زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-80-5
الصفحات: ١١٦
الخدري (١) ، وهو كذب على أبي سعيد.
واستدلّوا أيضاً على صحّة حديث أبي هريرة في تكذيب أبي الأنبياء عليهمالسلام بحديث الشفاعة يوم القيامة ، وهو ما أخرجه أحمد بن حنبل ، وأبو يعلى ، وأبو داود الطيالسي ، كلهم عن أبي نضرة ، عن عبد الله بن عباس وخلاصته : إنّ الناس يتوسّلون يوم القيامة عند رؤيتهم لأهوالها بآدم عليهالسلام ليشفع لهم ، فيعتذر إليهم ويحيلهم إلى نوح عليهالسلام ، فيأتون نوحاً عليهالسلام ويطلبون ذلك منه ، فيعتذر لهم ويرشدهم إلى إبراهيم عليهالسلام ، قال : « فيأتون إبراهيم عليهالسلام فيقولون : يا إبراهيم اشفع لنا إلى ربنا فليقضِ بيننا ، فيقول : إنّي لست هناكم إنّي كذبت في الإسلام ثلاث كذبات ، والله أن أحاول بهن إلّا عن دين الله.
قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ).
وقوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ).
وقوله لامرأته حين أتى على الملك : أُختي .. » (٢).
وأخرجه أحمد ، عن قتادة ، عن أنس أيضاً (٣).
ومن هنا ردّ الطبري التأويل الصحيح لأقوال إبراهيم عليهالسلام التي حكاها القرآن الكريم ، وتمسّك بخبر أبي هريرة مع اشتهاره بالكذب على رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال في جامع البيان : « وقد زعم بعض من لا يصدق بالآثار ولا يقبل من الأخبار إلّا ما استفاض به النقل من العوام أن معنى قوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ) ، إنّما هو : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، أي :
___________
(١) سنن الترمذي ٤ : ٣٧٠ ، ومسند أبي يعلى ٢ : ٣١٠ / ١٠١٠.
(٢) مسند أحمد ١ : ٢٨١ و ١ : ٢٩٥ ، ومسند أبي يعلى الموصلي ٤ : ٢١٣ ـ ٢١٥ / ٢٣٢٨ ، ومسند أبي داود الطيالسي : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.
(٣) مسند أحمد ٣ : ٢٤٤.
إن كانت الآلهة المكسورة تنطق فإن كبيرهم هو الذي كسَّرهم. وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أن إبراهيم لم يكذب إلّا ثلاث كذبات كلها في الله :
قوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ).
وقوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ).
وقوله لسارة : هي أُختي.
وغيرمستحيل أن يكون الله جلّ ذكره أذِن لخليله في ذلك ليقرع قومه به ويحتجّ له عليهم ، ويعرّفهم موضع خطئهم وسوء نظرهم لأنفسهم ، كما قال مؤذن يوسف لأُخوته : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (١) ولم يكونوا سرقوا شيئاً » (٢).
وقال في مكان آخر : « واختلف في وجه قول إبراهيم ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وهو صحيح ، فروي عن رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه قال : لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات. ذكر من قال ذلك ».
ثمّ أخرج تلك الفرية عن محمد بن سيرين ، وعبد الرحمن الأعرج ، والمسيب بن رافع ؛ كلٌّ من طريق ، عن أبي هريرة (٣).
ثمّ ذكر بعد ذلك القول المعارض لذلك فقال : « وقال آخرون : إنّ قوله ( إِنِّي سَقِيمٌ ) كلمة فيها معراض ومعناها : إنّ كل من كان في عقبه الموت فهو سقيم وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر ، والخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوآله بخلاف هذا القول ، وقول رسول الله صلىاللهعليهوآله هو الحق دون غيره » (٤).
___________
(١) سورة يوسف : ١٢ / ٧٠.
(٢) جامع البيان / الطبري العامي ١٧ : ٥٤ ـ ٥٥.
(٣) جامع البيان ٢٣ : ٨٤ ـ ٨٥ / ٢٥٨٠.
(٤) جامع البيان ٢٣ : ٨٥.
وقال النووي في شرح حديث أبي هريرة في صحيح مسلم : « قال المازري : أمّا الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى فالأنبياء معصومون منه سواء كثيره وقليله ، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ ويعدّ من الصفات كالكذبة الواحدة في حقير من أُمور الدنيا ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف » ، ثمّ نقل بعد ذلك عن المازري بشأن ما قيل في تأويل لفظة الكذب في حديث الكذّاب أبي هريرة أنّه قال : « ولا معنى للامتناع من اطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلىاللهعليهوآله » وأيّده النووي (١).
