منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في عدم صحة التعبد بالجعل. فنقول : ان التعبد والاعتبار انما يطرأ على الأمور الاعتبارية التي يكون وجودها بالجعل والاعتبار ولا يتعلق بالأمور التكوينية الخارجية ، فانها لا تقبل الجعل. ومن الواضح ان الجعل والاعتبار الصادر من المولى انما هو فعل تكويني للمولى ومن أفعاله الاختيارية النفسيّة التي لها وجود واقعي وليس من الأمور الاعتبارية. نعم ما يتعلق به الاعتبار من الأحكام الشرعية يكون اعتباريا ، وإذا كان الاعتبار كذلك امتنع ان يكون موردا للتعبد والاعتبار. وعليه فإذا فرض ان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد بوجود المتيقن بقاء ، لم يشمل الجعل ، ولا معنى لجريان الاستصحاب فيه.

وبالجملة : استصحاب الجعل بهذا المعنى مما لا محصل له.

واما استصحاب بقاء الجعل في مورد الشك في النسخ ، فهو اما ان يرجع إلى التمسك بإطلاق الدليل الدال على الحكم بالنسبة إلى الزمان الممتد ، وتكون تسميته بالاستصحاب مسامحة. واما ان يرجع إلى استصحاب المجعول التعليقي لا الفعلي ، الّذي سيأتي البحث عنه في محله.

نعم ، بناء على ما قربنا به شمول دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية ـ من : ان الدليل لا يتكفل التعبد بالمتيقن ابتداء وانما يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن معاملة الباقي الثابت ، ويكون ذلك إرشادا إلى ثبوت التعبد في كل مورد بحسبه ـ أمكن دعوى شمول الدليل للجعل ، ويكون لازمه ثبوت التعبد بالمجعول ، لا التعبد بالجعل ، فتكون نسبة المجعول إلى الجعل نسبة الحكم إلى الموضوع المستصحب ، فكما ان مقتضى شمول عموم : « لا تنقض » للموضوع المتيقن التعبد بحكمه ـ كما عرفت ـ ، لأنه هو القابل للتعبد دون الموضوع ، كذلك مقتضى شموله للجعل المتيقن هو التعبد بالمجعول ، فانه لازم للزوم معاملة

٨١

الجعل معاملة البقاء بعد عدم إمكان التعبد بالجعل نفسه. فتدبر.

المقام الثاني : في عدم صحة التعبد بعدم الجعل. فنقول : بناء على ما عرفت من عدم قابلية الجعل للتعبد والاعتبار لكونه فعلا تكوينيا للمولى ، وان دليل الاستصحاب تكفل التعبد رأسا بالمتيقن السابق. يكون امتناع التعبد بعدمه من الواضحات ، إذ ما لا يقبل الوضع الشرعي لا يقبل الرفع.

واما بناء على تقريب شمول الدليل للجعل على المسلك الّذي سلكناه في تعميم الاستصحاب للشبهة الموضوعية ، فالدليل أيضا لا يشمل عدم الجعل.

وذلك لأن غاية ما يمكن ان يقال في شمول الدليل له : ان المدلول المطابقي لعموم : « لا تنقض » هو حرمة النقض العملي ولزوم معاملة المتيقن السابق معاملة الباقي ، وهذا لا مانع من شموله لعدم الجعل ، ويكون إرشادا إلى ثبوت التعبد في مورده بما يناسبه ، ولا يمكن ان يكون المتعبد به هو عدم الجعل ، لما عرفت انه غير قابل للتعبد ، فلا بد ان يكون التعبد متعلقا بعدم المجعول ، فاستصحاب عدم الجعل يفيد التعبد بعدم المجعول ـ يعني : عدم التكليف ـ.

ولكن التحقيق ان التعبد بعدم التكليف غير صحيح.

وهذا مطلب برأسه يبحث عنه مع قطع النّظر عن استصحاب عدم الجعل ، بل يسري إلى استصحاب عدم المجعول أيضا الّذي يذكر في باب البراءة ، كما تقدم بيانه والمناقشة فيه.

فيقع الكلام في ان عدم التكليف هل يمكن التعبد به وتعلق الجعل به أو لا؟.

وبتحقيق هذه الجهة يظهر الحال فيما نحن فيه : نقول : ان ظاهر الشيخ ( رحمة الله ) في مبحث البراءة عدم صحة تعلق التعبد بعدم التكليف لأنه غير اختياري (١).

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٨٢

ورد : بأنه بعد ان كان التكليف بيد الشارع كان عدمه كذلك لأن نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم على حد سواء. وعليه فعدم التكليف بيد الشارع ، ولا يعتبر في المستصحب إلاّ ان يكون أمرا بيد الشارع (١).

ولكن التحقيق : ان ما يمنع من التعبد بعدم التكليف أمر وراء ذلك ، وما ذكرناه من الإشكال فيه وجوابه لا يرتبطان بحقيقة المانع. بيان ذلك : ان اعتبار عدم التكليف والتعبد تارة يكون واقعيا. وأخرى يكون ظاهريا.

فان كان واقعيا ، بان اعتبر الشارع عدم التكليف في الواقع ، وجعل عدمه واقعا. فلا يخلو الحال اما ان يكون التكليف ثابتا في الواقع. أو لا يكون ثابتا في الواقع. فعلى الثاني : يلغو جعل العدم ، إذ مجرد جعل التكليف في الواقع يكفي في تحقق عدم التكليف وترتب الأثر عليه ، بلا حاجة إلى اعتبار العدم فانه مئونة زائدة.

