منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

ولا يخفى انه لا يختلف الحال فيما ذكرناه بين الالتزام باختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع أو عمومه لمورد الشك في المقتضي ، فلاحظ.

الجهة الثانية : لو سلم إمكان تعلق النقض باليقين ، فهل هو كذلك إثباتا أو لا؟.

ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى : ان المنهي عنه هو نقض اليقين بما هو ، فالمجعول في الاستصحاب هو اليقين لكن بلحاظ الجري العملي لا بلحاظ المنجزية والمعذرية ، فالفرق بين الأمارات والاستصحاب هو ان المجعول في الأمارات الطريقية والوسطية في الإثبات بلحاظ المنجزية والمعذرية. والمجعول في الاستصحاب هو الطريقية بلحاظ الجري العملي وعلى هذا الأساس بني تقديم الأمارة على الاستصحاب وتقديم الاستصحاب على سائر الأصول ، وجعل الاستصحاب برزخا بين الأمارة والأصول العملية ، وعبر عنه بالأصل المحرز (١).

ولكن ما أفاده قدس‌سره لا يخلو عن بحث أشرنا إليه غير مرة ، ونوضحه فعلا فنقول : ان الالتزام بجعل اليقين بأدلة الاستصحاب مع قطع النّظر عن خصوصية الجري العملي يبتني على مقدمات ثلاث :

المقدمة الأولى : معقولية اسناد النقض إلى اليقين هاهنا وقد عرفت عدم تمامية هذه المقدمة.

المقدمة الثانية : البناء على قابلية اليقين للاعتبار ، مع أنه من الأمور التكوينية ، بمعنى الالتزام بان الأثر الفعلي العملي ـ وهو التنجيز والتعذير ـ يترتب على الوجود الاعتباري لليقين ، كما هو مترتب على الوجود الحقيقي. فيكون اليقين من الأمور القابلة للجعل ، كبعض الأمور التكوينية التي يترتب

__________________

(١) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤١٦ و ٤٩٤ ـ الطبعة الأولى.

٦١

على وجودها الاعتباري بعض الآثار العملية ، كالملكية والطلب ونحو ذلك ، وسيأتي البحث عنه عند التعرض للأحكام الوضعيّة وما هو المجعول منها ، وهذه المقدمة مما يلتزم بها.

المقدمة الثالثة : البناء على ان لفظ اليقين الوارد في النص باق على ظاهره الأولي من موضوعية اليقين ، فيحمل عليه بمقتضى أصالة الظهور. ويمكن المنع عن ذلك ، بدعوى انه ثبت لهذا اللفظ ظهور ثانوي في عدم موضوعية اليقين بما هو ، بل الموضوع هو المتيقن ، ولوحظ اليقين عبرة ومرآة له ، وذلك بملاحظة استعمال ما يشابهه من لفظ الرؤية والتبين والعلم ، مع العلم بان وصف الرؤية وأمثاله لا دخل له في الحكم بما هو ، بل الدخيل هو المتعلق والواقع على واقعه.

وعلى كل ، فإذا تمت جميع هذه المقدمات والتزم بما هو ظاهر الدليل من تعلق الجعل بنفس اليقين ، فيقع الكلام فيما أفاده من تعلقه باليقين بلحاظ الجري العملي ، وهو محل مناقشة ، إذ الجري العملي هو فعل المكلف نفسه ، فالجعل تارة :

يتعلق به نفسه ، فيتعبد بان المكلف قد أتى بالعمل ، فهذا أجنبي عن باب الاستصحاب ، إذ الاستصحاب يستتبع العمل. وأخرى : يتعلق باليقين بلحاظ كونه منشئا للجري العملي واندفاع المكلف ، فالمجعول هو منشئيته للعمل.

ففيه : ان استتباع اليقين للجري العملي بلحاظ ما يترتب عليه من التنجيز ، وإلاّ فلا يندفع المكلف نحو العمل بدونه ، فالجري العملي في طول التنجيز ، فلا يمكن جعل اليقين بلحاظ الجري العملي بلا ملاحظة ترتب التنجيز عليه ، وإذا فرض ملاحظة المنجزية كان المجعول في الاستصحاب هو المجعول في الأمارات.

هذا ، مع انه لو فرض عدم ملاحظة التنجيز في جعل اليقين وأمكن فصل ملاحظة الجري العملي عنه ، لم يترتب التنجيز على الاستصحاب ، فلا تكون مخالفة الحكم الاستصحابي مستلزمة للعقاب. وهذا مما لا يظن الالتزام به من قبله

٦٢

( قدس‌سره ).

هذا كله ، مضافا إلى ان جعل اليقين بلحاظ الجري العملي لا يصحح اسناد مؤدى الاستصحاب إلى الله والفتوى به ، والالتزام به على انه حكم الله تعالى ، لأنه مجهول ولا دليل على إثباته.

وقد أسهبنا الكلام في ذلك في أوائل مبحث الأمارات في بيان ما هو المجعول فيها فلاحظ وتدبر.

ثم انه بعد ظهور عدم تعلق النهي بنقض اليقين حقيقة ، إذ هو خارج عن اختيار المكلف كيف؟ والمفروض انتقاضه بالشك ، فلا بد ان يراد من النقض النقض العملي ، فمرجع النهي إلى النهي عن معاملة اليقين معاملة المنتقض ، بل المطلوب العمل كما لو كان اليقين باقيا ، فيراد الإبقاء العملي.

