زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-80-5
الصفحات: ١١٦
النبوّة المصاحبة للعصمة قطعاً.
وهذا المعنى يجده الباحث عند الطبرسي رحمهالله حيث أثبت العصمة لعدم توفّر أيّ نوع من أنواع الظلم عند الأنبياء والرسل والأئمّة عليهمالسلام ، فيرى أنّ سبيل الرشاد وطريق الهداية لابدّ أن يؤخذ من المعصوم قال : ( واستدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلّا معصوماً عن القبائح ، لأنّ الله سبحانه نفى أن ينال عهده ـ الذي هو الإمامة ـ ظالم ومن هو ليس بمعصوم ) (١).
ويبدو للباحث أنّ مفردة الظالم أو الظالمين تمثّل التعدّي لحدود الله تعالى سواء كان عن عمد أو سهو وهذا المعنى لا نجده عند المصطفين الأخيار من الأنبياء المرسلين والأئمّة عليهمالسلام وعليه لا يمكن أن ينال الظالم عهد الله ليكون معصوماً.
وقال في جوامع الجامع في بيان معنى الآية الشريفة : ( أيّ من كان ظالماً من ذريّتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة وأن ينال من لا يفعل ظلماً ، وهذا يدلّ على وجوب العصمة للإمام ، وأن من ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه أو لغيره ) (٢).
وذهب السيد هاشم البحراني رحمهالله إلى دلالة الآية على إثبات العصمة لهم عليهمالسلام كما يلاحظ ذلك في طي تفسيره قال : ( وقول إبراهيم عليهالسلام ( وَمِن
___________
(١) مجمع البيان ١ : ٢٥٨.
(٢) جوامع الجامع ١ : ٧٧.
ذُرِّيَّتِي ) (١) من حرف تبعيض ليعلم أن من الذرّية من يستحقّ الإمامة ومنهم من لا يستحقّها .. وذلك يستحيل أن يدعو إبراهيم عليهالسلام بالإمامة للكافر أو المسلم الذي ليس بمعصوم ، فصحّ أنّ من باب التبعيض وقع على خواص المؤمنين جملة الخواص الأخص ، ثمّ المعصوم هو الخاص الأخص ) (٢).
وإلّا غير الأنبياء والرسل والأئمّة لم يكن هناك من له صفة الخاصية هذه فيكون الإتباع لهم فقط لوجوب عصمتهم.
وبناءً على ضرورة الهداية والإرشاد والقيادة أن تكون بيد المعصوم يرى السيد عبد الله شبر أنّ السفيه لا يكون إمام التقيّ فيستنتج أنّ الآية ( دلّت على وجوب عصمة النبيّ والإمام لصدق الظالم على العاصي سواء فسّر بانتقاص الحقّ أو وضع الشيء في غير موضعه ) (٣).
وهذا مأخوذ من قول الإمام أبي عبد الله الصادق عليهالسلام في معنى قوله تعالى : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).
روى زيد الشحام قال : « سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : إنّ الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبيّاً ، وأنّ الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، وأنّ الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً ، فلما جمع له الأشياء قال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) قال : فمن عظمتها في عين إبراهيم ( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال : لا يكون
___________
(١) سورة إبراهيم : ١٤ / ٤٠.
(٢) البرهان في تفسير القرآن / السيد هاشم البحراني ١ : ٥٣٨ ، والجوهر الثمين ١ : ١٤٢ ، وكنز الدقائق / الشيخ محمد بن محمد رضا الهندي ٢ : ١٣٦ ، والكاشف / محمد جواد مغنية ١ : ١٩٦.
(٣) تفسير السيد عبد الله شبّر ١ : ١٨.
السفيه إمام التقي » (١).
ومن الواضح هنا أنّ وصف ( السفيه ) يصدق على جميع الصحابة قبل دخولهم الإسلام لأنّهم كانوا سفهاء يعبدون الأصنام سوى أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام الذي لم يسجد لصنم قط باتفاق أهل الإسلام قاطبة.
وعنى السيد الطباطبائي رحمهالله بضرورة أن يكون الهادي للحقّ معصوماً في نفسه حيث قال : ( ثمّ أنّ هذا المعنى ـ أعني الإمامة ـ على شرافته وعظمته لا يقوم إلّا بمن كان سيّد الذات بنفسه إذ الذي ربما يتلبّس بالظلم والشقاء ، فإنّما سعادته بداية من غيره وقد قال تعالى : ( أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) (٢).
وقد قوبل في هذه الآية بين الهادي إلى الحقّ وبين غير المهتدي إلّا بغيره ، وهذه المقابلة تقتضي أن يكون الهادي إلى الحقّ مهتدياً بنفسه وانّ المهتدي بغيره لا يكون هادياً إلى الحقّ (٣).
