منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

تستعمل في مقام البعث نحو العمل على طبق اليقين وإيجابه.

إذن فهذا الاحتمال بهذا البيان غير سديد.

ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر ، بان يقال : ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » جملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء ، لكن لا يراد بها إنشاء البعث كي يتأتى ما ذكر ، بل يقصد بها التعبد باليقين بقاء وجعل اليقين تعبدا ، فيكون المعنى : « ان لم يستيقن بالنوم فهو متيقن تعبدا بالوضوء ». وهذا المعنى لا محذور فيه ، بل يكون مفاد هذا الكلام مفاد قوله : « لا ينقض اليقين بالشك » في كونه تعبدا باليقين.

وعليه ، فان أمكن البناء على قابلية اليقين بعنوانه للتعبد ولو بلحاظ الجري العملي كما عليه المحقق النائيني (١) فهو ، وإلاّ التزام بان المراد التعبد بالمتيقن ، كما يذكر ذلك في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ».

وبالجملة : يكون قوله : « فانه ... » ، هو الجزاء ، ويكون المقصود به هو إنشاء التعبد باليقين فيكون مفاده مفاد : « لا تنقض اليقين بالشك » ، وهو معنى معقول ، وليس فيه مخالفة الموازين المصححة للكلام.

ومن الغريب غفلة الأعلام عن ذلك وصرف نظرهم إلى إرادة إنشاء البعث.

واما الاحتمال الثالث : فهو مما لا يصح الالتزام به ، إذ لو كان قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » هو الجزاء ، لما صح تصديره بالواو ، بل اما ان يكون مصدّرا بالفاء أو مجردا عنهما ، كما لا يخفى على من لاحظ نظائره ، مثل ان يقول : « ان جاء زيد من السفر فحيث انه تعبان هيئ له وسائل الراحة أو فهي له ذلك ».

واما الاحتمال الرابع : فهو غير صحيح أيضا. ومحصل الإشكال فيه : ان

__________________

(١) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٢٦٠ ـ الطبعة الأولى.

٤١

المراد من قوله : « فانه على يقين من وضوئه » اما اليقين بالوضوء حدوثا أو بقاء.

فان أريد اليقين حدوثا ، فهو غير مترتب على عدم اليقين بالنوم ، وظاهر الجملة الشرطية هو ترتب الجزاء على الشرط. وان أريد اليقين بقاء ، فهو مخالف للوجدان ، كيف؟ والمفروض انه شاك في بقاء الوضوء.

وقد أنكر المحقق الأصفهاني دعوى اقتضاء الشرطية ترتب الجزاء على الشرط واستناده إليه ، بل ربما يعكس الأمر ، كقولهم : « ان كان النهار موجودا فالشمس طالعة ».

ثم قرب هذا الوجه بما يبتني على تجريد متعلق اليقين والشك من خصوصية الزمان (١). ولا يهمنا ذكره فعلا بعد ان عرفت الإشكال في أصل الاحتمال ، ولعلنا نعود إلى بيانه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

واما إنكاره اقتضاء الشرطية سببية الشرط للجزاء ، فقد تقدم البحث في ذلك في مبحث مفهوم الشرط (٢).

والتزمنا هناك بان ظهور الجملة الشرطية في ذلك مما لا ينكر.

وما ذكر في المثال تقدم الجواب عنه : بان الجزاء فيه أيضا مترتب على الشرط لكن بوجوده العلمي لا الخارجي ، والملحوظ في الشرطية ذلك. وبعبارة أخرى : الشرطية هاهنا بلحاظ مقام الإثبات ، والترتب فيه ثابت. فراجع.

والّذي يتحصل : ان الصحيح من هذه المحتملات هو الأول والثاني بالمعنى الّذي بيناه.

ولا يخفى ان الرواية على الاحتمال الثاني تكون دالة على حجية الاستصحاب في مطلق الموارد من دون اختصاص بباب الوضوء. فان الجزاء وان

__________________

(١) الأصفهاني المحقّق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) راجع ٣ ـ ٢١٤ من هذا الكتاب.

٤٢

كان يتكفل التعبد باليقين بالوضوء ، إلاّ ان قوله بعد ذلك : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ظاهر في بيان قاعدة كلية يتكفل التعبد باليقين في كل موارد اليقين والشك ، فيكون التعبد باليقين في باب الوضوء من باب أنه صغرى من صغريات هذه الكلية ومصداق من مصاديقها ، فهي جملة مستأنفة تفيد أن الحكم لا يختص بباب الوضوء ، بل يجري في كل يقين وشك ، نظير أن يقول : « ان جاءك زيد فأكرمه وأكرم كل من يجيئك ».

وبالجملة : لا يراد من قوله : « لا ينقض ... » خصوص اليقين بالوضوء ، وإلاّ كان تكرارا لقوله : « فانه على يقين من وضوئه » وهو خلاف الظاهر.

واما على الاحتمال الأول ، فهي بحسب الموازين ظاهرة في اختصاص الاستصحاب بباب الوضوء ، لأن قوله عليه‌السلام : « فانه على يقين ... » فرض انه تعليل للحكم المقدر وهو عدم وجوب الوضوء.