وعلى الأول : يكون من الجمع بين الضدين نظير ما يقال في جعل الوجوب والحرمة واقعا لموضوع واحد في آن واحد ، فان جعل عدم التكليف وجعل التكليف يكونان متضادين (٢) بلحاظ الآثار المترتبة عليهما وبلحاظ المبدأ لكل منهما.

وان كان ظاهريا ..

فتارة : يراد به جعل العدم ظاهرا ، فهو مضافا إلى عدم ترتب الأثر عليه من التعذير والتأمين عن العقاب ، إذا المدار في ذلك على عدم التكليف واقعا ، فانه لا يحتاج إليه فانه يكفي عنه مجرد عدم جعل التكليف في الظاهر.

وأخرى : يراد به جعل عدم التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر ـ يعني

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ٢٥٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) لا متناقضين ، لأن جعل العدم وجعل الوجود أمران وجوديان ، نعم التكليف وعدمه متناقضان ، فالتفت.

( منه عفي عنه )

٨٣

يجعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي ، كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع ـ ، وهو غير صحيح أيضا ، لأن التكليف الواقعي ان لم يكن له ثبوت كفى عدمه في ترتب الآثار بلا حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر. وان كان له ثبوت فاما ان لا يترتب عليه أثر عقلي وجودي في مقام الشك ، بحيث يحكم العقل بالمعذورية والأمان من العقاب ، فلا أثر لجعل العدم ، إذ غاية ما يراد به هو إثبات المعذورية ، والمفروض انها ثابتة عقلا مع قطع النّظر عن جعل العدم. واما ان يترتب عليه أثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته ولزوم الإتيان بمتعلقه في ظرف الشك ، امتنع جعل العدم لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط ـ نظير موارد العلم الإجمالي ـ.

نعم لو كان الحكم العقلي بالاحتياط تعليقيا لا تنجيزيا بحيث يرتفع باعتبار الشارع عدم التكليف ، كان جعل العدم ذا أثر عملي ، لكن الأمر ليس كذلك ، فان حكم العقل بالاحتياط في موارده يكون تنجيزيا لا تعليقيا ، فيتحقق التنافي بين جعل التكليف الواقعي وجعل عدمه ظاهرا من حيث الأثر العملي العقلي ، فلا يصح الجمع بينهما.

وبهذا البيان تعرف ان ما أجيب به عن إشكال الشيخ من اختيارية العدم وكونه تحت القدرة لا يحل المشكلة في جعل العدم ـ وان فرض انه بيد الشارع ، ـ وهي اما اللغوية أو لزوم الجمع بين الضدين.

وكيف كان ، فقد ظهر انه لا معنى محصل للتعبد بعدم الجعل وشمول دليل الاستصحاب له ، وبذلك يتحقق إيراد ثان على الفاضل النراقي ومن تبعه في مدعاه. فتدبر.

الجهة الثالثة : في ان الجعل هل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول سعة وضيقا أو لا ، يختلف الحال فيه ، بل يكون بنحو واحد سواء كان المجعول واسعا أم ضيقا؟. توضيح ذلك : ان الحكم المجعول لا إشكال في اتساع دائرته

٨٤

وضيقها باتساع دائرة متعلقه وضيقها ، فالوجوب المجعول للجلوس من الزوال إلى الغروب أضيق دائرة من الوجوب المجعول للجلوس من الزوال إلى نصف الليل ، فيقال : ان الجعل هل يتسع بسعة المجعول ويضيق بضيقه ، نظير بعض الاعراض الخارجية العارضة على الجسم كالبياض ، فانها تزيد بسعة الجسم وتضيق بضيقه ، ونظير التصور بالنسبة إلى المتصور ، فانه يزيد بسعة المتصور ويضيق بضيقه؟ أو ان الجعل لا يختلف سعة وضيقا بسعة المجعول وضيقه ، بل يكون على كلا التقديرين بحد واحد. وأثر ذلك فيما نحن فيه واضح ، فانه إذا كان كنفس المجعول مما تتسع دائرته وتضيق ، فمع الشك ـ فيما نحن فيه ـ في سعة المجعول وامتداده في الزمان المشكوك ، يشك في زيادة الجعل ، فيمكن ان يستصحب عدمه ـ مع قطع النّظر عما تقدم من الإيرادات ـ. اما إذا لم يكن مما يختلف سعة وضيقا ، فلا شك فيما نحن فيه في زيادة الجعل ، كما ان وجوده معلوم ، وانما الشك في كيفيته وانه بما ذا تعلق ، وهذا مما لا يمكن ان يجري فيه الأصل ، إذ لا حالة سابقة له ، فلا يبقى مجال لجريان أصالة عدم الجعل.

اذن فجريان أصالة عدم الجعل يبتني على الالتزام بسعة الجعل وضيقه لسعة المجعول وضيقه ، كي تكون زيادة الجعل مشكوكة الحدوث بسبب الشك في سعة المجعول واستمراره ، فتكون مجرى لأصالة العدم.