هذا ما ذهب إليه الإمامية في تناول هذه الآية المباركة حيث أثبتوا أنّ الإمام ( المعصوم ) لا يمكن أن يكون مخطئاً أصلاً ، وإلّا لكان ظلماً في ذلك المصداق بالذات ، فيشمله أنّه من الظالمين ، فلا يمكن أن ينال عهد الله تعالى فيجب أن يكون معصوماً ، فإذا كان الإمام كذلك فالنبيّ أو الرسول يكون من باب أولى مصداقاً لذلك ، لأنّه حاز ملاكات القيادة والهداية بما حوته النبوة من خصائص أسماها مرتبة هي العصمة التي جاءت متقدّمة رتبة وزمناً على
___________
(١) أصول الكافي ١ : ١٧٥ / ٢ باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة عليهمالسلام من كتاب الحجّة.
(٢) سورة يونس : ١٠ / ٣٥.
(٣) الميزان / السيد الطباطبائي ١ : ٢٧٣.
الإمامة ، فالظالم سيكون في جهة مغايرة لجهة الأنبياء والرسل والأئمّة عليهمالسلام ومعه لا يمكن اجتماع الجهتين في مصداق واحد جزماً ، ومنه نستشفّ أنّ الأنبياء عليهمالسلام معصومون مطهّرون من كلّ عيب مهما كان حجمه.
وأمّا مذهب العامّة في التعامل مع هذه الآية المباركة في إثبات عصمة الأنبياء عليهمالسلام فما يراه الزمخشري ( ت / ٥٣٨ ه ) من أنّ هذا المنصب مختصّ بمن خوطب به أيّ الأصفياء ممن اختارهم لرسالته وهم الأنبياء والرسل عليهمالسلام والظالم بعيد عن هذا الاستخلاف قال : ( من كان ظالماً من ذريّتك لا يناله استخلافي وعهدي له بالإمامة وإنّما ننال من كان عادلاً بريئاً من الظلم ) (١).
ويمكن أن نضيف أنّ الاستخلاف والعهد ملازم للهداية التي هي سنّة إلهيّة أُعطيت للأنبياء عليهمالسلام لما امتازوا به عن غيرهم ، فبالاستخلاف والهداية يكون هناك نوع من الاقتران بين وظيفة النبوة ووظيفة الإمامة وهما داخلان في إطار نظام التكوين الذي سنّهُ الله تعالى لهداية خلقه.
وأوّل دليل على ذلك ما ذكره الفخر الرازي ، حيث قال : « الآية تدلّ على عصمة الأنبياء عليهمالسلام من وجهين : ( الأوّل ) أنّه قد ثبت أن المراد من هذا العهد ( الإمامة ) ولا شك أنّ كلّ نبيّ إمام فالإمام هو الذي يؤتم به والنبيّ أولى بالناس ، وإذا دلّت الآية على أنّ الإمام لا يكون فاسقاً وفاعلاً للذنب والمعصية فالنبيّ أولى ، ( الثاني ) : قال : ( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٢) فهذا العهد أن كان هو النبوة ، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظالمين ، وأن كان هو الإمامة فكذلك لأنّ كلّ نبيّ لابدّ وأن يكون إماماً يؤتم به ، وكلّ فاسق ظالم
___________
(١) الكشاف / الزمخشري ١ : ٢١١.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٢٤.
لنفسه ، توجب أن لا تحصل النبوّة لأحد من الفاسقين » (١).
واستدلّ كذلك على عصمة الأنبياء بهذه الآية باعتبار العهد سواء كان عهد النبوة أو الإمامة فهو يراه عهد النبوة أظهر في المقصود من العهد لأنّ عنده عهد الإمامة أقلّ درجة من عهد النبوّة (٢).
وهذا بخلاف ما تراه الإمامية من أنّ الإمامة امتداد طبيعي للنبوّة ولا يوجد هناك تعارض بينهما من جهة الهداية أو غيرها إلّا في مسألة الوحي وما يترتّب عليه.
ويبدو أن قوله « عهد الإمامة أقلّ درجة من عهد النبوّة » فيه نوع تحفّظ وإن كان أصل الاستدلال صحيحاً ، بناء على أنّ المراد بالظالمين ما يشمل الظالم لنفسه ، وإلّا لما احتاج مرتكب الصغيرة إلى التوبة لتغفر له ، ولما تحوّلت إلى كبيرة بعد التوبة عنها والإصرار على العودة إليها ، وقد فسّرت بعض الروايات الظلم هنا بعبادة الأصنام (٣) فيكون بعد الإمامة عمن تقدّم على المولى علي عليهالسلام كبعد المشرقين ، لأنّهم ظلموا أنفسهم وبقوا زمناً قبل إسلامهم على أصنامهم عاكفين ولا تنافي بين هذا التفسير وعموم اللفظ بناء على أنّ ذلك التفسير من باب التطبيق لا الحصر.