وحاشا لرسول الله صلىاللهعليهوآله أن يطلق ذلك على إبراهيم الخليل عليهالسلام ، وإنّما الذي أطلقه كذّاب بل زنديق كما سيأتي في كلام الفخر الرازي.
تنزيه إبراهيم عليهالسلام من رذيلة الكذب :
اغتر مخطئو الأنبياء بهذين الخبرين كثيراً ، مع أنّهما يشهدان بنفسهما على نفسهما من غير أية قرينة أخرى على أنهما كذب مع جهل من وضعهما العجيب بالقرآن الكريم. إذ كيف يقول إبراهيم في الخبر الأول لزوجته سارة ( يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ) بعد أن يثبّت القرآن الكريم إن إبراهيم ولوطاً عليهماالسلام كانا في زمان واحد ، قال تعالى : ( وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (٢) ، ولهذا قال تعالى في إبراهيم عليهالسلام : ( يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ) (٣).
___________
(١) شرح صحيح مسلم / النووي ١٥ : ١٢٤ ـ ١٢٥.
(٢) سورة العنكبوت : ٢٩ / ٣١ ـ ٣٢.
(٣) سورة هود : ١١ / ٧٤ ـ ٧٥.
وربما يقال : إنّه عليهالسلام قال لسارة ذلك قبل أن يلتقي بلوط عليهالسلام ويتعرّف عليه ، وهو ليس بشيء إذ لا يمكن للعاقل نفي وجود شيء ما لم يعلم بعدمه فكيف بإبراهيم عليهالسلام وهو سيد العقلاء في زمانه ؟ ولو صح ما قيل لقال إبراهيم عليهالسلام لسارة : يا سارة إنّي لا أعلم بوجود مؤمن غيري وغيرك ، لا أن يقول : ( يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ) ، الأمر الذي يؤكّد كذب الخبر بجميع طرقه.
ثمّ أين ذهب أبوا إبراهيم عليهالسلام ، وقد ثبت عقلاً وشرعاً أنّ آباء الأنبياء عليهمالسلام وأُمهاتهم لا يكونوا إلّا مؤمنين ، وأما ما ورد في القرآن الكريم من محاورة إبراهيم مع آزر الذي انخدع من انخدع فظنه أبا إبراهيم عليهالسلام حقيقة فهو ليس كذلك ، لأن اسم أبي إبراهيم هو ( تارخ ) وأما ( آزر ) الكافر فهو عم إبراهيم عليهالسلام ، لكن سمّاه الله تعالى أباً ، نظير قوله تعالى : ( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (١).
ومن الواضح أنّ إسماعيل هو عمّ يعقوب عليهماالسلام.
ومن نظائر تسمية غير الأب أباً في القرآن الكريم قوله عزّوجلّ في قصة يوسف الصدّيق عليهالسلام : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ) (٢) والمراد : أبوه وخالته ، لأنّ أُمّه قد ماتت وهو صبي بلا خلاف.
هذا فضلاً عن وجود المؤمن من آل لوط ما عدا امرأته كما يفهم من قوله تعالى : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ
___________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٣٣.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٠.
بِقَرِيبٍ ) (١).
فوجود أكثر من مؤمن غير سارة في عصر إبراهيم عليهالسلام متحقق على كل حال ، فكيف يمكنه عليهالسلام إذن نفي وجود المؤمن في عصره لولا سقم هذين الخبرين وكذب من اختلقهما ؟!
جدير بالذكر أنّ الفخر الرازي تعرض إلى هذه الفرية في تفسيره ونقدها نقداً لاذعاً واتّهم رواتها بالكذب تارة والزندقة تارة أُخرى.
فبعد أن ذكر عدّة وجوه في معنى قوله تعالى : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) وكلّها تُنزّه إبراهيم الخليل عليهالسلام من تهمة الكذب ، قال :
« الوجه السابع : قال بعضهم : ذلك القول من إبراهيم عليه السلام كذبة ! ورووا فيه حديثاً عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال : ما كذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات !
قلت لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن يُقبَل ؛ لأنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز.
فقال ذلك الرجل : فكيف يُحكَم بكذب الرواة العدول ؟
فقلت : لمّا وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليهالسلام ، كان من المعلوم بالضرورة أنّ نسبته إلى الراوي أولى » (٢).
وقد صرّح الرازي قبل ذلك بنحو هذا وزاد عليه زندقة من اتّهم إبراهيم عليه السلام بالكذب ؛ إذ قال ما هذا لفظه :
«فإن قيل : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) كذب ! والجواب : للناس فيه قولان ، أحدهما : وهو قول كافّة المحقّقين أنّه ليس بكذب ».
___________
(١) سورة هود : ١١ / ٨١.
(٢) التفسير الكبير / الفخر الرازي ١٤ : ٤٩ في تفسير الآية (٨٩) من سورة الصافّات.
