عصمة الأنبياء عليهم السلام

زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي

عصمة الأنبياء عليهم السلام

المؤلف:

زين العابدين عبد علي طاهر الكعبي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-80-5
الصفحات: ١١٦
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

Description: F:Book-LibraryENDQUEUEEsmah-Anbiaimagesimage001.gif

١

٢

Description: F:Book-LibraryENDQUEUEEsmah-Anbiaimagesimage002.gif

٣

٤

كلمة المركز

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على نبيّنا محمد وآله الطاهرين.

مهما تعددت الدراسات الإسلامية وتنوعت مناهجها تبقى قاصرة عن بلوغ أهدافها ما لم تتخذ من السيرة المعصومة قبساً ينير لها الطريق ، من منطلق كونها الحارسِ الأمين الذي اختاره الله عزّ وجلّ بلطفه لحراسة دينه بالحفاظ على كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله من عبث الأهواء وتطرف الآراء ، والوقوف بحزم إزاء كل ما يهدد الدين من اخطار ، وفضح كل انحراف أو تطرف يسيء إلى الدين باسمه. وأما التمسك بالسيرة غير المعصومة فلا يفيد شيئاً بل على العكس سيكون من أكبر عوامل الهدم والتخريب لقيم الإسلام ومثله العليا ، لأنّها مهما بلغت درجة أصحابها ، ومهما اتسعت حركتها في الواقع من خلال تحكمها بالسلطة لايمكن أن تكون مقياسا للحق والتطور ، مادام وقوع أصحابها في الخطأ محتملاً ، وهذا منفي عن السيرة المعصومة المعبرة عن الدين من واقع وعيها الكامل بالدين كلّه ، وإذا كانت قد اعيقت من الوصول إلى مواقع السلطة التي تحركها في الأمة أكثر وأكثر ، فإنّ أصحابها قد تحركوا باتجاه آخر وضحوا بمواقعهم من أجل بقاء الإسلام فاتّجه اصلاحهم الى الداخل باشعار المؤمنين بأن الوضع الذي انتاب الأمة بعد غياب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان وضعاً فاسداً منحرفاً لايقيم للحق وزناً إذا ما اصطدم برغبات الزعامة القبلية المقيتة التي افرزتها السقيفة المشؤومة ، وأنه لابدّ من مواجهته فكرياً والإطاحة به ، وإدراك أن كل بلاء قد انفتح بعد ذلك على الأمة كان نتيجة منطقية لذلك الوضع المنحرف الذي أثر وبشكل مباشر على الخط الطويل لرسالة الإسلام.

لقد انطلق الخط الرسالي من مسلّمة بدهية تتلخص بوجوب القضاء على الخط المنحرف فكرياً ضمن خطوات علمية متقنة ، والعمل على تزييف آثاره وتطويقها كي لايستشري وباؤها الوخيم في جسم الأمة ويصيب الإسلام في الصميم ، والمثابرة الدؤوبة في توضيح مساوئ الوجه المشوّه الذي قدمته تلك الزعامات المزيفة على أنه الوجه المعبر عن الإسلام ، لكي لا ينخدع أحد بتلك الوجوه التي تصدت للزعامة بلا أهلية ، وإن روجت أتباعها لها بأنها ظاهرة الصلاح وقائدة الفلاح ، وإلّا سوف تفشل محاولات الإصلاح في مواجهة الانحراف وتفادي كل اخطاره التي استشرت في جسد الامة وعصفت رياحها السوداء القاتمة بوضح النهار وأحالته بعنجهيتها وجهلها المعهودين الى سواد حالك حتى كادت أن تطيح بمثل الاسلام وقيمه سيما في بداية انطلاقها ثم عنفوان همجيتها في دولة الطلقاء ، تلك الدولة التي أخلت كثيراً بتوازن المجتمع الإسلامي تجاه ما يحيط به من تحديات وأخطار كثيرة.

