منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

فلو كان المراد من اليقين في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » اليقين الوجداني ، لكان الكلام لغوا ، إذ النقض باليقين لا يحتاج إلى بيان وتنبيه ، لأنه مسلم لا ارتياب فيه.

ودعوى : ان قوله المذكور ليس مفاده الاستدراك وبيان ناقضية اليقين كي يشكل بلزوم اللغوية ، بل المراد منه حصر الناقض في اليقين (١).

مندفعة : بان : « لكن » ظاهرة في الاستدراك ، و « اليقين » ظاهر في اليقين الوجداني ، والجمع بين الظهورين ممتنع للزوم اللغوية ـ كما عرفت ـ ، فلا بد من التصرف في أحد الظهورين ..

إما في ظهور : « لكن » ، فيحمل الكلام على الحصر ، حيث ان المنفي هو خصوص النقض بالشك دون غيره من الأمور غير اليقينية ، فالمراد بيان انحصار الناقض باليقين ، ولذلك استفيد منه ان الشك أعم من تساوي الطرفين والظن والوهم.

واما في ظهور : « اليقين » بحمله على مطلق الحجة ، فيصح الاستدراك حينئذ كما لا يخفى.

وبمقتضى الوجوه المذكورة يتعين التصرف في ظهور اليقين ، ويبقى ظهور : « لكن » على حاله.

ولو أبيت الا عن الالتزام بتصادم الظهورين ، فالكلام يكون مجملا في مورد قيام حجة غير القطع على خلاف اليقين السابق ، إذ لا يعلم إرادة الصفة الوجدانية من اليقين ، فلا يجري الاستصحاب في ذلك المورد ، لعدم العلم بتحقق موضوعه ، فتبقى الأمارة بلا معارض.

وهذا وان لم يكن من الورود إلا انه نتيجة الورود.

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٢١

اللهم إلاّ ان يقال : ان « لكن » ظاهرة في الحصر ، لأنها عاطفة ، وهي من موجبات الحصر لا من أدوات الاستدراك. فدعوى إرادة الحصر لا توجب تصرفا في الظهور كي يقع الكلام في المرجح لأحد التصرفين على الآخر ، بل هي على وفق الظهور ومقتضاه.

وبذلك يخرج الكلام عن اللغوية.

هذا ، مضافا إلى إمكان دعوى استفادة الحصر من سياق الكلام لا من التصرف في « لكن » ، ويشهد له انه قد ذكر من جملة الوجوه على كون المراد من الشك في الاخبار هو مطلق عدم اليقين لا خصوص تساوي الطرفين : حصر الناقض في اليقين. وحينئذ يبقى اليقين على ظهوره ولا وجه للتصرف فيه. وعلى هذا لا يتم الوجه المذكور ، فلا يصلح لا ثبات الورود.

ولكن في الوجوه الثلاثة الأخر كفاية ، فانها توجب الاطمئنان ، بل القطع في كون موضوع الاستصحاب عدم الحجة على الخلاف.

وبذلك يتعين القول : بان تقدم الأمارة على الاستصحاب من باب الورود.

وعليه فلا مجال لدعوى الحكومة أو التخصيص. مع انه لو أغمضنا النّظر عن تمامية دعوى الورود فدعوى الحكومة غير تامة ، إذ غاية ما ترتكز عليه هو كون دليل اعتبار الأمارة يتكفل إلغاء احتمال خلاف الأمارة تنزيلا ، فمع قيام الأمارة على خلاف الحالة السابقة يتكفل دليل الأمارة إلغاء احتمال خلافها تنزيلا. ومقتضاه إلغاء احتمال بقاء الحالة السابقة الّذي هو موضوع الاستصحاب ، فيرتفع موضوع الاستصحاب تنزيلا ، لأن موضوعه الاحتمال والشك ، ومفاد دليل الأمارة رفع هذا الاحتمال وإلغائه. فيكون دليل الأمارة حاكما على دليل الاستصحاب لأنه يكون ناظرا بمدلوله اللفظي إلى دليل الأصل وموجبا لتضييق دائرته.

٤٢٢

وقد بنى عليه المحقق العراقي (١) أيضا إلاّ ان تعبيره اختلف عن تعبير المحقق النائيني فقد التزم ( قده ) ان قيام الأمارة ـ بمقتضى دليل الاعتبار ـ يحقق غاية الاستصحاب وهو اليقين ولم ير بأنه يرفع موضوعه وهو الشك. ولعله لأجل ان موضوع الاستصحاب ليس عبارة عن عدم العلم كي يكون اعتبار العلم رافعا لموضوعه بل عبارة عن امر وجودي وهو الاحتمال الّذي يصل إلى حد العلم. ومن الواضح ان اعتبار أحد الضدين لا يلازم اعتبار عدم الضد الآخر فالتلازم بين الواقعين لا يستلزم التلازم بين الاعتبارين. وعليه فاعتبار العلم لا يلازم اعتبار عدم الاحتمال الخاصّ فلا يكون اعتباره رافعا لموضوع الاستصحاب.

ولكن لا يخفى عليك قوله عليه‌السلام : « ولكن تنقضه ... » ليس إنشاء لحكم جديد أو تحديدا للاستصحاب وانما هو عبارة أخرى عن ارتفاع موضوعه فهو بصدد بيان ارتفاع الاستصحاب عند ارتفاع موضوعه بلحاظ ملازمة اليقين لعدم موضوع الاستصحاب فليس له عنوانان أحدهما أخذ في الموضوع وأخر أخذ في الغاية. بل ليس إلاّ فرد واحد وهو المأخوذ في الموضوع فإذا فرض انه وجودي أشكل القول بالحكومة على هذا الرّأي من هذه الجهة. فانتبه.

وأما ما أفاده المحقق النائيني في الاستدلال على كون التقدم من باب الحكومة من : أن التحقيق كون المجعول في الأمارة هو الطريقية وتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف وما أشبه ذلك ـ لا المنجزية ، لاستلزامه تخصيص الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان وهو غير قابل للتخصيص ولا جعل المؤدى ، لمحذور اجتماع الحكم الواقعي والظاهري ـ وحينئذ يرتفع موضوع الاستصحاب تعبدا عند قيام الأمارة ، وهو معنى الحكومة ، لأنه أوجب التصرف في عقد الوضع (٢).