والظاهر ان العلة مركبة من صغرى وهي قوله : « انه على يقين من وضوئه » ، وكبرى وهي : « لا ينقض اليقين بالشك ». ومن الواضح لزوم اتحاد الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى بحسب القيود والخصوصيات ، فإذا تقيد الأوسط بقيد في الصغرى لا بد ان يتقيد به في الكبرى ، ولا معنى لتجرده في الكبرى عن القيد ، إذ المقصود في القياس هو إثبات الأكبر ، للأصغر بواسطة حمل الأوسط على الأصغر ، وحمل الأكبر على الأوسط ، فالأوسط في الكبرى يلحظ طريقا لإثبات الأكبر للأصغر ، فإذا فرض ان الأكبر ثابت له بنفسه بلا خصوصية للقيد فلا معنى ان يكون المحمول على الأصغر هو المقيد ، إذ لا أثر للقيد ولا خصوصية له في إثبات نتيجة القياس.

وعليه ، فتقيد الأوسط في الصغرى يكشف عن تقيده في الكبرى ، وإلاّ كان التقيد لغوا ، وهو خلف. فلا يصح ان يقال : « هذا عالم بالفقه ـ على أن يكون الفقه قيدا ـ وكل عالم يجب إكرامه » إذا فرض ان وجوب الإكرام ثابت للعالم

٤٣

بدون خصوصية الفقاهة.

وعليه ، ففيما نحن فيه إذا فرض ان الأوسط في الصغرى هو اليقين بالوضوء ، كان هو المأخوذ في موضوع الكبرى.

وعليه ، فلا تفيد الكبرى سوى عدم نقض اليقين بالوضوء بالشك ، فيختص الاستصحاب على هذا التقدير بباب الوضوء.

ولا يخفى ان هذا الوجه لا يتأتى على الاحتمال الثاني ، وذلك لأن المقيد هو متعلق التعبد ، وهو مما لا يتنافى مع ثبوت الحكم في مطلق موارد اليقين ، وذلك لأن المتعبد به ليس هو ذات اليقين أو اليقين بشيء على إجماله ، بل المتعبد به هو اليقين بالشيء بعنوانه الخاصّ من وضوء أو صلاة أو وجوب أو نحو ذلك ، سواء استفدنا عموم عدم نقض اليقين بالشك لمطلق الموارد أو في خصوص مورد الوضوء ، اذن فأخذ خصوصية « من وضوئه » لا تنافي عموم الاستصحاب لغير باب الوضوء ، بل هو لازم أعم.

والسر في ذلك : ان التعبد باليقين ليس هو الوسط المتكرر في القياس ، بل هو المحمول في الكبرى المستفاد من النهي عن نقض اليقين بالشك ، وانما الموضوع هو نفس اليقين والشك فيقال : هذا متيقن وشاك ، وكل متيقن وشاك يحكم عليه بأنه متيقن بما تيقن به ، فهذا متيقن بما يتيقن به.

وعليه : فأخذ الوضوء في المتعبدية ليس كاشفا عن تقيد الموضوع بخصوصية الوضوء ولا ظهور له في ذلك.

وعليه ، فيمكن التمسك بإطلاق لفظ اليقين في قوله : « ولا ينقض » لإثبات عموم الحكم المطلق الموارد ، ولا قرينة على التخصيص الا ما يتوهم من كون مورده خصوص اليقين بالوضوء ، وهو فساد لما تقرر في محله من ان المورد لا يقيد الوارد. فتدبر جيدا.

وكيف كان ، فيقع الكلام في ترجيح أي الاحتمالين إثباتا.

٤٤

وقد يستفاد استناد الشيخ رحمه‌الله ـ في ترجيح كون قوله : « فانه على يقين ... » علة لا جزاء ـ على ما ورد من الجمل المشابهة لها التي قامت العلة مقام الجزاء فيها (١).

ولكن هذا قابل للدفع : باعتبار انه انما يلتزم في الأمثلة التي ذكرها الشيخ ونحوها بقيام العلة مقام الجزاء ، لا من جهة ظهور الكلام فيه ، ولو بواسطة كثرة الاستعمال فيه ، بل لعدم صلاحية مدخول الفاء لكونه جزاء.

وإلاّ كان هو الجزاء ـ وكثرة الاستعمال في العلية معارضة بكثرة استعمال مثل هذا التركيب في الجزاء أيضا ـ كما في قوله تعالى : ( فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ )(٢). وقوله تعالى : ( فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ )(٣) وغيرهما.

فإذا كان مدخول الفاء فيما نحن فيه صالحا لكونه جزاء كما بيناه تعين حمله على ذلك ، لأن الالتزام بتقدير الجزاء وقيام العلة مقامه ، التزام بخلاف الظاهر ، فان التقدير على خلاف الأصل في الاستعمالات ، مع ان الفاء ظاهرة في كون مدخولها هو الجزاء ، فيتعين الالتزام بالاحتمال الثاني. وقد عرفت ان مقتضاه دلالة الرواية على الاستصحاب في غير باب الوضوء.

كما انك عرفت ان مقتضى الاحتمال الأول اختصاص الاستصحاب بباب الوضوء ، إلاّ ان الشيخ رحمه‌الله تصدى لإثبات العموم ببيان : ان اللام في قوله : « ولا ينقض اليقين ... » للجنس لا للعهد ، فتفيد قاعدة عامة لمطلق افراد اليقين والشك بلا اختصاص باليقين بالوضوء (٤).

ولكن يورد عليه بما أفيد من : انه لا أثر لدعوى كون اللام للجنس لا

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٢٢.

(٣) سورة يونس ، الآية : ١٠٦.

(٤) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٥

للعهد ، وذلك لأن اليقين في الصغرى اما ان تلحظ في خصوصية الوضوء بنحو التقييد أولا.