٥

إن جعل تلك الرموز المزيفة في حصانة عن النقد وادعاء عدالتها سوف لن يتيح الفرصة أمام أي اصلاح ، خصوصاً إذا ما علمنا أن الوهن الذي أصاب الأمة لم يكن ـ كما يدعيه الجهلاء ـ من ترسبات القرون الوسطى التي تفشّى بها الجهل الى حد بعيد ، وإنّما امتدت جذوره الى أعماق التاريخ الإسلامي ، واتصلت بتصرفات تلك الزعامات الهزيلة على مسرح الأحداث انطلاقاً من موقعها السياسي الرفيع الذي وصلته بالمكر والخديعة تارة ، وبالسيف تارة أخرى ، والناس على دين ملوكهم إلّا من عصم الله تعالى.

من هنا انطلقت محاولات التثقيف الرسالي ، لوعيها التام بأن أي بناء جديد لابد وأن يكون على أساس هدم كل بناء فاسد ، واقامة القواعد الصلبة للبناء الجديد. ومن البداهة أن تقاوم تلك الزعامات وأتباعها من الجهلة والمنتفعين هذا الاتجاه الفكري المعارض باتهامه بحب الزعامة وتفانيه من أجل الوصول إليها ، ولم يكن هذا ليمر على رجال الخط الإسلامي الأصيل دون رصد حقيقي له ، مع فضح أهدافه وغاياته ، وهو ما أعلنه الخط الملتزم حتى أدركت الأمة وبوقت مبكر من عمر السيرة المعصومة أن معارضتها لما هو قائم آنذاك لاينطوي على إرادتها الزعامة بقدر إرادتها بناء زعامة الإسلام وقيادة تعي ما يتطلبه الإسلام نفسه منها وما يحتاجه المجتمع المسلم ، وإذا كانت الزعامة تمثل طموحاً وهدفاً وفرصة لنمو الذات عند كل رجالات السلطة عبر التاريخ ، فإنّها ليست كذلك في نظر السيرة المعصومة ، بل هي عندها موقف للمسؤولية ، ورسالة الهية في حد ذاتها ، لامكان فيها لغير ذلك ، لأنّها رسالة خالدة تنفتح على الحياة بما رحبت ، وتحافظ على توازن الحياة في نفس الإنسان وعلاقته بخالقه وبنفسه ومجتمعه وبالحياة كلها ، ولن يتحقّق ذلك التوازن بدون سيادة الدين ، لأنّ المرتكزات الصلبة التي تنشدها السيرة المعصومة لذلك التوازن تصبّ في خدمة الإسلام عن طريق نشر مفاهيمه ومناهجه وشرائعه وأساليبه وأسسه وآدابه من منطلق صلاحية بقائها ودوام استمرار وجودها في الحياة.

وانطلاقاً من هذه الحقائق الإسلامية الثابتة حاول الأستاذ زين العابدين عبد علي طاهر نخل ما ورد في التراث الإسلامي بشأن عصمة الأنبياء عليهم‌السلام سلباً أو إيجاباً ، وتقييمه بميزان السيرة المعصومة ، فجاء كتابه ( عصمة الأنبياء عليهم‌السلام ) بعبارات مشرقة وأدلّة دامغة في إثبات عصمتهم عليهم‌السلام ونزاهتهم عن كلّ ما افتراه الحشوية ومن وافقهم.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

مركز الرسالة

٦



المُقدَّمةُ

من المواضيع المهمة والحساسة التي طالما دار الحوار حولها موضوع عصمة الأنبياء الملازمةُ لنفي كل ما من شأنه أن يطعن من خلاله بشخص النبي أو سلامته الفكرية والعقيدية وتكاملهُ الأخلاقي في مطلق شؤون حياته وذلك ، لأن هذا الموضوع ـ أعني العصمة ـ يتصل بالمصدر الثاني الذي يبني عليه الإنسان دينه وعقيدته ، ويسيّر عليه جميع شؤون حياته ، وهو ( النبوة ) والاختلاف حول هذا الموضوع الذي يعد من أصول الدين عند كل الموحدين ينتج عنه اختلاف واسع في التفريعات الناشئة عن هذا الأصل.

والباحث في موضوع النبوة يجد أن هناك خلافاً بين المسلمين في هذا الموضوع يظهر بشكله الواضح حين يدور الحديث حول عصمة الأنبياء عليهم‌السلام.