الآية الرابعة :
قال تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٤).
___________
(١) مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ٤ : ٤٠.
(٢) عصمة الأنبياء : ١٤.
(٣) أصول الكافي / ثقة الإسلام الكليني ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ / ١ باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة عليهمالسلام من كتاب الحجّة.
(٤) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
في الآية المباركة دلالة واضحة على عصمة الأنبياء وعدم إمكان الخطأ الذي يستتبع لوماً وعتاباً في حقّهم عليهمالسلام من جهة اشتمالها على مسائل أخرى ضبطها أصحاب التفسير فيما يتعلّق بأولي الأمر ومدى شمولها لهم عليهمالسلام ، والغرض الذي نتوخّاه منها هو إثباتها لعصمة الأنبياء عليهمالسلام من جهة الإطاعة الواجبة التي قرنها الله سبحانه وتعالى للأنبياء عليهمالسلام وأولي الأمر بطاعته جلّ ذكره لثبوت عصمتهم عليهمالسلام.
قال الشيخ الطوسي رحمهالله : ( ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد مطلقاً إلّا من كان معصوماً مأموناً من السهو والغلط ، وليس ذلك بحاصل في الأمراء ولافي العلماء ) (١).
وما يقارب من هذا اللفظ والمعنى ما نجده عند العلّامة الطبرسي رحمهالله حيث ذكر : ( ولا يجوز أن يوجب الله طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبتت عصمته ، وعلم أن باطنه كظاهره ، وأمن منه الغلط ، والأمر بالقبيح ) (٢).
ويستفيد السيد الطباطبائي رحمهالله من إطلاق الآية دليلاً على عصمتهم عليهمالسلام ، حيث قال : ( على أن الآية جمع فيها بين الرسول وأُولي الأمر ، وذكر لها معاً طاعةً واحدة فقال : ( وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٣) وما يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو بغلط في حكم ، فلو جاز في شيء من ذلك على أُولي الأمر لم يسع إلّا ان يذكر القيد الوارد عليهم ، فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير تقيّد ، ولازمه اعتبار العصمة في جانب أُولي الأمر كما
___________
(١) التبيان ٣ : ٢٣٧.
(٢) مجمع البيان ٣ : ٨٣.
(٣) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
اعتبر في جانب رسول الله صلىاللهعليهوآله من غير فرق ) (١).
وعند التدبّر بكلمات أعلام التفسير من غير المدرسة الإمامية نجد أن العصمة هي السمة الغالبة لمن قرن الله طاعتهم بطاعته ولسان الفخر الرازي في إثبات عصمة الأنبياء عليهمالسلام من حيث كونهم في مقدّمة أولي الأمر المذكورين في الآية المباركة خير شاهد على ذلك حيث ذكروا الدليل على ذلك أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابدّ أن يكون معصوماً عن الخطأ ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ نهي عنه ، فهذا يقضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد وأنّه محال ، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كلّ من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ فثبت قطعاً أنّ ولي الأمر المذكور في الآية لابدّ وأن يكون معصوماً ) (٢).
وعلى هذا فإذا ثبت العصمة لأولي الأمر عليهمالسلام بغض النظر عمن حمل الرازي وغيره بنسبة الآية لهم ، فأنّها تكون ثابتة للأنبياء بطريق أولي لأنّهم من مصاديق أُولي الأمر المأمورون بأتباعهم.
ويمكن أن نستوحي من هذه الآية المباركة عدّة استفادات أهمها :
الأولى : بما أن الله سبحانه وتعالى منبع العصمة ، إذاً يجب أن يكون الرسول صلىاللهعليهوآله معصوماً وإلّا لاختلّت الإطاعة الثانية لما عُطفت على الإطاعة
___________
(١) الميزان ٤ : ٣٩١.
(٢) مفاتيح الغيب ١٠ : ١١٦ ، والجامع لأحكام القرآن ٣ : ١٨١ ـ ١٨٢.
الأولى.
الثانية : قوله تعالى في نهاية الآية المباركة ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) (١).
يظهر منها وجوب كون الرسول معصوماً وإلّا لطلب منهم أن يردّوه إلى الله فقط لئلّا يحدث الخطأ بخطأ الرسول صلىاللهعليهوآله ولما قال في نهاية الآية ( ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) لأنّه أن لم يكن معصوماً لأغرانا الله بالباطل جلّ عن ذلك.
