عصمة الأنبياء عليهم السلام

زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي

عصمة الأنبياء عليهم السلام

المؤلف:

زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-80-5
الصفحات: ١١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

الطير ، فخرج الطير إلى الدار فخرج في أثره ، فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه ، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان ، فاطّلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل ، فلمّا نظر إليها هواها ، وكان أوريا قد أخرجه ـ يعني داود عليه‌السلام ـ في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدّمْ أوريا أمام الحرب ، فقدّم فظفر أوريا بالمشركين ، فصعب ذلك على داود ، فكتب ثانية أن قدّمه أمام التابوت فقدّم ، فَقُتِل أوريا رحمه‌الله ، وتزوّج داود بامرأته.

قال : فضرب الرضا عليه‌السلام بيده على جبهته ، وقال : ( إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ )(١)لقد نسبتم نبيّاً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتّى خرج في أثر الطير ثمّ بالفاحشة ثمّ بالقتل ، فقال يا ابن رسول الله فما كانت خطيئته ؟ فقال عليه‌السلام : ويحك إنّ داود إنّما ظن أن ما خلق الله خلقاً هو أعلم منه ، فبعث الله عزّوجلّ إليه الملكين فتسوّرا المحراب ، فقالا : ( خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ )(٢)فعجّل داود عليه‌السلام على المدّعي عليه فقال : ( لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ )(٣)ولم يسأل المدّعي البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدّعى عليه ، فيقول : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة حكمه ، لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن

___________

(١) سورة البقرة : ٢٢ / ١٥٦.

(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

٤١

سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) (١).

فقال ابن الجهم : يا ابن رسول الله فما قصّته مع أوريا ؟

فقال الرضا عليه‌السلام : أنّ المرأة في أيّام داود عليه‌السلام كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوّج بعده أبداً ، وأوّل من أباح الله عزّوجلّ له أن يتزوّج بامرأة قتل بعلها داود عليه‌السلام فذلك الذي شقّ على الناس من قبل أوريا.

وأمّا نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وقول الله عزّوجلّ له : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (٢) فإن الله عرّف نبيّه أسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في الآخرة وأنّهنّ أُمّهات المؤمنين ، وأحد من سمّى له زينب بنت جحش ، وهي يومئذٍ تحت زيد بن حارثة ، فأخفى صلى‌الله‌عليه‌وآله اسمها في نفسه ولم يبده ، لكي لا يقول أحد من المنافقين إنّه قال في امرأةٍ في بيت رجل أنّها أحد أزواجه من أُمّهات المؤمنين ، وخشي قول المنافقين ، فقال الله عزّوجلّ : ( وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) في نفسك ، وأن الله عزّوجلّ ما تولّى تزويج أحد من خلقه إلّا تزويج حواء من آدم ، وزينب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفاطمة من عليّ عليهما‌السلام (٣).

قال : فبكى علي بن الجهم ، وقال : يا ابن رسول الله ، أنا تائب إلى الله عزّوجلّ أن أنطق في أنبياء الله عزّوجلّ بعد يومي هذا إلّا بما ذكرته » (٤).

___________

(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٧.

(٣) وفي هذا يدلُّ على كذب ما رواه الحشوية من أنّ الله عزّوجلّ تولّى تزويج عائشة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٤) الأمالي / الشيخ الصدوق : ١٥٠ ـ ١٥٣ / ١٤٨ (٣) مجلس (٢٠) ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام / له أيضاً ١ : ١٧٠ ـ ١٧٣ / ١ باب (١٤).

٤٢

الحديث الرابع : وفي عيون أخبار الرضا عليه‌السلام في حديث طويل يثبت عصمة الأنبياء صراحة من خلال جواب الإمام عليه‌السلام حينما سأله المأمون العباسي قائلاً : « .. لله درّك يا أبا الحسن ، فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (١).

قال الرضا عليه‌السلام : لقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربّه ، لهمّ بها كما همّت ، لكنّه كان معصوماً ، والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه ، ولقد حدّثني أبي ، عن أبيه الصادق عليه‌السلام أنّه قال : همّت بأن تفعل ، وهمّ بأن لا يفعل » (٢).