ثمّ ذكر عدّة وجوه في بيان أنّه عليهالسلام لم يكذب في قوله ، إلى أن قال : « القول الثاني ، وهو قول طائفة من أهل الحكايات ، أنّ ذلك كذب ، واحتجّوا بما رُوي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال : لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات ، كلّها في ذات الله تعالى :
قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ).
وقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ).
وقوله لسارة : هي أُختي.
وفي خبر آخر أنّ أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة ، قال : إنّي كذبت ثلاث كذبات .. أمّا الخبر الأوّل وهو الذي رووه. فَلأنْ يُضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يُضاف إلى الأنبياء عليهمالسلام ، والدليل القاطع عليه أنّه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن الله تعالى فيه ، فلنجوّز هذا الاحتمال في كل ما أخبروا عنه ، وفي كلّ ما أخبر الله تعالى عنه ، وذلك يُعطّل الوثوق بالشرائع وتطرّق التهمة إلى كلّها ، ثمّ إنّ ذلك الخبر لو صحّ فهو محمول على المعاريض على ما قال عليه السلام : إنّ في المعارض لمندوحة عن الكذب.
فأمّا قوله : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) فلعلّه كان به سقم قليل ، واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه.
وأمّا قوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) فقد ظهر الجواب عنه.
وأمّا قوله لسارة : إنّها أُختي ، فالمراد : أنّها أُخته في الدين ، وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام ، فحينئذٍ لا يحكم بنسبة الكذب إلّا زنديق » (١).
وقد علمت أنّ البخاري ومن وافقه صدقوا بنسبة أبي هريرة الكذب إلى
___________
(١) التفسير الكبير ١١ : ١٨٦ ـ ١٨٧ في تفسير الآية (٦٣) من سورة الأنبياء.
إبراهيم الخليل عليهالسلام ، ولا زال هذا الكذّاب الدجّال يعدّ في قمّة الصحابة العدول !! ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.
ونقل الثعالبي في تفسيره عن القاضي عياض قوله : « واعلم أكرمك الله إنّ هذه الكلمات كلّها خارجة عن الكذب لا في القصد ولا في غيره ، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب ، فأمّا قوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ) فإنّه علّق خبره بشرط النطق ، كأنّه قال : إن كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه. انتهى ، ثمّ ذكر بقية التوجيه وهو واضح لا نطيل بسرده » (١).
وهكذا شهد شاهد من أهلها على كذب الخبرين اللَّذَينِ تمسّك بهما المخطئة ، الذين لو تأمّلوا فيما قالوه بشأن إبراهيم عليهالسلام لوجدوه مخالفاً لاستعمالات لغة العرب في المحاججة التي سار القرآن الكريم عليها أيضاً ، من ذلك تنبيه الوثنيين عى ما هم عليه من ضلال مبين كما في قوله تعالى بشأن أصنامهم وأوثانهم : ( فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢).
وعلى هذا السياق القرآني جاء قول إبراهيم عليهالسلام حين سأله قومه عن أصنامهم المكسّرة : ( أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ) (٣) فأجابهم عليهالسلام بكلام علموا أنّه أراد به تبكيتهم وتوبيخهم على اتباعهم حجراً لا ينطق : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) (٤).
وسرعان ما حصل على اعترافهم بالذي عناه إبراهيم عليهالسلام ، فقالوا له
___________
(١) تفسير الثعالبي ٤ : ٩٠ ـ ٩١.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٩٤.
(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٣.
(٤) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٣.
( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ ) (١) ، وبهذا حقّق إبراهيم عليهالسلام المقدّمة التامّة التي بنى عليها قوله بعد ذلك : ( أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ) (٢) ، فأين الكذب إذن ؟!
ثمّ كيف يجوز على من اصطفاه الله لتبليغ رسالته أن يكذب ولو في غير التبليغ ؟
إنّ العقل السليم يمنع من ذلك لما فيه من نفرة الناس عمّن يكذب ، وسلب الوثوق بما يدّعيه ، وعدم اطمئنانهم بإخباره.
ومن ثمّ فإنّ الكذب قبيح في نفسه ولا يجوز على الأنبياء عليهمالسلام كلّ قبيح ، ومن العجب أن يدّعي الطبري عدم استحالة إذن الله عزّوجلّ لإبراهيم في الكذب ، ليقرع قومه به ! كما نقلناه عنه فيما تقدّم ، إنّه تخرّص باطل ؛ إذ لو أذِن الله لأحد في الكذب لكان الكذب حسناً وهو محال ، الأمر الذي يجب معه القطع على أن خبر تكذيب الأنبياء عليهمالسلام كإبراهيم ويوسف صلوات الله عليهما ، لا أصل له وإنّما هو من افتراء أبي هريرة وغيره من رواة تلك الأكذوبة ، كما يجب تنزيه الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآله عن نسبة ذلك لإبراهيم ، لأنّه صلىاللهعليهوآله أعرف بما يجوز على الأنبياء وما لا يجوز من كل أحد.