الثالثة : لقد عطفت الآية أولي الأمر على طاعة الله ورسوله من حيث إنّهما مطلقتان فتكون طاعة أولي الأمر مطلقة أيضاً وهذا يعني أن من يطع أولي الأمر فقد أطاع الرسول صلىاللهعليهوآله ومن يطع الرسول صلىاللهعليهوآله فقد أطاع الله تعالى ، ثمّ أنّه من تجب له الطاعة المطلقة يجب أن يكون معصوماً بالعصمة المطلقة ، ومن ثم فمن غير المعقول أن يكون المراد بأُولي الأمر في الآية الكريمة حكام العدل غير المعصومين ، فضلاً عن حكّام الجور والظلم ، فإن حكام العدل غير المعصومين إنّما تجب طاعتهم في حدود معينّة لا مطلقاً كما هو معلوم ، ومن ذلك نستنتج أن المراد من أُولي الأمر في الآية المباركة هو خصوص الأئمة المعصومين من أهل البيت عليهمالسلام وثبوتها للأنبياء عليهمالسلام يكون من باب أولى لأنّهم مصداق حي لهذه الآية المباركة.
الرابعة : إن عدم ذكر أولي الأمر في الردّ إليهم في حال التنازع يدلُّ ـ بدلالة الأمر المطلق بإطاعتهم ـ على أن ذلك إنّما يكون في حال التنازع في
___________
(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
شيء معهم عليهمالسلام ، ليكون الردّ حينئذٍ إلى الله عزّوجلّ والرسول صلىاللهعليهوآله ، لا أنّهم ليسوا أهلاً للردّ إليهم ، بل لأجل أن لا يستريب المتنازع معهم في حال كونهم حكماً وأحد طرفي النزاع معاً ، وأما لو حصل النزاع ولم يكونوا طرفاً فيه ، فالردّ سيكون إليهم عليهمالسلام بلحاظ وجوب طاعتهم وولايتهم على هذه الأُمّة ، وحيث لم يلتفت بعض مفسّري العامة إلى هذه النكتة إمّا قصوراً أو تعصّباً قالوا بعدم وجوب طاعتهم عليهمالسلام مطلقاً ، وهو كما ترى !
وهناك عشرات الأحاديث الصحيحة الواردة عن أهل البيت عليهمالسلام قد فسّرت ( أُولي الأمر ) في الآية الشريفة بأهل البيت المعصومين عليهمالسلام.
فقد روى أبو بصير ، عن الإمام الباقر عليهالسلام في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) قال عليهالسلام : « الأئمّة من ولد علي وفاطمة عليهاالسلام إلى أن تقوم الساعة » (٢) إلى غير ذلك من الأحاديث الأُخرى الصريحة باختصاص الأئمّة الاثني عشر عليهمالسلام بهذه الآية ، سنشير إليها دون بيانها اقتصاراً فنقول :
روى ذلك جابر بن عبد الله الأنصاري ، عن رسول الله صلىاللهعليهوآله (٣).
وسليم بن قيس ، عن أمير المؤمنين الإمام علي عليهالسلام (٤).
___________
(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
(٢) الإمامة والتبصرة من الحيرة / الصدوق الأوّل الشيخ علي بن بابويه القمّي : ١٣٣ ـ ١٣٤ / ١٤٥ ، وإكمال الدين / الشيخ الصدوق : ٢٢٢ / ٨ باب (٢٢).
(٣) إكمال الدين : ٢٥٣ / ٣ باب (٣) ، وكفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر عليهالسلام / الخزّاز القمّي : ٥٣.
(٤) أصول الكافي ٢ : ٤١٤ ـ ٤١٥ / ١ باب أدنى ما يكون به العبد مؤمناً أو كافراً أو ضالّاً من كتاب الإيمان والكفر ، وإكمال الدين : ٢٧٦ / ٢٥ باب (٢٤) ، ومعاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ٣٩٤ / ٤٥ باب نوادر المعاني.
وروى ذلك عن الإمام الباقر عليهالسلام كلٌّ من بريدبن معاوية (١) ، وجابر الجعفي (٢).
وتواتر ذلك عن الإمام الصادق عليهالسلام ، إذ رواه عنه كلٌّ من : أبي بصير (٣) ، وأبي مسروق (٤) ، وبشير الدهّان (٥) ، والحسين بن العلاء (٦) ، والحسين بن نعيم الصحاف (٧) ، وعبد الحميد بن أبي الديلم (٨) ، وعلي بن الحسين العبدي (٩) ، وأبي اليسع عيسى بن السري (١٠) ومحمد بن حرب الهلالي أمير المدينة (١١).
___________
(١) أصول الكافي ١ : ٢٠٥ / ١ باب ان الأئمّة عليهمالسلام ولاة الأمر وهم الناس المحسودون من كتاب الحجّة ، و ١ : ٢٧٦ / ١ باب أن الإمام عليهالسلام يعرف الإمام الذي يكون بعده من كتاب الحجّة ، وروضة الكافي ٨ : ١٨٤ / ٢١٢.