وهذا النهي اما يكون إرشادا إلى جعل صفة اليقين والطريقية في مرحلة البقاء ، أو جعل المنجزية لليقين بالوجود السابق على الحكم المشكوك بقاء ، أو جعل نفس التيقن بقاء فان الجامع بين جميع هذه الوجوه هو ترتب العمل بقاء ، كما لو كان نفس اليقين باقيا ، فيمكن ان يكون النهي عن النقض العملي إرشادا إلى أحدها ، إلاّ ان المتعين إثباتا هو الثالث ، وذلك بملاحظة مورد الرواية ، فانه عليه‌السلام نفي وجوب الوضوء عند عدم الاستيقان بالنوم بقاء معللا ذلك بعدم نقض اليقين بالشك ، وظاهر ذلك هو نفي الوجوب شرعا لا عقلا. وهذا لا يتلاءم الا مع جعل المتيقن نفسه بقاء ، لا جعل اليقين أو المنجزية كما لا يخفى.

والّذي يتحصل : انه يتعين الالتزام بان المجعول في باب الاستصحاب هو المتيقن لا اليقين ، سواء التزام بعدم إمكان تعلق النقض باليقين في هذا الباب أو التزم بإمكانه ، فمقام الثبوت ومقام الإثبات يشتركان في أن المجعول هو المتيقن.

فتدبر.

الجهة الثالثة : انك عرفت ان النقض في باب الاستصحاب لا يتعلق

٦٣

باليقين ، وانما هو متعلق بالمتيقن ، فيقع البحث في كيفية ملاحظة المتيقن في النصوص ، مع ان النقض فيها ـ استعمالا ـ متعلق باليقين. فهل هو من استعمال لفظ اليقين في المتيقن مجازا؟. أو من جعل لفظ اليقين عنوانا للمتيقن ومرآة له ـ كما ذهب إليه صاحب الكفاية ـ. بتقريب : ان المرآتية تسري من المصداق إلى المفهوم ، فبعد ان كان مصداق اليقين مرآة لمتعلقه كان مفهوم اليقين كذلك مرآة للمتيقن (١)؟. أو من باب الكناية والتلازم بين نقض اليقين ونقض المتيقن؟. أو من باب التلازم بين نفس اليقين والمتيقن ، فالنقض وان كان مسندا إلى لفظ اليقين في الكلام ، لكن يراد به نقض المتيقن الّذي حضرت صورته في الذهن بواسطة اليقين ، فيجعل لفظ اليقين قنطرة وكناية عن المتيقن؟. وجوه :

اما الأول : فهو مردود ، بأنه استعمال غير صحيح ولا يعهد مثله في الاستعمالات.

واما الثاني : فهو مردود أيضا بان مرآتية مفهوم اليقين تتوقف على كون اليقين من عناوين المتيقن ، وليس الأمر كذلك ، ولذا لا يصح حمل اليقين على المتيقن.

واما الثالث : فيمنع بأنه انما يتم لو فرض صحة تعلق النقض باليقين هاهنا ، وقد عرفت انه لا محصل له ، فلا يمكن ان يراد ذلك.

فيتعين الرابع. وعلى أي حال لا إشكال في وقوع استعمال ما يشابه لفظ اليقين من ألفاظ الطرق في مورد يكون الأثر مترتبا على نفس الواقع ، ويلحظ اللفظ الموضوع للطريق عبرة لذي الطريق ، كلفظ التبين والعلم والرؤية ، ولا إشكال في صحة مثل هذا الاستعمال عرفا ، فيلتزم به هاهنا وفي لفظ اليقين فيما نحن فيه وان لم يتحقق وجهه ، مع انك عرفت توجيهه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩١ ـ ٣٩٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٦٤

الجهة الرابعة : في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية.

فقد نبه عليه صاحب الكفاية رحمه‌الله في هذا المقام في ذيل كلامه ، وبنى على عموم الدليل لكلتا الشبهتين الموضوعية والحكمية (١).

وقبل الشروع في تحقيق أصل المطلب يحسن التنبيه على محل الكلام في الاستصحاب في الشبهة الموضوعية وأثره العملي. فنقول : ان موضوع الحكم الشرعي ...

تارة : يكون من المجعولات الشرعية ، كالطهارة والنجاسة والملكية وغيرها.

وأخرى : يكون من الأمور الخارجية التكوينية ، كالعدالة والفسق والعلم وغيرها. وهو ..

تارة : يعد عرفا من مقومات الموضوع ، كالعلم في وجوب تقليد زيد العالم ، والفقر في وجوب التصدق على زيد الفقير ، ونحو ذلك.

وأخرى : يعد من حالات الموضوع المتبادلة ، كعدالة زيد بالنسبة إلى وجوب التصدق عليه. وما يكون كذلك.

تارة يكون : الأثر الشرعي مترتبا عليه حدوثا.

وأخرى : لا يكون مترتبا عليه حدوثا.