ويلاحظ هنا انّ تلك الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم عليهالسلام زوراً قد اتّصفت بخصلتين عند مخطئي الأنبياء عليهمالسلام ، وهما :
الأولى : إنّها كانت ـ كما مرّ ـ كلّها في ذات الله عزّوجلّ لهداية قومه.
الثانية : احتمال إذن الله عزّوجلّ له في تلك الكذبات لمصلحة في الدين ،
___________
(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٥.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٦ ـ ٦٧.
وإذا كان الأمر كما يزعمون فلماذا عدّها إبراهيم عليهالسلام في حديث الشفاعة ـ المكذوب هو الآخر ـ ذنوباً لنفسه مانعة له عن القيام بأمر الشفاعة مع اعتذاره عنها ؟ في الوقت الذي يجب أن تكون ـ بخصلتيها ـ من حسناته في الدين لو جاز له أن يكذب لمصلحته (١).
وبهذا يظهر تهافت الخبرين مع ما ذكرناه من مخالفة مضمونهما لاستعمالات لغة العرب في المجادلة والمخاصمة ، مع مخالفته أيضاً للدليل العقلي ، وأما عن الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهمالسلام في ذلك ، فهي صريحة بنفي الكذب عن إبراهيم ويوسف عليهماالسلام خلافاً لما نسبته المخطئة لهما عليهماالسلام ، فمن ذلك :
ما رواه أبو بصير ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : « قيل له وأنا عنده : إن سالم بن حفصة يروي عنك إنّك تكلّم على سبعين وجها لك منها المخرج ؟
فقال عليهالسلام : ما يريد سالم مني ، أيريد أجيء بالملائكة ؟! فوالله ما جاء بهم النبيّون ، ولقد قال إبراهيم : ( إِنِّي سَقِيمٌ ) ، ووالله ما كان سقيماً وما كذب ، ولقد قال إبراهيم : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) وما فعله كبيرهم وما كذب ، ولقد قال يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) (٢) والله ما كانوا سرقوا وما كذب » (٣).
وعن الإمام الصادق عليهالسلام في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : ( بَلْ فَعَلَهُ
___________
(١) ولمزيد الاطلاع على تكذيب ما نسب إلى إبراهيم عليهالسلام ينظر : التبيان / الشيخ الطوسي ٧ : ٢٥٩ ـ ٢٦٠ و ٨ : ٥١٠ ، ومجمع البيان / الطبرسي ٧ : ٩٧ ، و ٨ : ٣١٧ ، وجوامع الجامع / له أيضاً ٢ : ٥٢٩ ، والميزان ٧ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٧٠.
(٣) تفسير العيّاشي ٢ : ١٨.
كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ) قال عليهالسلام : « والله ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم ، فقيل : وكيف ذلك ؟ قال عليهالسلام : إنما قال : فعله كبيرهم هذا إن نطق ، وإن لم ينطق فلم يفعل كبيرهم هذا شيئاً » (١).
وسأل بعضهم من الإمام الصادق عليهالسلام عن قول الله عزّوجلّ في قصّة يوسف : ( أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ) فقال عليهالسلام : « إنّهم سرقوا يوسف من أبيه ، ألا ترى أنّه قال لهم حين قالوا : ( مَّاذَا تَفْقِدُونَ ) (٢) قال : ( نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ ) (٣) ولم يقل : ( سرقتم صواع الملك ) إنّما عنى : سرقتم يوسف من أبيه » (٤).
رابعاً ـ ما يتعلّق بنبيّ الله يونس عليهالسلام :
لم يترك المخطئون للأنبياء عليهمالسلام نبي الله يونس عليهالسلام بل وقفوا عنده مطلقين أقلامهم بغْية ارتكاب خطأ استحق على أثره لوم الباري وعتابه وهذا ما فهموه من قوله تعالى : ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ) (٥).
وزعموا أنّ هذه الآية تدلُّ على مخالفة يونس لربه وخروجه عن عصمته ، وذلك عندما ترك قومه وخرج مغاضباً دون إذن من ربّه فلامه الله على ذلك.
في بادئ الأمر لابدّ للباحث أن يتبيّن معنى مفردة ( لاَمَ ) ليقف موازناً ومعقباً على ما ذكره مفسرو الآية حسب اتجاهاتهم الفكرية ونزعاتهم
___________
(١) تفسير القمي ٢ : ٧٢.
(٢) سورة يوسف : ١٢ / ٧١.
(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٧٢.
