحيثية ، كالإيجاب بالعربي فانه جزء العقد المؤثر ، والفاسد ما لم يكن بهذه الحيثية ، كالإيجاب بالفارسي على القول باعتبار العربية فيه.

وعليه ، فجريان أصالة الصحة في الجزء لا يثبت الجزء الآخر ، لعدم توقف صحته عليه ، ولا يقتضي ترتب الأثر المتوقف على المركب عليه.

والصحة الفعلية انما يتصف بها المجموع المركب المؤثر. وهو لا يتصف بغيرها كما لا يخفى.

ومن هنا تبين أن صحة كل شيء بحسبه ، إذ الأشياء ليست على حد سواء في الصحة ، فالجزء لا يتصف إلاّ بالصحّة التأهلية ، والكل بالنسبة إلى اثره على العكس لا يتصف إلا بالصحّة الفعلية.

وبه يندفع ما قد يتوهم من : ان جريان أصالة الصحة في الإيجاب ـ مثلا ـ تكفي في ترتيب آثار الصحة ولو لم يحرز القبول ، إذ لا وجه لتخصيص دليل أصالة

١٠٩

الصحة بغير المورد ، ومع جريانها يترتب الأثر ، لأنه معنى : الصحة الفعلية. ووجه الاندفاع واضح ، فان جريان أصالة الصحة في الإيجاب لا تجدي في المطلوب ، لأن صحته تأهلية والأصل يجري بمقدارها ، فلا تخصيص لدليل الأصل ، كما انه لا يترتب الأثر على جريانها فيه ، فالتفت.

وهذا الأمر هو الّذي عقد له الشيخ فصلا مستقلا ، وهو واضح لا غبار عليه ولا إشكال فيه.

وإنما الإشكال فيما فرعه الشيخ عليه من الموارد التي ذكر أن جريان أصالة الصحة فيها لا تثبت المشكوك المتوقف ترتب الأثر عليه وان جريان أصالة الصحة في العقد في عدم ثبوت المشكوك بها نظير جريانها في عدم ثبوت القبول بها ، وهي ما لو شك في تحقق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقق الإيجاب والقبول ، أو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي ، أو كان العقد في نفسه مبنيا على الفساد كبيع الوقف بحيث يكون المصحح من الطوارئ ، أو شك في وقت بيع الراهن الرهن مع إذن المرتهن ورجوعه وانه كان قبل الرجوع أو بعده ، فانه أفاد : ان جريان أصالة الصحة في الهبة أو الصرف أو السلم لا تثبت تحقق القبض ، كما أن جريانها في بيع الفضولي لا يثبت إجازة المالك ، والأولى بعدم الجريان مورد بيع الوقف مع الشك في وجود المسوغ له ، وان جريانها في الاذن لا يثبت وقوع البيع صحيحا وجريانها في الرجوع لا يقتضي فساد البيع ، لأن صحة كل منهما تعليقية تأهلية ، فهي في الاذن كونه بحيث لو وقع البيع بعده وقبل الرجوع كان صحيحا ، وفي الرجوع كونه بحيث لو وقع البيع بعده لكان فاسدا ، وهي محرزة وجدانا. كما ان جريانها في نفس البيع لا يجدي ، لأنه لا يثبت بها رضا المالك المرتهن ، لأنه بظاهره يوهم المنافاة ، لما ذكره في الفصل السابق من الالتزام بجريان أصالة الصحة عند الشك في شرط من شروط المتعاقدين أو العوضين ، إذ الموارد المذكورة كلها من هذا القبيل.

١١٠

فالمهم : بيان مراد الشيخ ونظره والتوفيق بين ما ذكره أولا وأخيرا ، بنحو يرتفع توهم التنافي ويتضح الحال للمستشكل.

