عصمة الأنبياء عليهم السلام

زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي

عصمة الأنبياء عليهم السلام

المؤلف:

زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-80-5
الصفحات: ١١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (١) ، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلّهم فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هم أحب إلينا فوجدوا قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان » (٢).

وقد حام مفسرو العامة حول تلك الآيات الشريفة ولم يأتوا بشيء جديد على ما رواه لهم سلفهم من تخطئة الأنبياء عليهم‌السلام وجواز السهو ووسوسة الشيطان الرجيم عليهم (٣).

والعجب ممن يدّعي أنّه من ( أهل السنّة ) كيف يثق بسنّة ألقى الشيطان على من سنّها ـ فيما هو أعظم منها ـ ما ألقى ؟ فكيف بها إذن ؟!

إن عبث الشيطان في أعظم رسالة سماوية بمعتقد أولئك يجعل منها رسالة مهددة لا ثقة بها أصلاً ، ولا جرم أن أصبحوا بفعل ما أسسوه أهلاً لتلك السنة ! السنة التي اشترك بجريمة وضعها حثالات كثيرة من الصحابة ـ كأبي هريرة وأمثاله ـ والتابعين.

ومن هنا نرى وقفة الإمامية الجادة عبر التاريخ إزاء تلك الأكاذيب وتفنيدها واحدة تلو الأخرى ومنها فرية الغرانيق المتناقضة مع أسس العقيدة والتشريع فضلاً عن منافاتها لأدلّة العقل السليم على عصمة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

___________

(١) سورة الحجّ : ٢٢ / ٥٢.

(٢) تفسير الطبري ١٧ : ١٣١.

(٣) راجع : تفسير الكشاف / الزمخشري ٣ : ١٦٧ ، والتفسير الكبير / الفخر الرازي ٢٣ : ٤٨ ، والجامع لأحكام القرآن / القرطبي المالكي ٦ : ٥٨ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ : ٥٦٢ ، وغيرها كثير من تفاسيرهم المشحونة بثقافة تخطئة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

٦١

ولست أدري كيف يكون للشيطان سلطانٌ على من اصطفاهم الله لتبليغ رسالاته ، والله تعالى يقول : ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ) (١).

ورسل الله وأنبياؤه عليهم‌السلام أولى من كل العباد المؤمنين في انتفاء سلطان الشيطان عليهم ، ونظراً لما في تلك الفرية الشنيعة من ازدراء بالقرآن العظيم والسنّة معاً ، فقد وصفها السيد المرتضى بالخرافة (٢) ، وقال العلّامة الحلي ( وهذا في الحقيقة كفر ) (٣) ، وقال الشهيد الثالث السيد القاضي نور الله التستري : ( وهذا عين الكفر ) (٤) ، وقال العلّامة المجلسي في كلامه عن حديث الغرانيق ( وهو موضوع مما لا أصل له ) (٥).

وهناك ردود أخرى كثيرة لا حاجة إليها في مقام بيان كذب هذه الفرية وسخافتها (٦) على رغم أنف من صحّح سندها أو احتجّ بها (٧).

___________

(١) سورة الحجر : ١٥ / ٤٢.

(٢) تنزيه الأنبياء عليهم‌السلام / السيد المرتضىٰ : ١٠٧.

(٣) الرسالة السعدية / العلّامة الحلي : ٧٣.

(٤) الصوارم المهرقة في نقد الصواعق المحرقة / القاضي نور الله التستري : ٢٢٥.

(٥) بحار الأنوار / العلّامة المجلسي ٧ : ٥٦.

(٦) راجع : الرواشح السماوية / المحقق الداماد : ١٩٧ ، وأبو هريرة / عبد الحسين شرف الدين : ١٠٦ ـ ١٠٧ ، والميزان / السيد الطباطبائي ١٤ : ٣٩٦ ، وأحاديث عائشة / السيد مرتضى العسكري : ٣٠٦ ، والصحيح من السيرة / السيد جعفر مرتضى العاملي ( معظم الجزء الثالث ) ، ومصادر الوحي وأنواعه في القرآن الكريم / الأستاذ الدكتور ستار الأعرجي ، إصدار مركز الرسالة ، وقد ناقش هذه الفرية نقاشاً علمياً وبين زيفها على أكثر من صعيد.

(٧) قال الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ : ١١٥ عن حديث الغرانيق : « رواه البزار

٦٢

الطائفة الثانية ـ ما يمس ظاهرها عصمة بعض الأنبياء عليهم‌السلام :

سنذكر في هذه الطائفة بعض الآيات التي استدل بها المخطئة لصفوة الله عزّوجلّ على عدم عصمتهم عليهم‌السلام وسننتخب ـ لأجل ذلك ـ أظهر الآيات الدالّة بزعمهم الفاسد على ذلك ، كالآتي :

أوّلاً ـ ما يتعلّق بنبي الله آدم عليه‌السلام :

(١) قوله تعالى : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (١).