وتحقيق الحال في ذلك يبتني على ما يلتزم به في معنى الإنشاء ، وعمدة المسالك فيه ثلاثة :

الأول : انه عبارة عن مجرد التسبيب لتحقق الاعتبار العقلائي في ظرفه. وبعبارة أخرى : انه عبارة عن استعمال اللفظ في المعنى بداعي تحقق اعتباره من قبل العقلاء في ظرفه المناسب له ، فلا يصدر من المنشئ سوى الاستعمال بالقصد المزبور. وهذا هو المشهور في معنى الإنشاء.

الثاني : انه عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار

٨٥

العقلائي أو الشرعي في ظرفه ، فما يصدر من المنشئ هو الاستعمال بقصد تحقق وجود إنشائي للمعنى يترتب عليه الاعتبار العقلائي عند وجود موضوعه وهذا مختار صاحب الكفاية (١).

وقد قربناه بما لا مزيد عليه ، فراجع مبحث الإنشاء ـ من مباحث القطع والأوامر ـ.

الثالث : انه عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ الشخصي ، بدعوى ان للمنشئ اعتبارا شخصيا يكون موردا للآثار العقلائية إذا أبرز بمبرز من لفظ أو غيره. وهذا ما ذهب إليه بعض المتأخرين (٢).

وقد نفينا صحته في محله فراجع.

ولا يخفى انه بناء على المسلك الأخير ، يكون الجعل مما يختلف سعة وضيقا بسعة المجعول وضيقه. وذلك لأن مرجع الجعل إلى الاعتبار الشخصي الصادر من المعتبر. ومن الواضح ان الاعتبار في السعة والضيق يتبع الأمر المعتبر ، فان نسبته إليه نسبة التصور إلى المتصور والموجود ، فمع سعة الأمر الاعتباري يتسع الاعتبار ومع ضيقه يضيق.

وهكذا الحال بناء على المسلك الثاني ، فان مرجع الجعل إلى إيجاد الحكم بوجود إنشائي ، ومن الواضح اتساع دائرة الوجود وضيقها باتساع دائرة الموجود وضيقه.

واما على المسلك الأول المشهور ، فلا يكون الجعل مما يقبل السعة والضيق بسعة المجعول وضيقه ، لأن الجعل هو الاستعمال بقصد تحقق الاعتبار في ظرفه من قبل من بيده الاعتبار. ومن الواضح ان المستعمل فيه لو كان مفهوما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٦٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) التوحيدي محمد على. مصباح الفقاهة ٢ ـ ٥١ ـ الطبعة الأولي.

٨٦

اسميا يقبل السعة والضيق بان ينشئ الوجوب بمفهومه الاسمي ، أمكن ان يتأتى فيه البيان المزبور ، فيقال : ان الاستعمال يرجع إلى جعل اللفظ مرآتا وحاكيا عن المعنى ، والحكاية تتسع وتضيق بسعة المحكي وضيقه ، فمع الشك في زيادة الحكاية للشك في سعة المحكي تكون مجرى لأصالة العدم.

ولكنه غالبا يكون الإنشاء بالصيغة ، وهي لا تتكفل إنشاء الوجوب بمفهومه الاسمي القابل للسعة والضيق ، بل بالمفهوم الحرفي الّذي ليس له إلاّ نحو واحد ، وهو المعبر عنه بالوجود الرابط الّذي لا يقبل السعة والضيق ، فلا يتصف الإنشاء بهذا المعنى بالسعة والضيق ، بل له وجود واحد مردد بين نحوين متباينين ، فلا مجال حينئذ لأصالة العدم فيه بعد كون الشك في كيفية ، وانه تعلق بهذا أو بذلك لا في أصل وجوده.

وليس الإنشاء نفس القصد القلبي المزبور ، كي يقال انه مما يقبل السعة والضيق بملاحظة متعلقه ، بل القصد مأخوذ في الإنشاء قيدا ، بمعنى ان الإنشاء هو الاستعمال الخاصّ ، وهو المقترن بالقصد ، لا انه هو نفس القصد.

وإذا عرفت ذلك ، تعرف ان كلام النراقي لا يتم بناء على المسلك المشهور في معنى بالإنشاء ، فهذا إيراد ثالث عليه لكنه مبنائي ، بل هو وارد على النراقي نفسه ، إذ لم يكن للمسلكين الآخرين عين ولا أثر في زمانه. فتدبر.

ثم انه مما ذكرناه في هذه الجهة يمكن تصحيح إيراد الشيخ ( رحمة الله ) على النراقي الّذي تقدم نقله ـ في صدر البحث ـ وتقدم الإيراد عليه بأنه غفلة عن محط نظر النراقي في دعوى المعارضة. وذلك بدعوى : ان كلام الشيخ رحمه‌الله يبتني على عدم سعة الجعل بسعة المجعول ، وقد أخذ ذلك في كلامه بنحو المقدمة المطوية.

نعم ، هنا شيء ، وهو : ان الأحكام الواردة على الموضوعات المتعددة المتباينة تستلزم تعدد الجعل ولو كان إنشاؤها واحدا بالصورة ، فحين يقول : « أكرم

٨٧

كل عالم » ينحل إنشاؤه إلى إنشاءات متعددة بتعدد الموضوعات خارجا ، فيتعدد الجعل حقيقة وان كان واحدا صورة.