الحديث الخامس : حديث عبد الله بن طلحة ، قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « أخبرني يا ابن رسول الله عن العلم الذي تحدّثونا به ، أمن صحف عندكم ؟ أم من رواية يردّ بها بعضكم عن بعض ؟ أو كيف حال العلم عندكم. قال : « يا عبد الله الأمر أعظم من ذلك وأجلّ ، أما تقرأ كتاب الله ؟! ». قلت : بلى. قال : أما تقرأ : ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ) (٣) أفاترون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ؟ قال : هكذا نقرأ. قال : نعم قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، حتّى بعث الله تلك الروح فعلمه بها العلم والفهم ، كذلك تجري تلك الروح إذ بعثها الله على عبدٍ علمه بها العلم والفهم » (٤).

___________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٧٩ / ١ باب (١٥) ، والتوحيد : ٧٤ / ٢٨ باب (٢) ، و : ١٢١ / ٢٤ باب (٨) ، و : ١٣٢ / ١٤ (٩) ، والاحتجاج / الطبرسي ٢ : ٢٢١.

(٣) سورة الشورى : ٤٢ / ٥٢.

(٤) بصائر الدرجات / الصفّار : ٤٥٨.

٤٣

قال العلّامة المجلسي رحمه‌الله تعليقاً على قوله عليه‌السلام : ( الأمر أعظم من ذلك وأوجب ) : قيل : « أنّما كان الأمر أوجب من ذلك لأنّ الأمرين المذكورين مما يشترك فيه سائر الناس ، فلابدّ في الحجّة من أمر يمتاز به عن سائر الناس لا يحتمل الخطأ والشك » (١).

وقال المازندراني الميرزا محمد صالح ( ت / ١٠٨٦ ه‍ ) : « أي : أمر علمنا أعظم وأوجب » يعني : ألزم وأتمّ ، وأحقّ أن يكون مأخوذاً من أفواه الرجال ، أو مستخرجاً من الكتاب ، بل هو من الروح الذي معنا » (٢).

وهذا دليل على أن المعصوم مسدّد ومؤيّد عن ارتكاب مطلق الخطأ.

الحديث السادس : عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام قال : « والله ما ترك أرضاً منذ قبض آدم عليه‌السلام إلّا وفيها إمام يهتدى به إلى الله ، وهو حجّته على عباده ولا تبقى الأرض بغير إمام حجّة لله على عباده » (٣).

والرواية صريحة جداً حيث أنّ القضيّة ليست قيادة سياسية وإدارة حكم بل هي مرتبطة بنظام التكوين وموقع الإمام هنا يكشف عن إيصاله الناس إلى محل الهداية وطريق الصواب ، ولو لم يكن معصوماً لما كان أهلاً لهذا المنصب الإلهي.

الحديث السابع : عن محمد بن عمارة ، عن الإمام الصادق ، عن أبيه الإمام الباقر عليهما‌السلام ، قال : « إنّ أيوب عليه‌السلام ابتُلِي من غير ذنب ، وأنّ الأنبياء لا يذنبون ، لأنهم معصومون مطهّرون لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنباً

___________

(١) مرآة العقول / المجلسي ٣ : ١٧٣.

(٢) شرح أصول الكافي والروضة / المازندراني ٦ : ٦٨.

(٣) أصول الكافي ١ : ١٧٨ ـ ١٧٩ / ٨ باب إنّ الأرض لا تخلو من حجّة من كتاب الحجّة.

٤٤

صغيراً أو كبيراً » (١).

وهناك عشرات الروايات وفيها من الصحيح الذي لا شبهة في سنده تؤكّد بصريح العبارة عصمة أهل البيت عليهم‌السلام جميعاً ابتداء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتهاءً بالإمام الثاني عشر المهدي عليه‌السلام ، ويمكن جعلها هي الأُخرى دليلاً على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنّ الكلام في العصمة واحد.

المبحث الثاني العصمة المطلقة في أدلّة العقول

انفرد الإمامية دون غيرهم من المذاهب الإسلامية الأخرى بالقول بالعصمة المطلقة للأنبياء عليهم‌السلام ، واستدلّوا على ذلك بجملة من الأدلّة العقلية وهي باختصار :

الدليل الأوّل ـ دلالة المعجز وانتفاء البعثة مع عدم العصمة المطلقة :

لو لم يكن الأنبياء معصومين لانتفت فائدة البعثة واللّازم باطل فالملزوم مثله ، بيان الملازمة : أنّه إذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الوثوق بصحة قولهم بجواز الكذب حينئذٍ عليهم ، وإذا لم يحصل الوثوق لم يحصل الانقياد لأمرهم ونهيهم فتنتفي فائدة بعثهم وهو محال (٢).