(٤) تفسير القمي ٢ : ١٨٥.
(٥) سورة الصافات : ٣٧ / ١٤٢.
العقلية.
في معجم مقاييس اللغة ( المليم ) الذي يستحق اللوم (١) ، وفي لسان العرب : « لامه على كذا يلومه لوماً... فهو ملوم ومليم استحقّ اللوم حكاه سيبويه » (٢) ، وكذلك في تهذيب اللغة للأزهري : « ألام الرجل فهو مليم ، إذا أتى ذنباً يلام عليه » (٣) ، وقال الراغب الاصفهاني : « ألام : استحقّ اللوم » (٤).
وقد وقف جملة نفاة العصمة المطلقة للأنبياء عليهمالسلام من المفسرين عند هذه الآية متناولين سبب نزولها وناظرين في المعنى اللغوي لكلمة ( مُليم ) وارتباطها في سياق النصّ القرآني ، فالطبري يرى قوله تعالى : ( وَهُوَ مُلِيمٌ ) أي مكتسب اللوم ، يقال ألام الرجل إذا أتى بما يُلام عليه من الأمر وإن لم يُلَم كما يقال أصبحت محمقاً معطشاً ، أي عندك الحمق والعطش ، ثم استشهد بقول لبيد :
مفهماً عذلتَ ولمت غير مليم |
|
وهداك قبل اليوم غير حكيم |
فأمّا اللوم فهو الذي يلام باللسان ويُعذل بالقول.. ثم بعد هذا يقول : حدّثني يونس ، قال : أخبرنا وهب ، قال : قال أبي زيد في قوله وهو مليم مذنب ، قال والمليم المذنب (٥).
والزمخشري قال معلقاً على الآية « داخل في الملامة ، يقال ربّ لائم
___________
(١) معجم مقاييس اللغة : ( لوم ).
(٢) لسان العرب : ( لوم ).
(٣) ظ : تهذيب اللغة / الأزهري ١٥ : ٣٩٩ ، لوم.
(٤) المفردات / الراغب : ٤٠ ، ( لوم ).
(٥) جامع البيان / الطبري ٢٣ : ١١٧.
مليم ، أي يلوم غيره وهو أحق منه باللوم ثم يقول : وقرئ ( مليم ) بفتح الميم ، من ليم فهو مليم » (١).
أمّا القرطبي فيرى أنه عليهالسلام أتى بما يلام عليه ، فأما الملوم فهو الذي يُلام استحق ذلك أو لم يستحق ، ثم يقول : « وقيل : المليم المعيب ، يُقال : لام الرجل إذا عمل شيئاً مضاراً معيباً بذلك العمل » (٢).
والبيضاوي يقول مفسراً الآية الكريمة : داخل في الملامة أو آتٍ بما يلام عليها أو مليم نفسه (٣) والبغوي يرى الرأي نفسه (٤).
ومن هنا قالوا بعدم عصمة يونس عليهالسلام عصمة مطلقة وجوّزوا ارتكابه ما استحقّ عليه ملامة العقاب !
والحقّ أنّ الآية الشريفة لا تقدح بعصمته المطلقة من كلّ وجه ، ولا دلالة فيها على ذلك لأن العقاب الوارد فيها كان على ترك الأولى ، لا ترك الواجب الذي يلام عليه من يفعله لوم عقاب لا لوم عتاب.
وهذا هو مذهب جميع الإمامية ، لأنّهم يقولون ـ تبعاً لآل محمد صلىاللهعليهوآله وأدلّة العقول ـ بالعصمة المطلقة لجميع الأنبياء عليهمالسلام قبل بعثتهم وبعدها ، ولا يجوزون عليهم حتى الصغائر ، وإذا حصل لأحدهم عليهمالسلام من قبيل هذا فأنّه يحمل على ترك الأولى ، ومن هنا ندرك أنه سبحانه لم يخاطب نبيه لذنب ارتكبه أو خطأ أقترفه وإنما يكون خطاب تشريف وعتاب لطيف لا عتاب عقاب ، « مستحق للّوم ، لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه من بين قومه
___________
(١) الكشاف ٤ : ٦٣.
(٢) الجامع لأحكام القرآن ٨ : ٨١.
(٣) تفسير البيضاوي ٥ : ٢٧.
(٤) تفسير البغوي ٤ : ٤٣.
من غير أمر ربّه ، وعندنا أنّ ذلك إنمّا وقع منه تركاً للمندوب وقد يلام الإنسان على ذلك المندوب » (١).
وإلى ما يشبه هذا التوجيه ذهب مفسرون آخرون منهم الفيض الكاشاني (٢) والعاملي (٣) وعبدالله شبر (٤) والطباطبائي (٥) وأمثالهم.