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٨ ـ ١٩ ـ القسم الثاني طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فرائد الأصول ٤ ـ ٥٩٥ ـ ٥٩٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٢٣

فلا يستلزم الحكومة ، لأنك عرفت ان الدليل المتكفل للاعتبار ـ نفيا ـ ..

تارة : يكون واردا على الدليل الآخر ، وذلك فيما إذا لوحظ الموضوع فيه ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من افراد الموضوع المرتب عليه الحكم إنشاء ، لأن الدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا يكون حينئذ رافعا لموضوع الحكم في الدليل الآخر حقيقة فيكون واردا عليه.

وأخرى : يكون حاكما على الدليل الآخر ، وذلك فيما إذا لم يكن قد لوحظ في الموضوع ما لم تنف فرديته اعتبارا ، بل أخذ مطلقا ، فحينئذ يحصل التنافي بين الدليلين بمدلولهما اللفظي ، فيكون أحدهما المعين ناظرا إلى الآخر وحاكما عليه.

وتقريب حصول النّظر الموجب للحكومة : بان الاعتبار إنما يكون بلحاظ ترتب أثر عليه أو نفي أثر عنه وإلا لكان لغوا ، فعند وجود دليل يتكفل ثبوت حكم لموضوع ما ، إذا ورد دليل يتكفل اعتبار أمر ليس بفرد من افراد ذلك الموضوع ، فإذا لم يكن لهذا الاعتبار أي أثر ظاهر يحكم بدلالة الاقتضاء ـ التي هي بملاك صون كلام الحكيم عن اللغوية ـ بأنه ناظر إلى نفي ترتب الأثر عليه ، فيحصل التنافي حينئذ ، لأن دليل الاعتبار ينفي ترتب الأثر على هذا الفرد بدلالته الالتزامية ، والدليل الآخر يتكفل بدلالته المطابقية ترتب الأثر عليه. ويقدم حينئذ دليل الاعتبار لكونه ناظرا إلى الدليل الآخر بمدلوله اللفظي ، فيكون بمنزلة القرينة عليه. ويحكم حينئذ بان موضوع الحكم في ذلك الدليل انما هو خصوص ما لم يقم على عدم فرديته اعتبار.

وبالجملة : فالدليل المتكفل لنفي الفردية اعتبارا إنما يكون حاكما على الدليل الآخر فيما إذا انحصر الأثر عليه في نفي الحكم الثابت للفرد بمقتضى الدليل الآخر ، لتتم دلالة الاقتضاء حينئذ فيحصل النّظر وإلا فمع وجود أثر

٤٢٤

آخر في نفي الفردية ، فلا يكون متكفلا لنفي الأثر الثابت بمقتضى الدليل الآخر ، لأنه انما يكون متكفلا لذلك بدلالة الاقتضاء ، وهي غير تامة مع وجود أثر للاعتبار.

وعلى هذا ، فدليل الأمارة وإن كان يتكفل اعتبار الطريقية وما ليس بعلم علما ـ باعتبار انحصار المجعول بذلك فتكون أمرا اعتباريا ـ ، إلا ان ذلك لا يوجب حكومته على دليل الاستصحاب ، لأن آثار اعتبار العلم لا تنحصر في نفى الأثر المترتب على عدم العلم ـ أعني : الاستصحاب ـ بل له آثار أخر كالمنجزية والمعذرية ، ومع وجود آثار له فلا تتم الحكومة لعدم تمامية دلالة الاقتضاء الموجبة للنظر والحكومة.

ودعوى : التمسك بإطلاق دليل الاعتبار في ترتيب جميع آثار العلم على الأمارة باعتبارها علما.

مدفوعة : بان التمسك بالإطلاق هاهنا يقتضي التصرف بجميع الأدلة الظاهرة في ترتيب الأحكام على الموضوعات الحقيقية الواقعية ، بحملها على ترتب الحكم على الموضوع الأعم من الواقعي والاعتباري ، لما عرفت من ان دلالة الاقتضاء تقتضي التصرف بدلالة الدليل الآخر ، فانه يستكشف بها كون الموضوع للأثر أعم من الفرد الواقعي والاعتباري ، وهو خلاف ظاهر الدليل. فالإطلاق يحتاج إلى مئونة فلا يصح التمسك به.

نعم ، لو كانت المنجزية من الآثار المختصة بالعلم الوجداني ، بحيث يكون ثبوتها للأمارة بدلالة الاقتضاء الموجبة للتصرف بدليلها ، كان التمسك بالإطلاق بالنسبة إلى جميع الآثار في محله ، لأن نسبة دلالة الاقتضاء إلى جميع الآثار متساوية ، ولا يكون في الإطلاق زيادة مئونة لتجشمها على كل حال. ولكنه ليس

٤٢٥

كذلك ، بل المنجزية من آثار الأعم من العلم الواقعي والاعتباري ، وهو البيان ، فثبوتها للأمارة بعد اعتبارها لم يكن بدلالة الاقتضاء ، فلا يوجب ثبوتها التصرف في أي دليل ، وثبوتها كان في رفع اللغوية. بل لو كانت من الآثار المختصة بالعلم الواقعي لما كان لترتبها على الأمارة ـ باعتبار الشارع علميتها ـ وجه ، لأنها من الأحكام العقلية لا الشرعية فلا تثبت باعتبار الشارع للمعتبر.

فما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره لا يخلو عن منع. ولا تتوجه به دعوى الحكومة ، بل ما ذكرناه هو الوجه الوجيه للدعوى. وبه تمسك الشيخ ( رحمة الله ) في إثبات الحكومة في باب الاستصحاب وباب التعادل والترجيح (١).