وإلى هذا الوجه يرجع من استدل على العصمة من الذنوب بأنه ينافي

___________

(١) الخصال : ٣٩٩ / ١٠٨ باب السبعة.

(٢) النافع في شرح الباب الحادي عشر / المقداد السيوري : ٦٣ ، وسبقه إلى هذا الاستدلال المحقّق نصير الدين الطوسي في تجريد الاعتقاد ، والعلّامة الحلّي في شرحه ، راجع : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلّامة الحلّي : ٣٧٦.

٤٥

دلالة المعجز القاطعة ، فإن المراد من الإعجاز القرآني إثبات استناد القرآن الكريم إلى الله سبحانه وأنه ليس من صنع البشر ، ولو جاز الخطأ على النبي لجاز أن يتبع هواه ويرتكب المعاصي وحينئذٍ لم يؤمن منه أن يبلغ كل ما جاء به القرآن أو لا ينقص منه.

وإلى هذا المعنى يشير السيد المرتضى رحمه‌الله في بعض كتبه حيث قال مستدلاًّ على عصمة النبي عن الكبائر والصغائر ، بأنّ العلم المعجز إذا كان واقعاً موقع التصديق لمدّعي النبوّة والرسالة ، وجارياً مجرى قوله تعالى : صدقت في أنّ رسولي ومؤدّي عني ، فلابدّ أن يكون هذا المعجز مانعاً من كذبه عن الله فيما يؤدّيه عنه ، لأنّه تعالى لا يجوز أن يصدق الكذّاب ، لأنّ تصديق الكذّاب قبيح (١).

ومن هنا استدلّ قطب الدين النيسابوري على العصمة عقلاً فقال : ( والذي يدلّ على عصمة الرسل أنّ العلم المعجز يؤمننا عن وقوع الكذب منه فيما يؤدّي عن الله تعالى إلينا ، وهذا لا خلاف فيه بين الأُمّة ، لأنّ تجويز الكذب يرفع الثقة ويعدم الأمان ) (٢).

لأنّ عدم ذلك يُعدُّ قدحاً في الرسالة وطعناً في النبوّة هذا فيما يتعلّق بالكذب ، أمّا في ما يتعلّق بباقي القبائحَ ولو كانت صغيرة فإنّها توجب النفرة منهم وعدم تلقي أقوالهم وقبولها ، ( ولا يجوز أن يبعث الله تعالى من يوجب علينا اتّباعه وتصديقه وهو على صفة تنفر عنه ، فقد جنّب الله الفظاظة والغلظة

___________

(١) تنزيه الأنبياء / السيد المرتضى : ١٧.

(٢) التعليق في علم الكلام / قطب الدين النيسابوري : ١٧٢.

٤٦

والخلق المشينة وكثيراً من العلل القبيحة لأجل التنفير فأولى أن يجنّب القبائح كذلك ) (١).

ونحوه قول قطب الدين النيسابوري أيضاً ، قال : ( وأمّا القبائح الأُخَر فإنّ دليل التنفير يؤمن عن جميعها ، لأنّ من يجوز وقوع القبائح منه ، فلا يرغب في القبول عنه ولا تميل نفوسنا إلى الاقتداء به ، ولما كان الغرض في إرسال الرسل الاقتداء بهم والقبول عنهم والتأسّي بفعلهم وقولهم ، وجب أن يكون الرسول منزّهاً عن كلّ ما ينفر عنه ويتعذّر منه ) (٢).

وعليه فكأنّ المعجز قد وقع وأيّد مدّعي النبوّة والرسالة على أتمّ وجه وأكمل صورة ، إذ يقبح عقلاً أن يبعث الله تعالى أو يوسّط بينه وبين خلقه من هو كاذب غير أمين.