وعليه ، فيتلخص إيراد الشيخ : في انه ان لوحظ الزمان قيدا ، كان الفعل في كل حصة زمانية موضوعات مستقلا فلا مجال لجريان استصحاب الوجود لتعدد الموضوع ، بل يتعين استصحاب عدم الجعل للشك في حدوثه بالإضافة إلى هذه الحصة المشكوكة. وان لوحظ ظرفا ، كان الحكم الثابت على تقرير استمراره واحدا ، فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل لعدم الشك فيه ، ولا في زيادته لعدم قابليته للسعة والضيق ، بل الشك في كيفيته ، وهي لا تكون مجرى لأصالة العدم كما عرفت ، بل يتعين استصحاب وجود المجعول.

فليس نظر الشيخ إلى وحدة مجرى الاستصحابين كي يورد عليه ـ كما تقدم ـ بان مجراهما مختلف ، بل نظره إلى ان استصحاب عدم الجعل لا مجال له إلاّ إذا لوحظ الزمان قيدا ، ومعه لا مجال لاستصحاب المجعول ، فهو متنبه إلى اختلاف مجرى الاستصحابين.

فالإيراد السابق على الشيخ يمكن ان نقول : أنه ناش عن عدم التأمل في كلامه قدس‌سره فتدبر جيدا. ومنه يمكن تصحيح إيراد الكفاية ، فإنه مأخوذ من كلام الشيخ فراجع.

والّذي تلخص مما تقدم : ان جريان أصالة عدم الجعل وجعلها طرفا لمعارضة أصالة بقاء المجعول امر لا يمكن الالتزام به ، فانه مبتن على مقدمات كثيرة أكثرها محل منع.

وعليه ، فلا مانع من التمسك في الشبهات الحكمية بأصالة بقاء المجعول ـ إذا تمت شرائط الاستصحاب في أنفسها ـ ولا مجال لدعوى معارضته.

ثم انه بناء على الالتزام بجريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب المجعول. فهل يختص ذلك بما كان المجعول المشكوك من الأحكام

٨٨

الإلزامية ، أو يعم ما إذا كان من الأحكام الترخيصية كالإباحة؟.

التزام السيد الخوئي بالاختصاص (١). خلافا لظاهر النراقي حيث التزم بعموم هذا البيان لمطلق موارد الشك في الحكم الشرعي الكلي.

وتحقيق الكلام في المقام ..

انه اما ان يلتزم بان الإباحة ليست من الأحكام المجعولة شرعا ، بل هي منتزعة عن عدم طلب الفعل والترك. وذلك إذ لا أثر عقليا لجعل ما يسمى بإطلاق العنان وتعلق الاعتبار به ، إذ اللاحرجية في الفعل والترك تترتب على مجرد عدم الإلزام بأحدهما بلا ملزم لاعتبار ذلك.

وبالجملة : الأثر العملي العقلي المقصود ترتبه على الإباحة يترتب على مجرد عدم الإلزام بأحد الطرفين وان لم تكن الإباحة مجعولة ، فيكون جعلها لغوا.

واما ان يلتزم بتعلق الجعل بها كالوجوب والحرمة ، كما هو المشهور المتداول على الألسنة من كون الأحكام التكليفية خمسة.

فعلى الأول : لا مجال لاستصحاب عدم جعل الإباحة في الحصة الزمانية المشكوك إباحة الفعل فيها ، إذ الفرض انها غير مجعولة بالمرة. فلا شك في تعلق الجعل بها وعدمه ، بل على هذا لا مجال ـ في الفرض ـ لاستصحاب المجعول وهو الإباحة ، لعدم تعلق الجعل بها كي تستصحب ويتعبد ببقائها ، فيخرج المورد عن محل البحث في استصحاب الأحكام الكلية بل اما ان يرجع في الفرض إلى أصالة عدم الحكم الإلزامي المشكوك ان جرت أصالة العدم ـ كما هو المفروض ، إذ المفروض صحة استصحاب عدم الجعل ـ ، وإلاّ فالمرجع أصالة البراءة ولا مجال للاستصحاب مع الشك في الحلية بتاتا.

واما على الثاني : فلا مانع من جريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب بقاء الإباحة ، إذ بعد فرض كون الإباحة مجعولة فجعلها حادث لا

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٧ ـ الطبعة الأولى.

٨٩

محالة ، سواء كان حدوثه في هذه الشريعة أو من السابق : فإذا شك في تحقق جعل الإباحة ـ في ظرفه أي زمان كان ـ بالنسبة ـ إلى الزمان الخاصّ ، فتجري أصالة عدم الجعل وتعارض استصحاب الإباحة ، كما هو الحال في مورد الأحكام الإلزامية بلا فرق أصلا.

وكما يتأتى هذا الحديث في الأحكام الترخيصية التكليفية ، يتأتى نظيره في الأحكام الوضعيّة اللااقتضائية ، كالطهارة في قبال النجاسة ، فانه ان التزم بعدم جعل الطهارة ، وان حقيقة الطهارة ليست إلاّ عدم النجاسة والقذارة ، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الطهارة في الزمان الخاصّ المشكوك ، بل لا مجال لاستصحاب الطهارة نفسها. وان التزم بجعل الطهارة ، كان استصحاب عدم جعلها معارضا لاستصحاب بقائها بالبيان المتقدم.