(٢) علل الشرائع / الشيخ الصدوق ١ : ١٢٣ ـ ١٢٤ / ١ باب (١٠٣).
(٣) أصول الكافي ١ : ٢٨٦ ـ ٢٨٧ / ١ باب ما نص الله عزّوجلّ ورسوله صلىاللهعليهوآله على الأئمّة عليهمالسلام واحداً فواحداً.
(٤) أصول الكافي ٢ : ٥١٣ / ١ باب المباهلة من كتاب الدعاء.
(٥) المحاسن / البرقي ١ : ١٥٦ / ٨٨ باب (٢٣) ، وتفسير العياشي ١ : ١٦٧ / ٢٦.
(٦) أصول الكافي ١ : ١٨٧ / ٧ باب فرض طاعة الأئمّة عليهمالسلام من كتاب الحجّة.
(٧) أصول الكافي ١ : ٤٢٦ / ٧٤ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية من كتاب الحجّة.
(٨) أصول الكافي ١ : ٢٩٣ / ٣ باب الإشارة والنص على أمير المؤمنين صلوات الله عليه من كتاب الحجّة.
(٩) تهذيب الأحكام / الشيخ الطوسي ٣ : ١٤٧ / ١ باب (٧) صلاة الغدير.
(١٠) أصول الكافي ٢ : ١٩ ـ ٢٠ / ٦ و ٩ باب دعائم الإسلام من كتاب الإيمان والكفر.
(١١) معاني الأخبار : ٣٥٢ / ١ باب معنى حمل النبي صلىاللهعليهوآله لعلي عليهالسلام وعجز علي عن حمله عليهماالسلام.
ورواه الريان بن الصلت ، عن الإمام الرضا عليهالسلام (١).
وبكر بن أحمد بن محمد بن إبراهيم القصري غلام خليل المحاملي ، عن الإمام الحسن العسكري عليهالسلام (٢).
ورواه عبد الله بن أبي الهذيل عن أحدهم عليهمالسلام (٣).
كما ورد ذلك عن الإمام الحجّة عليهالسلام في التوقيع الخارج من الناحية المقدّسة بشأن محمد بن إبراهيم بن المهزيار (٤).
الخامسة : قوله تعالى : ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (٥).
هذه الآية الكريمة كذلك تدلّ على عصمة الأنبياء مع أبعاد ما يلحق الضرر بعصمتهم عليهمالسلام لما زودوا به من قبل الله تعالى من ألطاف وإمكانات علمية خاصة فضلاً عن استعدادهم النفسي الكامل مما جعلهم عليهمالسلام في حصانة تامة عن كل ما يخرجهم عن العصمة ، فضرب لهم النبيّ صلىاللهعليهوآله مثلاً.
وقد استفاد الشيخ الطبرسي عصمة الأنبياء عليهمالسلام من هذه الآية المباركة
___________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٢٠٩ / ١ باب (٢٣) ذكر مجلس الإمام الرضا عليهالسلام مع المأمون في الفرق بين العترة والأُمّة ، والأمالي / الشيخ الصدوق : ٦١٧ / ٨٤٣ (١) مجلس (٧٩).
(٢) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١٣٩ / ١٣ باب (٣٥).
(٣) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٥٧ ـ ٥٨ / ٢٠ باب النصوص على الرضا عليهالسلام بالإمامة في جملة الأئمّة الاثني عشر عليهمالسلام ، والخصال / الشيخ الصدوق : ٤٧٨ / ٤٦ باب الواحد إلى الاثني عشر من أبواب الاثني عشر.
(٤) إكمال الدين : ٤٨٦ ـ ٤٨٧ / ٨ باب (٤٥).
(٥) سورة النساء : ٤ / ١١٣.
من جهة رعاية الله للنبي وألطافه به حيث قال : « ثم بين سبحانه لطفه برسوله وفضله عليه إذ صرف كيدهم عنه وعصمه من الميل إليهم » (١).
أمّا المجلسي رحمهالله فيرى أن الفضل هو النبوّة وأن الرحمة هي العصمة فقال : ( أي لولا أن الله خصّك بالفضل وهو النبوّة وبالرحمة وهي العصمة ) (٢) ثمّ أنّه يثبت العصمة من خلال تفسيره لقوله تعالى : ( وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ) (٣) قال : ( فيه وجهان ، أحدهما : ما يضرونك من شيء في المستقبل ، فوعده الله تعالى في هذه الآية إدامة العصمة لما يريدون من إيقاعه بالباطل ) (٤).