وقد صرّح الشيخ الطوسي بوجوب عصمة الأنبياء عليهم‌السلام من القبائح جميعها صغيرها وكبيرها قبل النبوّة وبعدها عمداً وسهواً (٣) ، حيث إنّه استدلّ بجمالية العقل وكماله في أنّ القبيح إذا كان كذباً فأنّه سيؤدّي إلى أنّ الله تعالى سيصدق الكذابين ، وتصديق الكذابين قبيح ولا يجوز على الله تعالى ، وأما جميع القبائح الأخرى غير الكذب ، فإننا لو جوّزناها عليهم فهذا يعني جواز أن يبعث الله نبياً يأمرنا باتباعه ، بينما هو على صفة تنفر الناس عنه ، ولهذا جنب الله تعالى الأنبياء عليهم‌السلام الفظاظة والخلق المشينة والأمراض المنفرة لما

___________

(١) كشف المراد / العلّامة الحلّي : ٣٧٥ ، وبحارالأنوار / المجلسي ١٧ : ١٠٩.

(٢) التعليق في علم الكلام : ١٧٢.

(٣) الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد / الشيخ الطوسي : ٢٦٠.

٤٧

كانت هذه الأشياء منفرة بالعادة (١).

من هنا نستكشف أن كل ما يقدح في صاحب هذا المقام ، يقدح في الامتثال ويزحزحه ، فلابد أن يكون المعصوم مؤيداً بالبعد عن جميع ما يكون منفراً عنه مبعداً ، هذا أقرب للوقوع من إظهار المعجز.

الدليل الثاني ـ امتناع إيذاء المعصوم عليه‌السلام :

إنه لو جاز للمعصوم أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبرؤ منه ، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن الله تعالى نص على تحريم إيذاء المعصوم عليه‌السلام فقال : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) (٢).

وفي ذلك يقول العلّامة الحليّ رحمه‌الله : ( إنّه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر وذلك يستلزم إيذاءه وهو منهي عنه وكل ذلك محال ) (٣).

وما نلاحظهُ كذلك عند السيد الشهيد القاضي نور الله التستري ( ت / ١٠١٩ ه‍ ) حيث ردّ على أدلة منكري عصمة الأنبياء عليهم‌السلام بدليله على عصمتهم عليهم‌السلام من خلال عدم صدور الذنب عنهم فقال : ( إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإيذائهم

___________

(١) المصدر نفسه : ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، ومناهج اليقين / العلّامة الحلّي : ٤٤٧.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٥٧.

(٣) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٣٧٦ ، ومناهج اليقين : ٤٢٦ ، وانطلق الفخر الرازي في القول بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام من هذا الدليل في كتابه عصمة الأنبياء : ١٠.

٤٨

حرام إجماعاً ، وأيضاً لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى :

( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ ) (١).

وتحت قوله تعالى : ( أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٢).

وتحت قوله تعالى لوماً وذمّاً ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) (٣).

وقوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ) (٤).

فيلزم كونهم موعودين بعذاب جهنم وملومين ومذمومين ، وكل ذلك باطل إجماعاً ، وهذا الدليل يدل أيضاً على عصمتهم من كل الذنوب وغيرها ) (٥).

الدليل الثالث ـ الاحتياج للمعصوم :

من الأدلّة العقلية التي تثبت بحق عصمة الأنبياء عليهم‌السلام هو احتياج الأُمّة لوجود المعصوم ، فالعلّة التي أحوجتنا إلى وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأرض هي عدم عصمة الخلق ، لأنّهم لو كانوا معصومين لم يحتاجوا إلى الأنبياء عليهم‌السلام ، فلو كان الأنبياء عليهم‌السلام غير معصومين لكانوا محتاجين إلى غيرهم لوجود علّة الحاجة فيهم ، فيكون الكلام في غيرهم كالكلام فيهم فيؤدّي إلى وجود أنبياء لا نهاية لهم فيبطل ، فثبت وجوب عصمتهم ، ويفهم هذا المعنى من خلال

___________

(١) سورة الجن : ٧٢ / ٢٣.

(٢) سورة هود : ١١ / ١٨.

(٣) سورة الصف : ٦١ / ٢.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ٤٤.

(٥) إحقاق الحق وإزهاق الباطل / الشهيد الثالث القاضي نور الله التستري ٢ : ٢٠٢.

٤٩

التدبرّ في شرح العلّامة الحلّي لكلام المحقّق الطوسي رحمهما الله المستدلّ به على وجوب العصمة بامتناع التسلسل (١) وإن كان كلامه في الإمام إلّا أن هذا يمكن تسريته إلى الأنبياء عليهم‌السلام لاشتراكهم في صفة ( العصمة ) وللوقوف على شرح ذلك ما نجده عند العلّامة الحلّي رحمه‌الله حيث يقول : ( إنّ الإمام لو لم يكن معصوماً للزم التسلسل والتالي باطل فالمقدّم مثله ، بيان الشرطية ، إنّ المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الرعية ، فلو كان هذا المقتضي ثابتاً في حقّ الإمام ، وجب أن يكون له إمام آخر وبتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي ) (٢).