والّذي ينبغي أن يقال : أما في مسألة الهبة والصرف والسلم وتوقفهما على القبض ، فالوجه في عدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون هو : ان الشك في الصحة الفعلية للعقد في مرحلة البقاء لا في مرحلة الحدوث لأن العقد حين تحققه كان متصفا بالصحّة التأهلية ، ويشك بقاء في صحته الفعلية وعدمها ، وأصالة الصحة لا تجري فيما إذا كان الشك بين الصحة والبطلان بقاء ، بل يختص جريانها فيما إذا كان الشك من حين حدوث العقد ـ لأنه هو المناسب لدليل أصالة الصحة ثبوتا ـ وهو في المقام غير متحقق إذ لا شك حين حدوثه في صحته ، كما لا يخفى.

وأما مسألة بيع الفضولي ، أو الراهن بلا إجازة المرتهن ، فالسبب في عدم جريان أصالة الصحة فيه يمكن أن يكون أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ما ذكر في مسألة الهبة وأخويها ، لأن الشك في الصحة والبطلان بقاء لا حدوثا ، لأن صحة العقد التأهلية محرزة حين حدوثه.

الثاني : أنه على تقدير جريان أصالة الصحة في مرحلة البقاء ، فهي انما تجري لو كان الشك بين الصحة والفساد رأسا ـ إذ هو ظاهر أدلتها ـ أما مع كون الشك في الصحة التأهلية والصحة الفعلية ، فلا دليل على جريانها وتعيينها المعنى الثاني والمقام من هذا القبيل ، لأن الشك في إجازة المالك يوجب الشك في بقاء العقد على صحته التأهلية ، أو صيرورته صحيحا فعليا بالإجازة.

الثالث : ما أشرنا إليه سابقا من أن موضوع الصحة هو العقد المضاف إلى المالك ، وأصالة الصحة انما تجري مع إحراز موضوع الصحة ، وهو غير محرز في الفرض للشك في إجازة المالك ، فلا مجال لجريانها. بل تكون صحة العقد تأهلية لأنه جزء المؤثر.

وأما مسألة بيع الوقف ، فلا يعرف لها وجه خصوصا مع كون الشك في

١١١

الصحة الفعلية والفساد رأسا.

إلاّ أن يكون نظر الشيخ إلى انه بعد ان كان العقد الواقع على الوقف بنفسه فاسدا ، وكان طرو المسوغ مصححا له كان طرو المسوغ جزء الموضوع للأثر بحيث يكون موضوع الصحة هو العقد والمسوغ ، فالعقد جزء المؤثر ، فصحته تأهلية ، فلا تجدي في إثبات الجزء الآخر وهو المسوغ ، فتأمل.

وأما مسألة بيع الراهن الرهن والاختلاف بينه وبين المرتهن في وقت البيع ، فعدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون الوجه فيه هو دوران صحة العقد حين صدوره بين التأهلية والفعلية ـ لأنه ان كان قبل الرجوع ، فصحته فعلية. وان كان بعده ، فصحته تأهلية ، لأنه يكون كبيع الفضولي ـ وقد عرفت أنه غير مورد أصالة الصحة.

ولكن ظاهر الرسائل كون الوجه فيه : كون العقد بدون إجازة من له الحق ـ وهو المرتهن ـ جزء الموضوع ، فصحته تأهلية لا فعلية نظير العقد بالنسبة إلى إجازة المالك في بيع الفضولي ، فالتفت.

نعم ، قد يستشكل في هذا الفرع : بأنه لم لا يجري الأصل في نفس المسبب ـ وهو البيع ـ مع ان المفروض كون الشك في صحته الفعلية وفساده ، ويمكن الجواب عنه : بان الأمر في المسبب أيضا دائر بين الصحة الفعلية والصحة التأهلية ، كما في نفس العقد حرفا بحرف ، فلا تجري أصالة الصحة فيه. فتدبر جيدا.

المقام الرابع : في وجوب إحراز عنوان موضوع الأثر.

وبيان ذلك : انه لا بد في ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من إحراز عنوانه الّذي به يكون موضوعا للأثر ، فمع عدم إحراز عنوانه لا تجري أصالة الصحة.