بل يأتي هذا الحديث في النجاسة إذا احتمل ان لا تكون مجعولة ، وانها عبارة عن عدم الطهارة. فتدبر جيدا.

وبهذا البيان تعرف ما في تقريرات بحث السيد الخوئي من الإشكال والنّظر ، فلاحظ تعرف ولا حاجة إلى الإطالة. هذا تمام الكلام في هذا البحث.

ويقع الكلام بعد ذلك في سائر نصوص الباب.

فمنها : صحيحة أخرى لزرارة ـ مضمرة أيضا ـ قال : « قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلّمت أثره إلى ان أصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ، ثم اني ذكرت بعد ذلك قال عليه‌السلام : تعيد الصلاة وتغسله. قلت : فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنه قد أصابه فطلبته ولم أقدر عليه ، فلما صليت وجدته؟ قال عليه‌السلام : تغسله وتعيد قلت : فإن ظننت انه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، فصليت فرأيت فيه. قال عليه‌السلام : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت : لم ذلك؟. قال عليه‌السلام : لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك ان

٩٠

تنقض اليقين بالشك أبدا. قلت : فاني قد علمت انه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟. قال عليه‌السلام : تغسله من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك. قلت : فهل عليّ ان شككت في أنه اصابه شيء أن انظر فيه؟. قال عليه‌السلام : لا ولكنك انما تريد ان تذهب الشك الّذي وقع في نفسك. قلت : ان رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟. قال عليه‌السلام : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته. وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة ، لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك » (١).

ومحل الاستشهاد بهذه الرواية فقرتان :

الأولى : قوله عليه‌السلام ـ بعد سؤال زرارة بـ : « لم ذلك » ـ : « لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا ».

والثانية : قوله عليه‌السلام ـ في آخر النص ـ : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ».

وتحقيق الكلام في الفقرة الأولى : ان السائل سأل الإمام عليه‌السلام عن حكم ما إذا ظن بالنجاسة ولم يتيقن بوجودها فنظر فلم ير شيئا ، ثم بعد الصلاة رأى نجاسة. فأجابه عليه‌السلام بعدم لزوم إعادة الصلاة ، وعلله ـ بعد مطالبة السائل بالعلة ـ بقوله : « لأنك كنت ... ».

ولا يخفى ان قول السائل : « فرأيت فيه » يحتمل فيه وجهان :

أحدهما : أنه رأى النجاسة التي ظنها فيها قبل الصلاة بحيث علم بوقوع صلاته مع النجاسة.

والآخر : انه رأى نجاسة لا يعلم انها حادثة بعد العمل أو هي التي ظنها.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ ـ ١٠٦١ ، حديث : ١ و ٢ ـ ١٠٦٣ ، حديث : ١.

٩١

وقد استظهر جلّ الاعلام الوجه الأول ، فحينئذ يكون المراد باليقين والشك في قوله : « كنت على يقين فشككت » ، هما اليقين قبل ظن الإصابة ، والشك الموجود أثناء العمل الّذي يدل عليه قوله : « فان ظننت انه أصابه ولم أتيقن ذلك. ».

وعلى هذا الوجه يشكل تطبيق الاستصحاب في المورد.

وقد تعرض الأعلام ( قدس الله سرهم ) لبيان الإشكال بما لا يخلو عن قصور ، وقد وقع الخلط في كلمات بعضهم كما ستعرف ، وتوضيح الإشكال. وتقريبه هو : ان الإمام عليه‌السلام حكم بعدم وجوب الإعادة وعلله بحرمة نقض اليقين بالشك بنحو يظهر منه ثبوت الحرمة الفعلية للنقض.

وعليه يقال : اما ان يكون الملحوظ في قوله : « فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا » هو حرمة النقض فعلا ، بحيث يراد بيان ثبوت الاستصحاب في حال ما بعد الصلاة ولو كان الموضوع هو اليقين والشك السابقين ، كما هو الظاهر من الرواية. واما ان يكون الملحوظ هو ثبوت الاستصحاب وحرمة النقض في حال الصلاة.

فعلى الأول : يكون ظاهر التعليل ان الإعادة من مصاديق نقض اليقين بالشك ، فتثبت لها الحرمة ، فيكون من التعليل بالكبرى وانطباق العنوان العام الّذي يكون متعلقا للحكم على مورد التعليل ، كما إذا قال : « لا تشرب هذا المائع لحرمة شرب المسكر » ، فانه ظاهر في كون هذا المائع من مصاديق المسكر.

ومن الواضح ان هذا مما لا يمكن الالتزام به ، لأن الإعادة ليست نقضا لليقين بالشك حال الصلاة كي تثبت لها الحرمة ، بل هي نقض لليقين باليقين بوقوع الصلاة مع النجاسة.

وبالجملة : الإعادة لو ثبتت ، فهي من آثار العلم اللاحق بالنجاسة وعمل به ، لا من آثار الشك السابق وعمل به كي يصدق نقض اليقين بالشك.

فعلى هذا التقدير لا يتبين وجه تطبيق كبرى حرمة نقض اليقين بالشك

٩٢

على المورد.