اما ما كان من الموضوعات مجعولا شرعا ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب فيه مع الشك في بقائه ، إذ ما يوهم المنع في الشبهات الموضوعية لا يتأتى فيه كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

واما ما كان من الأمور التكوينية الخارجية ، فان كان مقوما للموضوع ، امتنع جريان الاستصحاب في الحكم السابق مع الشك فيه ، ففي هذا الفرض

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٦٥

يظهر لجريان الاستصحاب في نفس الموضوع أثر عملي. وان لم يكن مقوما للموضوع وكان الحكم ثابتا حدوثا ، أمكن استصحاب الحكم ولو لم يجر استصحاب الموضوع ، لأن الشك فيه غير مضر في استصحاب الحكم. واما إذا لم يكن الحكم ثابتا في مرحلة الحدوث ، وانما هو يثبت في مرحلة بقاء الموضوع لو كان باقيا ، فلا مجال لإثبات الحكم باستصحابه ، إذ هو غير متيقن الثبوت في السابق ، وانما يثبت الحكم باستصحاب الموضوع ، فيظهر له أثر في هذا الفرض.

فقد تبين ان محل الكلام في الاستصحاب في الشبهات الموضوعية هو استصحاب الأمور الخارجية لا مطلق الشبهات الموضوعية كما تبين ان أثر الالتزام بالاستصحاب في الشبهات الموضوعية يظهر في صورتين :

إحداهما : ما يكون الموضوع المشكوك من مقومات الموضوع عرفا.

والأخرى : ما لا يكون الحكم الشرعي ثابتا في مرحلة حدوث الموضوع ، إذ لا مجال لاستصحاب الحكم في كلتا هاتين الصورتين ، فيحتاج في إثبات الحكم إلى الاستصحاب الموضوعي.

إذا عرفت ذلك فنقول : انه قد يستشكل في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، سواء قيل ان دليل الاستصحاب يتكفل جعل اليقين أو قيل انه يتكفل جعل المتيقن.

اما على الأول : فلأن اليقين وان أمكن تعلق الاعتبار به كبعض الأمور التكوينية إلاّ انه انما يصح اعتباره بلحاظ ما يترتب عليه من أثر عملي شرعي أو عقلي.

وجعل اليقين بالموضوع مما لا أثر له ، إذ اليقين الّذي يكون موضوعا للأثر هو اليقين بالحكم الفعلي باعتبار ترتب المنجزية والمعذرية عليه. واليقين بالحكم الكلي المجعول بنحو القضية الحقيقية وان لم يكن فعليا كوجوب الحج على المستطيع ، فان اليقين به يترتب عليه جواز الإسناد والاستناد.

٦٦

اما اليقين بالموضوع بما هو يقين بالموضوع فلا أثر له أصلا ، وانما الأثر لليقين بحكمه.

فإذا كان هذا حال اليقين الوجداني ، لم يكن اعتبار اليقين بالموضوع ذا أثر ، فان الأثر المترتب عليه هو الأثر المترتب على اليقين الوجداني. والمفروض انه ليس بذي أثر.

واما على الثاني : فلأنه يعتبر في المجعول ان يكون قابلا للجعل. والأمر الخارجي كالعدالة ليس قابلا للجعل ، فلا معنى لأن يتعلق به الجعل من الشارع بما هو شارع. فيلزم من عموم الدليل للموضوع اما التقدير بان يراد جعل أثر الموضوع وحكمه واما التجوز في الإسناد ، فيكون الإسناد إلى غير ما هو له وكلاهما خلاف الظاهر.

وقد يدفع هذا الإشكال بما تقدم بيانه في حديث الرفع من : ان الرفع يمكن ان يتعلق بالموضوع حقيقة ، وذلك بلحاظ عالم التشريع ، فان الموضوع له ثبوت في عالم التشريع بجعل الحكم له ، فيمكن ان يتعلق به الرفع بلحاظ هذا العالم ويكون الرفع حقيقيا لا مسامحة فيه ، لأنه بيد الشارع. فنقول هاهنا : انه يمكن ان يجعل الموضوع ويتعبد بثبوته بلحاظ عالم التشريع ، فيكون وضعا للموضوع حقيقة بلا مسامحة وتجوز وتقدير.

لكن هذا المطلب لو سلم إمكان تطبيقه فيما نحن فيه ، فهو انما يتأتى في مورد يكون للموضوع أثر شرعي في مرحلة الحدوث ، لأن دليل الاستصحاب لا يتكفل مجرد التعبد بالموضوع ، بل يتكفل ببقائه. ومن الواضح انه لا يصدق بقاء الموضوع في عالم التشريع وعدم نقضه إلاّ إذا كان ثابتا في السابق فيه. وإلاّ لم يكن جعله فعلا في عالم التشريع إبقاء له وعدم نقض. وهذا أخص من المدعى كما هو واضح.

هذا أساس الإشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية.

٦٧

وقد تصدى المحقق الأصفهاني رحمه‌الله إلى تحقيق المطلب إشكالا وجوابا بنحو دقيق مفصل. وخلاصة ما إفادة ( قدس‌سره ) : ـ بعد ان التزم ان النهي عن نقض اليقين غير مراد جدا ، بل قضية « لا تنقض » قضية كنائية. وبعد ان ردد بين ان يكون المراد بها النهي عن النقض العملي أو النهي عن النقض حقيقة عنوانا ، مفرعا ذلك على ان اليقين بالحكم مستلزم للفعل تكوينا بلحاظ تنجيزه ، فيكون الأمر بإبقائه ملازما للأمر بنفس الفعل ، فيكون النهي عن نقض اليقين كناية عن الأمر بالفعل كصلاة الجمعة.

وبالجملة : عدم الفعل ملازم لنقض اليقين حقيقة ولنقضه عملا.

