منتقى الأصول - ج ٦

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٦

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٥٠

الآخر في مقام دلالته ، وذلك وان لم يكن ظاهرا في بعض الموارد ظهورا تاما ، كما في : « الطواف في البيت صلاة » (١) ـ بناء على انه يتكفل التنزيل لا الاعتبار ـ ، فانه ناظر بدوا إلى ثبوت الحكم ، وهو شرطية الطهارة للطواف مع قطع النّظر عن دلالة دليل عليه ، وهو لا يوجب التوسعة في مدلول : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٢) لأنه لا يتكفل ثبوت نفس ذلك الحكم المنشأ بالدليل المحكوم للطواف بل إثبات حكم آخر مماثل له ، فهو غير ناظر إلى دلالة الدليل المذكور على الحكم.

إلاّ انه يظهر تماما في موارد أخر كموارد قاعدة الفراغ ـ على ما سيجيء ـ ، فان القاعدة تتكفل تنزيل هذا الفرد المشكوك منزلة المأمور به ، ويترتب عليه نفس الحكم المنشأ والمترتب على المأمور به لا حكم مماثل ، لما ستعرفه في محله ، فيكون ناظرا إلى المدلول بما هو مدلول للدليل.

فنكتة الفرق بين المقامين : ان أحدهما يكون التنزيل فيه بلحاظ ثبوت نفس الأثر المنشأ الثابت للعنوان الموضوع للحكم وذلك بجعل موضوع الحكم أعم من الفرد الحقيقي والفرد المنزل عليه ، فيكون ناظرا إلى الدليل ، مثل المتكفل للتضييق بلحاظ نفي الأثر الّذي يتخيل ثبوته بالدليل. وان الآخر يكون التنزيل بلحاظ ثبوت أثر مماثل لذلك ، فيكون ناظرا إلى المدلول بذاته بدوا.

وبالجملة : لا فرق بين دليل التنزيل المتكفل للتضييق والمتكفل للتوسعة في كون كل منهما ناظرا إلى الدليل والمدلول بما هو مدلول.

ولكن تعليل هذا الظهور العرفي في الدليل المتكفل للتضييق واضح كما عرفت. وقد لا يتضح تعليله فيما تكفل التوسعة من الأدلة.

وعلى تقدير انه لم يكن ناظرا إلى الدليل ، فهو غير مهم في المقام ومحط

__________________

(١) عوالي اللئالي ٢ ـ ١٦٣ حديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة ١ ـ ٢٥٦ باب ١ من أبواب الوضوء حديث ١.

٤٠١

الكلام من بيان ضابط الحكومة وتحديد معناها ، لأنه لا إشكال في الأخذ به مع الدليل الآخر لعدم التنافي ظاهرا بينهما ، فسواء كان من موارد الحكومة أو لم يكن فهو مأخوذ به. وانما المهم هو الدليل المتكفل للتضييق ، لمنافاته ظاهرا مع الدليل الآخر ، ولأجل ذلك كان ضبط الحكومة وخصوصياتها بلحاظه والنّظر إليه.

فيتحصل لدينا : انه لا مانع من استظهار كون الحكومة على رأي الشيخ هي النّظر إلى الدليل الآخر ببيان حاله ومقدار دلالته ، لا إلى ذات المدلول ، ولا قرينة تصرف هذا الظاهر عن ظهوره.

ثم المراد بالنظر بالمدلول اللفظي ـ في تعبير الشيخ ـ ، هو كون اللفظ بدلالته ناظرا إلى ذاك الدليل اما بالدلالة المطابقية ، كما في الدليل المتضمن لكلمة التفسير وأداة الشرح مثل : « أعني ، وأي » وغيرهما. أو بالدلالة الالتزامية العرفية ، كما في مورد تكفل الدليل الاعتبار ، فانه ناظر إلى الدليل الآخر التزاما بحسب فهم العرف ـ كما عرفت ـ.

والسر في أخذ هذا القيد ـ أعني : كون النّظر بالمدلول اللفظي ـ في ضابط الحكومة هو إخراج التخصيص عن تعريفها ، لأن الحكومة والتخصيص وان كانا يشتركان في كونهما دالين لبا على تضييق المراد الجدي من العام ، لكن التخصيص انما يدل عليه بالعقل لا بالدلالة اللفظية كما في الحكومة ، فانه لفظا لا يتكفل سوى نفي الحكم عن بعض افراد العام ، ولكن العقل ـ بواسطة بعض المقدمات العقلية البرهانية ـ يحكم بعدم إرادة الكل من العام جدا. بخلاف الحكومة ، فان الدليل الحاكم ناظر إلى هذه الجهة من الدليل الآخر بمدلوله اللفظي.

وامّا المراد بالتفرع في قوله : « متفرعا عليه » ، فهو ان الدليل الحاكم يكون لغوا لو لا الدليل المحكوم ، لأنه بعد ان كان ناظرا إليه ومبينا لحاله كانت نسبته إليه نسبته القرينة إلى ذي القرينة والشارح إلى المشروح ، فيتفرع عليه تفرع القرينة على ذيها والشارح على المشروح.

٤٠٢

ولكن المحقق الخراسانيّ لم يرتض اعتبار هذا القيد ، وأفاد : بأنه لا يعتبر تفرع الدليل الحاكم على الدليل المحكوم. والمهم في إثبات ما ذكره هو ما ذهب إليه من انتقاض اعتبار هذا القيد بحكومة الأمارات على الأصول ـ الثابتة عند الشيخ ـ ، لأن الأمارة لا تتفرع على وجود الأصول ، بل لو لم يكن في البين أصل ما ، لكانت الأمارة ثابتة الاعتبار ومستقلة الثبوت.

وأو عزّ ذلك إلى ان الأمارة تتكفل جهتين :

الأولى : جهة تضمنها حكما مستقلا ـ كالمنجزية والمعذرية ـ ، وهي جهة تامة في نفسها.