خامساً ـ ما يتعلّق بنبي الله موسى ووصيّه هارون عليهماالسلام :
١ ـ ما يتعلّق بنبي الله موسى عليهالسلام :
من الآيات التي تمسكوا بها في عدم عصمة موسى عليهالسلام وهي لاتدل على ما أدعوه من كل وجه ، قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ـ إلى قوله تعالى ـ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ).
والسبب في تمسكهم بظاهر تلك الآيات المباركة ما رواه بخاريهم الذي جوّز لنفسه الطعن بصدق إبراهيم الخليل عليهالسلام كما مرّ. قال : حدّثنا الحميري ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، قال : أخبرني سعيد بن جبير ، قال : قلتُ لابن عباس : إنّ نوف البكالي يزعمُ أنّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدّثني أُبيّ بن كعب أنه سَمِع من رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : أنّ موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فَسُئِل أيّ الناس أعلم ؟
___________
(١) مجمع البيان ٨ : ٥٩١.
(٢) تفسير الصافي ٤ : ٢٨٣.
(٣) تفسير الوجيز ٣ : ٨٨.
(٤) تفسير القرآن الكريم / السيد عبد الله شبر : ٥٠٠.
(٥) الميزان ١٧ : ١٦٣.
فقال أنا : فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه ، فأوحى الله إليه أنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك ... » (١).
وقال الزمخشري : « وروي أنه لما ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكِّر قومه النعمة ، فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله وقال : إنّه اصطفى نبيّكم وكلمة فقالوا له قد علمنا هذا ، فأيّ الناس أعلم ؟ قال أنا : فَعَتَب الله عليه حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى إليه : ( بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر ) (٢).
أما القرطبي فقد علّق على الآية الكريمة ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) (٣) قائلاً : « وسبب هذه القصة ما أخرجه الصحيحان عن أبي بن كعب انّه سمع رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إنّ موسى عليهالسلام قام خطيباً في بني إسرائيل فَسُئِلَ أيّ الناس أعلم ؟ فقال أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : أنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك ... » (٤).
والرواية ظاهرة البطلان ، وحاشا لابن عباس أن يقول بحق نوف البكالي ( كذب عدو الله ) لعلمه الأكيد بجلالة نوف البكالي رضي الله تعالى عنه ووثاقته وحبه الشديد لأمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام ، وتمسكه بالثقلين كتاب الله وعترة نبيه صلىاللهعليهوآله ، الأمر الذي يشير إلى تلك اليد الأموية الخبيثة في صناعة الخبر المذكور كما هو حالها في صناعة الكثير من الأخبار التي أودعها
___________
(١) ظ : صحيح البخاري ٧ : ٦٠٧ باب حديث الخضر مع موسى.
(٢) الكشاف ٢ : ٦٨٣.
(٣) سورة الكهف : ١٨ / ٦٠.
(٤) الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٢٧٨.
البخاري في صحيحه !
وعند التدبّر في دلالة الآية الكريمة ، اعتماداً على ما ورد من روايات عن أهل البيت عليهمالسلام نجد للأمر تحليلاً آخر.
فعن « إسحق بن عمار ، عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إنّ مَثل علي بن أبي طالب عليهالسلام ومثلنا من بعده في هذه الأُمّة كمثل موسى النبيّ والعالم عليهماالسلام » حيث لقيَه واستنطقه وسأله الصحبة فكان من أمرهما ما أقتصه الله لنبيه في كتابه ، إلى أن يقول عليهالسلام : « وكان موسى عليهالسلام يظنّ أن جميع الأشياء التي يحتاج إليها في نبوته وجميع العلم قد كُتب له في الألواح... » ثم يقول عليهالسلام بعد أسطر : « ولا والله ما حسد موسى العالم ، وموسى نبي الله يُوحى إليه ، حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم ، بل أقرّ له لعلمه ولم يحسده... » (١).
ومن الموارد القرآنية الأخرى التي استدلّ بها المخطئون لعصمة الأنبياء عليهمالسلام ، قوله تعالى في قصة موسى عليهالسلام :
( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَٰذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ) (٢).
فقد ذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى ، قاصدين من وراء ذلك إظهار النقص للأنبياء عليهمالسلام ، وإنه ليس من المستبعد ـ بزعمهم ـ أن يظهر منهم جرائم
___________
(١) ظ : تفسير العياشي ٢ : ٣٣٠ ـ ٣٣١ / ٤٦ وانظر : مستدرك الوسائل / الميرزا حسين النوري الطبرسي ١٧ : ٢٦٥.
(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٥ ـ ١٧.
وآثام تصل إلى مستوى القتل بحيث يجرّ ذلك لهم اللوم والعتاب من الله تعالى.