واما على الثاني : وهو ان يراد إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة ـ نظير إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس ـ ، فلا يكون التعليل بالكبرى ، إذ حرمة النقض الثابتة أثناء العمل لا يعقل ان تتعلق بالإعادة بعد العمل ، إذ لا معنى لتعلق الحرمة السابقة بفعل متأخر بحيث لا تكون هناك حرمة في ظرف العمل. فعدم وجوب الإعادة لا يمكن ان يكون من مصاديق كبرى حرمة النقض بقول مطلق ، فلا يكون التعليل من التعليل بالكبرى ، بل الّذي يظهر من التعليل ان الإعادة منافية لحرمة النقض لا انها نقض فتتعلق بها الحرمة.

ومن هنا قد يبدو الربط بين العلة والمعلول مشكلا. وفي مثله قد يكون التعليل مستهجنا بحسب الموازين العرفية.

وتوضيح ذلك : ان التعليل بغير الكبرى يصح في موردين.

أحدهما : التعليل بالصغرى بنحو يكون المحمول في الصغرى منطبقا على موضوع الحكم المعلل ، نظير ان يقال : « لا تشرب الخمر لأنه مسكر فإنه يصح التعليل ولو لم يكن هناك سبق ذهني لثبوت حرمة مطلق المسكر ، بل قد يستفاد الحكم لمطلق المسكر من نفس التعليل. ووقوع ذلك في الاستعمالات كثير.

والآخر : ان تكون هناك مناسبة واضحة بين التعليل والمعلل يعرفها كل أحد ، فانه يصح التعليل ، كما لو قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن فيه أسدا » ، فان العلة لا تنطبق على المعلل ، لكن المناسبة بينهما واضحة ، وهي جهة التحرز عن خطورة الأسد.

ويلحق به ما إذا لم تكن المناسبة واضحة عرفا ، لكنها كانت معلومة لدى المخاطب خاصة ، كما لو قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن فيه زيدا » ، مع سبق معرفة المخاطب بان زيدا يحاول إيذاءه.

٩٣

اما لو لم يكن التعليل بالصغرى ولم تكن هناك مناسبة عرفية واضحة ولا مرتكزة في ذهن المخاطب خاصة بين العلة والمعلول ، فالتعليل مستهجن بحسب موازين المحاورات ، كما إذا قال : « لا تسلك هذا الطريق لأن زيدا مسافر ».

وقد يبدو ما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ ليس هو من التعليل بالصغرى ، ولا من موارد ثبوت المناسبة الواضحة بين العلة والمعلول ، إذ أي مناسبة بين نفى الإعادة والاستصحاب ، ولا ظهور في النص في وجود مناسبة مرتكزة في ذهن السائل خاصة. وإذا كان الأمر كذلك كان التعليل مستهجنا.

ودعوى : ان السائل قد فهم وجود مناسبة ما على الإجمال وان لم يفهم خصوصيتها ، بعد فرض صدور الكلام من متكلم حكيم.

مندفعة : بأنها تتم لو ان الإمام عليه‌السلام تصدى للتعليل تعبدا ، لا ما إذا كان السائل بصدد التعرف على علة الحكم كما هو ظاهر سؤاله : « لم ذلك » المشوب بالتعجب ، فانه لا يصح في مثله ان يعلل بأمر لا يفهم منه شيئا.

وملخص الإشكال : ان التعليل ان كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض بعد الصلاة ، كان ممتنعا لعدم انطباقه على الإعادة. وان كان بلحاظ ثبوت حرمة النقض حال الصلاة ، كان مستهجنا لعدم وضوح ربطه بالحكم المعلل.

ولا يتأتى على هذا التقدير حديث كون الإعادة نقضا باليقين لا بالشك ، لما عرفت من امتناع تعلق الحرمة السابقة بالإعادة ، فلا موضوع لهذا الحديث فلاحظ.

وبهذا البيان للإشكال ، يظهر لك قصور كلام الشيخ (١) في تحرير الإشكال ، فانه نظر قدس‌سره ـ في مقام تحرير الإشكال ـ إلى التقدير الأول خاصة عملا بظاهر الرواية ، ولأجل ذلك استشكل في الرواية بان الإعادة ليست

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣١ ـ الطبعة الأولى.

٩٤

نقضا لليقين بالشك ، بل باليقين. نعم يمكن ان يجري الاستصحاب فيما قبل الصلاة ليصح تعليلا لجواز الدخول في الصلاة.

وعلى هذا الأساس نفى قدس‌سره تصحيح التعليل بان الرواية ناظرة إلى إجزاء الأمر الظاهري. فان ذلك انما يتأتى فيما كان الملحوظ إجراء الاستصحاب بلحاظ حال العمل كي تكون الإعادة منافية لحرمة النقض ، لا ان تكون هي نقضا.

اما إذا كان الملحوظ هو إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل وانكشاف الخلاف فلا مجال لهذا الكلام ، إذ ظاهر التعليل حينئذ كون الإعادة ـ بنفسها نقضا بالشك ـ كما قربناه ـ ، والمفروض انها ليست كذلك ، والالتزام بإجزاء الأمر الظاهري لا يجعل الإعادة نقضا ، كي تنحل المشكلة نعم الإعادة منافية لثبوت الحكم الظاهري بناء على الإجزاء ، وهذا غير كونها منفية بالحكم الظاهري ومتعلقة له كما هو ظاهر النص والتعليل ، فتدبر جيدا.