الثانية : صلاحية النّظر إلى دليل آخر. فلو لم يكن هناك دليل تصلح هي للنظر إليه ، فلا تكون لغوا ، بل تثبت بلحاظ الجهة الأولى.

ولأجل ذلك التزم بتفسير الحكومة : بأنها كون الدليل بحيث يصلح للنظر إلى دليل آخر ، فالمأخوذ فيه صلاحية النّظر لا النّظر الفعلي ، بمعنى انه ان كان هناك دليل يصلح لأن ينظر إليه هذا الدليل فهو ناظر إليه فعلا ، وإلاّ فلا يحتاج في حكومته كونه ناظرا فعلا ، وبذلك عمم ورود الدليل الحاكم لما إذا كان قبل دليل المحكوم وبعده (١).

وكأنّه استفاد من كلام الشيخ في اشتراط النّظر الفعلي لزوم كون الدليل الحاكم واردا بعد ورود المحكوم.

إلاّ ان هذه الاستفادة ممنوعة إذ ليس في كلام الشيخ ما يشير إليها. والتفرع لا يقتضي التأخر في الورود كما لا يخفى.

ولكن ما ذكره قدس‌سره محل نظر ، فان من يدعي حكومة الأمارة على الأصول التعبدية انما يدعيها بملاك ان دليل اعتبارها متكفل لتنزيل الأمارة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقّق الشيخ محمد كاظم. حاشية الفرائد الأصول ـ ٢٥٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٣

منزلة العلم ، وان من قامت عنده الأمارة يكون عالما ، أو متكفل لإلغاء الشك مع قيامها ، وان من قامت عنده الأمارة ليس بجاهل وغير عالم.

وصلاحية النّظر التي تتضمنها الأمارة إنما هي بهذا الاعتبار واللحاظ.

وعليه ، فنقول : انه في مقام جعل الأمارة وجعل هذه الجهة فيها ـ أعني :

جهة الصلاحية ـ ، أما ان يكون الجاهل ناظرا إلى الأدلة المتكفلة لأحكام الشك وعدم العلم من الأصول التعبدية ـ يعني انه في مقام جعل الأمارة لاحظ تلك الأدلة ـ ، أو لا يكون ناظرا. فان كان ناظرا فلا ريب في تفرعها عليها. وان لم يكن ناظرا فلا صلاحية لدليل اعتبار الأمارة للنظر أصلا. فاعتبار صلاحية النّظر في الدليل الحاكم يستلزم التفرع أيضا.

وبهذا كله يتبين ان ما ذكره الشيخ من تفسير الحكومة لا يعرف فيه إشكال ، فيتعين الالتزام به.

واما ما ذكره المحقق النائيني في تفسير الحكومة من : انها عبارة عن تصرف الدليل في عقد وضع الدليل الآخر أو عقد حمله (١).

فهو لا يصلح للضابطية ، لأنه ليس تفسيرا لها ، بل بيانا لموردها ومحققها وواقعها ، فانها كون الدليل ناظرا إلى الدليل الآخر بمدلوله اللفظي ، والتصرف من موجباته ، كما سيتضح عند بيان الوجه في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم.

ومما ينبغي التنبيه عليه : ان الثمرة من تفسير الحكومة بهذا التفسير وجعل الفارق بينها وبين التخصيص مع اشتراكهما لبّا في الدلالة ، هو عدم ملاحظة النسبة بين الدليل الحاكم والمحكوم من انها العموم والخصوص المطلق أو العموم والخصوص من وجه ، لأن الدليل الحاكم يقدم على الدليل المحكوم مطلقا.

بخلاف التخصيص كما لا يخفى. واما السر فيه فسيتضح في بيان الوجه في تقديم

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٧١٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٠٤

الدليل الحاكم. فانتظر.

الجهة الثانية : في وجه تقديم الدليل الحاكم والوارد والمخصص على الدليل المحكوم والمورد والعام.

امّا الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم. فقد قربه المحقق الأصفهاني قدس‌سره وتبعه السيد الخوئي ـ كما في بعض تقريراته (١) ـ. بأنه لا منافاة بين الدليلين الحاكم والمحكوم ، لأن أدلة الأحكام إذا كانت بنحو القضية الحقيقية متكفلة لإثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع ، بمعنى انه على تقدير تحقق الموضوع خارجا يثبت له الحكم ، ولا تعرض لها أصلا لبيان وجود الموضوع ، بمعنى انه على تقدير تحقق الموضوع خارجا يثبت له الحكم ، ولا تعرض لها أصلا لبيان وجود الموضوع نفيا وإثباتا.

وبما (٢) ان الدليل الحاكم شأنه التصرف في الموضوع. ببيان : ان هذا منه

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٣٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) قد عرفت الحكومة بكون أحد الدليلين متصرفا في موضوع الدليل الآخر ، اما بتضييقه أو بتوسعته.

هو لا بأس يتحقق هذه الجهة مع غض النّظر عما ذكر في المتن من إشكال ، فنقول :

أما دليل التوسعة : فما يتكفل منه بيان فرد حقيقي كقوله عليه‌السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس » ـ على احتمال قريب ـ فهو لا يستلزم توسعة في المدلول ودلالة الدليل ، إذ الحكم وارد على الموضوع المقدر الوجود. والدليل المزبور يكشف عن انطباقه في المورد الخاصّ ، وهذا لا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم.

وما يتكفل منه اعتبار فرد للموضوع ، كما يقال في مثل : « الطواف في البيت صلاة » ، فان كان ظاهر الدليل الأولي كون موضوعه أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري ، فلا يكون دليل الاعتبار موجبا لتوسعة الدلالة ، بل هو يتكفل إيجاد فرد للموضوع وتحقيقه نظير اشتغال الشخص بالتحصيل وصيرورته عالما.