الأمر الذي دعا إلى ذلك هو أن بعض الآيات استغلت ذريعة عند مخطئة الأنبياء عليهم‌السلام حيث تمسكوا بظاهرِ بعضها الذي يمسَ وفق تطبيقهم بِعصمة الأنبياء عليهم‌السلام من آدم حتى نبينا الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فتطاولوا وتجاوزوا في المس بالأنبياء عليهم‌السلام والقول أنه قد ورد في حقهم اللوم والعتاب والتوبيخ... الخ وزعموا أن العتاب الذي له المساس المباشر بالأدلة على خلاف عصمة الأنبياء عليهم‌السلام يتخذ درجات متفاوتة في الشدة أو اللين بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حين جوّزوا على الأنبياء عليهم‌السلام ارتكاب بعض الذنوب والمعاصي ، ونجد

٧

كتبهم التي عُنيت بهذه المواضيع تزخر بتلك الشُبَه ، فتارة ينطلقون من التوبة وأخرى من الاستغفار وثالثة من الإنابة ويزعمون أن الأنبياء في هذه المواقف وغيرها حصل منهم ما يجعلهم كغيرهم من البشر يخطئون ويذنبون ويتوبون ثم أنهم يعاتبون كما يعاتب سائر الناس.

وانطلاقاً من واجب الدفاع عن عصمة الأنبياء عليهم‌السلام وعموم رسالاتهم الخالدة وكمال نفوسهم الشريفة وُلِد هذا البحث ليدفع عنهم كل أنواع الشبه عند من تأول وأثبت وقوع ألوان اللوم والعتاب الوارد في حقهم كما زعمه أولئك المخطئون من خلال جمودهم على ظواهر النص من غير تأويل أو أخذ بالمعاني القريبة الأخرى ، نظير تعاملهم مع ما يدلُّ بظاهره على التجسّم المنفي عن الله عزّوجلّ عقلاً وشرعاً.

وقد خصصت في بحثي هذا عدداً من الأنبياء عليهم‌السلام وليس جميعهم مراعياً الضرورة الموضوعية والزمانية واختيار الحالات التي تمثل قواسم مشتركة ودلالات متشابهة.

وقد أجّلت البحث عن عصمة أشرف الأنبياء والمرسلين صلّى عليه وآله وعليهم أجمعين ؛ لسببين :

أحدهما : إنّه مع إثبات العصمة لجميع الأنبياء عليهم‌السلام لا يعقل أن لا يكون أشرفهم وخاتمهم عليه وعليهم‌السلام معصوماً.

الثاني : كثرة شبهات مفسّري المخطّئة حول العصمة المطلقة للنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فضلاً عن كثرة الروايات في عدم العصمة عند أصحاب الحديث من الحشوية ومن لفّ لفّهم ، الأمر الذي يتطلّب إفراد عصمة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتاب مستقلّ. عسى أن أوفّق إليه مستقبلاً.

ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق.

٨



توطئة :

يقع الحديث عن العصمة في إطار مسائل النبوّة ، وهي مجموعة القضايا التي يشترك فيها الأنبياء عليهم‌السلام وتقف مسألة العصمة في الصفّ الأوّل من مسائل النبوّة العامّة من حيث أهميتها لما لها من آثار مهمّة وثمرات أساسيّة في عقيدة الإنسان المسلم إزاء وظيفة النبوّة وأثر وظيفتها في حياة المجتمع البشري ونظامه ، فثبوت العصمة لإنسان ما يعني ثبوت مجموعة من الآثار واللوازم بحيث تكون أقواله وأفعاله وتقريراته حجّة على الآخرين ، مع اتّخاذه قدوة وأُسوة لهم في كلّ شيء وغير ذلك من الثمرات المتفرّعة عن مسألة العصمة.

ونجد القرآن الكريم يقرّر ثبوت العصمة المطلقة للأنبياء عليهم‌السلام من خلال آيات عديدة سنقف عندها في مقام آخر من هذا البحث في غير مورد ، ولابدّ لنا قبل ذلك من الوقوف على الدلالات اللغوية والاصطلاحية للعصمة قبل الإلمام في إطارها الموضوعي في ضوء المنظور القرآني.