١١٢

وقد عقد الشيخ رحمه‌الله لذلك فصلا مستقلا (١). ولكنه ذكره فقط بلا ان يبين الوجه فيه والدليل عليه ، ولعله (٢) لوضوحه ، لأن العمل إذا لم يكن بنفسه

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤١٩ ـ الطبعة القديمة.

(٢) تحقيق الكلام في هذه الجهة بإجمال : انه لا إشكال في انه يعتبر في جريان أصالة الصحة من كون الفاعل في مقام الإتيان بالعمل الّذي هو موضوع الأثر ، فما لم يكن الشخص في مقام التطهير لا يحمل عمله على الصحة ، وكذا إذا لم يكن في مقام البيع والنكاح وغيرهما من المعاملات ، لا يحمل ما يصدر منه على الصحة. إنما الإشكال في انه إذا أحرز انه في مقام الإتيان بالعمل ذي الأثر الخاصّ ، ولكن شك في تحقق ما هو مقوم عقلا لتحقق موضوع الأثر كالقصد في العقود الإنشائية وكإزالة النجاسة في غسل الثوب أو العصر بناء على تقدم الغسل به ، فهل تجري أصالة الصحة أو لا؟ قد يقال : ان أصالة الصحة تتكفل ترتب الأثر على العمل ، ولا تتكفل تحقق نفس العمل ، فمع الشك في نفس العمل لا مجال لأصالة الصحة.

ويمكن الإشكال في ذلك : بان الأثر يترتب على إجراء الماء ـ مثلا ـ ولكن بواسطة تعنونه بعنوان الغسل أو ترتب الغسل عليه بنحو المسببية التوليدية ، وكذا يترتب على الإيجاب والقبول بواسطة القصد.

وعليه ، فينبغي ان يبحث في أن أصالة الصحة هل تتكفل ترتب الأثر المترتب على الفعل بلا واسطة ، أو الأعم منه ومن المترتب بواسطة؟ ولا بد في ذلك من ملاحظة ما عليه السيرة وبناء العقلاء ، لا سلوك طريقة الاستدلال العقلي ـ كما أشير إليه ـ ثم ان بعض من ذهب إلى إجراء أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم ، كمثال التطهير ، التزم في إجراء أصالة الصحة في عمل الغائب مع عدم إحراز قصد النيابة في عمله.

فقد يورد عليه : ان ذلك ينافي مبناه من جريان أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم.

ويمكن ان يدفع الإيراد : بان أصالة الصحة إنما تلغي احتمال الفساد في العمل الصادر ، وهذا يختص بما إذا كان الشك راجعا إلى جهة دخيلة في الصحة. وليس قصد النيابة دخيلا في صحة العمل ، إذ العمل صحيح حتى إذا لم يقصد النيابة ، نعم ، لا يقع عن المنوب عنه ، وهذا أجنبي عن الصحة.

وبعبارة أخرى : ان العمل إذا فرض انه صحيح قصد فيه النيابة أم لم يقصد ، لم تكن أصالة

١١٣

وبذاته موضوع الأثر بل بما هو معنون بالعنوان الكذائي ، فلا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز موضوع الصحة وهو العمل المعنون بعنوان كذا لا مجرد نفس العمل ، إذ الأثر غير مترتب عليه بنفسه ، فمع عدم إحرازه لا يحرز موضوع الصحة ، فلا تصل النوبة إلى إجراء أصالة الصحة.

وبعبارة أخرى : ان الوجه فيه هو وجوب إحراز موضوع الصحة عرفا في ترتيب آثار الصحيح ، إذ مع عدم إحرازه لا يعقل ترتبها ، فإذا كان الموضوع هو العمل المعنون ، فلا بد من إحراز العنوان الّذي به يكون العمل موضوعا ، كعنوان الصلاة في الأفعال الخاصة ، أو التعظيم في القيام ، أو الخضوع في السجود ، أو غير ذلك.