ويكون دليل الاعتبار واردا على الدليل الأولي لا حاكما. وإن لم يكن ظاهر الدليل ذلك ، فنفس دليل الاعتبار يدل على التوسعة في الموضوع وانه الأعم من الفرد الحقيقي أو الاعتباري بواسطة دلالة الاقتضاء ـ كما أوضحناه في المتن ـ.

ويكون المورد برزخا بين الحكومة والورود ، لدخول الفرد حقيقة في الموضوع ، ولكون دليل الاعتبار ناظرا إلى الدليل الأولي.

وأما ما يتكفل منه التنزيل : فلا يخفى ان مفاد التنزيل ليس إلا ترتيب مثل أثر المنزل عليه على

٤٠٥

أو ليس منه فلا ينافي الدليل المحكوم الدال على ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ، فلا منافاة بين الدليل الدال على حرمة الخمر والدليل الدال على عدم خمرية هذا المائع (١).

وهذا الوجه مع عدم تماميته في نفسه غير شامل لجميع موارد الحكومة ، لأن الدليل الحاكم ..

تارة : يكون متكفلا لتفسير وشرح الدليل الآخر ، وهو المشتمل على كلمة : « أعني. وأي » وغيرهما.

وأخرى : يكون متصرفا في عقد وضع الدليل الآخر.

__________________

المنزل ، وان شئون المنزل عليه ثابتة للمنزل لا ترتيب نفس أثر المنزل على المنزل.

فمرجع التنزيل على هذا إلى إنشاء الأثر ـ بدليل التنزيل ـ للمنزل ، ومثله لا يتكفل التوسعة في موضوع الدليل الآخر ، كما هو واضح.

وأما دليل التضييق : فما يتكفل البيان الحقيقي :

تارة : يرجع إلى بيان عدم مصداقية ، فرد متوهم المصداقية فهو لا يستلزم تضييق الموضوع واقعا لأنه ضيق الصدق في نفسه ، غاية الأمر انه مجهول.

وأخرى يرجع إلى التصرف في المفهوم ، فهو مما لا معنى له ، إذ بعد فرض ان المفهوم العرفي معلوم فلا معنى لنفيه حقيقة ، لأنه يصادم القطع به. فلو ورد ما ظاهره ذلك فلا بد ان يرجع إلى الاعتبار وهو خارج عن الفرض.

واما ما يتكفل النفي اعتبارا ، فالكلام فيه هو الكلام في دليل التوسعة.

وأما ما يتكفل النفي تنزيلا ، فمرجعه إلى نفي الأثر الثابت لهذا الفرد بالدليل الآخر فيستلزم التضييق في الدليل الآخر.

وبهذا البيان يظهر اختصاص الدليل الحاكم المتصرف في الموضوع بما يتكفل النفي التنزيلي ويمكن إلحاق دليل الاعتبار الدال على التوسعة والتضييق بدلالة الاقتضاء.

وبما ان الملحوظ هو نفي الأثر بلحاظ قيام الدليل على ثبوته وتوهم ثبوته ، كان الدليل الحاكم موجبا للتصرف في مرحلة الدلالة لا ذات المدلول.

وقد أوضح هذا المعنى في المتن فراجع ـ.

ثم ان هاهنا تحقيقا في الدليل الحاكم ثبوتا وإثباتا يأتي فيما بعد.

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ١٤٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٦

وثالثة : يكون متصرفا في عقد حمله ، كما يمثل له بدليل نفي الضرر بناء على تكفله نفي الحكم الضرري. وما ذكره من عدم التنافي لا يتنافى في ما تكفل التصرف في عقد الحمل ، إذ التنافي بين أدلة نفي الضرر وأدلة الأحكام مما لا يخفى ، لتكفل أحدهما نفي الحكم والآخر إثباته ، لأن المفروض أن التصرف في نفس الحكم برفعه في بعض الموارد.

فما ذكر من الوجه لا يصلح لأن يكون وجها لتقديم الدليل الحاكم على المحكوم لعدم اطراده في جميع موارد الحكومة.

مع انه غير تام في نفسه وفي مورده ـ أعني : التصرف في عقد الوضع ـ. وتحقيق ذلك : انك قد عرفت ان الدليل المتصرف في الموضوع ـ تضييقا ـ قد يقال : بأنه متكفل لاعتبار هذا الفرد خارجا عن الموضوع. وقد يقال : بأنه متكفل لبيان عدم الفردية بنحو الادعاء. وقد يقال : بأنه مسوق لبيان عدم الفردية حقيقة. وقد يقال : بأنه مسوق لتنزيل هذا الفرد منزلة الخارج. وعلى جميع هذه التقادير الأربعة لا يتم الوجه المذكور ، لأن التقادير الثلاثة الأول غير معترف بها لعدم تماميتها فلا يصح القول بها.

امّا التقدير الأول ـ وهو القول بان الدليل الحاكم متكفل الاعتبار ـ ، فلما يقرر في محله من عدم كون الأحكام الوضعيّة كالملكية وغيرها من المجعولات الشرعية الاعتبارية ، بل هي منتزعة عن الأحكام التكليفية ، لعدم ترتب أي فائدة على اعتبارها فتكون لغوا ، لأن الغرض من اعتبارها ليس إلا ثبوت الآثار الشرعية عند تحقق منشأ اعتبارها ، وهذا يمكن تحقيقه بلا اعتبار للملكية مثلا ، بان يرتب الحكم على تحقق منشأ اعتبارها بلا توسط اعتبارها ، فيكون اعتبارها مستقلا لغوا ، فلا وجود للأمور الاعتبارية الوضعيّة.

ولو سلم وجودها وان لها جعلا مستقلا ، فلا يسلم بإمكان الاعتبار الشخصي الفردي ، ومنه الاعتبار الشرعي ، بل يمنع ذلك ويختص الاعتبار

٤٠٧

بالاعتبارات العقلائية العرفية ، إذ لا يترتب عليه أي أثر فيكون لغوا.