العصمة في اللغة والاصطلاح :

العصمة لغة :

حينما يتعرّض اللغويون لبيان حقيقة العصمة فإنّهم يؤكّدون في حقيقتها

٩

على أصل الامتناع الذي نجده يتكرّر في مختلف صيغها واستخداماتها.

قال ابن فارس ( ت / ٣٩٥ ه‍ ) : ( عصم أصل واحد صحيح يدلُّ على إمساك ومنع وملازمة ، والمعنى في ذلك كلّه واحد ، من ذلك أن يعصم الله عبده من سوء يقع به ، واعتصم العبد بالله تعالى إذا تمنّع ) (١).

وقال الراغب الأصبهاني أبو القاسم الحسين بن أحمد ( ت / ٥٦٥ ه‍ ) : ( العصم الإمساك ، والاستعصام الاستمساك ) (٢).

وجاءت العصمة في كلام العرب بمعنى المنع (٣).

ولذا قال ابن منظور أبو الفضل جلال الدين ( ت / ٧١١ ه‍ ) : ( والعاصم المانع الحامي ) (٤).

وعلى هذا فالأصل اللغوي في العصمة هو المنع والحفظ والوقاية من الوقوع في ما فيه منافٍ لتحقّق الغرض ، لأنّ العصمة عندنا هي النزاهة من المعصية والخطأ والسهو والنسيان والاشتباه من أول العمر إلى آخره وفي جميع الشؤون.

العصمة اصطلاحاً :

للمذاهب الإسلاميّة في المعنى الاصطلاحي للعصمة أقوال مختلفة وآراء متباينة وكلٌّ يعرّفها وفق مبتنياتهِ واعتقاده وسنقف هنا باختصار عند تلك الآراء.

أوّلاً ـ العصمة عند الإماميّة :

ذهب الشيخ المفيد رحمه‌الله ( ت / ٤١٣ ه‍ ) إلى القول بأنّها « لطف يفعله الله تعالى بالمكلّف ، بحيث تمنع وقوع المعصية ، وترك الطاعة ، مع قدرته

___________

(١) معجم مقاييس اللغة / ابن فارس ٤ : ٤٣٢ ( عصم ).

(٢) مفردات ألفاظ القرآن الكريم / الراغب الأصبهاني : ٥٦٨ ( عصم ).

(٣) مختار الصحاح / أبو بكر الرازي : ٤٣٧ ( عصم ).

(٤) لسان العرب / ابن منظور ١٢ : ٤٠٣ ( عصم ).

١٠

عليها » (١).

وكذا هي لطف من الله يترتّب عليه الوثوق بقول المعصوم عليه‌السلام ولذا اعتبرها العلّامة ابن المطهّر الحلّي رحمه‌الله ( ت / ٧٢٦ ه‍ ) : ( لطف خفي يفعله الله تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك ، لأنّه لولا ذلك لم يحصل الوثوق بقوله فانتفت الفائدة من البعثة وهو محال ) (٢).

وفي الصراط المستقيم أكّد الشيخ زين الدين العاملي على اتّصافهم عليهم‌السلام بالعصمة عن كلّ نقيصة من أوّل عمرهم (٣).

ومن هنا قالوا : « وليس معنى العصمة أنّ الله يجبره على ترك المعصية بل يفعل به ألطافاً ، يترك معها المعصية ، باختياره مع قدرته عليها » (٤).

ويضيف السيّد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه‌الله أبعاد أُخرىٰ مهمّة على معنى العصمة من خلال ارتباطها بالرسالة في إطارها الشمولي فيقول : « العصمة عبارة عن الانفعال الكامل بالرسالة والتجسيد الكامل لكلّ معطيات تلك الرسالة في النطاقات الروحيّة والفكريّة والعمليّة » (٥).

وهذه التعريفات والدلالات التي اعتمدها متكلّمو الإماميّة نجدها قد اشتقّت من الأُصول والآثار الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام (٦).

___________

(١) النكت الاعتقادية / الشيخ المفيد ١٠ : ٣٧.