فان لوحظت فيه بنحو التقييد لم ينفع كون اللام للجنس في إثبات عموم الكبرى ، لما عرفت من لزوم اتحاد الأوسط المتكرر في الصغرى والكبرى في الخصوصيات ، فيكون ذلك قرينة على تقييد اليقين المأخوذ في الكبرى.

وان لم تلحظ فيه بنحو التقييد ، بل لوحظ اليقين بما هو يقين لا أكثر ، كانت الكبرى عامة لكل باب وان كانت اللام للعهد ، إذ المعهود هو ذات اليقين لا اليقين الخاصّ.

ومع التردد في أخذ الخصوصية بنحو التقييد أو بنحو الموردية ، كان الكلام مجملا لاحتفافه بما يصلح للقرينية.

فظهر انه لا فائدة في تحقيق ان اللام للجنس لإثبات العموم ، بل المدار على إلغاء خصوصية تعلق اليقين بالوضوء.

ولأجل ذلك لا بد من تحقيق ان خصوصية تعلق اليقين بالوضوء ، هل هي ملحوظة في الحكم أو لا؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله وجوها ثلاثة لإثبات إلغاء الخصوصية.

الوجه الأول : ما أفاده من ظهور التعليل في كونه بأمر ارتكازي لا تعبدي ، وهو يقتضي ان يكون موضوع النقض مطلق اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء ، لأنه لو قيد اليقين بالوضوء كان التعليل تعبديا وهو خلاف الظاهر.

الوجه الثاني : ان احتمال اختصاص قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » بباب الوضوء ليس إلاّ من جهة احتمال كون اللام للعهد ، مع ان الظاهر كونها للجنس كما هو الأصل فتفيد العموم.

الوجه الثالث : ان قوله : « فانه على يقين من وضوئه » لا ظهور له في تقيد

٤٦

اليقين بالوضوء ، بحيث يكون الأوسط هو اليقين بالوضوء ، لقوة احتمال ان يكون قوله : « من وضوئه » متعلقا بالظرف المقدر لا بلفظ اليقين ، فكأنه قال : « فانه من طرف وضوئه على يقين » ، فيكون الأوسط هو ذات اليقين لا خصوص اليقين بالوضوء (١).

اما الوجه الأول ، فقد يورد عليه : بان الحكم المذكور في العلة لا يلزم ان يكون معلوما لدى المخاطب وفي ذهنه في مرحلة سابقة على الخطاب ، بل قد يفهم حكم العلة بنفس التعليل ، كما لو قال : « أكرم زيدا لأنه عالم » ولم يكن في ذهنه وجوب إكرام العالم ، بل يستفاد وجوب إكرام العالم من نفس هذا الدليل.

وهذا الإيراد قابل للدفع ، ويتضح ذلك ببيان مرادة قدس‌سره ، فنقول : ان العلة « تارة » : تكون حكما ارتكازيا عقلائيا أو شرعيا ، كما لو قال : « لا تضرب اليتيم لأنه ظلم » ، فان حرمة الظلم عقلا وشرعا ثابتة في الأذهان. « وأخرى » : تكون حكما تعبديا غير مرتكز ذهنا ، كما لو قال : « أكرم زيدا لأنه عالم ».

والتعليل في كلا الموردين ظاهر في ملاحظة العلة ، وهي الحكم العام في مرحلة سابقة على الحكم الخاصّ في هذه القضية ، فيدل التعليل على ثبوت الحكم العام في حد نفسه ، وانه ثابت للمورد الخاصّ من باب التطبيق وكونه أحد أفراده.

ثم انه قد يتعقب التعليل جملة تتكفل ببيان حكم الموضوع العام ، مثل ان يقول : « أكرم زيدا لأنه عالم والعالم يجب إكرامه » و: « لا تضرب اليتيم لأنه ظلم والظلم حرام أو قبيح » ، فهل مثل هذه الجملة توضيح لما تقدم ـ لأن حكم العام قد فهم من نفس التعليل كما عرفت. ولذا لو اقتصر عليه ولم يتعقب بهذه الجملة فهم منه حرمة مطلق الظلم ووجوب إكرام مطلق العالم ـ أو أنه لبيان شيء آخر

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٨٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٧

متمم للتعليل كما هو مقتضى التركيب اللفظي لأن ظاهر الكلام انه جزء متمم للتعليل؟.

والّذي نستظهره هو الثاني ، فانها ليست بيانا لمجرد ثبوت الحكم للموضوع العام ، كما هو مقتضى الجمود على حاق اللفظ ، كي تكون توضيحا لما تقدم ، بل هي لبيان مناسبة ثبوت الحكم للموضوع العام ، وان الموضوع العام يناسب ان يثبت له هذا الحكم ، فكأنه قال : « والعالم يناسب أو ينبغي ان يثبت له وجوب الإكرام » ، فيكون ذلك تعليلا بأمر ارتكازي ، وهذا هو معنى ظهور التعليل في أنه بأمر ارتكازي ، فيحمل الكلام على ذلك ، لأنه أخذ في التعليل ، لا على بيان مجرد ثبوت الحكم للموضوع العام ، فانه ليس أمرا ارتكازيا دائما ، إذ قد يكون مجهولا غير معلوم.

وعليه ، ففيما نحن فيه علل نفي وجوب الوضوء في مورد السؤال في الرواية بأنه على يقين من وضوئه ، ثم عقبه بقوله : « ولا ينقص اليقين بالشك » ، وظاهر هذه الجملة الأخيرة بمقتضى ما ذكرناه أنها في مقام بيان المناسبة لعدم نقض اليقين بالشك ، والتناسب بين اليقين وعدم نقضه بالشك هي جهة الاستحكام والإبرام فيه ، وجهة التزلزل في الشك فلا يناسب ان ينقض به اليقين.