ومع تسليم إمكان الاعتبار الشرعي والفردي ، فهو انما يسلم في صورة ما إذا كان للعقلاء اعتبار لسنخ هذا المعتبر ، بان اعتبر الشارع فردا لما اعتبره العقلاء ، كما لو اعتبر ملكية الشيء الكذائي ، وإلاّ فلا يصح الاعتبار. وأدلة التصرف ليست بهذا النحو.

ولو أغمضنا النّظر عن جميع ذلك ، أو قلنا بوجود دليل حاكم بالنحو الأخير ، فنقول : ان الدليل المتكفل لثبوت الحكم لموضوع اما ان يلاحظ فيه الموضوع ما لم يقم اعتبار على عدم كونه من الموضوع الحقيقي ، بحيث يكون مختص الشمول بما لم يعتبر خروجه أو يلاحظ ذلك فيعم بإطلاقه ما اعتبر خروجه.

فعلى الأول : فالدليل الحاكم المتكفل لعدم فرديته اعتبارا وان قدم على الدليل المحكوم ، لكن تقديمه عليه لا بنحو الحكومة ، بل بنحو الورود لخروجه ـ أعني الفرد ـ عن موضوع الحكم حقيقة ، إلاّ انه ببركة الاعتبار الشرعي.

وعلى الثاني : فالتنافي بين الدليلين حاصل ، لأن الدليل الحاكم باعتباره عدم فردية هذا الفرد وخروجه عن الموضوع يتكفل نفي الحكم عنه التزاما ، والمفروض ان المحكوم يتكفل ثبوت الحكم له بالإطلاق ، فيحصل التنافي.

وامّا التقدير الثاني ـ وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لعدم الفردية بنحو الادعاء ـ ، فلأن استعمال اللفظ في الموضوع للطبيعة على نحوين :

الأول : ان يستعمل في الطبيعة بما هي بلا لحاظ افرادها الخاصة منه.

النحو الثاني : ان يستعمل في الطبيعة ، ولكن يراد منه فردها بنحو الإطلاق ، بمعنى ان المستعمل فيه هو الطبيعة ، ولكن يراد منه افرادها بنحو إطلاق الطبيعة على فردها ، نظير : « أكلت الرغيف ، وادخل السوق » ، فالمراد فرد من طبيعة الرغيف والسوق ، لامتناع تعلق الأكل والدخول بطبيعة المأكول

٤٠٨

والمدخول ، بل هما يتعلقان بالفرد.

والادعاء انما يتصور تحققه في ما إذا كان الاستعمال بنحو الثاني ، لأن المراد الفرد ، فيمكن ادعاء فردية شيء وعدم فرديته ليكون مشمولا للإطلاق أو لا يكون.

امّا إذا كان بالنحو الأول ، فلا يتصور فيه الادعاء ، لأن المستعمل فيه هو الطبيعة بلا لحاظ انطباقها على فرد منها أصلا.

ولا يخفى ان ترتب الأحكام في الأدلة انما هو على الطبيعة بما هي بلا لحاظ فرد بخصوصه منها. فلا وجه لدعوى التصرف في الموضوع بنحو الادعاء.

وتوهم : ان الحكم في جميع القضايا الشرعية ليس مرتبا على الطبيعة بما هي بلا لحاظ افرادها الخارجية ، كي يمتنع كون الدليل الحاكم متصرفا في الموضوع بنحو الادعاء ، بل منها ما رتب الحكم فيه على الافراد دون الطبيعة ، ـ كما في العمومات الاستغراقية ـ ، وحينئذ فيمكن كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية ادعاء ، لإمكان ذلك في مثل هذه القضايا ، لأن الملحوظ في الحكم هو الافراد دون الطبيعة.

فاسد : لأن المقصود بالحكم في جميع القضايا الشرعية ، سواء كان الحكم مرتبا في لسان الدليل على الطبيعة كالعمومات البدلية أو على الافراد كالعمومات الاستغراقية ، انما هو الفرد غاية الأمر انه تارة يقصد الفرد على البدل كما في العمومات البدلية ، لأن المطلوب فيها صرف الوجود. وأخرى جميع الافراد كما في العمومات الاستغراقية ، لأن المطلوب فيها مطلق الوجود. ولكنه في كلا الحالتين لا يرتبط بالحقيقة الادعائية أصلا ، لأن الحقيقة الادعائية ـ كما عرفت ـ هي استعمال اللفظ في الطبيعة وإرادة فرد منها أو افراد بنحو الإطلاق

٤٠٩

مع ادعاء فردية أحدها أو جميعها للطبيعة ، مع انها لم تكن من افراد الطبيعة حقيقة فإطلاق الطبيعة على فردها أو افرادها بالاستعمال ، فلا بد من لحاظ هذه الافراد حين الاستعمال ، ويكون الفرد أو أحد هذه الافراد فردا ادعائيا ، ويكون الادعاء بعد هذا اخبارا لا إنشاء ، نظير ما لو قيل : « رأيت أسود عشرة » وكان أحد العشرة رجلا شجاعا. امّا استعمال اللفظ في الطبيعة أو في مفهوم عام لجميع الافراد يكون عنوانها إجمالا بلا لحاظ أي فرد بخصوصه ـ كما فيما نحن فيه من قضايا الأحكام فان الافراد ملحوظة بعنوانها الإجمالي وهو العام ، فالاستعمال في المفهوم العام بلا لحاظ تطبيقه على فرد خاص حال الاستعمال ـ ، فلا يرتبط بالادعاء أصلا. فان التطبيق فيه بعد الاستعمال ، والإنشاء وهو لا يرتبط بالادعاء ، لأن الادعاء يكون بالتطبيق حال الاستعمال ، فيلحظ الفرد بخصوصه ويستعمل اللفظ في طبيعته ويطبق عليه حين الاستعمال.