(٢) شرح الباب الحادي عشر / المقداد السيوري : ٦٣.

(٣) ظ : الصراط المستقيم / النباطي العاملي ١ : ٥٠.

(٤) حق اليقين / السيد عبدالله شبر ١ : ٩٠.

(٥) أهل البيت عليهم‌السلام تنوع أدوار ووحدة هدف / السيد الشهيد محمد باقر الصدر رحمه‌الله : ٤٧.

(٦) ظ : معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ١٣٢.

١١

ومن ذلك ما رواه الشيخ الصدوق رحمه‌الله بإسناده إلى الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام عن أبيه ، عن جدّه ، عن علي بن الحسين عليه‌السلام قال : « الإمام منّا لا يكون إلّا معصوماً .. فقيل يا بن رسول الله فما معنى المعصوم ؟ فقال : هو المعتصم بحبل الله ، وحبل الله هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة : والإمام يهدي إلى القرآن ، والقرآن يهدي إلى الإمام ، وذلك قول الله تعالى : ( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (١) » (٢).

وأيضاً بإسناده إلى هشام بن الحكم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك ( أي معنى الإمام لا يكون إلّا معصوماً ) فقال : المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله ، وقد قال الله تعالى : ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (٣) » (٤).

ثانياً ـ العصمة عند المعتزلة :

يرى بعض المعتزلة أنّ العصمة راجعة إلى اللطف فيكون المعنى ، عصمهُ حين يمنع معه وقوع فعل المعصية على وجه الحكم ، وهذا النوع من اللفظ خاصّ بالأنبياء عليهم‌السلام ، يقول القاضي عبدالجبّارالمعتزلي ( ت / ٤١٥ ه‍ ) ( والأسامي تختلف عليه فربما يسمّى توفيقاً وربما يسمّى عصمة إلى غير ذلك ) (٥).

لذلك فهو يُعرّف العصمة بأنّها : ( عبارة عن لطف يقع معه الملطوف فهي لا محالة حتّى يكون المرء معه كالمدفوع إلى أن لا يرتكب الكبائر ، ولهذا

___________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٩.

(٢) معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : ١٣٢ / ٢.

(٣) سورة آل عمران : ٣ / ١٠١.

(٤) معاني الأخبار : ١٣٢.

(٥) شرح الأُصول الخمسة / القاضي عبد الجبار المعتزلي : ٥١٩.

١٢

لا يطلق إلّا على الأنبياء أو من يجري مجراهم ) (١).

ولمّا كانت البعثة لطفاً للمكلّفين فيما يراه المعتزلة فيجب أن تحصل في أتمّ صورة من صور الكمال ، وهذا يقتضي أن تتحقّق في المبعوث صفات معيّنة كالنزاهة عن جميع المنفرات سواء الصغير منها أو الكبير.

ولذا يقرّر المعتزلة أنّه لابدّ له تعالى من « أن يجنّب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما ينفر عن القبول منه ، لأنّه لو لم يجنّبه عن مثل هذه الحالة لم يقع القبول منه ، ولأنّ المكلّف لا يكون أقرب إلى ذلك إلّا على ما قلناه ، فيجب أن يجنّبهم الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الغلظة والفظاظة وذكر علّته ، قال تعالى : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) (٢) » (٣).

ثالثاً ـ العصمة عند الأشاعرة :

وأمّا الأشاعرة فيرى العلّامة الحلّي أنّهم يجوّزون على الأنبياء الصغائر والكبائر إلا الكفر والكذب (٤).

فلذا تكون العصمة ثابتة عندهم بعد البعثة دون قبلها ، ومن الذنوب كلّها ما عدا السهو والخطأ ، وجائز عليهم الذنب قبل البعثة.

يقول البغدادي : فقد سها نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلاته حين سلّم في الركعتين ثمّ بنى عليها وسجد سجدتي السهو ، فقال النظام (٥) : إنّ ذنوبهم على السهو والخطأ مأخوذة لما وقع منهم من هذه الجهة وإن كان ذلك موضوعاً عن أُممهم

___________

(١) شرح الأُصول الخمسة : ٧٨٠ ، والمغني / القاضي عبدالجبارالمعتزلي ١٣ : ١٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٥٩.