قالوا هذا تصريح بوقوع المعصية المستتبعة للعتاب واللوم ، والتي لا تكون إلّا قبيحة ، وأكّده تعالى بقوله ( فَغَوَىٰ ) والغيّ ضد الرشد ، واستدلّوا بها على أنّ آدم عليه‌السلام قد عصى ربّه وأطاع إبليس ، وهذا خطأ منه كان سبباً في إخراجه من الجنّة ، وأنّ الله قد تعهّد تخطئة آدم لحكمة من أجل إخراجه من الجنّة حتّى يعمر الأرض لأنّ الله قد خلقه لذلك.

ينقل الزمخشري في تفسيره رواية عن ابن عباس جاء فيها أنّ آدم لم يتمثّل ما رسم الله له ، وتخطّى في ساحة الطاعة ، وذلك هو العصيان وبعصيانه هذا خرج عن حد الرشد إلى مستوى الغي لا محالة لأنّه خلاف الرشد ، ثم يسترسل الزمخشري في بيان العصيان حيث إنّه تعالى لم يقل أنّ آدم عليه‌السلام أنزل أو أخطأ وإنما قال بصريح العبارة أنّه ( عَصَىٰ ) فيرى في هذا اللطف

___________

والطبراني ورجالهما رجال الصحيح » وقال ابن حجر في فتح الباري ٨ : ٣٣٣ عن تلك الفرية : « وقد ذكرت ان ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتجّ بمثلها من يحتجّ بالمرسل وكذا من لا يحتجّ به ، لاعتضاد بعضها ببعض » ! ونسج على منواله المباركفوري في تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ٣ : ١٣٦.

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.

٦٣

بالمكلّفين ومزجرة بليغة وموعظة كافّة وكأنّه قيل لهم انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله الذي لا يجوز عليه اقتراف إلّا الصغيرة غير المنفرة زلّته بهذه الغلطة (١).

وذهب الفخر الرازي هذا المذهب الفاسد في تفسيره حيث يرى في العصيان اقترافاً كبيراً استوجب معها آدم عليه‌السلام أن يكون عاصياً استحقّ لوماً وتعنيفاً بل عقوبةً حيث يرى أن آدم عليه‌السلام :

١ ـ « كان عاصياً والعاصي لابدّ أن يكون صاحب كبيرة ، وإنما قلنا : إنه عاصياً لقوله تعالى : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٢) ثم قال : وإنما قلنا أن العاصي صاحب الكبيرة لوجهين :

أحدهما : إن النص يقتضي كونه معاقباً وهو قوله تعالى : ( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) (٣) ولا معنى لصاحب الكبيرة الا من فعل فعلاً يعاقب عليه.

ثانيهما : إن العصيان اسم ذم فلا يطلق الا على صاحب الكبيرة.

٢ ـ إنّه تائب والتائب مذنب ، وإنّما قلنا أنّه تائب لقوله تعالى : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) (٤) » (٥).

ويعرض القرطبي للآية المباركة ( ست مسائل ) نسب في المسألة الأولى القول بأن الله تعالى قد أخبر بوقوع الذنب من بعض الأنبياء عليهم‌السلام ونسبها إليهم

___________

(١) الكشاف ٣ : ٩٤.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.

(٣) سورة النساء : ٤ / ١٤.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ١٢٢.

(٥) عصمة الأنبياء / الفخر الرازي : ١٦.

٦٤

وعاتبهم عليها ، وهم بدورهم أخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها واستغفروا منها وتابوا (١).

إنَّ كلمة ( عصى ) تعني خلاف الطاعة وأن كلمة ( لا تقربا ) تعني النهي ، والنهي الشرعي نوعان : مولوي يجب طاعته فيما يأمر به ، ويترتب عليه الثواب على الطاعة ، والعقاب على المخالفة وهذا شأن أكثر الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة.

أو إرشادي وهو أن ينطلق المولى فيه بتوجيه النصح والإرشاد والعظة والهداية فيترك اختيار أحد الجانبين من الفعل والترك للمخاطب (٢).

والآيات الواردة في سورة ( طه ) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي ، وتصرّح بأن النهي كان إرشادياً لصيانة آدم عما يترتب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة ، ومن أجل تنزيه مقام النبي آدم عليه‌السلام ذهب علماء ومتكلمو الإمامية إلى توجيه ذلك بما يناسب مقام وعصمة آدم عليه‌السلام.

يرى السيد المرتضىٰ علم الهدىٰ قدس‌سره أن آدم عليه‌السلام كان تاركاً لنفل ومعه لا يكون عاصياً أو فعل قبيحاً.