ويرى السيد الطباطبائي رحمهالله أن ( ظاهر الآية الذي تحقّقت به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية والخطأ ) (٥) ، ثمّ يقول ـ إشارة على موهبة العلم الذي عبّر عنه بالعصمة ـ : ( إنّ هذه الموهبة الإلهيّة التي نسمّيها قوّة العصمة نوع من القوى الشعورية البتّة ، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إيّاها ، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقاً ) (٦).
الآية السادسة :
قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) (٧).
هذه من الآيات المباركات التي استدلّ بها علماء التفسير وعلماء الكلام على عصمة الأنبياء عليهمالسلام ونزاهتهم.
___________
(١) مجمع البيان ٣ : ١٣٧.
(٢) بحار الأنوار / العلّامة المجلسي ١٧ : ٣٩.
(٣) سورة النساء : ٤ / ١١٣.
(٤) بحار الأنوار ١٧ : ٣٩.
(٥) الميزان ٥ : ٧٨.
(٦) الميزان ٥ : ٨٠.
(٧) سورة النساء : ٤ / ٦٤.
قال الشيخ الطبرسي رحمهالله : ( ثمّ لامهم سبحانه على ردّهم أمره وذكر أن غرضه من البعثة الطاعة ، فقال ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ ) أي لم نرسل رسولاً من رسلنا ( إِلَّا لِيُطَاعَ ) (١) عني به أن الغرض من الإرسال أن يطاع الرسول ويتمثّل بما يأمر به ثمّ أنّه يرى قوله تعالى ( بِإِذْنِ اللهِ ) أي بأمر الله الذي دلّ على وجوب طاعتهم ) (٢).
وقال العلّامة الطباطبائي رحمهالله : ( وممّا يدلّ على عصمتهم عليهمالسلام قوله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) حيث جعل كون الرسول مطاعاً غاية الإرسال ، وقصر العناية فيه ، وذلك يستدعي بالملازمة البيّنة تعلّق إرادته تعالى بكلّ ما يطاع فيه الرسول صلىاللهعليهوآله وهو قوله أو فعله ، لأنّ كلّ منهما وسيلةً معمولة متداولة في التبليغ ، فلو تحقّق من الرسول خطأ في فهم الوحي أو في التبليغ كان ذلك إرادة منه تعالى للباطل ، والله سبحانه لا يريد إلّا الحقّ ) (٣).
وقد وافقنا على ذلك الفخر الرازي ، فقال : ( الآية دالّة على أن الأنبياء عليهمالسلام معصومون عن المعاصي والذنوب لأنّها دلّت على وجوب طاعتهم مطلقاً ، فلو أتوا بمعصيةٍ لوجب علينا الاقتداء بهم في تلك المعصية ، وكونها معصية يوجب كونها محرّمة علينا ، فيلزم توارد الإيجاب والتحريم على الشيء الواحد وأنّه محال ) (٤).
الآية السابعة : قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٥).
___________
(١) سورة النساء : ٤ / ٦٤.
(٢) مجمع البيان ٣ : ٨٧.
(٣) الميزان ٢ : ١٣٧.
(٤) مفاتيح الغيب ١٠ : ١٢٩.
(٥) سورة التوبة : ٩ / ١١٩.
استدلّ الشيخ المفيد بهذه الآية على عصمة من اتّصف بالصدق في هذه الآية.
قال الشيخ المفيد رحمهالله : « قد ثبت أن الله سبحانه دعا المؤمنين في هذه الآية إلى اتّباع الصادقين والكون معهم فيما يقتضيه الدين ، وثبت أن المنادى به يجب أن يكون غير المنادى إليه لاستحالة أن يدعى الإنسان إلى الكون مع نفسه واتباعها .. ».
ثمّ فصل في كلام طويل عدم دلالة الآية على اتباع جميع من صدق لأنّ ذلك يوجب اتباع الإنسان نفسه لأنّ كلّ مؤمن صادق ، وإنّما المقصود بعض الصادقين المعهودين أو غير المعهودين ، فإن كان معهودين فتكون الألف واللّام للعهد فيجب أن يكونوا معروفين ، الآمر الذي دلّت عليه الروايات وبيّنت أسماءهم وأشارت إليهم خاصة ، وإن كانوا غير معهودين فلابدّ من الدلالة عليهم ليتميّزوا ممن يدعي زوراً مقامهم وألا يطلق الحجّة لهم وسقط تكليف اتباعهم ، وإذا ثبت أنّه لابدّ من الدليل عليهم ولم يدع أحد من الفرق دلالتها على غيرهم عليهمالسلام ، ثبت أنّها فيهم خاصة ، لفساد خلو الأُمّة كلّها من تأويلها وعدم أن يكون القصد إلى أحد منهم بها.