ودعوى : إمكان ان يكون الحاكم قد لاحظ إجمالا بالمفهوم العام جميع الافراد أعم من الحقيقية والادعائية ورتب الحكم عليه ، فعند ادعاء فردية شيء يكون مشمولا للعام ومرتبا عليه الحكم.

مندفعة : بان هذا ليس من الادعاء في شيء ، بل هو راجع إلى الاعتبار وترتب الحكم على الأعم من الفرد الواقعي والاعتباري ، لأن الادعاء أنم يرتبط بمقام الاستعمال لا غير.

فتحصل : ان دعوى كون الدليل الحاكم مطلقا أو في الجملة متكفلا لنفي الحقيقة ادعاء واضحة البطلان.

وامّا التقدير الثالث ـ وهو كون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية حقيقة وواقعا ـ ، فلان هناك موارد يعلم فيها بان هذا فرد حقيقي وواقعي للطبيعة ،

٤١٠

فيمتنع ان ينزل الدليل الوارد فيها الدال على نفي فردية هذا الفرد للطبيعة على نفي الفردية حقيقة. فان نفي الفردية حقيقة انما يكون باعتبار المسامحة العرفية في تطبيق العنوان الكلي على افراده ، فيطلق اللفظ على بعض الافراد والتي يعلم خروجها عن الطبيعة حقيقة بالمسامحة. امّا مع العلم بفرديته للطبيعة بلا مسامحة في تطبيق الكلي عليه ، فلا يمكن حمل الدليل على نفي الفردية حقيقة.

فنفي الحقيقة انما يجدي مع المسامحة العرفية في التطبيق ، كما لعله يستفاد من قوله عليه‌السلام : « الفقاع خمر استصغره الناس ».

ولو سلم إمكان تكفل الدليل لنفي الفردية حقيقة ، فهو خارج عن الحكومة وليس منها في شيء ، لأنه لا يوجب تضييقا في مدلول الدليل والمراد الجدي منه ، لأن الحكم رتب على افراد الموضوع الواقعية التي يكون الشارع والعرف طريقا إليها ، فمع كشف الشارع عن عدم فرديه شيء لا يوجب ذلك تضييقا في المراد الجدي وموضوع الحكم ، بل هو بيان للافراد التي لم يترتب عليها الحكم في القضية الإنشائية ، ولا يرى العرف ان الشارع قد ضيق موضوع الحكم ومدلول الدليل ، لأنك عرفت ان نفي الفردية انما هو باعتبار المسامحة العرفية في تطبيق الكلي على افراده ، لا باعتبار سعة المفهوم كي يكون نفي الفردية موجبا للتضييق.

ولا يفرق في ذلك بين ان يكون الدليل المتكفل لنفي الفردية موجبا للعلم أولا لأن النّظر في غير العلمي انما يكون لنفس مدلول الدليل ، وهو خارج عن الحكومة لو كان في الواقع ثابتا.

نعم ، لو كان النّظر إلى دليل اعتباره ، فحيث انه غير موجب للعلم بعدم الفردية ويؤخذ به تعبدا لاعتباره شرعا كان من باب الحكومة. إلاّ ان ذلك خارج عن محل الكلام ، لأنه يكون من الحكومة الظاهرية ، وهي غير مورد الكلام ، وانما الكلام في الحكومة الواقعية التي تكون بلحاظ نفس الدليل مع غض النّظر عن

٤١١

دليل اعتباره ، كما في التقادير الأخرى ـ وسيجيء في مبحث التعادل والترجيح بيان الحكومة الظاهرية إن شاء الله تعالى ـ.

وإذا تبين انه لا يمكن الالتزام بكون الدليل الحاكم متكفلا لنفي الفردية اعتبارا ولا ادعاء ولا حقيقة ، فيتعين الالتزام بأنه يتكفل تنزيل شيء منزلة الآخر في ترتيب الحكم عليه أو عدمه لعدم ترتيب الحكم عليه.

ولا يخفى ان المنافاة الظاهرية بين الدليل المتكفل للتنزيل والدليل الآخر موجودة ، لأن الملحوظ في دليل التنزيل ليس المراد الجدي المدلول عليه بالمطابقة بل خصوص ما يدل عليه التزاما من نفي الحكم عن هذا الفرد الدال على ثبوته له الدليل الآخر ، لأنه يتكفل إثبات الحكم له بالدلالة المطابقية ، فيحصل التنافي ظاهرا وبدوا بينهما فالملحوظ في دليل التنزيل ما يدل عليه بالدلالة الالتزامية ـ نظير الاستعمالات الكنائية مع عدم لحاظ المدلول المطابقي فيه أصلا ، لذا يكون الدليل النافي موجبا للتضييق ، فانه يكشف عن التنافي.

وبذلك يظهر ثبوت التنافي بين الحاكم والمحكوم ، فلا وجه لجعل الوجه في تقديم الحاكم على المحكوم هو عدم التنافي بين الدليلين.

الوجه المختار في التقديم

والتحقيق : ان الوجه في تقديم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم هو الوجه في تقديم القرينة على ذي القرينة والشارح على المشروح ، لأنك عرفت ان الدليل الحاكم بالنسبة إلى الدليل المحكوم بمنزلة القرينة ولذلك كان متفرعا عليه. وان كان الدليل الحاكم من قبيل القرينة المنفصلة ، إذ لا فرق بين المتصلة والمنفصلة في تقديمها على ذيها عرفا.