وعليه ، فبلا إحراز موضوع الصحة عرفا ، لا مجال لجريان أصالة الصحة.

وقد يستشكل : بان ما ذكر يتم بالنسبة إلى ترتيب آثار الصحة الشرعية عند الشك في الشرائط الشرعية ، فانه مع إحراز الشرائط العرفية يحرز الموضوع العرفي « الصحة الشرعية خ ل » لأصالة الصحة. أما بالنسبة إلى الشرائط العرفية عند الشك فيها فلا يتم ، إذ لا يحرز موضوع الصحة عرفا عند الشك فيها ، فيلزم ان لا تجري أصالة الصحة عند الشك في الشرائط العرفية ، مع انه لا إشكال في جريانها ، كيف؟! والسيرة العرفية وبناء العقلاء قامت على جريانها ـ غير السيرة المتشرعة ـ ومعناه إجراء العرف الأصل عند الشك في بعض شرائط العمل عندهم ، وهو لا يتفق مع ما ذكر في توجيه لزوم إحراز العنوان العرفي في جريان الأصل.

__________________

الصحة متكفلة لإثبات النيابة مع الشك ، نظير ما إذا دار أمر الصلاة بين كونها نافلة الصبح أو فريضة ، فأصالة الصحة لا تثبت قصد الفريضة بها.

ثم انه يقع الكلام في جهة أخرى ، وهي انه إذا أحرز قصد النيابة ، ولكن احتمل فساد العمل من جهات أخرى ، فهل ينفع إجراء أصالة الصحة في العمل لإثبات براءة ذمة المنوب عنه أم لا؟ وهذا ما يأتي تحقيقه ، فلاحظ.

١١٤

والجواب عن الإشكال المذكور : ان المراد من الموضوع الواجب إحرازه هو ما كانت نسبة الأثر إليه نسبة العرض إلى معروضه ، والمسبب إلى سببه ، والمقتضي إلى مقتضية ، والأثر إلى ذي الأثر إذ لا يخفى انه ليس كل ما له دخل في ترتب الأثر يكون دخيلا في التأثير وسببا للأثر ، ويتضح ذلك في العلل والمقتضيات التكوينية ، فان مجرد النار ليست علة تامة للإحراق ، بل يبوسة المحل والملاقاة شرط في ترتب الأثر ـ أعني الإحراق ـ ، ولكن الإحراق انما يستند إلى النار ونسبته إليها نسبة العرض إلى معروضه ، فانها هي المؤثرة فيه ، والشرائط من الملاقاة ويبوسة المحل دخيلة في تأثير النار لا أنها بنفسها مؤثرة. فالشرط العرفي ان كانت نسبته إلى الأثر نسبة المعروض إلى العروض والمقتضي إلى المقتضى بحيث يكون جزء المؤثر ، وجب إحرازه عند إجراء أصالة الصحة شرعا وعرفا. وان لم تكن نسبته كذلك بل كانت من قبيل الشرط وعدم المانع لم يلزم إحرازه في إجراء أصالة الصحة شرعا وعرفا ، لعدم دخالته في موضوع الأثر وهو مورد جريان أصالة الصحة التي قامت عليها السيرة العرفية كما في الإشكال.

فجملة القول : انه لا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز الموضوع للصحة ، وهو ما كان مباشرا للتأثير ، ولا يلزم إحراز جميع الشرائط العرفية ولو لم تكن دخيلة في الموضوعية.

وعليه ، فلا يرد الإشكال المذكور. إلا ان يدعى قيام السيرة على جريان أصالة الصحة بمجرد إحراز صورة العنوان ولو لم يحرز العنوان أو غيره من اجزاء الموضوع ، كجريانها بالنسبة إلى الغسل مع الشك في وصول الماء إلى بعض الاجزاء ، مع انه مقوم للموضوع عقلا ، كما ذهب إلى هذا المحققان الخراسانيّ (١)

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٤٥ ـ الطبعة الأولى.