ولا يخفى انه لا خصوصية لمتعلق اليقين في ذلك بل المدار على نفس اليقين والشك.

وعليه ، فيكون الحكم ثابتا في مطلق موارد اليقين بمقتضى كون التعليل بأمر ارتكازي.

هذا غاية ما يمكن توجيه ما أفاده في الكفاية.

ولكن يمكن ان يناقش فيه : بأنه انما يتم لو كان قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » تمام التعليل.

٤٨

ولكنه ليس كذلك ، بل هو جزء التعليل ، فان التعليل بحسب ظاهر الكلام مركب من جزءين : أحدهما : كونه على يقين من وضوئه ، والآخر : عدم مناسبة نقض اليقين بالشك فلو فرض ظهور الجزء الأول في دخل خصوصية الوضوء فلا معنى لإلغائها ، نظير ما لو صرح بان الملاك في ثبوت الحكم هو كونه على يقين من الوضوء بما هو كذلك ومناسبة عدم نقض اليقين بالشك ، فانه لا منافاة في ذلك لشيء. فلا ملازمة بين أخذ المناسبة في العلة وبين إلغاء خصوصية الوضوء فلاحظ.

واما الوجه الثاني : فقد عرفت المناقشة فيه حين التعرض لكلام الشيخ ، وبيان ان الملاك في العموم إلغاء خصوصية الوضوء ، سواء كانت اللام للجنس أو للعهد.

واما الوجه الثالث : فهو متين ، فانه إذا فرض عدم أخذ الوضوء في المتعلق ، بل أخذ الأوسط هو اليقين مجردا عن خصوصية تعلقه بالوضوء ، كان الدخيل في العلة هو مطلق اليقين لا اليقين الخاصّ. فيكون كما لو قال : « فانه من وضوئه على يقين » ، فانه لا يتوهم تقيد اليقين بالوضوء ، ولا أثر لتأخير قوله : « من وضوئه » أو تقديمه في ذلك.

يبقى بيان سرّ عدم كون قوله : « من وضوئه » متعلقا لليقين ، بل بالظرف المقدر ، وهو ان اليقين انما يتعدى إلى متعلقه بـ : « الباء » لا بـ : « من » فيقال : تيقن بكذا وأنا على يقين بكذا ، ونحو ذلك وهو واضح.

ويضاف إلى هذا الوجه وجه آخر ، وهو ما أشير إليه في بعض الكلمات من ان اليقين لما كان من الصفات التعلقية التي تتقوم بالمتعلق مضافا إلى الموضوع ، كان ذكر المتعلق غير كاشف عن خصوصية فيه ، بل انما هو من باب لا بدية المتعلق فيه (١).

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ١٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٩

هذا تمام الكلام في معنى الرواية. وقد عرفت ان الأقرب ما ذكرناه.

ثم انك عرفت فيما تقدم وجود القول بالتفصيل في اعتبار الاستصحاب بين مورد الشك في البقاء لأجل الشك في المقتضي فلا يعتبر فيه الاستصحاب.

ومورد الشك في البقاء لأجل الشك في الرافع فيعتبر فيه الاستصحاب وممن بنى على هذا القول الشيخ رحمه‌الله مستظهرا لاختصاص من نصوص الاستصحاب (١). وخالفه في ذلك صاحب الكفاية فذهب إلى اعتبار الاستصحاب مطلقا ، وفي كلا الموردين لعموم النصوص (٢).

وقد تعرض الشيخ إلى بيان جهة الاختصاص بعد ذكره لجميع النصوص ، ولكن صاحب الكفاية تعرض إليه هاهنا.

ونحن نتعرض فعلا إلى ذلك وبيان ما هو الحق لدينا ، لأن ترتيب أبحاثنا يتبع نهج الكفاية.

فنقول : ان منشأ ما ذهب إليه الشيخ من اختصاص الاستصحاب بمورد كون الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع ، هو لفظ : « النقض » الوارد في النص ، وعليه يدور محور الحديث.

فقد أفاد الشيخ رحمه‌الله : ان حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل ونقض الغزل ، والمفروض انه لم يستعمل في النص في هذا المعنى ، فيدور أمره بين ان يراد به رفع الأمر الثابت الّذي له اقتضاء الاستمرار ، وان يراد به مطلق رفع اليد عن الشيء بعد الأخذ به ولو كان رفع اليد لأجل عدم المقتضي ، والمتعين هو الأول لأنه اقرب إلى المعنى الحقيقي من الثاني.

وقد ذكر : ان ذلك يكون منشئا لتخصيص المتعلق باليقين المتعلق بما من

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٢٨ و ٣٣٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٠

شأنه الاستمرار وان كان في نفسه عاما لكل يقين ، إذ الفعل الخاصّ يكن مخصصا لعموم متعلقه ، نظير قول القائل : « لا تضرب أحدا » المحمول على خصوص الأحياء ، لظهور الضرب في المؤلم ، ولا يكون عموم : « أحد » لغير الأحياء قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه ولو لم يكن مؤلما.