(٣) شرح الأُصول الخمسة : ١٠٥.

(٤) ظ : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد / العلّامة الحلي : ٣٧٦.

(٥) الانتصار / الخياط أبو الحسن عبد الرحيم المعتزلي : ٩٣.

١٣

وإنّما يصحّ عصمتهم على أُصولنا إذا قلنا إنّ الله أقدرهم على الطاعة دون المعاصي وصاروا بذلك معصومين عن المعاصي (١) فقد كان الأنبياء جميعاً قبل بعثتهم مؤمنين بالله موحّدين ، أمّا بالأدلّة العقليّة أو على شريعة من قبلهم ، ولقد كان الرسول قبل بعثته متابعاً ملّة إبراهيم عليه‌السلام (٢).

وعند التأمّل قد نجد المذهب عند محقّقي الأشاعرة منع الكبائر والصغائر الخسيسة بعد البعثة مطلقاً ، والصغائر غير الخسيسة عمداً لا سهواً (٣).

ويذهب البغدادي إلى أنّ الأنبياء جميعهم معصومون من الذنوب كلّها بعد البعثة لا قبلها ، وأمّا السهو والخطأ فجائز عليهم (٤).

ولذا يرى أحمد صبحي أنّ المعتزلة أشدّ نزاهة من الأشاعرة في الموقف تجاه عصمة الأنبياء ، ويستغرب من انتقاد البغدادي لهم مع أنّهم لم يثبتوا للنبي أي ذنبٍ على سبيل الخطأ في التأويل ، ويتعجب من ردّه قولهم : انّ الله قد حصّنهم من الذنوب (٥).

ومن مراجعة سائر الأقوال المتقدّمة ومقارنتها مع ما سيأتي في الفصل الأول يعلم وجه الحق في أي منها ومقدار ما يمتلكه كل فريق من المعرفة بخطورة وعظمة مقام النبوة ومنزلتها الرفيعة في بناء فكر الإنسان وعقيدته.

___________

(١) أُصول الدين / عبد القاهر البغدادي : ١٦٩.

(٢) في علم الكلام ، دراسة فلسفية لآراء الفرق الإسلامية / أحمد صبحي : ٥٥١.

(٣) شرح المواقف / الجرجاني ٨ : ٢٦٥.

(٤) أصول الدين / البغدادي عبد القاهر : ١٦٥.

(٥) في علم الكلام / أحمد صبحي : ٥٥١.

١٤



الفصل الأول

أدلّة العصمة المطلقة من القرآن الكريم

قبل محاولة طرح نماذج من الأدلّة القرآنية الدامغة للعصمة المطلقة للأنبياء عليهم‌السلام لابدّ من بيان أمر ، فقد يدّعى أن العصمة والبحث فيها ليست من الأفكار التي طرحها القرآن الكريم ، بل هي مسألة ترجع في جذورها إلى الاختلافات التي نشبت بين علماء الكلام في المسائل الاعتقادية ، وفي ضوء هذه الدعوى نستطيع أن نقرّر بأن الأمر ليس كما ذُكر ، إذ يكفي في ردّها القول إنّ القرآن الكريم قد صرّح بمسألة العصمة ونصّ عليها في غير مورد ، وهو ما نحن بصدد بيانه بعرض نماذج من الآيات الداعمة لذلك.

الآية الأُولى :

قال تعالى : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (١).

الآية المباركة واضحة الدلالة على الملازمة بين الحقّ وبين الهادي إليه وهي تدلّ على ذلك ، قال الرازي : ( لأنّه لا يخلو زمان ألبته عمّن يقوم بالحقّ ، ويعمل به ويهدي إليه ، وأنّهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل ...) (٢).

___________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨١.

(٢) مفاتيح الغيب / الفخر الرازي ١٥ : ٦٠.

١٥

ومن كان بهذه الصفات لابدّ أن يكون معصوماً مخلصاً كي يكون أهلاً للاقتداء.