وتوضيح ذلك : ان القرينة على المراد الجدي من الكلام تارة تكون متصلة وأخرى تكون منفصلة. وتشتركان في انهما تبيّنان ما هو مراد المتكلم الجدي ، وان

٤١٢

كانت القرينة المتصلة تختلف عن المنفصلة في انها قد توجب تصرفا في الظهور الاستعمالي ـ كما توجب تصرفا في المراد الجدي بحسب الظاهر ـ فيما لم يكن الجمع بين الظهور الأولى البدوي للكلام وظهور القرينة في مؤداها ، فتقلب ظهور الكلام حينئذ إلى الظهور الثانوي له ، كما في المجاز على المشهور ، نحو : « رأيت أسدا يرمي » ، فان : « يرمي » أوجبت التصرف في ظهور : « أسد » في معناه الحقيقي وظهوره الأولى الّذي هو السبع المخصوص ، وقلب ظهوره إلى الظهور الثانوية وهو الظهور في الرّجل الشجاع ، لمكان المنافاة بين الرمي والسبع المخصوص.

امّا مع إمكان الجمع ، فلا تتكفل الا بيان المراد الجدي ، كما في المثال المذكور على رأي السكاكي (١). فانه ذكر ان : « أسدا » مستعمل في معناه الحقيقي. وامّا الجمع فهو يجعل التصرف في أمر عقلي وهو تطبيق السبع المخصوص على الرّجل الشجاع وجعل الشجاع من افراده. فالقرينة ـ أعني يرمي ـ على قرينتها. والظهور الاستعمالي للكلام على ظهوره.

فالقرينة المتصلة والمنفصلة تشتركان في كونهما يتكفلان بيان مراد المتكلم الجدي من كلامه ، فإذا كانت إفادة المراد الجدي وبيانه بالمدلول اللفظي ـ سواء كان المطابقي أو الالتزامي العرفي ـ كانت القرينة مقدمة على ذي القرينة عرفا ، بحيث لا يلاحظ العرف بينهما مرجحات التقديم من أقوائية الظهور والنسبة من العموم والخصوص وغير ذلك ، بل لا يتوقف أصلا في تقديم الدليل والمتكفل بمدلوله اللفظي لبيان المراد الجدي من دليل آخر عليه ، بل بملاحظة هذه الجهة لا يرى ان هناك منافاة بين الدليلين كي يتحير في طريقة الجمع بينهما ، ويكون ملاك تقديمه عليه كما لو صرح الجاعل بان مرادي الجدي من هذا الكلام يعرف بدليل آخر ، فبملاك القرينية يتقدم الدليل الحاكم على المحكوم ـ لأنه متعرض

__________________

(١) على ما نقل من مفتاح العلوم ـ ١٥٦ ، الفصل الثالث في الاستعارة.

٤١٣

لحال الدليل الآخر بمدلوله اللفظي فيكون قرينة عليه ـ ، وان كان منفصلا عنه ، لعدم الفرق بين كلتا القرينتين في ملاك التقديم ، وهو التعرض لبيان المراد الجدي بالمدلول اللفظي.

وبذلك يفترق المقام عن التخصيص ، لأن تعرض الدليل المخصص إلى البيان المراد الجدي من العام ليس بمدلوله اللفظي ، بل بمقتضى حكم العقل ، لأنه بعد ان يرى التنافي بين شمول الحكم لهذا الفرد وشمول آخر له للتضاد بين الأحكام ـ ، يرى ان أحد الدليلين مناف للآخر. فلا بد من العمل بأحدهما لا كليهما ، فلا بد من تقديم أحدهما على الآخر. فيلاحظ حينئذ مرجحات التقديم من أقوائية الظهور والنسبة وغيرهما ، إذ لا وجه لتقديم المخصص مطلقا على العام ، فإذا قدم المخصص وخصص العام حكم العقل حينئذ بان المراد الجدي من العام هو الباقي لا الجميع ، فقرينية التخصيص ليست لفظية بل عقلية ، ولذلك لا يكون ملاك تقديم أحد الدليلين على الآخر تخصيصا هو القرينية بل مرجحات التقديم.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى : أن تقديم الخاصّ على العام بملاك القرينية (١).

ولكنه غير مسلم وستعرف ما فيه في بيان الوجه في تقديم الخاصّ على العام في باب التعادل والترجيح إن شاء الله تعالى فانتظر.

واما الوجه في تقديم الوارد على المورود ، فهو واضح جدا ، لأن أحد الدليلين ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الّذي ينظر إليه الآخر ، وبعد ورود الدليل الوارد والأخذ به يرتفع موضوع الدليل المورود حقيقة ، فلا يبقى لوروده حينئذ مجال لارتفاع موضوعه.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٧٢٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤١٤

وعليه ، فلا منافاة بينهما عرفا كي يقع الكلام في تقديم أيهما ، فمع ورود الأمارة يتحقق البيان حقيقة ، فينتفى : « لا بيان » الّذي هو موضوع القاعدة العقلية التي تبتني عليها البراءة فلا تبقى القاعدة حينئذ لارتفاع موضوعها.

وبتقريب صناعي : ان الأخذ بالدليل الوارد لوجود المقتضي وعدم المانع.

اما وجود المقتضي ، فهو دليل اعتباره وتحقق موضوعه. واما عدم المانع ، فلأن المانع المتخيل هو الدليل المورود ، وهو غير ناظر إلى ما يتكفله الدليل الوارد أصلا ، وموضوعه غير موضوعه. فكل منها في مقام غير مقام الآخر ، بل لا يصلح ان يكون مانعا إلا على وجه محال ، كما يأتي من صاحب الكفاية ، وان كنا لسنا بحاجة إليه كما يأتي.

واما الدليل المورود ، فلا مقتضى فيه كي يؤخذ به ، لأن ثبوته متوقف على عدم ورود الدليل الوارد ، لأنه رافع لموضوعه.

فالأساس الّذي يرتكز عليه ما ذكرناه هو عدم وجود أي منافاة بين الدليلين ، لأن كلا منهما ناظر إلى مقام يختلف عن المقام الّذي ينظر إليه الآخر.