وقد نفي المحقق الخراسانيّ الحكومة. ولم يبين في باب الاستصحاب نفى الوجه الّذي تبتني عليه الحكومة ، وانما بيّن ان دليل الأمارة لا نظر له بمدلوله اللفظي إلى دليل الاستصحاب أصلا. وبدون ذلك لا تتحقق الحكومة (٢).

واما التنافي الحاصل بينهما في مقام العمل ، حيث ان كلا منهما وارد في مورد الآخر ، فهذا لا يوجب الحكومة ، لأنه لو كان يحقق النّظر لكان كلا منهما حاكما ومحكوما ، لأنه جهة مشتركة بينهما ولا تختص به الأمارة. مضافا إلى ان ملاك النّظر الموجب للحكومة لو كان هو التنافي بين المدلولين ، لما كانت الأمارة حاكمة على الاستصحاب في صورة الموافقة ، لانتفاء الملاك ـ أعني : التنافي ـ. وما بيّنه هاهنا أجنبي عن المهم في دعوى الحكومة أعني كون مفاد دليل الاعتبار نفى احتمال الخلاف.

نعم أشار إلى ذلك في مبحث التعادل والترجيح بقوله : « وكيف كان ليس

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠٧ و ٤٣٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٢٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٦

مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبدا » (١).

وعلى كل حال فيتلخص الخلاف بين الشيخ وصاحب الكفاية في أن الشيخ يذهب إلى كون دليل اعتبار الأمارة مفاده نفي احتمال الخلاف. وصاحب الكفاية يدعي عدم كونه كذلك. بل هو متكفل لجعل المنجزية والمعذرية أو جعل المؤدى. فالخلاف بينهما صغروي.

والّذي (٢) يستفاد من كلام المحقق الأصفهاني قدس‌سره في المقام انه على القول بان دليل اعتبار الأمارة يتكفل تنزيل الأمارة منزلة العلم وعلى القول بأنه يتكفل تنزيل مؤداها منزلة الواقع. يكون دليل الأمارة حاكما على دليل الاستصحاب.

وبيان ذلك : ان الأمارة والأصل يشتركان في كون مفادهما معا حكما ظاهريا ، ولكن الأمارة تفترق عن الأصل انها تتكفل أداء الحكم الظاهري بعنوان انه الواقع ، ولذا تترتب عليه آثار الواقع. بخلاف الأصل ، فان ما يتكفل بيانه ليس بعنوان انه الواقع ، بل هو في مرحلة متأخرة عن الجهل بالواقع. وعلى هذا ، فتتضح حكومة دليل الأمارة على دليل الاستصحاب لو كان متكفلا لتنزيلها منزلة العلم ، لأنه يتكفل رفع موضوع الاستصحاب ـ وهو الجهل بالواقع ـ تعبدا ، ويوجب التصرف في موضوع دليله فيكون ناظرا إليه وحاكما عليه.

أما إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل المؤدي منزلة الواقع ، فقد لا تتضح الحكومة حينئذ ، لأنه لم يؤخذ في موضوع دليل الاستصحاب عدم الواقع ، بل أخذ الشك وعدم العلم لا غير. فلا يوجب دليل الأمارة التصرف في موضوعه ، بل مفاده أجنبي عنه (٣).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٣٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) لم يتعرض السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ له في هذه الدورة. ( منه عفي عنه ).

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٢٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٧

ولذلك ذهب المحقق العراقي إلى عدم الحكومة على هذا القول (١).

ولكنه مع هذا يمكن تقريب الحكومة على هذا القول ببيان ان الموضوع إذا كان مركبا أو مقيدا ، فتنزيل أحد الجزءين أو تنزيل القيد مع إحراز الجزء الآخر أو ذات المقيد يوجب التئام الموضوع ويترتب عليه الحكم ، فتنزيل القيد على هذا تنزيل للمقيد بما هو مقيد لأنه يوجب تحققه تنزيلا ، فيكون التنزيل حينئذ موجبا للحكومة ، لأنه ناظر إلى موضوع الحكم فيضيقه أو يوسعه.

وموضوع الاستصحاب هو العلم المتعلق بالواقع ، فالواقع قيد للعلم. ولا إشكال في انه عند قيام الأمارة يعلم وجدانا بمؤداها ومفادها ، فإذا كان المؤدى بمنزلة الواقع ، خرج المورد حينئذ عن موضوع دليل الاستصحاب للعلم بالواقع حينئذ.

فبهذا التقريب تمكن دعوى حكومة دليل الأمارة على دليل الاستصحاب بناء على القول بان مفاد دليل الاعتبار تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، لأنه أيضا يوجب خروج المورد عن موضوع دليل الاستصحاب.

ولكنه وان أمكن تحققه ثبوتا ، غير انه ليس بثابت في مقام الإثبات ، فلا يتحقق ما هو أساس الحكومة من نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم.

وبيان ذلك : ان دليل التنزيل ظاهر عرفا في كون التنزيل بلحاظ ترتيب آثار نفس آثار المنزل عليه على المنزل ، لا الآثار الأخرى المرتبطة به بنحو ارتباط ، فتنزيل زيد منزلة عمر وانما يكون بلحاظ ترتيب نفس آثار عمر وعلى زيد ، لا آثار أبي عمرو أو أخيه على أبي زيد أو أخيه. ولما كانت الغاية في باب الاستصحاب وغيره من الأصول الشرعية هي العلم بالواقع ، فدليل الأمارة إذا كان يتكفل تنزيل المؤدى منزلة الواقع فهو انما يتكفل التنزيل المذكور بلحاظ

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ١٩ ـ القسم الثاني ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٢٨

ترتيب آثار نفس الواقع على المؤدى. أما ترتيب آثار ما يضاف إليه ويتعلق به ، فلا يتكفله دليل التنزيل.

وعليه ، فلا يتكفل ترتيب آثار العلم بالواقع على العلم بالمؤدى.

نعم ، فيما إذا لم يكن للقيد أثر مستقل أصلا ، إلا بلحاظ إضافة ذات المقيد إليه ، كان تنزيل شيء منزلته بلحاظ ترتيب آثار المقيد بما هو مقيد ، ويكون تنزيل القيد تنزيلا للمقيد بما هو كذلك التزاما.