ولذا نجد القرطبي يوافق الرازي في دلالة الآية على الهادي للحقّ فقال : ( دلّت الآية على أنّ الله تعالى لا يخلي الدنيا في وقت من الأوقات من داعٍ يدعو إلى الحقّ .. ) (١).

ونستطيع أن نستنتج من هذا بأنّ هذه الأُمّة هي آخر الأُمم وأنّه لابدّ أن يبقى منها من يقوم بأوامر الله مع قيام الدنيا وأنّه الهادي والداعي إلى الحقّ ، وما ذكره الرازي والقرطبي اعتراف منهما بما تقوله الإمامية من وجود الإمام المهدي عليه‌السلام حجّة الله تعالى على أرضه ، وإلّا فمن هو الحجّة غيره يا ترىٰ ؟!

وقال السيّد الطباطبائي رحمه‌الله : إنّها ( تدلُّ على أنّ النوع الإنساني يتضمّن طائفة قليلة أو كثيرة مهتدية حقيقية ، إذ الكلام في الاهتداء والضلال الحقيقيين المستندين إلى صنع الله ومن يهدي الله فهو المهتدي ، ومن يضلّل فأُولئك هم الخاسرون ، والاهتداء الحقيقي لا يكون إلّا عن هداية حقيقية ، وهي التي لله سبحانه ) (٢).

ثمّ يقول : ( إنّ الهداية الحقيقيّة الإلهيّة لا تختلف عن مقتضاها بوجه وتوجب العصمة من الضلال ) (٣).

فالذي يهدي بالحقّ وبه يعدل لابدّ أن يكون معصوماً في جميع الأزمنة ، ولا يمكن بناءً على هذا أن يظهر المصداق لهذهِ الآية المباركة إلّا على ما نقول

___________

(١) الجامع لأحكام القرآن / القرطبي ٤ : ٢٥٥.

(٢) الميزان / السيد الطباطبائي ٨ : ٣٤٥.

(٣) المصدر نفسه.

١٦

بأنّ الله تعالى لا يخلي أرضه من حجّة له على عباده إما ظاهراً مستوراً أو خائفاً مقهوراً.

جدير بالذكر أنه روى حمران بن أعين ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (١) فقال عليه‌السلام : « هم الأئمّة » (٢).

وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان الثقة ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، مثله سواء (٣).

كما روى هذا المعنىٰ إسحاق بن غالب ، عن الإمام الصادق عليه‌السلام أيضاً (٤).

الآية الثانية :

قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٥).

يستطيع المتتبّع لألفاظ الآية المباركة وخصوصاً عند الوقوف على مفردة ( اصطفى ) أن يستنتج من خلالها عصمة الأنبياء ونفي كلّ لون من ألوان العتب واللوم عنهم الأمر المؤيد بسائر المعاجم اللغوية في بيانها معنى الاصطفاء ، وهو ما ذهب إليه الشيخ الطوسي رحمه‌الله (٦).

___________

(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨١.

(٢) بصائر الدرجات : ٥٦ / ٨ باب (١٧).

(٣) أصول الكافي ١ : ٤١٤ / ١٣ باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية من كتاب الحجّة.

(٤) أصول الكافي ١ : ٢٠٣ / ٢ باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته عليه‌السلام من كتاب الحجّة.

(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣.

(٦) التبيان / الشيخ الطوسي٢ : ٤٤١.

١٧

وقال العلّامة الطبرسي : ( الاصطفاء والاجتباء والاختيار نظائر ، وهو افتعال من الصفوة وهذا من أحسن البيان الذي يمثّل به المعلوم المرئي ، وذلك أن الصافي هو النقي من شوائب الأدناس ) (١).

ثمّ ينتقل إلى تحديد المعنى المراد من الآية انطلاقاً من هذه الدلالة اللغوية فيقول : ( ويجب أن يكون الذين اصطفاهم الله تعالى مطهّرين معصومين منزّهين عن القبائح لأنّه تعالى لا يختار ولا يصطفي إلّا من كان كذلك ويكون ظاهره مثل باطنه في الطهارة والعصمة ، فعلى هذا يختصّ الاصطفاء بمن كان معصوماً من آل إبراهيم وآل عمران سواء كان نبيّاً أو إماماً ) (٢).