وأمّا وجوب العصمة عند السيد شبر رحمه‌الله فيبرّرها بعدم خطأ المعصوم ( لأنّه لو كان يخطأ لاحتاج إلى من يسدّده ويمنعه عن خطأ وينبّهه على نسيانه ، فأما أن يكون معصوماً فيثبت المطلوب أو غير معصوم فيتسلسل ) (٣).

فيكون بذلك معصوماً لعدم ثبوت الخطأ بحقّه ولأنه ممّن وثق بإتباعه وانتهاج مسلكه ، وهذا هو الذي دعى السيد إبراهيم الحجازي إلى الاستدلال بذلك لإثبات العصمة ، حيث رأى ( إن وجه الحاجة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام هو جواز الخطأ وصدور المعصية عن الأمة ، فلو جاز عليهم ذلك لاحتاجوا إلى مرشد آخر ، لاشتراك العلة ولزوم الترجيح بلا مرجّح في دور أو بتسلسل ) (٤).

وهذا يدل على عدم عروض الخطأ عليهم ( صلوات الله عليهم ) وجوازه

___________

(١) كشف المراد : ٣٩٠ ، ومناهج اليقين : ٤٢٦.

(٢) المصدر نفسه : ٣٩٠.

(٣) حق اليقين / السيد عبد الله شبّر ١ : ٩٢.

(٤) آيات العقائد / السيد إبراهيم الحجازي : ١٨٦.

٥٠

في حق الأُمّة (١) الأمر الذي دعا إلى وجوب الاقتداء بهم وإتباعهم لأنهم معصومون مطهرون وهداة مهديون.

الدليل الرابع ـ وجوب متابعة المعصوم عليه‌السلام :

يساق هذا الدليل للزوم العصمة للأنبياء عليهم‌السلام ، وضرورة عدم صدور الذنب عنهم كي يكون نافياً لاجتماع الضدين أي الإتباع وعدمه ، بتقرير أنّه لو صدر ذنب منه عليه‌السلام لزم طاعته بمتابعته لأن مقامه يقتضي هذا ، ويجب عصيانه لأن ما جاء به ذنب يجب منعه عنه والإنكار عليه ، فيلزم من ذلك اجتماع الضدين وهو باطل لا محالة.

لذا يرى أبوالصلاح الحلبي ( ت / ٣٧٤ ه‍ ) أن العصمة من الصفات التي يجب أن يتحلّى بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يؤدي ، لأن عدم امتناع الخطأ عليه في الأداء هو تجويز من الثقة به وبالتالي يسقط فرض إتباعه ، وذلك ينقض جملة الغرض من إرساله ، وأن يكون معصوماً من القبائح لكونه رئيساً وملطوفاً برئاسة غيره (٢).

إذن فرض إتباعه يوجب عقلاً عدم تجويز الخطأ عليه صغيراً كان أو كبيراً ، عمداً أو سهواً لتنزهه عن القبائح كلّها ، وإلّا فلابدّ من اجتماع الضدين وهو محال.

ويرى العلّامة الحلي رحمه‌الله ( أنّه عليه‌السلام حافظ للشرع ولوجوب الإنكار عليه لو

___________

(١) ولهذا ذهب الإمامية إلى القول بعدم حجية الإجماع في علم الأصول ما لم يكن المعصوم عليه‌السلام داخلاً معهم ، لجواز صدور الخطأ على كلّ منهم.

(٢) تقريب المعارف / أبو الصلاح الحلبي : ١٥٣.

٥١

أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة ويفوت الغرض من نصبه ) (١) ، وبهذا تكون عصمته ثابتة ، لعدم إقدامه على المعصية لأنه ممن وقع عليه الاختيار والاصطفاء وأُيد بروح القدس.

ويستدل السيد الشهيد القاضي نور الله التستري على عصمتهم باتّباعهم عليهم‌السلام بقوله : ( لأن لو صدر عنهم ذنب لحرّم إتباعهم فيما صدر عنهم ضرورة انه يحرم ارتكاب الذنب ، وإتباعهم واجب للإجماع عليه ، لقوله تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (٢) وهذا الدليل يوجب عصمتهم عن الصغائر والكبائر ) (٣).