١١٥

والأصفهاني (١). قدس‌سرهما.

ولكن ثبوت ذلك محل نظر وشك ، وهو كاف في منع هذه الدعوى.

وقد مثل الشيخ رحمه‌الله لصغرى المقام ـ أعني : ما يشترط فيه إحراز العنوان ـ بالغسل ، وانه لا تجري فيه أصالة الصحة ما لم يحرز كون الفاعل بعنوان التطهير ، لأن الغسل بظاهره ليس فيه صحيح ولا فاسد.

وهذا بظاهره قد يستغرب وقوعه من الشيخ ، لأن الطهارة انما هي من آثار نفس الغسل ، إذ لا يشترط في حصولها كونه بعنوان التطهير كما لا يخفى.

ولم أجد من المحققين من تعرض لتوجيه كلام الشيخ.

وغاية ما يمكن ان يقال في هذا المجال : ان اتصاف الشيء بالصحّة والفساد لا يدور مدار ترتب الأثر وعدم ترتبه فقط ، فلا يقال للغسل الحاصل بواسطة قوة الريح وإلقائها الثوب في الماء انه صحيح لو طهر الثوب أو فاسد لو لم يطهر.

وانما يدور مدار ترتبه وعدم ترتبه مع كون الفعل صادرا بداعي ترتب الأثر ، فالغسل إذا كان صادرا بعنوان التطهير يتصف بالصحّة والفساد ، أما إذا لم يكن متحققا بهذا الداعي فلا يتصف بهما ، فمع عدم إحراز العنوان لا تحرز قابلية الفعل للاتصاف بالصحّة والفساد.

ثم ان الشيخ بعد ان تعرض إلى هذه الجهة ذكر أمرا آخر ، وهو : بيان الفرق بين مثل الصلاة على الميت ، والصلاة عنه تبرعا أو استيجارا ، أو الحج عن العاجز ، حيث حكم الأصحاب بإجراء أصالة الصحة في الأول ورتبوا عليها سقوط الوجوب عن الغير ، وعدم إجرائها في الثاني حيث اشترطوا الثقة والعدالة في النائب والمستأجر مما يكشف عن عدم اعتبارهم أصالة الصحة فيه.

وقد ذكر قدس‌سره لتوجيه التفريق وجهين :

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٣١٨ ـ الطبعة الأولى.

١١٦

الأول : انه في صلاة النائب لا يعلم كونه في مقام إبراء ذمة الميت في صلاته أو لا يعلم كونه في مقام الصلاة ، وإلا فمع العلم بحاله وانه في مقام الإتيان بالصلاة إبراء لذمة الميت يلتزم بالحمل على الصحة وجريان الأصل في العمل عند الشك ، والطريق إلى الوصول إلى ذلك هو العدالة بحيث يوثق بقوله ودعواه انه في مقام الإبراء.

الثاني : ان لفعل النائب الصادر بعنوان النيابة حيثيتين : إحداهما : حيثية كونه فعلا للنائب. والأخرى : حيثية كونه منتسبا إلى المنوب عنه بلحاظ جهة التسبيب ، ويترتب على الفعل باعتبار كل من الحيثيتين ما لا يترتب عليه باعتبار الأخرى.

والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من الحيثية الثانية التي هي موضوع الأثر وهو فراغ الذّمّة وعدم وجوب الإعادة.

وهذا بخلاف مثل الصلاة على الميت مما يكتفي في إسقاط الذّمّة تحقق الفعل من الغير.

وقد صار هذا الكلام محلا للنقض والإبرام بين المحققين الأعلام.