ثمّ قال : « على أنّ الدليل قائم على أنّها فيمن ذكرناه ، لأنّ الأمر ورد باتباعهم على الاطلاق وذلك يوجب عصمتهم وبراءة ساحتهم والأمان من زللهم بدلالة إطلاق الأمر باتباعهم ، والعصمة توجب النص على صاحبها بلا ارتياب ، وإذ اتّفق مخالفونا على نفي العصمة والنص عمن ادّعوا له تأويل هذه الآية ، فقد ثبت أنّها في الأئمّة عليهمالسلام لوجود النقل بالنص عليهم وإلّا خرج الحقّ عن أُمّة محمد صلىاللهعليهوآله ، وذلك فاسد » (١).
___________
(١) الفصول المختارة ( للسيد المرتضىٰ ) من كتاب العيون والمحاسن للشيخ المفيد : ١٣٧ ـ ١٣٨.
وهذا الكلام في العصمة يمكن تعدّيه إلى جميع الأنبياء والمرسلين عليهمالسلام لكونهم من أجلى مصاديق الصادقين هذا بالإضافة إلى إطلاق الآية الشامل لهم.
وما قاله الشيخ المفيد قدسسره صحيح البتة ، فقد وردت روايات كثيرة من طرق الفريقين وكلّها تؤكّد اختصاص أهل البيت عليهمالسلام بهذه الآية ، سنشير إلى اليسير منها.
ففي مناشدة أمير المؤمنين عليهالسلام الصحابة : « أنشدكم الله ، أتعلمون أنّ الله أنزل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (١) فقال سلمان : يا رسول الله عامة هذا أم خاصة ؟ قال صلىاللهعليهوآله : أمّا المأمورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك ، وأمّا الصادقون فخاصة لها في عليّ وأوصيائي من بعده إلى يوم القيامة. قالوا : اللّهمّ نعم » (٢).
ونحوه عن عبد الله بن عباس مرفوعاً (٣).
وروى موسى بن إسحاق ، عن أبي عبد الله عليهالسلام انّه قال في هذه الآية : ( فمن الصادقون ، ما حملناه إليكم عن رسول الله صلىاللهعليهوآله وعنه تبارك اسمه ) (٤).
وعن جابر الجعفي ، عن الإمام الباقر عليهالسلام أنّه قال : ( وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) ( مع علي بن أبي طالب عليهالسلام ) (٥).
ونقله ابن شهرآشوب عن ابن عباس ونسبه للثعلبي في تفسيره ، كما نقل
___________
(١) سورة التوبة : ٩ / ١١٩.
(٢) كتاب سليم بن قيس الهلالي : ٢٠٠ ، والاحتجاج / الطبرسي ١ : ٢١٥.
(٣) شرح الأخبار / القاضي النعمان ٢ : ٣٤٣ / ٦٨٦.
(٤) شرح الأخبار ٢ : ٥٠٦ / ٨٩٤.
(٥) الأمالي / الشيخ الطوسي : ٢٥٥ / ٤٦١ (٥٣) مجلس (٩) ، ومناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب ٣ : ٣١٤.
من تفسير أبي يوسف يعقوب بن سفيان بسند صحيح عن ابن عمر انّه قال في الآية : انّها في رسول الله صلىاللهعليهوآله وأهل بيته عليهمالسلام (١).
ورواه ذلك شاذان بن جبريل القمي بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري (٢).
ونقله السيد ابن طاوس في سعد السعود من الجزء الثالث من تفسير الإمام الباقر عليهالسلام (٣).
وبعد ملاحظة هذه الآيات المباركات الدالّة على عصمة الأنبياء عليهمالسلام نجد أنّ دلالاتها تقتضي أنّ الأنبياء عليهمالسلام مصطفون لله ، مختارون له تعالى خيّرون ، ومن الضرورة إنّ ذلك ينافي صدور العصيان عنهم سهواً ، مع أنّ الآيات تصرّح بلزوم متابعتهم والاقتداء بهم والاقتباس من أنوارهم ووجوب التأسّي بهم كما قال تعالى : ( لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) (٤).
ولو صدرت المعصية عنهم ولو سهواً لما جاز الاقتداء والتأسّي بهم ، مع أنّ صدورها عنهم ولو في بعض الأحيان يوجب تنفر الناس منهم فلا يطمأن إلى قولهم وفعلهم وهذا ينافي الغرض الأقصى من بعثتهم.
___________
(١) مناقب آل أبي طالب / ابن شهرآشوب ٣ : ٢٨٨.
(٢) الفضائل / شاذان بن جبريل القمّي : ١٣٨.
(٣) سعد السعود / السيد ابن طاوس : ١٢٢.
(٤) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢١.