وهذا المعنى نقرأه عند الزمخشري حيث ذهب إلى أن موسى عليهالسلام عندما نسب قتل الكافر إلى عمل الشيطان وسماه ظلماً لنفسه واستغفر منه ؟ لأنه قتل قبل أن يؤذن له في القتل ، فكان ذنباً يستغفر منه ، ثم أنه يؤيد ما ذهب إليه بقول ابن جريح من أنه ليس لنبي أن يقتل ما لم يُؤمر (١) ، ونحوه عند القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (٢).
إن هذا الإتجاه المنحرف في فهم تلك الآيات قد ناقشه الفخر الرازي في عصمة الأنبياء عليهمالسلام ، ولكنه ـ مع ذلك ـ وقع في تحميل قصة موسى مع الرجل القبطي ما لم تبينه تلك الآيات الشريفة المبينة لتلك القصة ، حيث ذكر أن مخطئة الأنبياء عليهمالسلام قد احتجوا بالآيات المذكورة من وجوه.
( أحدها ) : إنّ ذلك القبطي أمّا أن يقال : إنّه كان مستحق القتل أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأوّل فلِمَ قال ( هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) ولِمَ قال : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ ) ، ولِمَ قال في سورة أُخرىٰ ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) (٣) ، وإن كان الثانيَ وهو أن ذلك القبطي لم يستحقّ القتلِ كان قتله معصية وذنباً.
( ثانيها ) : إنّ قوله : ( وَهَٰذَا مِنْ عَدُوِّهِ ) يدلُّ على أنّه كان كافراً حربياً فكان دمه مباحاً فلِمَ استغفر عنه ، والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز لأنّه يوهم في المباح كونه حراماً.
( ثالثها ) : إنّ الوكز لا يقصد به القتل ظاهراً فكان ذلك القتل قتل خطأ ،
___________
(١) الكشاف ٣ : ٤٠٢.
(٢) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٧ : ١٧٠.
(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٠.
فلِمَ استغفر منه.
وأجاب الرازي عن ذلك :
أمّا الأوّل : لا يجوز أن يقال انّه كان لكفره مباح الدم ، أمّا قوله : ( هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) ففيه وجوه : أحدها : لعلّ الله تعالى وإن أباح قتل الكافر إلّا أنّه قال الأولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر ، فلّما ترك المندوب كان ذلك من عمل الشيطان (١).
وهذا الوجه ضعيف سواء بصيغة الرازي أم ما نقل عن ابن جريج ، لأنّه مبني على كون القتل عمداً وهو لم يثبت ، وعلى فرض العمد فالعدو كان مستحقّاً للقتل ، وليس في الآيات أية إشارة إلى أنّه عليهالسلام قد عمل في ذلك ليكون الاستعمال من عمل الشيطان ، كما أنّه على فرض استحقاق القتل فهذا يعني أنّ الأمر موجود ، فكيف ذهبوا إلى أنّه لم يؤمر بذلك ؟
قال الشيخ الطوسي في التبيان : « وعند أصحابنا أن قتله النبطي لم يكن قبيحاً ، وكان الله أمره بقتله » (٢).
وهذا هو الصحيح المؤيّد بما ورد عن أهل البيت عليهمالسلام ، كما في حديث علي بن محمد بن الجهم قال : « حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليهالسلام ، فقال المأمون : يابن رسول الله أليس من قولك إن الأنبياء معصومون ؟ قال : بلى... » ثم سأله المأمون عن آيات كثيرة متعلقة بالأنبياء عليهمالسلام إلى أن قال : « فاخبرني عن قول الله : ( فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ).
___________
(١) مفاتيح الغيب ٢٤ : ٢٠٠ ـ ٢٠١ ، وعصمة الأنبياء / الفخر الرازي : ٨٩ ، ونحوه في المواقف / الايجي ٨ : ٢٩٧.
(٢) التبيان ٨ : ١٣٧.
قال الرضا عليهالسلام : إنّ موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها ، وذلك بين المغرب والعشاء ، فوجد فيها رجلين يقتتلان من شيعته ، وهذا من عدوه ، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ، فقضى موسى على العدو وبحكم الله تعالى ذكره فوكزه فمات ، قال هذا من عمل الشيطان ، يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى عليهالسلام من قتله أنّه يعني الشيطان عدو مضل مبين.
فقال المأمون : فما معنى قول موسى رب اني ظلمت نفسي فاغفر لي ؟
قال : يقول : انّي وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة فاغفر لي ، أي استرني من أعدائك لئلّا يظفروا بي فيقتلوني فغفر له انّه هو الغفور الرحيم ، قال موسى عليهالسلام : ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) من القوة حتى قتلت رجلاً بوكزه ( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ ) بل أجاهد سبيلك بهذه القوة حتى رضى ( فَأَصْبَحَ ) موسى عليهالسلام في المدينة ( خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) على آخر ( قَالَ لَهُ مُوسَىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ ) (١) قاتلت رجلاً بالأمس وتقاتل هذا اليوم لأُوذينّك ، وأراد أن يبطش به ( فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا ) وهو من شيعته ( قَالَ يَا مُوسَىٰ أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) (٢).