فتكون نتيجة ذلك أنّهم معصومون فيجب اتّباعهم والاقتداء بهم.

ولا يكاد يبتعد السيّد شبر رحمه‌الله عمّن سبقه في الاستدلال على عصمتهم عليهم‌السلام بما يقابل النقيض ، لأنّه يرى أنّ المعصوم ( إن فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا إتباعه فيها فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه واجتمع الضدّان ، وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة ) (٤).

ومن هنا وجب كونه معصوماً لأنّه لا يمكن أن تكون بعثته عبثاً وبلا فائدة ـ تعالى الله عن ذلك ـ.

ويؤكّد السيّد إبراهيم الحجازي وجوب عصمتهم لاستبعاد جواز الخطأ

___________

(١) كشف المراد : ٣٩٠ ـ ٣٩١ ، ومناهج اليقين : ٤٢٦.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣١.

(٣) إحقاق الحق وإزهاق الباطل ٢ : ٢٠٢.

(٤) حق اليقين : ٩١.

٥٢

والنسيان عليهم عليهم‌السلام فيرى ( أنا مأمورون باتّباعهم وترك الاعتراض عليهم فلو جاز الخطأ والنسيان لوجب متابعتهم فيها للأمر بها والأمر باتّباع الخطأ قبيح ) (١).

ولهذا يقول الشيخ المظفّر رحمه‌الله : ( إنّه لو جاز أن يفعل النبي المعصية ، أو يخطأ وينسى وصدر منه شيء من هذا القبيل ، فإمّا أن يجب علينا إتباعه في فعله الصادر منه عصياناً أو خطأ أو لا يجب ، فإن وجب إتباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصةٍ من الله تعالى ، بل أوجبنا ذلك وهذا باطل بضرورة الدين والعقل ، وإن لم يجب اتّباعه فذلك ينافي النبوّة التي لابدّ أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً ) (٢).

ومن هذا يظهر أنّ النبي لا تنفك عنه العصمة لضرورة الاتّباع والاقتداء به لأنّه الهادي للحقّ ولأنّ غايته الرسالة والغرض منها هو حفظ الأُمّة وصونها من الانحراف وهذا لا يكون إلّا بكون حامل الرسالة منزّهاً عن كلّ ما يورث الشك في صدقه والابتعاد عن دعواه ، فلم يبقَ إلّا أن يكون معصوماً دون غيره الذي هو محطّ لحدوث المنكرات صغيرها وكبيرها.

والشيء نفسه يقال في إثبات عصمة أئمّة الهدى عليهم‌السلام من آله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لتواتر الأدلّة على وجوب اتّباعهم عليهم‌السلام.

ونتيجة منطقية لما سبق من الأدلّة النقلية والعقلية اتّفقت كلمة الإمامية على القول بالعصمة المطلقة لجميع الأنبياء عليهم‌السلام خلافاً لغيرهم ، وفي هذا القول

___________

(١) آيات العقائد / السيد إبراهيم الحجازي : ١٨٥.

(٢) عقائد الإمامية / الشيخ محمد رضا المظفر : ٥٤.

٥٣

يقول العلّامة الحلّي قدس‌سره : « مذهبنا أنّ الأنبياء عليهم‌السلام معصومون عن الكفر والبدعة خلافاً للفضيلية ، وعن الكبائر خلافاً للحشوية ، وعن الصغائر عمداً خلافاً لجماعة من المعتزلة ، وخطأً في التأويل خلافاً للجبائيين ، وسهواً خلافاً للباقين » (١).

___________

(١) مبادئ الوصول إلى علم الأصول / العلاّمة الحلي : ١٧ من الطبعة الحجرية.

٥٤



الفصل الثالث ظواهر الكتاب المنافية لعصمة الأنبياء عليهم‌السلام

تناول كثير من مفسرّي المذاهب الإسلامية ومتكلميها بعض الآيات التي لازمت حياة الأنبياء عليهم‌السلام وكثر حولها الجدل ، لأن بعض تلك الآيات المباركة أثيرت حولها كثير من الشبهات التي لها اتصال مباشرة بعصمة الأنبياء ، حيث قالوا : إن من هذه الآيات ما جاءت مورد عتاب ولوم وتقريع لبعض الأنبياء ، فكثر الجدل بين نافي هذه التوجهات والشبهات الواقعة في غير محلها وبين مثبت لها ، ولهذا قالوا بعدم ثبوت العصمة المطلقة للأنبياء عليهم‌السلام.