الفصل الثاني أدلّة العصمة المطلقة من السنّة والدليل العقلي
المبحث الأوّل أدلّة العصمة المطلقة من السنّة
وردت في أحاديث الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله والأئمّة الأطهار عليهمالسلام ، طائفة كبيرة من النصوص التي تدلّ دلالة صريحة على عصمة الأنبياء والأئمّة عليهمالسلام مع استبعاد أن يصدر أي لون من ألوان اللوم والعتاب بحقّهم عليهمالسلام اعتمدنا نماذج منها بحسب ما يستوعبه البحث.
الحديث الأوّل : ما رواه
سليم بن قيس الهلالي ( ت / ٧٦ ه ) عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام
عن رسول الله صلىاللهعليهوآله
حيث حذّر من ثلاثة رجال وأخذ يصفهم إلى أن قال صلىاللهعليهوآله
: «
ورجل أتاه الله
عزّوجلّ سلطاناً فزعم أنّ طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله ، وكذب ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، لا طاعة لمن عصى الله ، إنّما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر الذين قرنهم الله بنفسه ونبيّه فقال : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (١).
لأنّ الله إنّما أمر بطاعة رسول الله صلىاللهعليهوآله لأنّه معصوم مطهّر لا يأمر بمعصية الله ، وإنّما أمر بطاعة أولي الأمر لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية الله » (٢).
وفي هذا دلالة واضحة على ضرورة كون الرسول أو النبي والإمام معصوماً كي تجب طاعته ومتابعته لأنّه الهادي إلى الحقّ.
الحديث الثاني : عن أبي ذر الغفاري رحمهالله قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : « خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد ، نسبّح الله تعالى عند العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلمّا أن خلق الله آدم عليهالسلام جعل ذلك النور في صلبه ، فلم يزل ينقلنا الله عزّوجلّ من أصلاب طاهرة إلى أرحام مطهّرة حتّى انتهى إلى عبد المطّلب فقسمنا نصفين ، فجعلني في صلب عبد الله وجعل عليّاً في صلب أبي طالب » (٣).
وهذا الحديث ، وإن لم يرد فيه لفظ العصمة صراحة ، لكن متنه كافِ في الدلالة على العصمة للأنبياء والأئمّة عليهمالسلام وعلى طهارتهم وليس أدلّ
___________
(١) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
(٢) كتاب سليم بن قيس : ٤٠٥ ، وعلل الشرائع / الشيخ الصدوق : ٥٢ ، والخصال / له أيضاً ١ : ٦٨.
(٣) البرهان في تفسير القرآن / السيد هاشم البحراني ٢ : ١٩٢.
على عصمتهم من أن يطهّرهم الله من كلّ رجس ويبعد عنهم كلّ ذنب ومعصية.
الحديث الثالث : عن أبي الصلت الهروي قال : « لمّا جمع المأمون لعليّ ابن موسى الرضا عليهالسلام أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئيين وسائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلّا وألزمه حجّته كأنّه قد ألقم حجراً ، فقام إليه علي بن محمد بن الجهم ، فقال له : يا ابن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء ؟ قال : بلى ، قال : فما تعمل في قول الله عزّوجلّ ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ ) (١).
وقوله عزّوجلّ : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (٢).
وقوله في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (٣).
وقوله عزّوجلّ في داود : ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٤).
وقوله في نبيّه محمد صلىاللهعليهوآله : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (٥).
فقال مولانا الرضا عليهالسلام : ويحك يا عليّ ، اتّقِ الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ، ولا تأوّل كتاب الله برأيك ، فأن الله عزّوجلّ يقول : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٦).
___________
(١) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.
(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.
(٤) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.
(٥) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٧.
(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٧.
أمّا قوله عزّوجلّ في آدم عليهالسلام : ( وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ )(٧)فأن الله عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه وخليفة في بلاده ، لم يخلقه للجنّة ، وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتمّ مقادير أمر الله عزّوجلّ ، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجّةً وخليفةً عصم بقوله عزّوجلّ : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٨).
وأمّا قوله عزّوجلّ : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ )(١)إنّما ظنّ أنّ الله عزّوجلّ لا يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله عزّوجلّ : ( وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ) (٢) ، أي ضيق عليه ولو ظن أن الله تبارك وتعالى لا يقدر عليه لكان قد كفر.
وأمّا قوله عزّوجلّ في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (٣) فانّها همّت بالمعصية وهمّ يوسف بقتلها إن أجبرته ، لعظم ما داخله ، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة ، وهو قوله : ( كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ ـ يعني القتل ـ وَالْفَحْشَاءَ ) (٤).
وأمّا داود فما يقول مَنْ قبلكم فيه ؟
فقال علي بن الجهم : يقولون : إن داود كان في محرابه يصلّي إذ تصوّر له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع صلاته وقام ليأخذ
___________
(١) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣.
(٣) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.
(٤) سورة الفجر : ٨٩ / ١٦.
(٥) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.
(٦) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.