وبما ذكرنا ، يندفع ما قد يستشكل به من انه : كما انه إذا كان دليل الأمارة متكفلا لتنزيل الأمارة منزلة العلم يتمسك بإطلاق دليل التنزيل ، فيترتب عليها جميع آثار العلم ، ولذلك يقال بحكومتها على أصالة البراءة وغيرها دون خصوص الاستصحاب. فكذلك إذا كان دليلها متكفلا لتنزيل مؤداها منزلة الواقع ، فليتمسك بإطلاق دليل التنزيل ويرتب على المؤدى جميع آثار الواقع ولو كانت مرتبطة به بنحو ارتباط.

فان ما ذكرناه لا ينافي التمسك بالإطلاق ، لأن ظاهر دليل التنزيل ترتيب آثار نفس المنزل عليه على المنزل ، فإذا كان له إطلاق يتمسك به في ترتيب جميع هذه الآثار عليه. فهاهنا يتمسك بإطلاقه في ترتيب جميع آثار نفس الواقع على المؤدى ، كما يتمسك بإطلاقه في ترتيب جميع آثار نفس العلم فيما إذا كان دليل التنزيل متكفلا لتنزيلها منزلة العلم.

وبالجملة : فما ذكر في تقريب الحكومة على هذا القول وان كان معقولا وممكنا ثبوتا ، إلا انه غير تام إثباتا ، لعدم وفاء دليل التنزيل فيما نحن فيه بذلك.

وعليه ، فينحصر الوجه الصالح لتقريب الحكومة فيما ذكره الشيخ وتصدى لنفيه صاحب الكفاية من : ان دليل الاعتبار يتكفل إلغاء احتمال الخلاف

٤٢٩

بتعبير ، وتنزيل الأمارة منزلة العلم بتعبير آخر. وهذا الوجه هو أساس الحكومة ، وهو كبرويا مسلم لأن الأمارة بورودها تحقق الغاية للاستصحاب ولكل أصل أو ترفع موضوعه ، فان الأصول الشرعية مغياة بالعلم أو مقيدة بعدم العلم ، والمفروض ان الأمارة علم تنزيلا ، فتتحقق الغاية بها أو يرتفع الموضوع. وبذلك تكون أدلتها حاكمة على أدلة الأصول لنفيها لموضوعها.

لكنه صغرويا محل إشكال بل منع ، فانه ثبوتا ممكن لكنه إثباتا صعب الإثبات ، فلا يمكن استفادة ذلك من أدلة الاعتبار.

وبيان ذلك : ان التنزيل عبارة عن أمر واقعي حقيقته ترتيب أثر شيء على شيء آخر ، وقد يكشف عنه اللفظ ، كما إذا صرح به وقيل : « أنزلت هذا منزلة ذاك ». وقد ينتزع عن إثبات الحكم المختص بشيء إلى شيء آخر ولو لم يكن تصريح في البين ، فانه ينتزع من هذا الإثبات تنزيل الشيء الآخر منزلة ذاك الشيء في أثره ، ونظير ذلك في التكوينيات انه لو كان هناك أثر مختص عرفا بشيء ثم ترتب ذلك الأثر على شيء آخر ، فانه ينتزع عن ذلك كون هذا الشيء بمنزلة ذلك الشيء ـ لكن الفرق ان التنزيل لا يتصور في التكوينيات ، لأن ترتب الأثر التكويني واقعي لا جعلي وانما يتصور في المجعولات ـ.

وبهذا تعرف انه لا يلزم ان يكون دليل التنزيل لفظيا ، بل يمكن ان يكون لبيا.

ثم لا يخفى ان تنزيل شيء منزلة آخر لا يجدي في ترتيب جميع آثار المنزل عليه على المنزل ، إلا إذا كان الملحوظ في دليل التنزيل جميع الآثار. فالمترتب من الآثار هو الملحوظ في مقام التنزيل ، فقد يلحظ جميع الآثار وقد يلحظ بعضها ، فلا بد من ملاحظة دليل التنزيل وما هو ظاهر فيه. فحكومة الأمارة على الاستصحاب من جهة تنزيلها منزلة العلم تتوقف أولا على ثبوت التنزيل ، وثانيا على كونه بلحاظ الاستصحاب المترتب على الشك. ولا يخفى عدم وفاء دليل

٤٣٠

الأمارة بكلتا الناحيتين ، إذ غاية ما يستدل به على التنزيل المذكور أمور :

الأول : قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) ، فان الظاهر منها ان السؤال في مقام يجب تحصيل العلم بالحكم ، وظاهره الاكتفاء بسؤال الواحد وإجابته في حصول العلم ، فكأنه قال : « اسألوهم ان كنتم لا تعلمون لكي تعلموا ». ولا يخفى ان إجابة الواحد لا توجب العلم الوجداني ، فلا بد ان يكون ذلك تنزيلا لخبر الواحد منزلة العلم.

الأمر الثاني : تعبير الإمام عليه‌السلام بـ : « عرف أحكامنا » في الرواية المقبولة : « انظروا ... » (٢) ، فان المشار إليه هو المجتهد. ولا يخفى ان معرفة الأحكام للمجتهد انما تكون بالطرق الظنية غير الموجبة للعلم ، فالتعبير عنه بـ : « عرف أحكامنا » لا بد ان يكون من باب تنزيل الطرق المؤدية إليها منزلة العلم.

الأمر الثالث : العقل ، فانه يحكم بامتناع اجتماع حكمين فعليين في مورد واحد ، فإذا قامت الأمارة على حكم كان فعليا بمقتضى دليل اعتبارها. وحينئذ يمتنع ان يكون هناك حكم فعلي آخر بمقتضى حكم العقل المذكور. فاحتمال الخلاف لما قامت عليه الأمارة منفي بدليل اعتبارها بمقتضى حكم العقل.