إذ قال : ( أما المعصية فهي مخالفة الأمر ، والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب والمندوب معاً ، فلا يمتنع على هذا أن يكون آدم عليه‌السلام مندوباً إلى ترك التناول من الشجرة ، ويكون بمواقعتها تاركاً نفلاً وفضلاً وغير فاعل قبيحاً ، وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل عاصياً كما يسمى بذلك تارك الواجب ) (٣).

___________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٦ : ١٧٦.

(٢) الفروق المهمة في الأصول الفقهية / خليل قدسي مهر : ٥٣.

(٣) تنزيه الأنبياء : ٢٤.

٦٥

وبعد هذا البيان لا يمكن القبول بالقول أن آدم قد أخطأ أو أن الله تعالى قد تعمّد تخطئته لحكمة منه ، فإذا كان الله عز وجل هو الذي خطأ آدم ، فما ذنبه حتى يعاقبه ويجعله من أهل الغواية.

ولو عدنا إلى الآية التي قالوا أنها جاءت في مورد عتاب له عليه‌السلام وهي قوله تعالى : ( أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) (١) نجد الشريف المرتضى رحمه‌الله يوجهها انطلاقاً من الخصائص البلاغية المتفردة للأسلوب القرآني بقوله : ( أما النهي والأمر فليس يختصان عندنا بصيغة ليس فيها احتمال ولا اشتراك وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي وينهى بلفظ الأمر فإنما يكون النهي نهياً بكراهة المنهي عنه فإذا قال تعالى : ( وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ ) (٢) ولم يكره قربها ، لم يكن في الحقيقة ناهياً ، كما أنه تعالى لمّا قال : ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ )(٣)( وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ) (٤) ولم يرد ذلك ، لم يكن أمراً فإذا كان قوله : ( وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ ) أراد ترك التناول ، فيجب أن يكون هذا القول أمراً ، إن سمّاه منهي عنه ، ويسمّى أمره له نهي من حيث كان فيه معنى النهي ، لأن النهي ترغيبٌ في الامتناع عن الفعل وتزهيد في الفعل نفسه ، ولما كان الأمر ترغيباً في الفعل وتزهيداً في تركه ، جاز أن يُسميه نهياً ) (٥).

وينحى الشيخ الطوسي رحمه‌الله نفس المنحى بتوجيه الآية بما يثبت العصمة المطلقة بأن آدم عليه‌السلام لم يرتكب قبيحاً لقيام الدلالة عنده على عصمته من سائر

___________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ٢٢.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ١٩.

(٣) سورة فصلت : ٤١ / ٤٠.

(٤) سورة المائدة : ٥ / ٢.

(٥) تنزيه الأنبياء : ٢٦.

٦٦

القبائح صغيرها وكبيرها.

فيقول : ( إن آدم عليه‌السلام لم يرتكب قبيحاً وأتى ما توجه إليه بصورة النهي ، كان المراد به ضرباً من الكراهة دون الحظر ، وإنما قلنا ذلك لقيام الدلالة على عصمته من سائر القبائح صغائرها وكبائرها فعلى هذا لا يحتاج أن نقول أنهما تأولا فأخطأ ) (١).

أما الطبرسي رحمه‌الله فيرى ان قول آدم وحواء عليهما‌السلام : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا ) (٢) معناه بخسناها الثواب بترك المندوب ، وبالتالي فهما لم يستحقا العقاب وإنما قالا ذلك لأن من جلَّ في الدين قدمه كثر على يسير الزلل ندمه (٣).

ويرى بعض المحدثين من علماء الإمامية في توجيه هذه الآيات ( إنها تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي وتصرّح بأن النهي كان إرشادياً لصيانة آدم عما يترتب عليه من الآثار المكروهة والعواقب غير المحمودة قال سبحانه : ( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ) (٤) ، فإن قوله سبحانه : ( فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ ) صريح في أن امتثال النهي هو البقاء في الجنة ونيل السعادة التي تمتثل في قوله : ( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ ) وأن أثر المخالفة هو الخروج من الجنة والتعرض للشقاء الذي يتمثل في الحياة التي فيها الجوع والعري والظمأ وحر الشمس ، وكل ذلك يدل على أنه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف النهي

___________

(١) التبيان ٤ : ٣٧٣.

(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٢٣.

(٣) مجمع البيان ٤ : ٥٠٦.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ١١٧ ـ ١١٩.

٦٧

الواجب طاعته بل كان ينهى بصورة الإرشاد والنصح والهداية ) (١).

ومما يعضد هذا الرأي الإمامي في تنزيه آدم عليه‌السلام وعصمته ما رواه الشيخ الصدوق رحمه‌الله في أماليه بإسناده إلى أبي الصلت الهروي قال : « لما جمع المأمون علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات ، واليهود والنصارى ، والمجوس ، وسائر أهل المقالات ، قام إليه عليّ بن الجهم فقال : يا ابن رسول الله ، أتقول بعصمة الأنبياء ؟

قال عليه‌السلام : بلى.