كما يظهر لك ما في الكفاية من خلط إحدى جهتي الإشكال بالأخرى. وذلك في موضعين :

الأول : في صدر الكلام ، فانه قدس‌سره بعد ما نقل الإشكال المزبور بالنحو المذكور في الرسائل ـ وهو : « ان الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة ليست نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها ، بل باليقين بارتفاعها ، فكيف يصح ان يعلل عدم الإعادة بأنها نقض لليقين بالشك؟ » ، قال : « ولا يكاد يمكن التفصي عن هذا الإشكال إلاّ بان يقال : إن الشرط في الصلاة فعلا حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها ، فيكون قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها ، كما ان إعادتها بعد الكشف تكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب

٩٥

حالها كما لا يخفى » (١).

ولا يخفى انه ان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب فعلا وبلحاظ ما بعد الصلاة ، فأي أثر لكون الشرط هو الإحراز ـ إذ لا إحراز حال العمل بعد فرض كون الاستصحاب بلحاظ حال الفراغ ـ ، وأي ربط له بحل إشكال كون الإعادة نقضا باليقين لا بالشك؟. وان كان ناظرا إلى إجراء الاستصحاب بلحاظ حال الصلاة ـ كما هو ظاهر كلامه بل صريحه ـ ، فما ذكره ليس تفصيا عن الإشكال الّذي ذكره من عدم كون الإعادة نقضا بالشك بل باليقين ، إذ لا موقع لهذا الإشكال على هذا التقدير ولا موضوع له كما عرفت ، وانما الإشكال هو الاستهجان العرفي بعد عدم وضوح الربط بين التعليل والمعلل.

وبالجملة فما أفاده في الجواب أجنبي عن الإشكال الّذي ذكره.

الموضع الثاني : في ذيل الكلام ، فانه قدس‌سره بعد ما انتهى من تحقيق المطلب قال : « ثم انه لا يكاد يصح التعليل لو قيل باقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء كما قيل ـ ، ضرورة ان العلة عليه انما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للاجزاء وعدم إعادتها لا لزوم النقض من الإعادة ... » (٢).

وأنت خبير ـ بحسب ما تقدم ـ ان التفصي بالالتزام بالإجزاء انما هو في مقام رد الإشكال الوارد على تقدير ملاحظة جريان الاستصحاب في حال العمل ، وقد عرفت انه على هذا التقدير لا يراد من التعليل كون الإعادة بنفسها نقضا ، بل منافية لحرمة النقض.

وعليه ، فلا معنى للإيراد عليه بأنه مناف لظهور العلة في كون الإعادة بنفسها نقضا ، المبني على إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٩٦

وجملة القول : ان تحرير الإشكال وجوابه لم يؤد في الكفاية بما يليق وشأنها ووزنها العلمي.

ومن ذلك تعرف ما وقع في كلمات غيره من الخلط بين الجهتين وعدم تمييز إحداهما عن الأخرى ، فراجع.

وكيف كان ، فالمهم هو معرفة ما إذا كان للإشكال الّذي ذكرناه دافع. فنقول : قد عرفت انه ان لوحظ إجراء الاستصحاب بلحاظ ما بعد العمل ، فالإشكال من ناحية امتناع تطبيق العلة على المعلول. وان لوحظ إجراؤه بلحاظ حال العمل ، فالإشكال من ناحية استهجان التعليل به عرفا بعد عدم وضوح الربط بين العلة والمعلول.

والإشكال من الجهة الأولى لا دافع له.

واما الإشكال من الجهة الثانية ، فقد يدفع بوجوه ترجع إلى بيان الربط بين العلة والمعلول :

الوجه الأول : ما أشار إليه الشيخ وصاحب الكفاية من التعليل بثبوت الاستصحاب في حال العمل بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء الثابت في حد نفسه ، فالتعليل يرجع إلى بيان صغرى الإجزاء (١).

وقد تمسك البعض بهذا النص لإثبات قاعدة الإجزاء في الأوامر الظاهرية بقول مطلق.

وهذا الوجه انما يتم لو كانت الملازمة بين الأمر الظاهري والاجزاء واضحة عرفا ، بحيث ينتقل إلى الحكم بمجرد بيان الصغرى ، وليس الأمر كذلك ، فان اقتضاء الأمر الظاهري للاجزاء ليس من الأمور الواضحة ، بل هو من

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣١ ـ الطبعة الأولى.

الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٩٧

الأمور الخفية ، وقد وقع الكلام فيها بين الاعلام.

ومجرد إمكان كون جهة الربط ذلك لا يجدي في رفع الاستهجان العرفي ما لم يكن من الأمور الواضحة كما عرفت.

ولم يظهر من الرواية معلومية ذلك لدى السائل خاصة ، واحتمال معلوميته لديه لا ينفع بعد فرض كون المقام مقام تفهيم وتفهم ، ولم يشر إلى ذلك في النص بقليل ولا كثير ، مع لزوم الإشارة إليه لو فرض كونه هو المصحح للتعليل ، لعدم تمامية التفهيم بدونه. فتدبر.

الوجه الثاني : ما اختاره صاحب الكفاية من : ان الشرط واقعا هو إحراز الطهارة لا نفسها ، فتكون الصلاة مع إحراز الطهارة واجدة للشرط واقعا ، فتكون صحيحة ولا تجب معها الإعادة ، فيكون تعليل عدم وجوب الإعادة بالاستصحاب لأجل انه مع الاستصحاب يتحقق الشرط الواقعي للصلاة ، ويكون وجوب الإعادة منافيا الحكم الشارع بالاستصحاب (١).