الأمر الرابع : بناء العقلاء على العمل بالأمارة وترتيب آثار العلم عليها من المنجزية والمعذرية ، فانه ينتزع عن ذلك تنزيلهم للأمارة منزلة العلم. وقد عرفت إمكان ذلك لعدم اشتراط كون دليل التنزيل لفظيا.

وهذه الأمور لا تفي بإثبات المدعى ..

أما الأمر الأول : فالخدشة في الاستدلال به من وجوه :

__________________

(١) سورة النمل ، الآية : ٤٢

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ٩٨ باب ١١ من أبواب صفات القاضي حديث ١.

٤٣١

الوجه الأول : ان موردها ـ كما بين في محله ـ ليس الأحكام الفرعية ، بل انما هو الأمور الاعتقادية التي لا يكتفي فيها بغير العلم قطعا.

الوجه الثاني : ان المراد من : « أهل الذّكر » ليس الرّواة أو المجتهدين ، بل المراد إما الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ـ كما هو مقتضى بعض الروايات الواردة في تفسير الآية الكريمة (١) ـ وإما علماء اليهود ، لكون المسئول عنه ما يتعلق بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندهم.

ولا يخفى ان ما يقوله كل منهما موجب للعلم. اما الأئمة المعصومون عليهم‌السلام فواضح. واما علماء اليهود فلأن ما يقولون في شأن النبوة الحقة مما يؤكد معتقداتنا ـ كما هو مقتضى الإرجاع إليهم بإيجاب السؤال منهم ـ ، لا يحتمل فيه الكذب عادة ، لأنهم أعداء النبوة ومنكروها ، فبقولهم يحصل العلم العادي ـ المعبر عنه بالاطمئنان ـ ، ان لم نقل بحصول العلم القطعي الوجداني.

الوجه الثالث : ان ظهور الآية في المدعى أساسه كون المطلوب في مقام السؤال هو العلم. لظهورها ـ على هذا ـ في كون السؤال لتحصيل العلم ، فيكون من باب تنزيل ما يقوله أهل الذّكر منزلة العلم. وهو غير ثابت ، إذ يمكن ان يكون المطلوب هو كون العمل مستندا إلى مستند شرعي أو عقلي ، فإذا كان هناك علم فهو المتعين ، وإلا فالمرجع هو قول أهل الذّكر ، فتكون الآية بصدد جعل الحجية لقول أهل الذّكر. فيكون مستندا شرعيا يصح الاستناد إليه في مقام العمل مع عدم العلم ،

هذا ، مع انه لو سلم ظهور الآية الكريمة في أصل تنزيل الخبر منزلة العلم ، وأغمضنا النّظر عن هذه المناقشات وأمثالها مما تقدم في مبحث حجية الخبر ، فذلك وحدة لا ينفع في الحكومة ، إذ من الواضح ان تنزيل الخبر منزلة العلم

__________________

(١) الكافي ١ ـ ٢١٠ باب ان أهل الذّكر هم الأئمة عليهم‌السلام.

٤٣٢

في الآية انما هو بلحاظ مقام العمل والامتثال والتنجيز والتعذير ، دون مطلق آثار العلم العقلية والشرعية ، فلا نظر لها إلى التعبد الاستصحابي الثابت في مورد عدم العلم.

وبالجملة : لا إطلاق في الآية بلحاظ جميع آثار العلم فلاحظ.

واما الأمر الثاني : فالخدشة في الاستدلال به من جهتين :

الأولى : ان حصول العلم الحقيقي والمعرفة الحقيقية بواسطة الطرق العلمية للمجتهد في الصدر الأول غير بعيد ، لقرب العهد بزمان الأئمة المعصومين عليهم‌السلام ـ فان شأنهم شأن المقلدين في زماننا في معرفة فتاوى مقلديهم بالمعرفة الحقيقية أو العادية لتوفر الطرق العلمية لذلك ـ ، فيكون إطلاق المعرفة من باب الفرد الغالب في زمان الحكم. وان لم تتحقق فيما بعد زمانه بمدة ، كما في زماننا هذا.

مع ، انه يمكن تحقق ذلك في زماننا بالنسبة إلى المجتهد ، لأنه يعرف كثيرا من الأحكام الواقعية كالضروريات ، وما استفيد من السنة المستفيضة والمتواترة. وهذا المقدار كاف في صحة إطلاق « عرف أحكامنا » عليه.

الجهة الثانية : ان الأحكام أعم من الأحكام الواقعية والظاهرية. ولا يخفى ان المجتهد عارف بالاحكام الظاهرية حقيقة ، لأن الأدلة الظنية علمية بالنسبة إلى الحكم الظاهري ، وان كانت ظنية بالنسبة إلى الحكم الواقعي.

ولو أبيت إلا عن ظهور الأحكام في الأحكام الواقعية وانصرافها إليها ، فالأمر حينئذ يدور بين إبقاء لفظ المعرفة على معناه الحقيقي وظاهره الاستعمالي ، والتصرف في لفظ الأحكام بحملها على الأعم من الواقعية والظاهرية. وإبقاء لفظ الأحكام على معناه الاستعمالي الظاهر ، والتصرف في لفظ المعرفة بحملها على الأعم من المعرفة الحقيقية والمعرفة التنزيلية. ولا مرجح لأحد الظهورين على الآخر ، فلا يتم الاستدلال بالرواية.

٤٣٣

هذا ، مع مناقشته بما مرّ في مناقشة الاستدلال بالآية الكريمة من عدم الإطلاق بلحاظ جمع الآثار ، إذ الرواية ليست بصدد بيان التنزيل ، كي يتمسك بإطلاقها ، بل بصدد بيان حكم آخر مرتب على المجتهد الّذي أطلق عليه العارف بالاحكام فانه يكشف عن ثبوت التنزيل في الجملة من دون كشف عن سعته وضيقه ، والمتيقن منه تنزيله بلحاظ الحجية والمنجزية والمعذرية. فتدبر.