والتحقيق : انه لا محيص عن الالتزام به. وذلك لأن هاتين الحيثيتين عرضيتان ، فالفعل ـ بمعناه الاسم المصدري ـ بذاته ينتسب إلى النائب باعتباره المباشر له ، وينتسب إلى المنوب عنه بلحاظ التسبيب بالاستئجار ، فإذا شك المنوب عنه في صحة هذا الفعل المتحقق في الخارج باعتبار انتسابه إليه ، فلا مجال له لإجراء أصالة الصحة فيه كي يترتب عليه آثار الفعل الصحيح المنتسب إليه من فراغ الذّمّة ، لأنه بهذا اللحاظ فعل نفسه ، وأصالة الصحة موضوعها فعل الغير لا فعل الشخص نفسه.

نعم ، لو شك المنوب عنه في صحة الفعل باعتبار انتسابه إلى النائب بلحاظ ترتيب آثاره من استحقاق الأجرة وغيره ، أمكنه إجراء أصالة الصحة فيه ، لأنه بهذا الاعتبار فعل الغير ، ولكن الصحة من هذه الحيثية لا تثبت الصحة من

١١٧

الحيثية الأخرى. إلا بأحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون مفاد أصالة الصحة ثبوت المشكوك تكوينا وخارجا حقيقة ، فمع جريانها بالاعتبار الأول يثبت المشكوك تكوينا فيرتفع شك المنوب عنه حقيقة ويحصل له العلم الوجداني باجتماع الاجزاء والشرائط.

الثاني : ان يكون أثر الصحة بالاعتبار الثاني في طول أثر الصحة بالاعتبار الأول ، بان يكون هذا موضوعا لذاك شرعا ، فإذا ثبت بأصالة الصحة أثر الصحة بالاعتبار الأول يترتب جزما أثر الصحة بالاعتبار الثاني.

الثالث : ان تكون الإضافة الثانية في طول الإضافة الأولى ـ فالطولية بين الإضافتين لا بين الأثرين ـ بان يكون الفعل الصادر من النائب هو موضوع الإضافة إلى المنوب عنه لا نفس الفعل بذاته ، ويكون موضوع الأثر هو فعل النائب الصحيح. وعليه فبجريان أصالة الصحة في فعل النائب يترتب الأثر المرغوب.

وجميع هذه الوجوه منتفية :

أما الأول : فواضح ، لأن مفاد أصالة الصحة هو التعبد بصحة العمل الصادر لا إثبات تحقق المشكوك تعبدا فضلا عن إثباته تكوينا وحقيقة.

وأما الثاني : فلأن دعوى كون فراغ الذّمّة ـ أعني : ذمة المنوب عنه الّذي هو أثر الصحة بالاعتبار الثاني ـ حكما من أحكام استحقاق الأجرة الّذي هو من آثار الصحة بالاعتبار الأول ، واضحة المنع.

وأما الثالث : فلأن موضوع الإضافة هو نفس العمل الخارجي ، فهو بنفسه مضاف إلى النائب ، كما انه بنفسه مضاف إلى المنوب عنه ، فالإضافتان غير طوليتين بل عرضيتين.

فإذا ثبت التعبد بصحة العمل باعتبار إضافته إلى النائب التي مرجعها إلى ثبوت آثار عمل النائب الصحيح لا غير ، لا تترتب آثار عمل المنوب عنه الصحيح ، كما لا يخفى.

١١٨

ولكن هذا انما يتم في صورة حياة المستنيب كالنيابة في الحج عن العاجز.

أما في صورة استئجار الولي أو الوصي ، فلا مانع من جريان أصالة الصحة في العمل بلحاظ إضافته إلى المنوب عنه ، لأن الاستئجار يكون من الولي أو الوصي ، وعمل المنوب عنه بالنسبة إليهما فعل الغير ، فيكون موردا لأصالة الصحة وتترتب آثار الصحيح بالنسبة إليهما.

ثم لا يخفى ان هذا كله مبني على تفسير النيابة ، بأنها تنزيل الفاعل نفسه منزلة المنوب عنه في فعله ، بحيث يكون الفاعل وجودا تنزيليا للمنوب عنه فيكون للفعل انتسابان عرضيان.