ثم تعرض لتوهم : ان ما اختاره يستلزم التصرف في لفظ اليقين بحمله على إرادة المتيقن منه ، إذ التفصيل المزبور بلحاظ المتيقن. فدفعه : بان التصرف لازم على كل حال ، ولو التزم بالتعميم ، لأن النقض الاختياري المتعلق للنهي لا يتعلق باليقين ، بل المراد نقض ما كان على يقين منه كالطهارة ، أو المراد أحكام اليقين لا بمعنى أحكام نفس وصف اليقين ، لأنها ترتفع بمجرد الشك ، بل أحكام المتيقن الثابتة له بسبب اليقين ، هذا خلاصة ما أفاده الشيخ رحمه‌الله (١).

واما صاحب الكفاية ، فقد أوقع البحث تارة : في مادة النقض. وأخرى : في هيئة : « لا تنقض » وذكر : ان شيئا منهما لا يستلزم التخصيص بما ذهب إليه الشيخ.

اما من حيث المادة ، فقد أفاد : ان النقض ضد الإبرام ، فيحسن ان يسند إلى نفس اليقين ولو كان متعلقا بما لا اقتضاء فيه للبقاء ، لما يتخيل فيه من الاستحكام فجهة الاستحكام في اليقين هي المصححة لإسناد النقض إليه ولا عبرة بما فيه اقتضاء البقاء إذ ليس المصحح لإسناد النقض وجود المقتضي للبقاء وإلاّ لصح ان يقال : « نقضت الحجر من مكانه » مع انه ركيك. ولما صح ان يقال : « انتقض اليقين باشتعال السراج » فيما إذا شك في بقائه لأجل الشك في مقدار استعداده ، مع انه حسن وصحيح. فيكشف ذلك عن ان مناط صحة اسناد النقض هو جهة الاستحكام ، وهي ثابتة في اليقين في كلا الموردين ، فيسند

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٥١

النقض حقيقة إلى اليقين بملاحظته لا بملاحظة متعلقه ، فلا تصل النوبة إلى التجوز كي يتوخى أقرب المجازات.

وأورد على نفسه : بان اليقين ـ في باب الاستصحاب ـ لا ينقض حقيقة. إذ اليقين بالحدوث ثابت ، فلا بد من فرض المتيقن مما له اقتضاء البقاء ، كي يكون اليقين بالحدوث حقيقة يقينا بالبقاء مسامحة ، فيصح اسناد النقض إلى اليقين مسامحة بهذه الملاحظة. بخلاف ما إذا لم يكن للمتعلق اقتضاء البقاء ، فانه لا يقين بلحاظ البقاء ولو مسامحة ، فلا معنى لإسناد النقض إلى اليقين.

وأجاب عن ذلك : بان هنا وجها آخر هو الظاهر لتصحيح اسناد النقض إلى اليقين بلا حاجة إلى هذا الوجه ، وهو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا ، وإلغاء جهة اختلافهما زمانا ، وهذا يصحح اسناد النقض إليه ، ولا فرق في ذلك بين تعلقه بماله اقتضاء البقاء وما ليس له اقتضاء البقاء.

واما من حيث الهيئة ، فقد أفاد : بان المراد هو النهي عن النقض بحسب البناء والعمل لا حقيقة ، لأن النقض الحقيقي خارج عن الاختيار سواء تعلق باليقين أم بالمتيقن أم بآثار اليقين.

وعليه ، فلا يجوز التصرف بحمل اليقين على إرادة المتيقن لأجل إبقاء الصيغة على حقيقتها ، بل يؤخذ بما هو الظاهر من النهي عن نقض اليقين.

ثم أورد على نفسه : بأنه لا محيص عن التصرف في لفظ اليقين وحمله على إرادة المتيقن ، إذ المنهي عنه وان كان هو النقض العملي ، لكنه غير مراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره ، لمنافاته لمورد النصوص ، بل المراد هو النهي عن نقض المتيقن بحسب العمل.

وأجاب عنه : بان النهي متعلق بنقض اليقين ، لكن اليقين ليس ملحوظا باللحاظ الاستقلالي ، بل ملحوظا مرآة للمتيقن وبالنظر الآلي ، فيكون كناية عن لزوم البناء والعمل بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما أو لحكمه إذا

٥٢

كان موضوعا. هذه خلاصة ما أفاده صاحب الكفاية (١).

والّذي يبدو ان نقطة الخلاف بين الشيخ وبينه هو : ان نظر الشيخ إلى ان النقض مسند في الواقع إلى المتيقن ، فيعتبر فيه كونه مما فيه اقتضاء البقاء. ونظره قدس‌سره إلى ان النقض مسند إلى اليقين بنفسه ، وهو ذو جهة تصحح اسناد النقض إليه ، أعم من ان يكون متعلقة ذا اقتضاء للبقاء أو لا يكون ، وهي جهة الاستحكام فيه فلا وجه لحمله على خلاف ظاهره والالتزام بتخصيص الاستصحاب بخصوص مورد الشك في الرافع.

وتحقيق الكلام في المقام على نحو يرتفع به بعض الإبهام : ان لفظ النقض يسند إلى الدار ، فيقال : « نقض الدار » ويفسر في كتب اللغة بهدم الدار ، ويسند إلى الحبل ويفسر بحلّه ، ويسند إلى العظام ، فيقال : « نقض العظم » ويفسر بالكسر ، ويسند إلى الحكم ، فيقال : « نقض الحكم » في قبال إبرامه ، ونصّ في اللغة على أنه مجاز (٢). كما يقال : قولان متناقضان ، وغير ذلك ، كما انه قد يفسر الإنقاض بمعنى التصويت كما في مثل قوله تعالى : ( الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ )(٣) فانه فسر بالتصويت (٤).