وأما الأمر الثالث : فالاستدلال به فاسد لوجوه :

الأول : انه على تقدير تماميته ، فنتيجته الورود لا الحكومة ، لأنه ـ أي دليل الأمارة ـ ينفي احتمال الخلاف حقيقة لا تعبدا ، لامتناع تحقق الخلاف عقلا.

الوجه الثاني : انه جهة مشتركة بين دليل الأمارة ودليل الاستصحاب ، فان مقتضى اعتبار الاستصحاب ثبوت الحكم المستصحب في المورد ، وبمقتضى حكم العقل بامتناع اجتماع حكمين ينتفي احتمال خلاف المستصحب ، فدليل اعتبار الاستصحاب يتكفل أيضا نفي احتمال الخلاف بالتقريب المذكور.

الوجه الثالث : ان الحكم المأخوذ في موضوع الأصل لا يمتنع اجتماعه عقلا مع الحكم الفعلي المتحقق بالأمارة ، لأن موضوعه هو احتمال الواقع ، والحكم المتحقق بها حكم ظاهري. وإلا للزم ارتفاع احتمال هذا الحكم بنفس إجراء الأصل ، لأنه يحقق حكما ظاهريا ، فيلزم من إجرائه انتفاء موضوعه ، وهو الاحتمال ، وينتفي هو بانتفائه ، فيمتنع إجراؤه حينئذ ، لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال. وإذا ثبت عدم المنافاة بين الحكمين ، فلا يكون نفي احتمال الخلاف في الأمارة موجبا لارتفاع موضوع الأصل ، لأنه ينفي احتمال خلاف هذا الحكم من الأحكام الظاهرية ، وهو لا يتنافى مع احتمال الحكم الواقعي المخالف لمؤدى الأمارة ، فلا تتحقق الحكومة.

وأما الأمر الرابع : فتمامية الاستدلال به تبتني على ان تكون المنجزية والمعذرية وغيرهما من آثار العلم المختصة به عرفا ، بحيث يكون ثبوتها لغيره

٤٣٤

محمولا على التنزل ، وهو مما لا دليل عليه ، إذ يمكن ان تكون في نظر العقلاء أثرا أعم للعلم لا مساو. وقد عرفت ان انتزاع التنزيل انما يكون من ترتيب الآثار المختصة بشيء على آخر ، فترتيب وجوب الإكرام على زيد مع ترتيبه أولا على بكر لا يعد تنزيلا لزيد منزلة بكر كما لا يخفى.

إلاّ ان يقرّب هذا الوجه : بان العقلاء في مقام عملهم لا يعتنون باحتمال الخلاف الموجود عند قيام الأمارة وينزلونه منزلة العدم ، والمفروض ان الشارع أمضى السيرة العقلائية.

وفيه : انه لو تم ، فهو لا يتكفل إلاّ تنزيل الأمارة منزلة العلم في مقام المنجزية والمعذرية ، إذ المنظور في عمل العقلاء ذلك دون التعبد الاستصحابي ونحوه ..

وإذا لم يصلح أي دليل على إثبات تكفل دليل الأمارة نفي احتمال الخلاف ، فلا سند حينئذ لدعوى الحكومة.

ثم انه لو لم تثبت دعوى الورود والحكومة فلا مناص عن القول بتخصيص دليلها لدليله ، لأن أغلب مواردها لو لم تكن كلها من موارد الاستصحاب ، فيلزم من العمل بدليل الاستصحاب وطرح دليل الأمارة عدم العمل بها أصلا أو إلا نادرا ، وهو لا يصحح الاعتبار بل يستلزم لغويته.

تذييل (١) : لا يخفى أنه مع الالتزام بالورود بالتقريب الّذي ذكرناه ، فانما يلتزم به في صورة قيام الأمارة على الخلاف ، اما مع قيامها على طبق الحالة السابقة فلا يتحقق الورود ، لأنا قد قربنا الورود بان المراد بالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة ، وقيدناه بان يكون على الخلاف ـ بقرينة النهي عن النقض به الظاهر في كونه على خلاف الحالة السابقة بحيث يصدق

__________________

(١) لم يتعرض له السيد الأستاذ ـ دام ظله ـ في الدورة الثانية. ( منه عفي عنه ).

٤٣٥

معه النقض ـ ، فاليقين لا ينقض بغير الحجة على الخلاف.

والورود على هذا انما يتحقق فيما إذا كانت الأمارة قائمة على خلاف اليقين السابق ، لتحقق الحجة والطريق على الخلاف ، فينتفي موضوع الاستصحاب حقيقة. أما إذا كانت الأمارة قائمة على وفق اليقين السابق ، فالمتحقق انما هو الطريق والحجة على الوفاق ، فلا يرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لعدم منافاته لتحقق عدم الطريق على الخلاف وهو الشك ، وإذا تحقق موضوع الاستصحاب وهو عدم الطريق والحجة على الخلاف ، كان المورد مشمولا لعموم أدلة الاستصحاب والنهي عن النقض ، فيجري الاستصحاب في عرض الأمارة.

نعم ، لو أخذ في موضوع الاستصحاب عدم الحجة مطلقا ولو لم يكن على الخلاف ، كانت الأمارة الموافقة واردة ، لأنها تنفي موضوعه ، وهو عدم الحجة ، لأنها تحقق الحجة. ولكنه ليس كذلك ، بل المأخوذ في موضوعه هو عدم الحجة على الخلاف ـ كما حققناه ـ.

وقد أشار إلى الإشكال صاحب الكفاية بقوله : « وعدم رفع اليد عنه ... ». فانه قد يرد أيضا بناء على تقريبه للورود. فانه قرّبه : بان النقض بالأمارة ليس نقضا بالشك كي يكون منهيا عنه ، بل هو نقض باليقين أو بالدليل. وفي صورة قيام الأمارة الموافقة لا يتصور النقض بالأمارة ، كي يقال انه ليس نقضا بالشك بل بالدليل ، ولا إشكال في وجود الشك في المورد ، فيكون المورد مشمولا لدليل الاستصحاب ، لأن رفع اليد عن اليقين السابق نقض لليقين بالشك (١).