وإذا أمكن ان يحمل النهي على أحد المعنيين تعين حمله على النهي عن النقض حقيقة إبقاء له على ظاهره ، ولا محذور فيه بعد ان لم يكن مرادا جدا ، بل كناية عن الأمر بالعمل ، ـ بعد كل هذا الّذي لخصناه جدا أفاده قدس‌سره ـ :

ان أساس المحذور اسناد إلى ما هو له ، لأن الفعل يكون إبقاء عملا لليقين ان نقض اليقين بالحكم اسناد إلى ما هو له ، لأن الفعل يكون إبقاء عملا لليقين بالحكم لباعثيته عقلا نحوه ، واما اسناد نقض اليقين إلى الموضوع ، فهو اسناد إلى غير ما هو له ، إذ الفعل لا يكون إبقاء عملا لليقين بالموضوع ، إذ لا باعثية له بنفسه ، بل بلحاظ منشئيته لليقين بالحكم ، فالنقض لم يسند حقيقة إلى يقين الموضوع.

وبما ان الجمع بين الإسناد في كلام واحد خلاف الظاهر ـ وان كـ ان ممكنا في نفسه ـ إذ ظاهر الإسناد الكلامي هو الإسناد إلى ما هو له ، كانت اخبار الاستصحاب قاصرة عن شمول الشبهة الموضوعية.

ودفعه قدس‌سره : بأنه يبتني على كون مفاد قضية : « لا تنقض » النهي عن النقض عملا ، فان بقاء اليقين بالموضوع عملا غير مستلزم بما هو للعمل ، إذ لا باعثية له كما عرفت.

٦٨

واما لو كان مفادها النهي عن نقض اليقين حقيقة عنوانا ـ كما اختاره ـ لم يتأت هذا المحذور ، فان عدم الفعل لازم لعدم اليقين بالموضوع أو بالحكم ، فيمكن ان يراد من اللفظ النهي عن نقض اليقين مطلقا ، تعلق بالحكم أم بالموضوع ، ويكون كناية عن جعل لازمه من الحكم المماثل له لو كان المتيقن حكما ، أو لحكمه لو كان موضوعا. وبعبارة أخرى : بعد ان كان عدم الفعل لازما لعدم اليقين بالحكم أو بالموضوع ، كان النهي عن نقض اليقين والأمر بإبقائه ملازما للأمر بالفعل في كلا الموردين ، فيعم الشبهة الموضوعية بلا محذور.

هذا خلاصة ما أفاده قدس‌سره (١).

ولكنه مردود من وجوه :

الوجه الأول : ما بنى عليه أصل كلامه من ان التلازم بين بقاء اليقين بالحكم ، وبين العمل كصلاة الجمعة ، يستلزم التلازم بين الأمر بإبقاء اليقين والأمر بالفعل ، فتكون القضية كناية عن جعل الحكم المماثل.

فانه ممنوع ، بأنه لو سلم التلازم عقلا أو عرفا بين بقاء اليقين بالحكم وبين الفعل ، ولم يناقش بإمكان الانفكاك بينهما ، فهو لا يستلزم التلازم بين الأمر بأحدهما والأمر بالآخر ، فانه ممنوع أشد المنع إذ لم يقل به أحد ، وانما أشير إليه في مبحث الضد من باب انه توهم قد يخطر في البال ، وانما المسلم عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم ، لا ان الأمر بأحدهما ملازم للأمر بالآخر. فراجع تعرف.

الوجه الثاني : ان ما أفاده لو تم ، فهو انما يتأتى في خصوص مورد اليقين بالحكم الإلزامي ، فان اليقين به يستتبع العمل ، دون اليقين بالحكم غير الإلزامي كالإباحة ، فان اليقين بها لا يستتبع الفعل كي يكون الأمر بإبقائه أمرا بالفعل.

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٦٩

وأي معنى لهذا في مورد الإباحة ، إذ لا يلزم الإتيان بالفعل باستصحابها. ومن الواضح ان الاستصحاب لا يختص بالاحكام الإلزامية ، بل يعمها ويعم غير الإلزامية.

الوجه الثالث : انك عرفت انه قدس‌سره بنى الملازمة بين بقاء اليقين والفعل على منشئية اليقين للفعل ، ثم فرع عليه ان النقض عملي أو حقيقي عنواني ، فبناء كلا الرأيين على الملازمة بين بقاء اليقين والفعل ، فالتزامه ـ في مورد النقض العملي ـ بان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل لعدم منشئية اليقين للفعل ، والتزامه ـ في مورد النقض الحقيقي ـ بالملازمة. تفكيك لا وجه له بعد ان كان مبنى التلازم على كلا الرأيين واحدا.

وهو حين نفي الملازمة على القول بالنقض العملي ، بنى نفيه على عدم الملازمة بين اليقين بالموضوع والفعل ، فنفي الملازمة بين الوجودين. وحين أثبتها على القول بالنقض الحقيقي بنى إثباته على الملازمة بين عدم الفعل وعدم اليقين ، فجعل الملازمة بين العدمين.

ومثل هذا الاختلاف في الأسلوب على خلاف الصناعة لعدم توارد النفي والإثبات على مورد واحد.

الوجه الرابع : ان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل أصلا حتى بنحو المسامحة ، فان المراد به اليقين بذات الموضوع ، وهو لا يلازم العلم بحكمه ، بل قد يتخلف عنه.

فما أفاده قدس‌سره : من كون اسناد النقض إلى يقين الموضوع إسنادا مجازيا بلحاظ استتباعه ليقين الحكم. فيه منع ، لعدم صحة الإسناد بالمرة.