قال : فما تقول في قول الله عز وجل ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٢) ؟

فقال الرضا عليه‌السلام : ويحك يا علي ، أتق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تؤول كتاب الله برأيك ، فأنّ الله عزّوجلّ يقول : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٣).

وأما قوله عزّوجلّ ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (٤) فأنّ الله عزّوجلّ ، خلق آدم عليه‌السلام حجة في أرضه ، وخليفة في بلاده ، ولم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض ، لتتم مقادير أمر الله عزّوجلّ ، فلما أهبط الى الأرض جعله حجة وخليفة وعصمة الله بقوله : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٥) » (٦).

___________

(١) مفاهيم القرآن / الشيخ جعفر السبحاني ٥ : ٢٢.

(٢) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ٧.

(٤) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٦) الأمالي / الشيخ الصدوق : ١٨٢ ـ ١٨٤.

٦٨

وبالتدبّر في هذه الرواية وما يوافقها من روايات اُخرى في عصمة جميع الأنبياء عليهم‌السلام كما تقدّم ، نجد أن آدم امتاز بالعصمة والطهارة ، وأنّه لم يكن مخالفاً لأمر مولوي بل كان في غاية الطاعة المطلقة ، وأنّه لم يستحق ذنباً ليعاقب عليه أو يؤاخذ على فعله.

وقد استفاد أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام عصمة الأنبياء ونزاهتهم من كل ذنب من خلال أدلّتهم النقلية والعقلية التي كشفت الفهم الخاطئ والشبهات الواهية عن وجه حقيقة عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

جدير بالذكر انّ الفخر الرازي على الرغم من كونه أفقه مفسّري العامّة وقع بما لا يقع فيه مبتدئ في التفسير حيث زعم كما تقدّم إنّ آدم تائب والتائب مذنب ، قال : وإنّما قلنا أنّه تائب لقوله تعالى : ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ) (١) وهذا عجيب إذ نسب التوبة لآدم ، وهي صريحة بأنّها من الله على آدم ، والمراد بها الرحمة واللطف ، والدليل على أنّها من الله رغم ظهورها في هذا المعنى تعدّيها بـ ( على ) ، وهكذا كلّ توبة نسبت لله لابدّ من تعديها بهذا الحرف ، وأمّا لو كانت من غيره تعالى فتتعدّى بالحرف ( إلى ) ، كما في قولنا : تاب فلان إلى الله تعالى من ذنبه.

وهناك بعض الآيات الأُخرى في آدم عليه‌السلام التي احتجّ بها الرازي وغيره تركناها اختصاراً لظهور بطلان كلامهم فيها (٢).

___________

(١) سورة طه : ٢٠ / ١٢٢.

(٢) راجع كلامهم في : الكشاف ٢ : ١٧٧ ، وعصمة الأنبياء : ٢٢ ، والجامع لأحكام القرآن ٤ : ٢٦٠ ، ومختصر تفسير ابن كثير ٢ : ٧٥ ستجدها مملوءة بالمفتريات على الأنبياء والرسل عليهم‌السلام.

٦٩

ثانياً ـ ما يتعلّق بنبي الله نوح عليه‌السلام :

قال تعالى : ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (١).

استدل الذاهبون لعدم عصمة نوح عليه‌السلام بهاتين الآيتين المباركتين من خلال الخطاب القرآني المتوجه له عليه‌السلام حيث أنه عليه‌السلام خاطب ربه في قضيّة ابنه الذي أصبح من المغرقين ، ومنهم الزمخشري حيث ذهب إلى أن نوح عليه‌السلام إنما عوتب في الآية المباركة لأنه أشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه عليه (٢).

وذهب الفخر الرازي إلى القول بأنّ سؤال نوح عليه‌السلام كان معصية لثلاث آيات :

١ ـ قوله : ( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (٣).

٢ ـ قوله خبراً عن نوح : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَسْأَلَك مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ ) (٤).

٣ ـ قوله : ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) (٥). (٦)

ويرىٰ القرطبي أن ما ذهب إليه نوح عليه‌السلام هو جزء من ذنوب الأنبياء عليهم‌السلام !

___________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) الكشاف ٣ : ٣٧٩.

(٣) سورة هود : ١١ / ٤٦.

(٤) سورة هود : ١١ / ٤٧.

(٥) سورة هود : ١١ / ٤٦.

(٦) عصمة الأنبياء : ٤٦ ، وراجع : مفاتيح الغيب ١٨ : ٤.

٧٠

فيقول ( وهذه ذنوب الأنبياء عليهم‌السلام فشكر الله تذللّه وتواضعه ) (١).

وكل ما زعموه لا ريب في بطلانه ، إذ الظاهر أن في قوله ( فَلَا تَسْأَلْنِي ) (٢) نهي عما لم يقع بعد قول نوح بعد استماع خطابه سبحانه ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) (٣) ولو كان سأل شيئاً من قبل لكان عليه أن يقول : أعوذ بك مما سألت ، وأما طلب الغفران في قوله : ( وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ) (٤) ، محصله أن هذا كلام صورته التوبة وحقيقته الشكر على ما أنعم الله عليه من التعلم والتأدب.