والظاهر من عبارة الكفاية في مقام الجواب عن الإشكال : ان البقاء على اليقين السابق ليس من جهة ملازمة الرفع لنقض اليقين بالشك ، كي يكون منهيا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٢٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٣٦

عنه ، بل من جهة لزوم العمل بالحجة ووجوب السير على طبق الطريق المعتبر.

وهذا بظاهره لا يرفع الإشكال ولا يحقق الورود ، لأن شمول دليل الاستصحاب للمورد قهري لتحقق موضوعه ـ وهو كون النقض بالشك ـ ، فما المانع من التمسك به في عرض الأمارة؟!.

ولكن يمكن توجيه ما ذكره بما يحقق الورود ويرفع الإشكال. وبيانه : ان موضوع النهي في الاستصحاب هو : « النقض بالشك » ، فالموضوع هو المقيد ، والمقيد بما هو مقيد الّذي هو الموضوع كما يرتفع بارتفاع القيد كذلك يرتفع بارتفاع ذات المقيد. ففي المقام حيث ان رفع اليد عن الحالة السابقة ينطبق عليه عنوان مخالفة الحجة ، فرفع اليد عنه إذا كان بهذا العنوان ـ أعني : بعنوان مخالفة الحجة ـ لا يشمله النهي الاستصحابي ، لأنه ليس بعنوان نقض اليقين بالشك ، فلا ينطبق عليه موضوع النهي الاستصحابي وهو النقض. وان كان يشمله نهي آخر ، وهو النهي عن مخالفة الحجة ، فالنهي عن رفع اليد موجود ولكن بعنوان انه مخالفة الحجة لا بعنوان انه نقض لليقين بالشك كي يكون من باب الاستصحاب. فموضوع النهي الاستصحابي مرتفع ، وهو النقض بالشك بارتفاع النقض ـ وهو ذات المقيد ـ. كما انه في صورة قيام الأمارة على الخلاف يرتفع الموضوع بارتفاع قيده ، لصدق النقض بالدليل لا بالشك.

وبالجملة : فتقريب الورود ـ على ما ذهب إليه صاحب الكفاية ـ في صورة الموافقة ممكن بنحو تقريبه في صورة المخالفة.

ثمرة التذييل

ثم أن ثمرة ذلك تظهر في صورة العلم الإجمالي وقيام الأمارة على أحد الطرفين وقيام أخرى على الطرف الآخر ، وكان أحدهما موردا للاستصحاب ، فانه مع تمامية الورود في صورة الموافقة وان الاستصحاب يكون في طول الأمارة

٤٣٧

الموافقة ، يكون التعارض بين الأمارتين فقط فيتساقطان ، فيجري الاستصحاب حينئذ في طرفه ، لعدم المعارض ، وعدم الوارد لعدم العمل بالأمارتين. وأما مع عدم تمامية الورود ـ كما قربناه ـ وكون الاستصحاب في عرض الأمارة الموافقة ، كان التعارض بين كل من الأمارة والاستصحاب في هذا الطرف والأمارة في الطرف الآخر ، فيسقط الجميع عن العمل للتعارض.

ومما ينبغي أن يعلم : أن هذه الثمرة انما تتم لو بني ـ في صورة كون أحد الطرفين في العلم الإجمالي مجرى لأصل ، والطرف الآخر مجري لأصول طولية بعضها في طول بعض ـ على كون المعارضة في الأصول المذكورة بين الأصل في أحد الطرفين والأصل الأول الأسبق رتبة في الطرف الآخر. أما لو بني على كون المعارضة بين هذا الأصول وجميع الأصول الطولية ـ كما عليه المحقق النائيني قدس‌سره (١) ـ ، فلا تتم الثمرة ولو قيل بالورود ، لأن المعارضة على القول به بين الأمارة في أحد الطرفين والأمارة والاستصحاب في الطرف الآخر أيضا.

وكلام المحقق النائيني وان كان ناظرا إلى التعارض الحاصل بين الأصول ، ولكن ما ذكره من الدليل على مدعاه يشمل الأمارات أيضا لا خصوص الأصول ، فالتفت.

والّذي تبين من جميع ما ذكرناه في المقام : أن الوجه في تقديم الأمارة على الأصل الاستصحابي هو ورودها عليه ، وانه لو تنزلنا عن دعوى الورود ، فلا بد من الالتزام بالتخصيص ولو كان بين دليلهما عموم من وجه ، لعدم تمامية دعوى الحكومة (٢).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٤٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) قد يشكل الالتزام بحكومة الأمارة على الاستصحاب ـ باعتبار ان دليلها يتكفل جعلها علما تنزيليا والمأخوذ في موضوع الأصل الجهل بالواقع فيكون ورود الأمارة رافعا لموضوع الأصل تعبدا ـ بان الأمارة قد أخذ في موضوعها الشك أيضا وذلك لأن لا إشكال في عدم اعتبارها مع اليقين بالواقع

٤٣٨

ثم أن هناك قواعد ثلاث تردد أمرها بين الأمارية والأصلية ، ووقع الخلاف في ذلك بين الأعلام. وهي : قاعدة اليد. وقاعدة الفراغ والتجاوز. وأصالة الصحة في عمل الغير.

ولا بأس في تنقيح الكلام فيها مفصلا لما يترتب عليها من آثار فقهية جمة جليلة.

__________________

ـ بأي نحو من أنحاء الاعتبار. فيدور الأمر ثبوتا بين ان يؤخذ في موضوعها الجهل بالواقع أو يكون مطلقا بالنسبة إلى مجال العلم والجهل أو يكون مهملا. لا مجال للثالث لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. وكذا الثاني لما عرفت من عدم اعتبارهما في صورة اليقين والعلم. فيتعين الثالث. وإذا كان موضوعها مقيدا بالجهل فالاستصحاب يتكفل تنزيل الشك منزلة اليقين ، فهو يثبت اليقين تنزيلا ، فيكون رافعا لموضوع الأمارة وحصول اليقين بالواقع تعبدا ، فلا حكومة للأمارة على الاستصحاب بل بينهما تحاكم بالتقريب المذكور.