وخلاصة القول : ان ما أفاده قدس‌سره في المقام مع كمال دقته مما لا يمكن قبوله.

فالتحقيق في دفع الإشكال ان يقال : ان دليل الاستصحاب ان كان

٧٠

متكفلا للتعبد بالبقاء رأسا ـ بمعنى ان قضية : « لا تنقض اليقين بالشك » كانت متكفلة للتعبد ببقاء المتيقن ، كما هو ظاهر تعريف الاستصحاب بأنه إبقاء ما كان ـ كان إشكال شمول الدليل للشبهة الموضوعية المتقدم ذكره محكّما ، لعدم قابلية الموضوع في حد نفسه للتعبد ، فشمول الدليل لشبهة الموضوع يتوقف على التقدير أو التجوز كما مر. وهكذا الحال إذا كان التعبد والجعل متعلقا بصفة اليقين لا بالمتيقن ، لعدم ترتب الأثر العملي على اليقين بالموضوع ، فيكون التعبد به لغوا كما مر.

ولكن الظاهر ان دليل الاستصحاب بدوا لا يتكفل التعبد بالمتيقن. بيان ذلك : انك عرفت ان النقض حقيقة لا يتعلق باليقين ، لعدم تصوره في باب الاستصحاب ، بل هو متعلق بالمتيقن.

ومن الواضح : ان النهي عن نقض المتيقن بالشك مما لا معنى له ، إذ الشك لا يصلح ناقضا للمشكوك ، لأنه عبارة عن التردد بين الوجود والعدم ، فلا معنى لأن يكون مقتضيا للعدم ، بل حاله حال الطريق ، فانه لا يتصرف في ذي الطريق. فلا بد ان يراد النهي عن النقض العملي ، بمعنى لزوم معاملة المتيقن معاملة الثابت حال الشك وعدم جواز رفع اليد عنه لأجل الشك فيه. فالنهي عن نقض المتيقن لا يراد به التعبد بالمتيقن ، بل يراد به لزوم معاملة المتيقن معاملة البقاء ، فان هذا هو فعل المكلف الّذي يصح تعلق النهي به.

وهذا النهي إرشادي إلى ثبوت ما يقتضي استمرار معاملة المتيقن معاملة البقاء ، فهو يدل بالملازمة العرفية أو بدلالة الاقتضاء على التعبد بالمتيقن بقاء إذا كان حكما شرعيا.

ومن الواضح ان هذا المدلول الأولي للكلام ـ أعني النهي عن نقض المتيقن عملا ـ يمكن ان يعم الموضوع والحكم بلا أي تجوز ومسامحة ، ومقتضى عمومه هو دلالته ـ اقتضاء أو عرفا ـ على جعل الحكم المماثل للمتيقن إذا كان

٧١

حكما ، وعلى جعل الحكم المماثل لحكم المتيقن إذا كان موضوعا ، إذ لزوم المعاملة مع الموضوع معاملة البقاء لا يكون إلا إذا فرض جعل مماثل حكمه بقاء. كما ان لزوم المعاملة مع الحكم معاملة البقاء لا يكون إلاّ إذا فرض جعل مماثله بقاء.

وبهذا البيان يتضح صحة الالتزام بعموم دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية كما أشار إليه في الكفاية (١).

ولا يختلف الحال فيه بين ان يكون متعلق النقض هو المتيقن كما اخترناه أو يكون هو اليقين كما هو واضح ، إذ أساسه على استفادة كون النقض المنهي عنه هو النقض العملي لا الحقيقي.

وقد عرفت ان ظهوره العرفي في ذلك ، لأن ما يكون فعل المكلف القابل لتعلق النهي به هو نقض المتيقن أو اليقين عملا لا النقض حقيقة. فتدبر.

هذا تمام الكلام في عموم دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية.

ويقع الكلام في جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية. فقد توقف فيه جمع ، منهم المحقق النراقي ، وتبعه عليه في الجملة السيد الخوئي (٢).

ومنشأ الإشكال الّذي ذكره النراقي ليس قصور الأدلة في أنفسها عن شمول مورد الأحكام الكلية ، وانما هي جهة أخرى ستتضح إن شاء الله تعالى.

وتحقيق الكلام : هو ان الشك في بقاء الحكم الشرعي ..

تارة : يرتبط بمقام الجعل والتشريع ، ولو لم يكن المجعول فعليا لعدم موضوعه ، كما لو ثبت جعل وجوب الحج على المستطيع في الشريعة ثم شك في بقاء هذا التشريع والجعل ولو لم يكن مستطيع فعلا. ولا إشكال في جريان استصحاب الجعل ، ويعبر عنه باستصحاب عدم النسخ. ولا كلام في ذلك.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٧٢

وأخرى : يرتبط بمقام المجعول ، كما لو ثبت الحكم الفعلي في زمان فشك في بقائه ، كالشك في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الغسل.

ومنشأ الشك في بقاء الحكم الفعلي.

تارة : يكون الشك في الأمور الخارجية مع العلم بحدود الحكم المجعول. من قبل الشارع سعة وضيقا ، ويعبر عنه بالشبهة الموضوعية ، كما لو علم بعدم حرمة الوطء بعد انقطاع الدم وقبل الغسل ، ولكن شك في تحقق انقطاع الدم. وجريان الاستصحاب في الحكم أو في الموضوع في مثل ذلك خارج عن محل الكلام.