والّذي يمكن الجزم به ان الكسر والهدم والحل والرفع كل ذلك ليس معنى للنقض ، وانما هو تفسير له باللازم أو المحقق لمفهومه ، والمعنى الجامع بين هذه الموارد جميعا هو ما يساوق التشتيت والنكث وفصل الأجزاء بعضها عن الآخر ، فنقض الشيء يرجع إلى رفع الهيئة الاتصالية وتشتيت الاجتماع الحاصل للأجزاء. وبذلك يكون نقض الدار بمعنى هدمها لأنه بالهدم تنعدم الهيئة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩١ ـ ٣٩٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) اقرب الموارد مادة نقض.

(٣) سورة الشرح ، الآية : ٣.

(٤) الفضل بن الحسن العلاّمة الطبرسي. مجمع البيان ٥ ـ ٥٠٨ ـ الطبعة الأولى.

٥٣

الاجتماعية لأجزاء الدار من غرفة وسطح وصحن وغير ذلك.

كما ان نقض العظم يكون بكسره ، لأنه يفصل اجزاء العظم بعضها عن الآخر.

ومعنى نقض الحبل نكثه وحله. ومثله نقض الغزل وهكذا.

وبالجملة : النقض هو إعدام الهيئة التركيبية ورفع الاتصال بين الاجزاء ولعله مراد الشيخ رحمه‌الله من انه رفع الهيئة الاتصالية.

وعليه ، فإسناد النقض إلى ما لا أجزاء له كالحكم والبيعة والعهد واليقين ، اسناد مجازي ، والمصحح له أحد وجهين :

الوجه الأول : ان يلحظ استمرار وجود الشيء ، فتكون له وحدة تركيبية بلحاظ الاجزاء التدريجية المتصلة ، فان الموجود التدريجي المتصل وجود واحد ذو اجزاء بلحاظ تعدد آنات الزمان ، ويكون المراد من نقضه قطع الاستمرار وعدم إلحاق الاجزاء المفروضة المقدرة بالاجزاء المتقدمة ، فيصدق النقض بنحو المجاز بهذه الملاحظة ، ولا يكون صدقة حقيقيا ، لعدم تحقق الأجزاء اللاحقة ، بل ليس المجرد الفرض والتقدير.

والوجه الثاني : ان يكون بلحاظ عدم ترتب الأثر على المنقوض ، فيشابه المنقوض حقيقة من هذه الجهة.

ولكن المتعين هو الأول من الوجهين ، إذ الثاني غير مطرد ، إذ نفي الأثر مع عدم إلغاء الهيئة التركيبية للشيء المركب حقيقة لا يطلق بلحاظه النقض ولو بنحو المجاز ، فالمصحح يتعين ان يكون هو الأول.

ثم لا يخفى عليك انه لا يعتبر ان يكون متعلق النقض مما فيه إبرام فعلا ، لصدق النقض بدونه ، كما لو كان صف من اشخاص واقفين بلا استحكام وإبرام فيه ، فتفرقة افراد الصف نقض للصف مع عدم الإبرام. ولعله مما يشهد لما ذكرنا :

ان أهل اللغة يفسرون نقض الحكم برفعه في مقابل إبرامه ، فيجعلون الإبرام في

٥٤

عرض النقض لا في مرحلة سابقة عليه ، كما لا يعتبر فيه الاستحكام أو الاستمساك ، فان جميع ذلك لزوم ما لا يلزم ، لصدق النقض بدونه جزما كمثال الصف المتقدم.

وبالجملة : لا يعتبر في متعلق النقض شيء مما ذكر من الإبرام أو الاستحكام أو التماسك ، بل المعتبر كونه ذا اجزاء ، فانفصام وحدته التركيبية وانفصال اجزائه بعضها عن بعض وتشتتها يعد نقضا.

وقد عرفت ان صدق النقض فيما لا اجزاء له كالحكم والعهد انما يكون بنحو المجاز بلحاظ الوحدة الاستمرارية.

وبذلك يظهر ان صدق النقض في مورد اليقين يكون مجازيا ، لأنه لا اجزاء له ، فلا بد من ملاحظة وحدته الاستمرارية ، فرفع اليد عن استمراره يكون نقضا له.

ولا يخفى ان رفع اليد عن استمراره وانقطاع الاتصال في عمود الزمان ينشأ.

تارة : من انتهاء أمد الشيء لتحديد ثبوته بأمد خاص ، كالزوجية المنقطعة بعد انتهاء الزمن.

وأخرى : من وجود ما يرفعه بحيث لولاه لاستمر وجوده لعدم تحديده بأمد معين.

ونقض الشيء بلحاظ عدم استمراره انما يصدق في المورد الثاني لا المورد الأول ، فلا يكون ارتفاع الطهارة الموقتة بوقت خاص بعد حصول الوقت نقضا لها ، واما ارتفاعها بالحدث القاطع لاستمرارها فيعد نقضا لها. كما ان انتهاء الصلاة بالسلام والخروج عن الصلاة به لا يكون نقضا للصلاة ، لكن الخروج عن الصلاة بالحدث يكون نقضا لها. والزوجية لا تنتقض بانتهاء المدة ، لكنها تنتقض بالفسخ أو الطلاق ، كما ان ملكية البطون للوقف لا تنتقض بانعدام

٥٥

البطن ، ولكن الملكية تنتقض بالفسخ والكفر في بعض الموارد. وهذا واضح لا غبار عليه.

وعلى هذا نقول : ان صدق نقض اليقين بلحاظ وحدته الاستمرارية ـ كما عرفت ـ وبما ان اليقين يتبع المتيقن ، فاستمراره باستمرار وجود اليقين وارتفاعه بارتفاع المتيقن.