وبعد هذا ، لا مجال للإشكال : بان الورود انما يكون مع الأخذ بالدليل الوارد ، وإلاّ فمع الأخذ بالدليل المورود لا يتحقق المورود ، فلم يؤخذ بالدليل الوارد ولا يؤخذ بالدليل المورود؟ ـ كما تعرض إليه المحقق الخراسانيّ في الكفاية (١) ـ.

لأنه لا تنافي ولا تصادم بين الدليلين ، كي يقال بأنه لم يؤخذ بهذا الدليل دون ذاك؟.

وهل يفيد التعرض إلى هذا الإشكال بأنه فسر الورود بتفسير آخر غير ما فسره القوم ، أو يمكن حمله على ما لا يخالف ما ذكرناه؟.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٢٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤١٥

والظاهر انه يمكن توجيهه بما لا يتنافى مع ما عرفته ، بان يقال : ان غرضه هو السؤال عن الوجه في الأخذ بالدليل الوارد ، لأن الأخذ به ليس من الضروريات التي لا تحتاج إلى السؤال فيمكن التساؤل عنه. وليس الغرض هو الإشكال على الأخذ به ، والجواب عنه ما عرفت من وجود المقتضي للأخذ به وعدم المانع.

واما ما ذكره قدس‌سره في الجواب من : انه مع الأخذ بالدليل المورود يلزم تخصيص الدليل الوارد بلا وجه أو على وجه دائر ، لأن الدليل لما كان رافعا لموضوع المورود ، فالأخذ بالمورود يتوقف على عدم شمول الدليل الوارد لهذا المورد ، وتخصيصه بما عداه. فاما ان يكون تخصيصه بلا وجه ، أو يكون بالدليل المورد. إذ ما يتحمل ان يكون مخصصا هو الدليل المورد ، وتخصيصه بالدليل المورود يتوقف على اعتبار المورود في الورود ، واعتباره في المورد يتوقف على تخصيص الدليل الوارد به فيلزم الدور.

فغير وجيه ، لأن التخصيص يقتضي التوارد على مورد واحد والمنافاة بينهما ، أما مع عدم المنافاة بينهما أصلا لاختلاف مورديهما ـ كما عرفت في الدليل الوارد والمورد ـ ، فلا وجه لدعوى التخصيص ، فانه لا منافاة بين ما يستلزم انتفاء عالمية زيد وبين ما يثبت وجوب إكرام العالم.

فإذا كان مفاد دليل الاستصحاب ـ بناء على الورود كما عليه قدس‌سره ـ : « استصحب مع عدم الحجة » ، وكان مفاد دليل الأمارة اعتبار الأمارة في هذا المورد المستلزم لقيام الحجة ، فلا منافاة بينهما أصلا ، ولا نظر لأحدهما إلى مفاد الآخر بتاتا ، فلا وجه لدعوى التخصيص واحتماله كي تقرر وتدفع بلزوم الدور ، بل الدور لو لم يكن بمحذور لما كان دليل الاستصحاب مخصصا ، مع ان مقتضى ما ذكره ذلك فالتفت.

واما الوجه في تقديم الخاصّ على العام ، فبيانه في باب التعادل والترجيح

٤١٦

فانتظر.

الجهة الثالثة : في ان تقديم الأمارة على الاستصحاب هل هو للورود أو للحكومة أو للتخصيص؟. فقد اختلف الاعلام المحققون في ذلك.

فمنهم من ذهب ان نسبة الأمارة إلى الاستصحاب نسبة الوارد على المورود.

ومنهم من ذهب إلى ان نسبتها إليها نسبة الحاكم إلى المحكوم.

ومنه من ذهب إلى كون نسبتها إليه نسبة المخصص.

أما (١) دعوى الورود ـ وهي دعوى المحقق الخراسانيّ ـ ، فهي تبتني على

__________________

(١) المذكور في كلمات المحقق الخراسانيّ لتوجيه دعوى الورود وجهان :

الأول : ما أشير إليه في الكفاية من ان رفع اليد عن اليقين السابق بواسطة الأمارة ليس نقضا لليقين بالشك بل باليقين باعتبار الأمارة وحجيتها.

وقد يورد عليه : ان النهي عنه في نصوص الاستصحاب ليس استناد نقض اليقين إلى الشك ، وإلا لجاز نقضه بمثل إجابة التماس مؤمن ونحوه ، بل المراد نقضه في مورد الشك بضميمة ان المراد من الشك مطلق عدم العلم والاحتمال غير الجازم ، وقيام الأمارة لا ينفي الجهل وعدم العلم.

ويمكن الجواب عنه : بأنه يتم لو فرض كون نظر صاحب الكفاية ما هو ظاهر العبارة بدوا من تعليل الورود بعدم صدق نقض اليقين بالشك. ولكن من الممكن ان يكون نظره إلى دعوى انصراف دليل حرمة النقض بالشك عما إذا كان هناك مستند ودليل علمي النقض نظير دعوى انصراف دليل النهي عن العمل بغير العلم عن الأمارة المعتبرة ، فلا يشملها الدليل للانصراف لا لدعوى انتهاء العمل بها إلى العمل بالعلم.

وعليه ، فيكون مدار صحة ما ذكره قدس‌سره على التسليم بدعوى الانصراف. فتدبر.

الثاني : ما ذكره في حاشيته على الرسائل ـ كما حكي عنه ـ من ان مقتضى قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » صحة النقض باليقين بحكم مخالف للمتيقن السابق ولو بعنوان آخر ولذا يصح النقض لو علم بحلية ما كان حراما سابقا لأجل عنوان طارئ غير العنوان الموضوع للحرمة.

وعليه ، فعند قيام الأمارة على خلاف الحالة السابقة فيتحقق العلم بالحكم الظاهري المخالف للحالة السابقة فيكون النقض باليقين لا بالشك.

وقد يورد عليه : بان اليقين بالحكم الظاهري لا ينافي الشك في الواقع بل يجتمع معه كيف؟ وهو مفروض في موضوعه أو مورده. فيكون رفع اليد عن المتيقن السابق بالشك.