وأخرى : يكون المنشأ هو الشك في حدود المجعول الشرعي سعة وضيقا ، فيشك في ان المجعول شرعا هل هو حرمة الوطء حين وجود الدم أو إلى حين الغسل؟ ويعبر عنه بالشبهة الحكمية. وهي على صورتين :

الصورة الأولى : ان يكون الزمان مفرّدا للموضوع بنحو يكون كل آن من الزمان موضوعا للحكم على حدة ، فينحل الحكم بتعدد أفراد الزمان الطولية ، وذلك كحرمة وطء الحائض ، فانها تنحل إلى أحكام متعددة بتعدد افراد الوطء الطولية بحسب الزمان.

الصورة الثانية : ان يكون الحكم واحدا مستمرا باستمرار الزمان ولا يتعدد ويتفرد بتعدد آنات الزمان ، كنجاسة الماء المتغير ، فانها حكم واحد مستمر من حدوثها إلى زوالها وموضوعها واحد عرفا وهو الماء ، فانه وجود واحد مستمر بنظر العرف. وليست النجاسة في كل آن حكما غير النجاسة في الآن الآخر.

اما الصورة الأولى : فلا مجال لجريان الاستصحاب فيها مع الشك ، لتعدد افراد الحرمة بتعدد افراد الوطء بلحاظ عمود الزمان ، فالفرد المشكوك حرمته من الوطء لم يكن حكمه متيقنا في السابق ، بل هو مشكوك الحدوث رأسا ، لأنه فرد حادث لا سابق.

٧٣

واما الصورة الثانية : فهي محل الكلام في هذا البحث ، فيقع الكلام في جريان استصحاب الحكم المشكوك بقاؤه ، كما لو شك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه.

وقد عرفت ان الفاضل النراقي منع جريانه. والوجه في المنع هو : ابتلاء استصحاب بقاء الحكم بالمعارض ، وهو استصحاب عدم الجعل.

بيان ذلك : انه إذا شك في بقاء نجاسة الماء المتغير إذا زال تغيره من قبل نفسه ، فلدينا يقينان سابقان وشكان لاحقان ، يقين بثبوت المجعول وهو النجاسة في السابق ، وشك في بقائها بعد زوال التغير ، ومقتضى ذلك استصحاب النجاسة المجعولة. ويقين بعدم جعل وتشريع النجاسة لهذا الموضوع ـ أعني الماء بعد زوال تغيره ـ في صدر الإسلام ، وشك في بقاء هذا العدم وزواله بجعل النجاسة له ـ كما جعلت لغيره كالماء قبل زوال التغير ، فان جعل النجاسة لم يكن ثابتا له أيضا ـ ، ومقتضى ذلك استصحاب عدم الجعل. فيكون مورد الشك مجرى الاستصحابين : استصحاب المجعول واستصحاب عدم الجعل ، وهما متعارضان.

فلا يمكن البناء على استصحاب الحكم الشرعي ، لأجل معارضته باستصحاب عدم الجعل.

وبهذا التقريب لكلام النراقي ، لا يتضح إيراد الشيخ (١) عليه ، فانه قدس‌سره أورد على النراقي بعد ذكر كلامه : بان الزمان ان لوحظ مفرّدا للموضوع بنحو تكون كل حصة منه فردا منفصلا عن الحصة الأخرى ، فلا مجال لاستصحاب الوجود لعدم اتحاد الموضوع وان لوحظ ظرفا للموضوع تعين إجراء استصحاب الوجود ، ولا يجري استصحاب العدم لانقطاعه بالوجود. فلا يجري الاستصحابان معا حتى يتحقق التعارض.

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٧٧ ـ الطبعة الأولى.

٧٤

ولا يخفى عليك ان الشيخ رحمه‌الله كأنه فهم من كلام النراقي : ان مجرى الاستصحابين هو المجعول. فأورد عليه بما عرفت ولكن عرفت في تقريب كلامه ان مركز استصحاب العدم هو الجعل ، ومركز استصحاب الوجود هو المجعول. وعليه فيمكن تصور جريان الاستصحابين معا في أنفسهما مع ملاحظة الزمان ظرفا لا مفردا ، ويتحقق التعارض حينئذ.

ومن هنا يظهر لك عدم ورود ما أفاده في الكفاية من : انه نظر تارة إلى تحكيم نظر العرف المسامحي في الموضوع ، فأجري استصحاب الوجود. وأخرى إلى تحكيم نظر العقل الدقي ، فأجري استصحاب العدم. والثابت هو اتباع النّظر العرفي ، فلا مجال لاستصحاب العدم (١).

ووجه عدم وروده : انه يتم لو كان المنظور في كلام النراقي كون مجرى استصحاب العدم واستصحاب الوجود شيئا واحدا وهو المجعول ، فلا يمكن ان يجري فيه الاستصحابان إلاّ بلحاظ اختلاف النظرين.

وقد عرفت ان منظور النراقي ليس ذلك ، بل مركز استصحاب العدم غير مركز استصحاب الوجود ، وهذا لا يتوقف على اختلاف النظرين ، بل يمكن ان يجريا مع كون المحكم هو نظر العرف المسامحي.

وبالجملة : إيراد الشيخ وإيراد الكفاية يبتنيان على أمر واحد قد عرفت عدم صحته ، وأن نظر كلام النراقي إلى غير ما فهما منه فلاحظ.