وما يقارب هذا المعنى من دلالة الآية على العصمة المطلقة لهم عليهم‌السلام ما ذكره الشيخ الطبرسي في جوامع الجامع (٣).

ويرى بعد ذلك أنّ دلالة الآية على الاصطفاء ذات وجهين فيقول : ( إحداها : إنّه اصطفاه لنفسه ، أي : جعله خالصاً له يختصّ به.

الثاني : إنّه اصطفاه على غيره ، أي : اختصّه بالتفضيل على غيره ) (٤).

وأشار السيد عبد الله شبر رحمه‌الله إلى عصمتهم عليهم‌السلام من خلال الاصطفاء في الآية المباركة حيث يرى أنّ الله تعالى اصطفاهم ( بالنبوة والإمامة

___________

(١) مجمع البيان / العلّامة الطبرسي ٢ : ٤٥٤.

(٢) مجمع البيان ٢ : ٥٥٥.

(٣) جوامع الجامع / العلّامة الطبرسي ١ : ١٦٩.

(٤) مجمع البيان ٢ : ٥٥٥.

١٨

والعصمة ... ) (١).

وهذه واضحة الدلالة على كون المراد في الآية الكريمة هي عصمتهم عليهم‌السلام حيث كانوا مبرّئين من كلّ عيب ونقص وذنب.

ويرى الإمامية أنّ معنى الاصطفاء في الآية اختيار وانتخاب للنبوّة والإمامة وما فيها من الخصائص الروحانية والعصمة والكمالات والفضائل ، وما يلازمها من الصفات الخيرة الجسمانية والروحية والخلقية (٢).

هذا مع كون الاصطفاء محصوراً بمن كان معصوماً من آل إبراهيم وآل عمران بلا فرق بين كونهما أنبياء أو أئمّة.

فمن كانت هذه صفاته كيف يتصوّر أن يكون غافلاً عن ذكر الله مائلاً إلى شهواته ، أضف إلى ذلك انّ التسديد الإلهي لأنبيائه ورسله مانعاً باختيار منهم من الاقتراب من كلّ ذنب وخطيئة مهما كان حجمه ونوعه وهو عين إطلاق العصمة لهم عليهم‌السلام.

ومن روائع الأحاديث الصحيحة الواردة في خصوص الآية الشريفة المذكورة ما رواه الريان بن الصلت في خبر طويل عن أبي الحسن الإمام الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون العباسي جاء فيه :

« فقال المأمون : هل فضل الله العترة على سائر الناس ؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم

___________

(١) تفسير القرآن الكريم / السيد عبد الله شبّر ١ : ٥٤.

(٢) ظ : التفسير الجديد / السبزواري ٢ : ٤٤ ـ ٤٥ ، ومقتنيات الدرر / مير سيد علي الحائري ٢ : ١٨٥ ، والجوهر الثمين / السيد عبد الله شبر ٣ : ٣١٣.

١٩

كتابه.

فقال له المأمون : وأين ذلك من كتاب الله ؟

فقال له الرضا عليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .. » (٢).

وفي الخبر أنّ رجلاً أقبل يوم عاشوراء من معسكر عمر بن سعد لعنه الله إلى الإمام الحسين فقال : « يا حسين بن فاطمة : أي حرمة لك من رسول الله ليست لغيرك ؟ فتلا الإمام الحسين عليه‌السلام هذه الآية : ( إِنَّ اللهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) ثمّ قال : والله أن محمداً لمن آل إبراهيم وان العترة الهادية لمن آل محمد ، من الرجل ؟ فقيل : محمد بن الأشعث بن قيس الكندي .. » (٣).

الآية الثالثة :

قال تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٤).

تدلّ الآية المباركة على إطلاق العصمة وإن أخذ سياقها القرآني منحى الإمامة باعتبار العهد الذي لا يناله من وسمّ بالظُلمِ ، حيث إنّها جاءت بعد

___________

(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ / ١ باب (٢٣).

(٣) روضة الواعظين / الفتال النيسابوري : ١٨٥.

(٤) سورة البقرة : ٢ / ١٢٤.

٢٠