والآيات الشريفة التي تمسك بها أولئك قد توهم بادئ النظر قوّة حجّتهم في تجويز المعصية على الأنبياء عليهم‌السلام بمختلف صورها ، لا سيّما أنّهم رووا في صحاحهم ما يدعم تلك المقولة الفاسدة كما سيأتي كلٌّ في محلّه من هذا الفصل.

وفيما يأتي بيان لأظهر الآيات التي توهم بعدم العصمة وهي على طائفتين :

الطائفة الأولى ـ ما يمس ظاهرها عصمة جميع الأنبياء عليهم‌السلام :

منها : قوله تعالى : ( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) (١).

___________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١١٠.

٥٥

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة على عدم عصمة الأنبياء عليهم‌السلام فيما ذهب إليه الحشوية من العامة ومن وافقهم بأن الضمائر الثلاثة في قوله تعالى ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ترجع إلى الرسل ، بمعنى أن رسل الله عزّوجلّ كانوا ينذرون قومهم ويعدون المؤمنين بالنصر الإلهي ، والكفّار والمعاندين بالهلاك المحتّم ، وكان قومهم يخالفونهم أشدّ المخالفة ، فلما تأخّر نصر المؤمنين وهلاك الكافرين والمعاندين ظنّ الرسل أنّهم قد كُذِبوا بما وُعِدوا به !!!

وأيّدوا هذا المذهب الفاسد بما كذبوا به على ابن عباس رضي‌الله‌عنهم من أن الرسل لما ضعفوا وغلبوا ظنوا ذلك وأنّهم كانوا بشراً ثمّ تلا قوله تعالى : ( وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (١).

وقد حمل الزمخشري ( الظن ) في الآية على تقديره صحة ما روي عن ابن عباس على ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه جملة البشر (٢).

وكل ما ذكروه باطل لا يناسب مقام الأنبياء عليهم‌السلام بلحاظ كونهم الصفوة المختارة من لدن حكيم خبير ، ولو رجع أولئك المخطئة إلى ما ورد عن أهل بيت نبيهم صلّى الله عليه وعليهم لأدركوا ان الأمر ليس كذلك وأن ما بين المراد بالآية وما زعموا بعد المشرقين.

فقد قرأ أهل البيت عليهم‌السلام الآية بتخفيف كلمة ( كذبوا ) ومعناه كما يقول العلّامة الطبرسي : « وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصرة الله إياهم » (٣).

___________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٤.

(٢) الكشاف ٢ : ٤٨٠.

(٣) جوامع الجامع ٢ : ٢٤٥.

٥٦

وفي حديث مسائلة المأمون العباسي من الإمام الرضا عليه‌السلام « أخبرني عن قول الله : ( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (١) ؟

قال الرضا عليه‌السلام : يقول الله عزّوجلّ : حتّى إذا استيأس الرسل من قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كُذِبوا ، جاء الرسل نصرنا ، فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن .. » (٢).

قال الشيخ في التبيان : « فإن قيل : كيف يجوز أن نحمل الضمير على أنه للمرسل إليهم ، والذي تقدّم ذكرهم الرسل دون المرسل إليهم ؟ قيل : إنّ ذلك لا يمتنع ؛ لأنّ ذكر الرسل يدلُّ على المرسل إليهم ، وقد قال الشاعر :

أمنك البرق أرقبه نهاجا

فبتُّ أُخاله وهما خلاجا

أي : بتّ أخال الرعد صوت دهم ، فأضمر الرعد ولم يجر له ذكر لدلالة البرق عليه.

وإن قلت : قد جرى لهم ذكر في قوله : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا .. ) (٣) فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل ، كان جيداً » (٤).

أقول : ورد من طرق العامة أن بعض الصحابة كان يشكك في صدق ما أخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمور مستقبلة ، ويثير ذلك بين آونة وأخرى ، حتى أنه اتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أخبر به من دخوله إيوان كسرى وفتح بلاد فارس فقال في بعض المواقف الإسلامية الحرجة : أنه ـ يعني به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوعدنا بدخول

___________

(١) سورة يوسف : ١٢ / ١١٠.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٢٢١.

(٣) سورة يوسف : ١٢ / ١٠٩.