والتحقيق : ان ما أفاده النراقي وتبعه عليه السيد الخوئي بالتقريب المتقدم يبتني على أمور :

أحدها : ان استصحاب عدم الجعل مما يترتب عليه أثر عملي مباشر ، وإلاّ كان لغوا أو مثبتا.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٥

الثاني : ان عدم الجعل مما يمكن ان يكون موردا للتعبد الشرعي وإلاّ لم يصح ان يجري فيه الاستصحاب ، لأنه ليس بمجعول شرعي وليس بموضوع شرعي لأثر شرعي.

الثالث : ان الجعل يختلف سعة وضيقا باختلاف المجعول سعة وضيقا وإلاّ فلو فرض انه بنحو واحد كان المجعول متسعا أو ضيقا لم يجر استصحاب عدم الجعل فيما نحن فيه كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

وجميع هذه الأمور محل بحث وكلام ، ولأجل ذلك لا بد من إيقاع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في أن استصحاب عدم الجعل هل يمكن ان يجري في نفسه لترتب أثر عملي عليه أو لا؟.

وقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى الثاني ، بيان : ان الآثار العملية العقلية من لزوم الإطاعة والتنجيز ونحوها انما يترتب على الحكم المجعول الفعلي بفعلية موضوعه ، واما الجعل بنفسه فلا يترتب عليه أي أثر عملي.

وعليه ، فيكون التعبد بعدم الجعل لغوا ، لعدم أثر عملي مترتب عليه ، فلا يصح جريان الاستصحاب فيه لوضوح ان التعبد الاستصحابي انما هو بلحاظ الأثر العملي.

نعم ، يترتب على الجعل أثر بواسطة ثبوت المجعول به ، لكن ترتب ذلك بالملازمة ، فيكون الاستصحاب بلحاظه مثبتا. اذن فلا يجري استصحاب عدم الجعل ، لأنه إما لغو ، بملاحظة الأثر المترتب عليه مباشرة ، إذ لا أثر له واما مثبت بملاحظة أثر المجعول لترتب المجعول على الجعل بالملازمة العقلية (١).

وقد رد المحقق العراقي هذا البيان بوجهين :

__________________

(١) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٠٦ ـ الطبعة الأولى.

٧٦

الوجه الأول : ان الأثر العقلي انما لا يترتب على المستصحب الا على القول بالأصل المثبت لو كان من آثار الوجود الواقعي للمستصحب ، اما إذا كان من آثار ثبوت المستصحب للأعم من الواقعي والظاهري ، فلا مانع من التعبد بالمستصحب بلحاظه لترتبه عليه عقلا ، ولا يكون ذلك من الأصل المثبت ، وذلك نظير وجوب الإطاعة ، فانه يترتب عقلا على وجود الحكم أعم من الواقعي والظاهري ، فيصح التعبد بالحكم ، ويكون أثره العملي الإطاعة. وما نحن فيه كذلك ، فان المجعول يترتب على الجعل بوجوده الواقعي والظاهري ، فالجعل الظاهري يستتبع المجعول ظاهرا. وعليه ، فنفي الجعل ظاهرا يستتبع نفى المجعول ، لأنه من آثار عدم الجعل الواقعي والظاهري. اذن فلا يكون استصحاب عدم الجعل من الأصول المثبتة ، بل يترتب الأثر العملي عليه بلا محذور.

وذكر في إثبات ذلك : بأنه لو لا ذلك لما صح استصحاب عدم النسخ ، لأن مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل ، مع ان جريانه وترتب الأثر عليه من المسلمات لدى الكل ولا يتوقف فيه أحد ، وليس ذلك إلاّ لأن المجعول لازم للجعل أعم من الوجود الواقعي والظاهري.

الوجه الثاني : ان الجعل والمجعول متحدان وجودا كالإيجاد والوجود ، وانما هما يختلفان اعتبارا وبالإضافة ، فهما كالتصور والمتصور ، فانه لا وجود حقيقة للتصور في غير وجود المتصور.

وعليه ، فاستصحاب الجعل بنفسه إثبات للمجعول بلا ملازمة وترتب ، كما ان استصحاب عدم الجعل بنفسه إثبات لعدم المجعول بلا ملازمة (١).

وقد بنى السيد الخوئي ( حفظه الله ) على هذا الوجه ، جريا على ما التزم

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٦١ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٧٧

به في الواجب المشروط من تعلق الاعتبار بالوجوب على تقدير ، بمعنى ان يكون الوجوب ثابتا في ظرف الاعتبار والإنشاء ، لكن الثابت هو الوجوب الخاصّ وهو على تقدير ونتيجة ذلك : ان تكون الآثار العقلية مترتبة عند حصول ذلك التقدير ، لا ان الوجوب ثابت في ظرف التقدير بحيث ينفك الاعتبار عن المعتبر زمانا.

وبالجملة : يلتزم بان وجود الحكم بنفس الاعتبار ، وانما الأثر يتأخر ويترتب عند حصول التقدير. وضم إليه مقدمة أخرى ، وهي : ان الأثر العملي يترتب على امرين فقط : الجعل ووجود الموضوع ، وفعلية الحكم ليست امرا وراء ذلك. اذن فنفي الجعل يستلزم نفي الأثر العملي ، لأنه جزء موضوع الأثر.

والمحصل : ان استصحاب عدم الجعل يستلزم نفي الأثر العملي بلا لزوم محذور الأصل المثبت (١).