وعليه ، فارتفاع اليقين تارة : يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة انتهاء أمده وتمامية استعداده للبقاء. وأخرى : لارتفاع المتيقن من جهة تحقق ما يرفعه مع استعداده للبقاء لو لا الرافع. وانتقاض اليقين انما يصدق في الصورة الثانية دون الأولى ، لما عرفت من ان ارتفاع الشيء لعدم مقتضية وانتهاء أمده لا يعد نقضا. وبما ان الظاهر من قوله : « ولا ينقض اليقين بالشك » كون مورد الاستصحاب هو الشك في البقاء أو الانتقاض ودوران الأمر بينهما ، بحيث يكون أحد طرفي الاحتمال هو البقاء والطرف الآخر هو الانتقاض ، كان مقتضى ذلك اختصاص النص بمورد الشك في البقاء من جهة الشك في الرافع المستلزم للشك في الانتقاض ، إذ مع الشك في البقاء من جهة الشك في قصور المقتضي وانتهاء أمده لا انتقاض قطعا ، بمعنى انه يعلم بعدم الانتقاض ، إما للارتفاع بانتهاء الأمد واما لعدم الارتفاع ، وكلاهما لا يعد انتقاضا ، فلا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.

وبهذا البيان يتضح اختصاص النص بمورد الشك في الرافع كما ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله. وتبعه عليه المحقق النائيني (١) بعد بيان مراد الشيخ بما يقرب مما انتهينا إليه بواسطة هذا البيان ، وسيتضح ذلك إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك يشكل جريان الاستصحاب في جميع موارد الشك في الموضوع

__________________

(١) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٣٨٠ ـ الطبعة الأولى.

٥٦

وستعرف هذه الخصوصيات تدريجا إن شاء الله تعالى.

ومما بيناه يتضح ان ما أفاده صاحب الكفاية ـ من صدق النقض مطلقا بملاحظة ما اليقين من الاستحكام ، ولذا يقال : « انتقض اليقين باشتعال السراج » إذا انطفأ لانتهاء نفطه ـ مثلا ـ ، ولا يلحظ في صدق النقض قابلية الشيء للاستمرار ، ولذا لا يصدق : « نقضت الحجر من مكانه » ـ. في غير محله ، فانه مضافا إلى التشكيك في تصور الاستحكام بالنسبة إلى اليقين على رفع الحجر المثبت في الأرض بنحو مستحكم جدا ، فلا يقال لرفعه انه نقض ، بل النقض ـ كما عرفت انما يصدق بلحاظ فتّ الأجزاء المتصلة للمركب اما حقيقة أو مسامحة.

واما دعوى صدق النقض في مثال السراج فقد عرفت ما فيها ، ولم يثبت ركاكة صدق النقض في مثال الحجر إذا كان الملحوظ انتقاض. استمرار كونه في المكان الخاصّ ، لا انتقاض نفس الحجر من مكانه كما هو ظاهر العبارة في المثال.

ثم ان الشيخ رحمه‌الله عبر عن النقض بأنه رفع اليد ، وخصه برفع اليد عن الأمر الثابت (١).

فأورد عليه : بأنه لا وجه لتقييده برفع اليد عن الأمر الثابت ، بل مقتضى الإطلاق التعميم لغير الأمر الثابت (٢).

ويمكن دفع هذا الإيراد عنه ، بأنه ليس المقصود كون حقيقة النقض ومفهومه هو رفع اليد ، بل المقصود ان النقض حيث انه لا يصدق حقيقة لأنه ليس من افعال المكلف الاختيارية ، فلا بد ان يراد به النقض بحسب العمل الراجع إلى عدم ترتيب الآثار ورفع اليد عن المتيقن ، فإذا فرض كون مفهوم

__________________

(١) الأنصاري المحقّق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٧٨ ـ القسم الأول ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٥٧

النقض يساوق فصم الوحدة التركيبية ، كان المقصود به هاهنا رفع اليد عن خصوص الأمر الثابت لانسجامه مع مفهوم النقض. فالتفت ولا تغفل.

والمتحصل : ان مقتضى النهي عن النقض اختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع سواء تعلق النقض باليقين أم بالمتيقن.

هذا وينبغي التكلم في جهات :

الجهة الأولى : ان النقض في باب الاستصحاب هل يعقل ان يتعلق باليقين أو لا؟. والكلام في ذلك بعد الفراغ عن قابلية اليقين في حد نفسه لتعلق النقض به ، كما عرفت ذلك بملاحظة وحدته الاستمرارية.

وتحقيق الكلام ، هو : ان النقض في باب الاستصحاب لا معنى لأن يتعلق باليقين أصلا. وذلك لأن نقض اليقين ـ على ما عرفت ـ يرجع إلى عدم وحدته الاستمرارية وتخلل العدم بينها. وعليه نقول : ان لدينا يقينين : أحدهما : اليقين بالوجود الفعلي للشيء ، وهذا لا شبهة في انتقاضه بالشك بقاء أو اليقين بالخلاف ، لأن اليقين بوجود الشيء له وحدة استمرارية ، فإذا زالت بقاء بالشك أو باليقين بخلافه فقد اختلت الوحدة ، ويتحقق الانتقاض ، ولذا لا يجتمع اليقين بالوجود الفعلي مع الشك فيه أو اليقين بعدمه ، لأن أحدهما ناقض للآخر. والآخر : اليقين الفعلي بالوجود السابق وهذا لا ينتقض بالشك في الوجود الفعلي بقاء أو اليقين بعدمه بقاء بل قد يجتمعان في آن واحد كما لا يخفى. بل لا يكون اليقين بوجوده فعلا استمرار لليقين بالوجود السابق ، إذ قد يحصلان في آن واحد ، فلا معنى لأن يكون أحدهما استمرارا للآخر.