(٤) التبيان ٦ : ٢٠٧ ـ ٢٠٨ ونسبه إلى أبي علي.

٥٧

بلا فارس ونحن لا نستطيع أن نخرج رؤوسنا ، ونحو ذلك مما لا حاجة بنا إلى تتبعه.

هذا ـ وأما ما ورد عن ابن عباس من أنه تلا ـ عقب الرواية المكذوبة عليه ـ قوله تعالى : ( وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) (١).

فليست هي على ما فهمه من استدلّ بها ، ولا من كذب على ابن عباس بتلاوتها ، فحبر الأُمّة أجلّ من أن يفهم منها ـ كما فهم أولئك ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ذلك على جهة الاستبطاء لنصر الله ، لأن من تتلمذ على يد القرآن الناطق أمير المؤمنين الإمام علي عليه‌السلام لا سيما في التفسير لا يشك أبداً بأن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله يعلم يقيناً إن الله تعالى لا يؤخر نصره عن الوقت الذي توجبه الحكمة الإلهية ، وإن الاستبطاء لنصر الله عزّوجلّ خطأً لا يجوز مثله على الأنبياء عليهم‌السلام فكيف بأشرفهم وأفضلهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

وقد ورد في معنى الآية أقوال كثيرة وكلّها لا توجب نفي العصمة.

قال العلّامة الطبرسي قدس‌سره في معنى ( مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ ) : « قيل هذا استعجال للموعود كما يفعله الممتحن ، وإنما قاله الرسول استبطاء للنصر على جهة التمنّي ، وقيل : إن معناه الدعاء لله بالنصر ولا يجوز أن يكون على جهة الاستبطاء لنصر الله ، لأن الرسول يعلم ان الله لا يؤخره عن الوقت الذي توجبه الحكمة.

وقيل : إن هذا كلامهم ـ يعني المؤمنين ـ بأنّهم قالوا عند الأياس : ( مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ ) : ثم تفكروا فعلموا أن الله منجز وعده فقالوا ( أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ

___________

(١) سورة البقرة : ٢ / ٢١٤.

٥٨

قَرِيبٌ ).

وقيل : أنّه ذكر كلام الرسول والمؤمنين جملة وتفصيلاً ، وقال المؤمنون ( مَتَىٰ نَصْرُ اللهِ ) : وقال الرسول : ( أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) كقوله : ( جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ ) (٢) ، أي : لتسكنوا بالليل ولتبتغوا من فضله بالنهار » (٣).

ومنها : قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (٤).

تمسك القائلون بعدم العصمة المطلقة للأنبياء عليهم‌السلام بدلالة هذه الآية على إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أو النبيّ بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به ، مستندين في ذلك إلى رواية واهية في سبب نزولها أظلت كثيراً من المفسرين. فالأمنية في القرآن قد تأتي ويراد منها التلاوة والقراءة ، على ما أشار إليه الراغب الأصفهاني في قوله : ( أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) أي : في تلاوته (٢).

ومن مدخل الأمنية هذا يلج بعض المفسرين ليطعن من خلاله بعصمة الأنبياء عليهم‌السلام وقالوا بأن المراد من الآية هو أنّ ما من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى وتلا الآيات النازلة عليه ، تدخل الشيطان في قراءته فأدخل فيها ما ليس

___________

(١) سورة القصص : ٢٨ / ٧٣.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٦٩ ، وانظر : التبيان ٢ : ١٩٩.

(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٥٢.

(٤) المفردات في غريب القرآن : ٨٧٠ ، مادة ( منى ).

٥٩

منها ، واستشهدوا لذلك بما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرضي ، ومحمد ابن قيس قالا : « جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في نادٍ من أندية قريش كثير أهله فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) (١).

فقرأها صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى إذا بلغ ( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ ) (٢).

ألقى عليه الشيطان كلمتين : ( تلك الغرانقة العلى ، وأنّ شفاعتهنّ لترتجى ) فتكلم بها ثم مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود فرضوا بما تكلّم به وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده إذا جعلت لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلما أمسى أتاه جبرائيل عليه‌السلام فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل فأوحى الله عليه ( وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) (٣) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ

___________

(١) سورة النجم : ٥٣ / ١ ـ ٢.

(٢) سورة النجم : ٥٣ / ١٩ ـ ٢٠.

(٣) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٣ ـ ٧٥.

٦٠