ويمكن إرجاع ما ذكره هاهنا إلى ما أفاده في مبحث الإجزاء من كون الشرط الواقعي أعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية ،. ببيان : ان أصالة الطهارة واستصحابها يكونان حاكمين على دليل الشرطية ، فيوسعان دائرة الشرط (٢) وقد قربناه في محله بما لا مزيد عليه.

ويقع الكلام في هذا الوجه من ناحيتين :

الأولى : في صحة هذا الالتزام بنفسه.

والثانية : في معالجته للإشكال المتقدم.

اما الناحية الأولى : أعني صحة الالتزام به في نفسه ، فقد يقال : ان الشرط

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٩٨

الواقعي إذا كان هو إحراز الطهارة لا نفس الطهارة ، لم تكن الطهارة ذات أثر شرعي. وعليه فلا يصح إجراء الاستصحاب فيها ، لأن مجرى الاستصحاب لا بد ان يكون ذا أثر شرعي فكيف تصحح الصلاة باستصحاب الطهارة؟.

ويندفع هذا القول : بان المستصحب انما يعتبر فيه ان يكون ذا أثر شرعي إذا كان من الأمور الخارجية التكوينية كالعدالة ، لعدم قابليته للتعبد إلاّ بلحاظ أثره. واما إذا كان من الأمور الشرعية ، فلا يعتبر فيه ذلك ، لأنه يقبل التعبد بنفسه كالوجوب والحرمة. نعم يعتبر ان يترتب عليه أثر عملي ولو كان عقليا ، كترتب لزوم الإطاعة على استصحاب الوجوب.

ولا يخفى ان الطهارة من الأمور الشرعية ، فهي بنفسها قابلة للتعبد ولو لم تكن بذات أثر شرعي.

نعم ، يلزم ان يترتب على التعبد بها أثر عملي لكي لا يكون لغوا ، ويكفى فيه هاهنا ترتب الاجزاء وواجديّة العمل للشرط الواقعي.

وبالجملة : فهذا الإيراد غير تام لما عرفت.

واما ما أفاده صاحب الكفاية في مقام دفعه فهو غير سديد بكلا وجهيه :

اما الأول : فهو ان الطهارة وان لم تكن شرطا فعلا لكنها شرط واقعي اقتضاء ، فهي ليست منعزلة عن الشرطية بالمرة ، فالشرط الفعلي هو إحراز الطهارة ، واما الطهارة فهي شرط اقتضائي.

وفيه : انه على تقدير الالتزام بالحكم الاقتضائي وتصوره ، فهو لا ينفع في إجراء الاستصحاب ، لأن الحكم الاقتضائي ليس مجعولا شرعيا ، فانه عبارة عن وجود مقتضى الحكم ثبوتا ، وذلك لا يرتبط بالشارع بما هو شارع.

واما الثاني : فهو ان الطهارة وان لم تكن شرطا ، لكنها من قيود الشرط ، إذ الشرط هو استصحاب الطهارة لا استصحاب أي شيء كان. ومن الواضح انه يكفي في الاستصحاب كون المستصحب قيدا لموضوع الأثر الشرعي ،

٩٩

كاستصحاب عدالة زيد في ترتيب الأثر المترتب على العالم العادل (١).

وفيه : انه انما يصح ان يجري الاستصحاب في قيد الموضوع إذا كان قيدا لموضوع واقعي يترتب عليه الأثر مع قطع النّظر عن التعبد ، كالعدالة في المثال المزبور ، فيكون التعبد بلحاظ جعل ذلك الأثر.

وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، إذ موضوع الأثر هو نفس التعبد بالطهارة ، فالطهارة قيد لموضوع الأثر المترتب على نفس التعبد لا في نفسه ، ومع قطع النّظر عن التعبد.

وفي مثله لا يصح التعبد ، إذ لا يصح التعبد بالطهارة بلحاظ جعل الأثر المترتب على نفس التعبد وبعد تحققه في نفسه ، فان مثل هذا الأثر يستحيل ان يكون مصححا كما لا يخفى ، فلاحظ جيدا.

فالعمدة في دفع الإيراد ما ذكرناه.

واما الكلام في الناحية الثانية ـ أعني معالجة ما أفاده قدس‌سره للإشكال المتقدم في الرواية ـ فتحقيقه : ان هذا البيان وان كان موجبا لكون الاستصحاب السابق علة لعدم وجوب الإعادة ، لكنه لا يصحح تعليل عدم الوجوب بالاستصحاب الوارد في الرواية ، لكونه ليس من الأمور الواضحة عرفا التي ينتقل إليها السائل رأسا ، واحتمال معلوميته لدى السائل خاصة مندفع بعدم ظهوره من النص.

فهذا الوجه كسابقه لا يصلح لرفع إشكال الاستهجان العرفي.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان التزم بأن الشرط هو الإحراز لا نفس الطهارة أورد على نفسه بما نصه : « لا يقال : سلمنا ذلك ، لكن قضيته ان يكون علة عدم الإعادة حينئذ بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة هو إحراز

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٠٠