فلا يكون هذا خطأ منه عليه‌السلام أو يكون ما فيه موجب لعتابه ولومه.

على أن أولئك المخطئة قد سبقهم أسلافهم ومن هو على شاكلتهم في تخطئة الأنبياء وعدم عصمتهم عصمة مطلقة كما يظهر من ردود علم الهدى السيد الشريف المرتضى قدس‌سره ( ت / ٤٣٦ ه‍ ) وغيره من علماء الإمامية الذين أجمعوا على عصمة جميع أنبياء الله تعالى ورسله عليهم‌السلام وهو الحق والصواب.

فعندما نتأمّل قصّة نوح عليه‌السلام مع ولده الذي هلك مع من هلك نرى مناشدة النبيّ عليه‌السلام ربّه بانقاذ ولده من الغرق لاعتبار الأبوّة وأنه أحد أفراد أُسرته ، فيُجاب النبي نوحٌ عليه‌السلام بذلك الجواب الإلهي القاطع لتلك الرابطة لتحلّ محلّها رابطة العقيدة والإيمان ، وفي هذا الحدث يرى بعض مفسري العامّة أن النبيّ نوح عليه‌السلام قد عصى ربّه فعوتب على سؤاله هذا وقوله مخاطباً ربه : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي ) (٥).

___________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٣٤.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٦.

(٣) سورة هود : ١١ / ٤٧.

(٤) سورة هود : ١١ / ٤٧.

(٥) سورة هود : ١١ / ٤٥.

٧١

ويرى أولئك أنّ ظاهر صدور السؤال منه غير لائق بمقام النبوةُّ لأنّ تغليب العاطفة على الحق والعدل أمر لا يُنتظر من النبيين وهم الصفوة المختارة ولأجل ذلك كلّه ـ كما يرى أولئك ـ خُوطب بالعتاب وهو ظاهر قوله تعالى : ( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ، ورتّبوا على ذلك معتقدهم الفاسد الذي بيّناه.

وليس في الآية ما يدل على زجر أو توبيخ أو ما شابه ذلك مما يتنافي وعصمة نوح عليه‌السلام.

ففي عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق في باب ذكر مجلس الرضا عليه‌السلام مع المأمون في حديث جاء فيه : ( أما علمتم أن نوحاً حين سأله ربّه عزّوجلّ ، فقال : ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ )(١)وذلك أن الله عزّوجلّ وعده أن ينجيه وأهله ، فقال له ربّه عزّوجلّ : ( يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (٢) ) (٣).

وهذا يشير إلى أن الأخذ بظاهر قول نوح عليه‌السلام من أنّه كان يريد الدعاء لابنه بالنجاة كما زعم مفسرو العامة غير صحيح ، لأن تدبر قصة نوح عليه‌السلام يدل على غير ذلك تماماً.

وبيان ذلك أن الله عزّوجلّ أمره أن يصنع الفلك وأمره ركبوها هو وأهله والمؤمنون كما في قوله تعالى : ( احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا

___________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٥.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٦.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٧ / ١ باب (٢٣) ، والأمالي / الشيخ الصدوق : ٦١٧ / ٨٤٣ (١) مجلس (٧٩) ، وتحف العقول / ابن شعبة الحرّاني : ٤٢٧.

٧٢

مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ) (١).

فوعده بنجاة أهله واستثنىٰ منهم من سبق عليه القول والمراد بذلك امرأة نوح ، ولهذا لم يذكر نوح عليه‌السلام امرأته بشيء وأما ولده فإنّه لم يذكر القرآن من أمره إلّا أنّه كان في معزل عن أبيه ، فهو في معصية بمخالفة أمر أبيه عليه‌السلام وليس بالكفر الصريح ، ومن الجائز أن يظن في حقه أنّه من الناجين لظهور كونه من أبنائه وليس من الكافرين فيشمله الوعد الإلهي بالنجاة.

ومن هنا لم يجترئ نوح عليه‌السلام على مسألة قاطعة بل ألقى مسألته كالعارض المستفسر لعدم إحاطته بالعوامل المجتمعة واقعاً على أمر ابنه ولم يقل سوى ( إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) (٢) وهذا منتهى الأدب النبوي مع الله عزّوجلّ فكأنّه عليه‌السلام قال : إن وعدك بنجاة أهلي يفضي بنجاة ولدي الذي لا أدري إلى ما أنجرّ أمره وأنت أحكم الحاكمين لا خطأ في أمرك ولا مغمض في حكمك. وهذا يدلّ على أنّه عليه‌السلام ألقىٰ قوله على وجد منه ويدلّ عليه لفظ النداء في قوله تعالى : ( وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ ) (٣) فذكر الوعد الإلهي ولم يزد عليه شيئاً بل لم يسأل الله أن ينجي ولده ، وهذا دليل على عصمته التي قطعت عليه الكلام فلم يأتِ بعد ندائه بشيء ينافيها ، وهنا فسّر الله جلّ جلاله معنى قوله في الوعد ( وأهلك ) أي المراد به الأهل الصالحون وليس الابن بصالح وقد قال الله تعالى من قبل : ( وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ) (٤).