قال المأمون : جزاك الله عن أنبيائه خيراً يا أبا الحسن ، فما معنى قول موسى لفرعون : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) (٣).
___________
(١) سورة القصص : ٢٨ / ١٨.
(٢) سورة القصص : ٢٨ / ١٩.
(٣) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٠.
قال الرضا عليهالسلام : إنّ فرعون قال لموسى لما أتاه : ( وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (١) قال موسى : ( فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ) عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من مدائنك ( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) (٢) » (٣).
٢ ـ ما يتعلّق بنبي الله هارون عليهالسلام :
وأمّا ما تمسّكوا به في عدم عصمة هارون عليهالسلام ، فهو قوله تعالى في حكاية ما قاله موسى لأخيه : ( يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) (٤).
وممن ذهب إلى إثبات العتاب في هذه الآية المباركة المراغي حيث قال في قصة عبادة بني إسرائيل للعجل والتنكير عليهم : ( وزاد عليهم في التشنيع ببيان أنهم قد عصوا الرسول الذي نبأهم إلى خطأ ما فعلوا ، ثم حكى معاتبة موسى لهارون عليهماالسلام على سكوته على بني إسرائيل وهم يعبدون العجل ) (٥).
بمعنى أنّه عصى أخيه بسكوته ، فيكون قد خالف من تجب طاعته ! وهذا خطأ عظيم ، قال الشيخ الطبرسي : « سؤال : متى قيل أن الظاهر يقتضي أن
___________
(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ١٩.
(٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢١.
(٣) عيون أخبار الرضا عليهالسلام / الشيخ الصدوق ١ : ١٧٦ ـ ١٧٧ / ١ باب (١٥) ، والتوحيد / له أيضاً : ٧٤ / ٢٨ باب (٢) ، والاحتجاج ٢ : ٢١٨ ـ ٢١٩ ، وبحار الأنوار ١١ : ٧٨ ـ ٨١.
ويُعدّ هذا الحديث الشريف من المراجع الأساسية لدفع شُبَه وإشكالات مخطئة الأنبياء عليهمالسلام من الحشوية وغيرهم.
(٤) سورة طه : ٢٠ / ٩٢ ـ ٩٣.
(٥) تفسير المراغي / أحمد مصطفى المراغي ١٦ : ١١٢.
موسى كان أمره باللحاق به ، فعصى هارون أمره ؟ قلنا : يجوز أن يكون أمره بذلك بشرط المصلحة ، ورأى هارون الإقامة أصلح ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، ويجوز أن يكون لم يأمره بذلك ، وإنّما أمره بمجاهدتهم وزجرهم عن القبيح ، وإنّما عاتبه مع أن اللوم توجّه على القوم ؛ لأنّ أمره بمفارقتهم لوم عليهم ، وقيل أن موقع الذنب ممن عظمت مرتبته أعظم ، فلما كان هارون أجل من خلّفه موسى خصّه باللائمة ، وهذا إنّما يتّجه إذا ثبت لهارون ذنب ، فأمّا وهو نقي الجيب من جميع الذنوب ، برئ الساحة من العيوب ، فالقول الأوّل هو الوجه » (١).
أي أنه لم يعص أخيه عليهماالسلام في شيء قط.
وقال الشيخ محمد جواد مغنية رحمهالله في معنى قوله ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) : ( هذا ظاهره لوم أو عتاب لهارون عليهالسلام أما في واقعه فهو تقريع للذين عبدوا العجل ) (٢).
وقد سبقه الشيخ الطوسي إلى هذا المعنى قال : « وقوله : ( أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ) صورته صورة الاستفهام ، والمراد به التقرير ؛ لأنّ موسى كان يعلم أن هارون لا يعصيه في أمره » (٣).
سادساً ـ ما يتعلّق بنبي الله داود عليهالسلام :
تعرّض نبيّ الله داود عليهالسلام كغيره من أنبياء الله ورسله عليهمالسلام إلى مدّعيات المخطئة التي هي أشبه ما تكون بالسخافات منها إلى الإشكالات العلميّة ، سيما وقد تجرّأت على مقام خليفة الله في أرضه فزعمت ارتكابه أشدّ
___________
(١) مجمع البيان ٧ : ٥٠.
(٢) التفسير الكاشف / محمد جواد مغنية ٥ : ٢٣٩.
(٣) التبيان ٧ : ٢٠١.