وسرّ ذلك : ان وحدة اليقين بلحاظ وحدة متعلقه ، فإذا اختلف المتعلق اختلف اليقين. فاليقين يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة واليقين بعدالته يوم السبت فردان لليقين لاختلاف متعلقهما ، ولأجل ذلك لا يكون اليقين بعدم

٥٨

العدالة يوم السبت ناقضا لليقين يوم السبت بعدالته يوم الجمعة ، لعدم إخلاله بوحدته الاستمرارية ، كيف؟ وقد يجتمعان معا في آن واحد.

وإذا اتضح ذلك فنقول : ان كان المأخوذ في باب الاستصحاب هو اليقين السابق بالوجود الفعلي ، كان الشك بقاء ناقضا له لإخلاله باستمراره ، فصح ان يسند النقض إلى اليقين.

ولكن الأمر ليس كذلك ، فان المأخوذ هو اليقين الفعلي بالوجود السابق ، سواء كان يقين سابق بالوجود الفعلي أم لم يكن ، ولذا قد يحصل الشك في البقاء قبل اليقين بالحدوث. ومثل هذا اليقين لا يكون الشك ناقضا له ـ كما عرفت ـ ، فلا معنى للنهي عن نقضه به. فلا محيص عن ان يكون المسند إليه النقض هو المتيقن نفسه بلحاظ انقطاع استمراره بوجود الرافع المشكوك. ويكون التعبير باليقين طريقيا على ما يأتي بيانه في الجهة الثالثة.

واما ما أفاده الشيخ رحمه‌الله ـ في ذيل كلامه السابق ـ من عدم اسناد النقض إلى اليقين بل إلى المتيقن فان أراد به عدم قابلية اليقين في حد نفسه لإسناد النقض إليه ـ كما هو ظاهر عبارته ـ ، فقد عرفت انه قابل لذلك بلحاظ الاستمرار فيه. وان أراد به ما ذكرناه من ان اليقين في باب الاستصحاب لا معنى لإسناد النقض إليه ، فهو تام كما عرفت.

واما ما أفاده صاحب الكفاية في كلامه عن مادة النقض من الإيراد على نفسه والجواب عنه. فهو مما لا ينبغي ان يصدر من مثل صاحب الكفاية. وذلك : فان ما ذكره تحت عنوان : « ان قلت » ـ من ان النقض الحقيقي لا يتعلق باليقين ، إذ اليقين بالحدوث لا ينتقض ، وانما يبتني صدق النقض على فرض تعلق اليقين بالبقاء مسامحة كي ينتقض بالشك بقاء ، وذلك انما يكون فيما إذا كان متعلق اليقين ذا اقتضاء للبقاء ، بحيث يكون اليقين بحدوثه يقينا ببقائه مسامحة ـ. يظهر منه انه صحيح في نفسه ، لكن تخلص عنه بان هنا وجها آخر لصدق النقض ،

٥٩

وهو تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصية الزمان وملاحظتهما أمرا واحدا بإلغاء اختلافهما زمانا.

والّذي نراه عدم سداد كل من الإيراد وجوابه.

اما الإيراد ، فلما عرفت من ان النقض لا يعقل ان يتعلق باليقين بنحو من الأنحاء ، إذ موضوع الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالوجود السابق ، وهو لا ينتقض حقيقة ولا مجازا بالشك ، وليس الموضوع هو اليقين بالوجود الفعلي حتى يتصور اليقين المسامحي بالبقاء عند تعلق اليقين بالحدوث ، فيسند إليه النقض بلحاظ منافاته مع الشك.

هذا ، مع ان هذا اليقين المسامحي لا يزول بالشك ، لأنه مبني على المسامحة والفرض ، وهو لا يتناقض مع وجود الشك حقيقة بالوجود الفعلي. فتدبر.

واما الجواب عنه ، فلم يعرف له معنى محصل ، إذ مع فرض تجريد متعلق اليقين والشك عن خصوصية الحدوث والبقاء وإلغاء جهة اختلافهما زمانا ، كيف يعقل اجتماع اليقين والشك كي ينهى عن النقض بالشك؟. والمفروض ظهور الدليل في موضوعية كل من اليقين والشك بوجودهما الفعلي بحيث يظهر منه فرض اجتماعهما في آن واحد. هذا إذا فرض تعلق الشك بما تعلق به اليقين.

وان أريد تعلق كل منهما بالطبيعة بنحو الموجبة الجزئية ، فاجتماعهما في آن واحد ممكن ، إذ يمكن ان يكون متعلق الشك الطبيعة بلحاظ حصة ، ومتعلق اليقين نفس الطبيعة بلحاظ حصة أخرى ولكنه راجع إلى اختلاف المتعلقين ، وتعلق الشك بغير ما تعلق به اليقين ، وفي مثله لا يصدق النقض والبقاء كما لا يخفى.

وجملة القول : ان ما أفاده صاحب الكفاية هاهنا غير وجيه. فالمتعين ما ذكرناه من المنع عن تعلق النقض باليقين ـ في باب الاستصحاب ـ ، ولا بدية رجوعه إلى المتيقن.

٦٠