___________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٠.

(٢) سورة هود : ١١ / ٤٥.

(٣) سورة هود : ١١ / ٤٥.

(٤) سورة هود : ١١ / ٣٧.

٧٣

وقد أخذ نوح عليه‌السلام بظاهر لفظ ( أهلك ) وبما أن الله استثنى امرأة نوح فقط ، ثم فرّع عليه النهي عن السؤال فيما ليس له به علم ، وهو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوح إليه كلامه أنه سيسألها ، فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الإلهي ، واستأنف عليه‌السلام بكلام جديد صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر لما أنعم الله عليه بهذا الأدب الذي هو من النعمة فقال : ( رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ) (١) فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه وهو سؤال نجاة ابنه ولا علم له بحقيقة حاله.

ومن الدليل على أنه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله : ( أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ ) ولم يقل : أعوذ بك من سؤال ما ليس لي به علم ، لتدل إضافته إلى فاعله وقوع الفعل منه (٢).

ومنه يتبين حال ما ذهب إليه الزمخشري وغيره من مفسري العامة ، وأنّه لا أصل لكل ما ذكروه ولا واقع ، وإن الآية غير مسوقة في حيز العتاب ، ولو أنّهم رجعوا إلى أهل بيت نبيّهم عليهم‌السلام كما أمرهم بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما وقعوا فيما وقعوا فيه ، ولتأدبوا مع الأنبياء لا سيما ساداتهم من ذوي العزم ونوح صلوات الله عليه أولهم.

ثالثاً ـ ما يتعلّق بنبي الله إبراهيم الخليل عليه‌السلام :

نسب المخطئة للأنبياء عليهم‌السلام ما لا يليق بمقام خليل الرحمن عليه‌السلام ، واستدلّوا على ذلك ـ كعادتهم ـ بآيات توهم بظاهرها أنّه عليه‌السلام ارتكب ما ينافي العصمة ، ومن أكثر ما تمسّكوا به :

___________

(١) سورة هود : ١١ / ٤٧.

(٢) ينظر : الأمالي / السيد الشريف المرتضى ١ : ٤٧٤ و ٤٧٦ ، ومجمع البيان ٥ : ٢١٥ ، والميزان ٦ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧ ، والكاشف / محمد جواد مغنية ٤ : ٢٤٥.

٧٤

١ ـ قوله تعالى ( وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) (١).

لنفاة العصمة المطلقة من المخطئة عدّة أقوال في تفسير هذه الآية أهمّها ثلاثة ، وهي :

القول الأوّل : إنّ نبي الله عزّوجلّ إبراهيم عليه‌السلام قال ذلك كذباً (٢) أو كان ذلك إمّا كذباً أو كذباً وكفراً معاً !! (٣). (٤)

القول الثاني : إن إبراهيم عليه‌السلام قال : ( هَٰذَا رَبِّي ) في مرحلة صباه وقبل لزوم التكليف له. وقد نسب الشيخ الطوسي هذا القول إلى أبي علي الجبائي من

___________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧٥ ـ ٧٦.

(٢) قال القرطبي المالكي في قوله تعالى : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ) قال : « قوله في الكوكب : ( هَٰذَا رَبِّي ) كذبة ، وهي داخلة في الكذب !! » الجامع لأحكام القرآن ١١ : ٣٠١.

(٣) قال الرازي في بيان شُبَهات المخطئة في هذه الآية : « الشبهة الأولى : قوله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه‌السلام : ( قَالَ هَٰذَا رَبِّي ) فلا يخلو إما أن يقال : إنّه قال هذا الكلام في النظر والاستدلال ، أو بعده :

فإن كان الأول كان قطعه بذلك مع تجويزه أن يكون الأمر بخلافه إخباراً عما يجوز المخبر كونه كاذباً فيه وذلك غير جائز.

وإن كان الثاني كان ذلك كذباً قطعاً ، بل كفر قطعاً » ، عصمة الأنبياء : ٢٨ ـ ٢٩ وهذا لا يقوله إلّا زنديق على حد تعبير الفخر الرازي كما سيأتي في تكذيب حديث الكذّاب أبي هريرة الدوسي في تكذيبه أبي الأنبياء الخليل إبراهيم صلوات الله عليه.

(٤) حكاه الرازي في عصمة الأنبياء عليهم‌السلام : ٢٨ ـ ٢٩ عن بعضهم !