والحق ان كلا الوجهين مردودان :

اما الأول ، ففيه : ان الجعل في مرحلة الظاهر وان كان يلازم تحقق المجعول باعتبار ان الجعل يرجع إلى إنشاء الحكم والإنشاء لا ينفك عن المنشأ ، فالجعل الظاهري يستتبع مجعولا وحكما ظاهريا لا محالة لتقومه به عقلا. وعليه ، فبثبوت الجعل ظاهرا تترتب آثار المجعول لتحققه به إلاّ ان عدم الجعل في مرحلة الظاهر لا يستتبع سوى عدم المجعول ظاهرا ، كاستتباع عدم الجعل واقعا لعدم المجعول واقعا ، وهذا لا يجدي في نفي آثار الواقع المحتمل ، ولا يستلزم تأمينا وتعذيرا عنه ، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع يترتب على نفس الواقع لا على الظاهر ، فلا بد من إثبات عدم المجعول واقعا بالتعبد الظاهري بعدم الجعل واقعا.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٤٦ ـ الطبعة الأولى.

٧٨

ومن الواضح ان إثباته انما يكون بالملازمة العقلية للتلازم واقعا بين عدم الجعل وعدم المجعول. فيكون الأصل من الأصول المثبتة.

ومن هنا ظهر عدم صحة النقض باستصحاب عدم النسخ ، لأن مرجعه إلى استصحاب بقاء الجعل ، وقد عرفت تقوم الجعل الظاهري بالمجعول الظاهري وثبوت الحكم الظاهري يكفي في صحة ترتيب الآثار. وهذا بخلاف استصحاب عدم الجعل ، فانه وان ترتب عليه عدم المجعول ظاهرا ، لكنه لا ينفع في ترتب الأثر العملي. وما يترتب عليه الأثر العملي وهو عدم المجعول واقعا لا يثبت إلاّ بالملازمة ، فيكون الأصل مثبتا.

وبالجملة : فرق بين استصحاب الوجود واستصحاب العدم.

واما الوجه الثاني ، فهو كما عرفت يبتني على مقدمتين :

المقدمة الأولى : وحدة الجعل والمجعول. وهذه المقدمة ترتبط بما يقرر في حقيقة الإنشاء ، فهل هو عبارة عن التسبيب قولا أو فعلا ، لتحقق الاعتبار العقلائي ، أو من بيده الاعتبار من دون ان يكون للمنشئ أي اعتبار ، بل غاية فعله هو نفس إيجاد الموضوع للاعتبار العقلائي ، وهو الإنشاء؟. أو أنه عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، بدعوى ان للمنشئ اعتبارا شخصيا للمنشإ من وجوب أو ملكية أو غيرهما ، ولا يترتب الأثر عليه الا بعد إبرازه بمبرز قولي أو فعلي؟.

فالمقدمة المزبورة تبتني على الوجه الثاني ، إذ ليس للجعل حقيقة سوى الاعتبار الشخصي ، وهو عين المعتبر وجودا وان اختلف معه اعتبارا. واما على الوجه الأول ، فليس الجعل سوى الإنشاء الّذي يكون سببا للاعتبار العقلائي في ظرفه ، والمجعول هو ما يعتبره العقلاء في ظرف الموضوع. ومن الواضح تغايره مع الجعل وجودا وذاتا.

وقد تقدم في محله بطلان الوجه الثاني واختيار الوجه الأول. وعليه فهذه المقدمة غير تامة.

٧٩

ومع غض النّظر عن ذلك ، يقع الكلام في ..

المقدمة الثانية : وهي ان الأثر العملي يترتب على الجعل بضميمة وجود الموضوع ، فيكون نفي الجعل بالأصل مستلزما لعدم ترتب الأثر. فنقول : لو سلمنا وحدة الجعل والمجعول بالبيان المتقدم ، فلا نسلم ان الأثر العملي مترتب على وجود الجعل وان تحقق المجعول في ظرف الجعل ، بل الأثر العملي انما يترتب على تقدير وجود الموضوع ، بحيث يضاف المجعول إلى فرد المكلف الخاصّ ، فيقال : انه ممن وجب عليه الفعل ، : فان مجرد الجعل قبل تحقق الموضوع لا يضاف به الوجوب إلى المكلف الخاصّ ، فلا يقال للمكلف قبل الزوال انه ممن وجبت الصلاة عليه ، وانما الإضافة تتحقق بعد الموضوع ، كتحقق الزوال بالنسبة إلى الصلاة ، ولعله هو المراد من قوله عليه‌السلام : « فإذا زالت الشمس فقد وجب الطهور والصلاة » (١).

وبالجملة : مجرد جعل الحكم الكلي لا يترتب عليه الأثر ، وانما الأثر لمرحلة الانطباق وإضافة الوجوب إلى فرد المكلف.

وعليه ، فاستصحاب عدم الجعل مما لا يترتب عليه نفي الأثر العملي إلاّ بتوسط نفي إضافة المجعول إلى المكلف ، وهذا من اللوازم العقلية ، فيكون من الأصول المثبتة ، فهو نظير استصحاب عدم الكر في الحوض في نفي كرية ماء الحوض التي هي مورد الأثر العملي.

والخلاصة : ان الإشكال في استصحاب عدم الجعل بأنه من الأصول المثبتة لا دافع له. فهذا أحد الإيرادات على كلام النراقي المتقدم.

الجهة الثانية : في إمكان تعلق التعبد بعدم الجعل.

والتحقيق : ان الجعل وعدمه ليس مما يمكن تعلق التعبد به والاعتبار.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٢٦١ ، حديث : ١.

٨٠