وقد أجيب عن هذا الإشكال بجوابين :

الأول : أن الشك المأخوذ في موضوع الأصل مفهوم عالم يصلح للانطباق على الفرد الحقيقي للشك والاعتباري.

بخلاف المأخوذ في موضوع الأمارة ، فانه حيث كان بحكم العقل كان ظاهرا في الصفة الوجدانية.

وعليه ، فحيث ان دليل الأمارة يتكفل اعتبارها علما ، كان ورودها رافعا لموضوع الأصل ، بخلاف الأصل فانه لا يتكفل رفع الشك حقيقة بل تنزيلا وهو لا يجدي لأن الشك المأخوذ في موضوع الأمارة واقع الشك الظاهر في الصفة الوجدانية. وبعبارة أخرى : ان حيث أخذ الشك في موضوع الأصل إثباتا ولفظا كان ظاهرا في أن الموضوع كل ما يصدق عليه الشك ولو بواسطة الاعتبار. وهذا بخلاف الشك المأخوذ في موضوع الأمارة. فانه مأخوذ ثبوتا والمراد به واقع الشك لا عنوانه إذ لا ربط بالصدق ونحوه في مرحلة الثبوت.

وبهذا تكون الأمارة حاكمة على الأصل دون العكس ، مع الالتزام بأخذ الشك في موضوع الأمارة.

وفي هذا الجواب ما لا يخفى :

أما أولا : فلما عرفت من أن دليل الأمارة لا يتكفل الاعتبار ، إذ مشروعية الاعتبار تختص بموارد خاصة.

وأما ثانيا : فلأنه مع التسليم بكونه متكفلة للاعتبار ، انما تكون واردة لا حاكمة لنفيها الموضوع تكوينا ـ كما عرفت ـ ، مضافا لاختصاص ورودها بما إذا لم يكن للأمارة من أثر غير نفي الحكم الثابت

٤٣٩

.............................

______________________________________________________

بالدليل الآخر. وليس الأمر كذلك إذ للأمارة آثار خاصة ولو لم يكن هناك استصحاب ونحوه.

وأما ثالثا : فلأن مبنى الإشكال على تكفل الأمارة التنزيل لا الاعتبار وبه يحصل التحاكم ، لأن مفاد الاستصحاب هو تنزيل الشك منزلة اليقين. والتفريق انما يكون بلحاظ نفي الأثر المترتب على الموضوع ، وهو يتحقق ولو كان الموضوع هو واقع الشك إذ لا نظر له جدا إلى الموضوع ، بل نظره إلى الحكم بلسان نفي الموضوع. فلاحظ.

الجواب الثاني : ما هو المشهور من ان الشك أخذ في الأمارة موردا وفي الأصل موضوعا ، فلا حكومة للأصل على الأمارة لعدم نظره إليها.

وتوضيح هذا الجواب بنحو يندفع به الإشكال والبرهان على أخذ الشك في الموضوع نقول : أن ما يوجب تحديد الحكم بحمد خاص بحيث لا يتعداه إلى غيره. تارة يكون مأخوذا في مرحلة سابقة على الحكم سواء كان قيدا للحكم كالأمور غير الاختيارية أو لا موضوع كالأمور الاختيارية ـ وان كان التحقيق رجوع قيود الحكم إلى الموضوع ـ.

وأخرى : يكون ملحوظا ومأخوذا مساوقا للحكم ومقارنا له في المرتبة ، بمعنى ان فعلية الحكم تكون في ظرف تحقق القيد ، فتكون فعلية الحكم وثبوت القيد متنازلين. نظير ثبوت الضد ، فانه مقيد بعدم الضد الآخر ، كثبوت الوجوب فانه لا إشكال مقيد بعدم الحرمة إذ لا يثبت الوجوب في ظرف الحرية. ففعلية الوجوب انما تكون مع عدم الحرمة ، ولكن تقيد الوجوب بعدم الحرمة ليس بمعنى أخذ عدم الحرمة في مرحلة سابقة عليه وفي مرحلة أصل ثبوته ، بحيث يكون التصرف فيه تصرفا في الحكم ومحققا للحكومة.

بل بمعنى ان ثبوت الوجوب انما يكون في هذا الظرف دون غيره فهو ملحوظ في رتبة الحكم وإلاّ لكان الدليل الموجب لإثبات الحل مثبتا للوجوب ، لأنه حقق موضوع الوجوب ولا إشكال في انه لا يلتزم به أحد. نعم قد يكون ذلك بنحو الملازمة والأصل المثبت وهو غير ما نحن فيه.

وعليه ، فالدليل المثبت لعدم الضد أو النافي له لا يتعرض لثبوت الضد الآخر أو نفيه بحال.

والأمر في الأمارات كذلك ، فان تقيدها بعدم العلم كتقيد الضد بعدم الضد الآخر. بل هي من انه بعينه ، وذلك لأن الدليل على عدم ثبوت الأمارة مع العلم بالخلاف انما هو ثبوت التضاد العلمي أو الواقعي. وذلك فان التضاد فيها بملاك التضاد بين الأحكام لا في ذاتها ، فان الأحكام غير متضادة بنفسها بل متضادة في مرحلة داعويتها ومقام الامتثال ، لأن المكلف لا يمكنه امتثال الحكمين معا. فكذلك التضاد بين جعل الأمارة علما تنزيليا والعلم بالواقع. لأن جعل العلم التنزيلي مرجعه إلى جعل وجوب العمل على طبقه وبلحاظ الجري العملي. وجعل الواقع الّذي تعلق به العلم يرجع إلى ذلك أيضا فجعل الواقع وجعل العلم على خلافه متضادان في مرحلة الامتثال. فأخذ عدم العلم في مورد الأمارة من باب أخذ عدم الضد واقعا أو علما. وقد عرفت أنه لم يؤخذ قيدا للحكم بالمعنى الّذي كون التصرف فيه موجبا للتصرف

٤٤٠