٧٥

المعتزلة (١).

القول الثالث : إنّ قول إبراهيم عليه‌السلام المذكور صدر منه وهو في زمان مهلة نظر ، أي كان في حال الاستدلال ، ومهلة النظر ـ كما قيل ـ أكثر من ساعة وأقل من شهر.

وهذا القول ذكره الشيخ الطوسي أيضاً ونسبه إلى البلخي (٢). وقد تردّد جلّ مفسري العامة بين القولين الأخيرين (٣).

أمّا عن القول الأوّل فقد كفانا الفخر الرازي بأنّه لا يدعي الكذب على الأنبياء عليهم‌السلام إلّا كذّاب أو زنديق وسيأتي كلامه في جواب الآيات الأخرى التي تمسّك بها المخطئة في عدم عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

وأما قولهم بأنّه قال ذلك في صباه كما مرّ في القول الثاني ، فكأنّهم أرادوا جواز الشرك عليه في مرحلة الصبا بقوله ( هَٰذَا رَبِّي ) ! مع أن كل إنسان يولد على الفطرة مسلماً فكيف بإبراهيم عليه‌السلام ، ثم هل يجوز الشرك على الأنبياء عليهم‌السلام قبل بعثتهم ؟ وهم المصطفون الأخيار الذين اصطفاهم الله وفضّلهم ورفع ذكرهم في التوراة والزبور والإنجيل والقرآن.

وأمّا القول الثالث وهو أنّه عليه‌السلام كان في حال استدلال ، فكأنّهم أرادوا به تجويز الخطأ على إبراهيم عليه‌السلام قبل إتمام عملية الاستدلال ، لأن المستدلّ قد لا يحصل له العلم بالمطلوب قبل صياغة الدليل ، وهكذا كان إبراهيم عليه‌السلام بزعمهم ، وأنّه لما تمّ استدلال حصل له اليقين بالصانع الحق ولهذا قال :

___________

(١) التبيان ٤ : ١٨٢.

(٢) التبيان ٤ : ١٨٣.

(٣) راجع : تفسير البيضاوي ٧ : ٢٩ ، وعصمة الأنبياء / الرازي : ٢٨ ـ ٢٩ ، والجواهر الحسان / الثعالبي ١ : ٤٩٤ ، وتفسير ابن جزي ١ : ٢٦٦ ، وغيرهم.

٧٦

( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ) (١).

وهذا محض خيال فاسد بُني على فهم خاطئ لمعنى قوله عليه‌السلام ( هَٰذَا رَبِّي ).

والصحيح في ذلك ما رواه علي بن محمد بن الجهم قال : « حضرت مجلس المأمون وعنده الإمام الرضا علي بن موسى عليهما‌السلام ، فقال له المأمون : يا ابن رسول الله أليس من قولك : الأنبياء معصومون ؟

قال : بلىٰ ـ إلى أن قال المأمون ـ فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ في حق إبراهيم عليه‌السلام : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ) (٢) ؟

فقال الرضا عليه‌السلام : إن إبراهيم عليه‌السلام وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، وذلك حين خرج من السرب الذي أُخفي فيه ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ) فرأى الزهرة قال : ( هَٰذَا رَبِّي ) ؟! على الإنكار والاستخبار ( فَلَمَّا أَفَلَ ) الكوكب قال : ( لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ) ؛ لأن الأفول من صفات المُحْدَث لا من صفات القِدَم ( فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ) ؟! على الإنكار والاستخبار ( فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ) (٣) يقول : لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين ، فلما أصبح ( رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ) ؟! من الزهرة والقمر على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار ( فَلَمَّا أَفَلَتْ ) قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس : ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ

___________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧٩.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٧٦.

(٣) سورة الأنعام : ٦ / ٧٧.

٧٧

وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (١).

وإنّما أراد إبراهيم عليه‌السلام بما قال أن يبيّن لهم بطلان دينهم ويثبت عندهم إنّ العبادة لا تحق لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس وإنّما تحقّ العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض ، وكان ما احتجّ به على قومه مما ألهمه الله تعالى وأتاه كما قال الله عزّوجلّ : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ ) (٢).

فقال المأمون : لله درّك يا ابن رسول الله » (٣).

هذا هو قول الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام الذي ما أشرقت الشمس على أحد من غير أهل البيت عليهم‌السلام أعلم منه بكتاب الله عزّوجلّ.

ولو تمسّك مخطئة الأنبياء بقول نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته عليهم‌السلام لدسّوا أنوفهم في التراب خجلاً مما تفوّهوا به على أبي الأنبياء إبراهيم وهم يرون حديث البخاري ومسلم : « اللّهمّ صلِّ على محمد وآل محمد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، اللهمّ بارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد » ولكن هكذا كان جزاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته !! ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

٢ ـ وتمسّكوا أيضاً بقوله تعالى في إبراهيم الخليل عليه‌السلام : ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) (٤).