أما لو قيل : بان النيابة ليست سوى فعل الشخص عملا لنفسه ، غاية الأمر ان نتيجة هذا العمل ترجع إلى الغير ، فيكون منوبا عنه ، فلا إشكال في كون جريان أصالة الصحة في فعل النائب بما هو فعل للنائب كافيا في فراغ ذمة المنوب عنه ، لأن فراغ ذمته أثر للعمل الصحيح الصادر من الغير ، فالتفت.

المقام الخامس : فيما يثبت بأصالة الصحة من الآثار.

والتحقيق : ان الثابت بها ليس إلاّ آثار العمل الصحيح الشرعية ، دون لوازمه وملزوماته العقلية والعادية ، كما لا يثبت بها الجزء المشكوك كي تترتب عليه آثاره. ولا يفترق الحال في هذا بين أن نقول بأن قاعدة الصحة إمارة أو أصل ـ كما هو الأقرب ، لاعتبارها في مورد ينتفي فيه ملاك الأمارية ، وهو مورد جهل الفاعل بالصحيح والفاسد ـ لما ذكرناه آنفا من أن الأمارة بنفسها ليست حجة في لوازم مفادها وملزوماته ـ نعم ، قد يكون قيام الأمارة على الملزوم أو اللازم منشئا لقيام إمارة من فصيلتها على اللازم أو الملزوم ، كما في الخبر ، لأن الاخبار بالملزوم اخبار باللازم وبالعكس ، فيثبتان بالأمارة الثانية ، ولكن هذا ليس من حجية الأمارة في اللوازم والملزومات ـ كما لا يخفى ـ وهذا مما لا إشكال فيه.

وانما الإشكال فيما فرّعه الشيخ رحمه‌الله على هذا من : أنه إذا شك في ان

١١٩

الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير أو بعين من أعيان ما له ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع ، لأن كون الثمن خلا أو شاة ـ مثلا ـ ليس مفاد أصالة الصحة ، كما انه ليس من آثار الصحة شرعا ، بل هو من اللوازم العقلية ، لأن صحة البيع متوقفة عقلا على ان يكون الثمن هو هذا ، فلا يثبت بأصالة الصحة.

وقد ذكر في مقام الإشكال على هذا التفريع وجهان :

الأول : انه ان جرت أصالة الصحة في العقد الواقع بلا ان يترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري ، كان جريانها بلا أثر ـ إذ أثرها هو حصول النقل والانتقال وهو غير متحقق كما هو الفرض ـ فلا معنى لجريانها. وان ترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري بلا انتقال العين من تركته إلى البائع ، كان البيع بلا عوض وهو خلاف مفهوم البيع.

الثاني : العلم الإجمالي بكون أحد العينين ليس ملكا له ، لأنه ان وقع البيع بالخل ـ مثلا ـ فقد خرج عن ملكه. وان وقع بالخمر فالمبيع ليس ملكه. فإجراء الأصلين ـ أعني : أصالة الصحة ، وأصالة بقاء العين على ملكيتها للمشتري ـ يستلزم مخالفة قطعية للعلم الإجمالي ، وهي غير جائزة.

ولكن هذين الوجهين لا ينهضان لمنع جريان أصالة الصحة في المورد المزبور.

أما الأول : فيدفع بان الحكم بعدم انتقال الخل لا يستلزم الحكم بوقوع البيع بلا عوض ، بل يقتضي عدم ثبوت العين الخاصة ثمنا ، أما عدم ثبوت الثمن بالمرة فهذا أجنبي عن ذلك ، بل ثمن المثل ثابت في الذّمّة.

وأما الثاني : فهو أجنبي عن عدم قابلية الأصل للجريان ، إذ عدم جريان الأصل في الفرض يكون لأجل وجود المانع ، لا لأنه في نفسه غير قابل ـ الّذي هو محل الإشكال ـ ولذلك فلا مانع من جريانه فيما لو لم يكن العلم الإجمالي منجزا ، كما

١٢٠