___________

(١) سورة الأنعام : ٦ / ٧٨ ـ ٧٩.

(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٨٣.

(٣) التوحيد / الشيخ الصدوق : ٧٤ / ٢٨ باب (٢) ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام / له أيضاً ١ : ١٧٤ / ١ باب (١٥) ، والاحتجاج / الطبرسي ٢ : ١٥.

(٤) سورة الصافّات : ٣٧ / ٨٨ ـ ٨٩.

٧٨

٣ ـ وبقوله تعالى ـ حكاية عمّا جرى لإبراهيم عليه‌السلام بعد أن جعل أصنام قومه جذاذاً وترك كبيرهم لحكمة بالغة غابت عن نظر مخطئة الأنبياء عليهم‌السلام ـ : ( قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) (١).

وقد ضلّت أفهام أكثر مفسّري العامّة بتلك الآيات اغتراراً بأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان ، رووها ـ موقوفة ومرفوعة ـ عن أبي هريرة ، وعبد الله ابن عباس !

أمّا حديث أبي هريرة فقد أخرجوه عنه من أربعة طرق وعمدتها ما كان من رواية محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، وهو الطريق الذي اتّفق عليه البخاري ومسلم في ما يسمّى بالصحيحين ! وفيه يقول أبو هريرة : « لم يكذب إبراهيم عليه‌السلام قط إلّا ثلاث كذبات : ثنتين منهن في ذات الله عزّوجلّ : قوله ( فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ) (٢) ، وقوله ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا ).

ثمّ قال أبو هريرة : بينا هو ـ يعني إبراهيم عليه‌السلام ـ ذات يوم وسارة إذ أتىٰ على جبار من الجبارة ، فقيل له : إن ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس ، فأرسل إليه ، فسأله عنها ، فقال : من هذه ؟ قال : أُختي (٣) ، فأتىٰ سارة قال :

___________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٢) سورة الصافّات : ٣٧ / ٨٨ ـ ٨٩.

(٣) هذه بزعم أبي هريرة الكذّاب هي الكذبة الثالثة لإبراهيم عليه‌السلام ، لأن سارة كانت زوجته عليهما‌السلام ولم تكن أُخته. وإنّما قلت ( بزعم أبي هريرة الكذّاب ) اقتداء بالفخر الرازي الذي صرّح ـ كما سيأتي في محلّه ـ بأن نسبة الكذب إلى راوي الخبر

٧٩

يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك ، وإن هذا سألني عنك فأخبرته أنّك أُختي فلا تكذبينني » (١).

وهذا الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده ، والبيهقي في السنن الكبرى ، والطبري في جامع البيان كلهم عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة (٢).

وأخرجه عبد الله بن المبارك في مسنده والترمذي ؛ عن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة (٣).

كما أخرجه الطبري عن المسيب بن رافع ، عن أبي هريرة (٤).

وهو كذب المتهم به أبو هريرة نفسه.

وأخرجه الترمذي وأبو يعلى الموصلي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد

___________

أولى من نسبته إلى إبراهيم عليه‌السلام. وقد صرّح أيضاً بما هو أعظم من تكذيب أبي هريرة ، إذ نسبه إلى الزندقة كما سيأتي أيضاً.

(١) صحيح البخاري ٤ : ١١٢ و ٥ : ٢٥٥ و ٦ : ١٢١ ، وصحيح مسلم ٧ : ٩٨ ، وفضائل الصحابة / أحمد بن حنبل : ٨٠ ـ ٨١ ولا أدري أية فضيلة في هذا الخبر لأبي هريرة !! ، والسنن الكبرى / النسائي ٥ : ٩٨ ـ ٩٩ / ٨٣٧٥ ، ومسند أبي يعلى الموصلي ١٠ : ٤٢٦ ـ ٤٢٧ / ٦٠٣٩ ، ومسند الشاميين / الطبراني ٤ : ٨٢ / ٢٧٩٠ ، والمعجم الأوسط / له أيضاً ١ : ٢٩٠ ـ ٢٩١ ، والسنن الكبرىٰ / البيهقي ٧ : ٣٦٦.

(٢) مسند أحمد ٢ : ٤٠٣ ، والسنن الكبرى / البيهقي ١٠ : ٩٨ ، وقال : « هذا حديث ثابت قد أخرجاه في الصحيح من حديث ابن سيرين ، عن أبي هريرة » ، وجامع البيان ٢٣ : ٨٤ ـ ٨٥ / ٣٢٥٨٠ وسيأتي كلامه بتمامه.

(٣) مسند عبد الله بن المبارك : ٦١ ـ ٦٣ ، وسنن الترمذي ٤ : ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) جامع البيان ٢٣ : ٨٤ ـ ٨٥ / ٣٢٥٨٠.

٨٠