٤١٧

عدم إرادة الصفة الوجدانية من الشك واليقين المغيا به الاستصحاب بل إرادة الحجة وعدم الحجة أو ما شابه ذلك (١).

ولما كان هذا مستلزما للتصرف في ظهور الشك واليقين ، فلا بد من إقامة الدليل عليه ليصبح حقيقة ثابتة لا مجرد دعوى ليس لها أي علاقة بمقام الإثبات ـ كما أورد على المحقق الخراسانيّ بذلك ـ (٢).

فنقول : ما يمكن به توجيه هذه الدعوى وجوه أربعة.

الأول : انه قد ذكر ان التعليل المذكور لإجراء الاستصحاب تعليل ارتكازي عقلائي ، لا تعليل تعبدي مفاده تشريع كبرى كلية ، كتعليل حرمة الخمر بأنه مسكر ، فان العرف بحسب ارتكازياته لا يرى ان هناك مناسبة بين الحرمة والإسكار بحيث يكون الإسكار علة للتحريم ، فيرجع العليل المذكور إلى جعل كبرى كلية وهي حرمة المسكر وتطبيقها على المورد. اما التعليل

__________________

وفيه : ان مرجع ما ذكره في الحاشية إلى كون المراد بالشك هو الشك بالمتيقن السابق من جميع الجهات بحيث لو تعلق به اليقين من بعض الجهات لكفى في صحة النقض ، لأن هذا هو مقتضى أخذ اليقين الناقض لليقين ولو بعنوان آخر. وما نحن فيه كذلك. وهذا مما بينه المستشكل بعد ذلك في توجيه كلام الكفاية في تقدم الاستصحاب على البراءة.

فالمتجه ان يورد على ما ذكره صاحب الكفاية بان ما أفاده خلاف ظاهر الدليل ، فان الظاهر منه تعلق اليقين اللاحق بعين ما تعلق به اليقين السابق ، وما ذكر شاهدا لا يخلو من مغالطة ، فان اليقين وان تعلق بعنوان آخر كالاضطرار ، إلا انه ملازم لانتفاء الحكم السابق قطعا لأن الرفع واقعي.

مع ان لازم ما ذكره فرض موضوع الاستصحاب كموضوع القرعة هو التخير المطلق بحيث يرد عليه كل ما يزيل التحير من جميع الأدلة والأصول وهو مما لا يلتزم به.

فالعمدة في إثبات ورود الأمارة على الاستصحاب ما ذكرناه في المتن من الوجوه الثلاثة. فراجع.

ثم ان صاحب الكفاية ذهب في مبحث التعادل والترجيح إلى ان تقدم الأمارة على الاستصحاب بالجمع العرفي بالتصرف بالدليلين الّذي جعله قسما للورود وهو بظاهره لا يخلو عن منافاة لما ذكر هاهنا. فلاحظ.

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٢٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٣ ـ ٢٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٤١٨

الارتكازي ، فهو ما كان واردا على حسب مرتكزات العرف بحيث يرى مناسبة بين التعليل والمعلل. وقد عرفت ان من موارده التعليل المذكور في بعض اخبار الاستصحاب من : « ان اليقين لا ينقض بالشك » ، فان العرف بحسب ارتكازاته يرى مناسبة بين التعليل والحكم المعلل به ، بلحاظ ان اليقين امر مبرم محكم فلا ينقض بما ليس كذلك كالشك.

وبعد ان كان التعليل ارتكازيا عرفيا فالعرف انما يرى عدم جواز نقض اليقين بالشك لا لأجل خصوصية الشك وصفتيته. بل لأنه ليس بحجة معتبرة وطريق مبنى عليه. وذكره بالخصوص لأجل انه أظهر مصاديق عدم الحجة ، فاليقين لا ينقض عرفا مع عدم الحجة وهو ما ليس بمستحكم لا مع خصوص الشك.

الوجه الثاني : ان في قضية : « لا تنقض اليقين بالشك » ظهورين : أحدهما : ظهور الباء في السببية ، يعني : استناد النقض إلى الشك. والآخر : ظهور الشك في الصفة الوجدانية.

ولا يمكن الالتزام بكلا الظهورين ، لعدم الاطراد في بعض الموارد ، كما لو استند النقض في مورد الشك إلى غير الشك مما لا يكون صالحا للاستناد إليه شرعا كالتماس مؤمن مثلا ، فانه مع الالتزام بكلا الظهورين يلزم ان لا يكون هذا المورد من موارد النهي ولا يكون العمل على خلاف الحالة السابقة استنادا إلى غير الشك محرما ، ولا يلتزم به أحد أصلا ، فلا بد من التصرف في أحد الظهورين ..

اما في ظهور الباء يحملها لا على السببية ، بل على ان المراد عدم جواز نقض اليقين في مورد الشك وان لم يكن مستندا إليه.

واما في ظهور الشك بحمله على مطلق غير الحجة والطريق المعتبر ، فالمنهي عنه هو النقض المستند إلى غير الحجة.

٤١٩

إذ على كلا التقديرين يكون المورد المذكور وما شابهه مشمولا للنهي.

وبملاحظة ما تقدم من كون المراد بالشك ليس خصوص تساوي الطرفين احتمالا ، بل الأعم منه ومن الظن والوهم. يتعين التصرف في الظهور الثاني دون الأول ، لأن ذكر الشك بالخصوص مع إرادة الأعم منه ومن عدم العلم لا وجه له. إلاّ أن يراد به كونه أظهر مصاديق عدم الحجة ، لأنه الجهة المميزة له. وإلاّ فلا وجه لتخصصه بالذكر فان الحكم إذا كان موضوعه العام لا معنى لبيانه بالحكم على فرد خاص منه إلاّ إذا كانت لذلك الفرد خصوصية تدعو لتخصيصه بالذكر ، ولا خصوصية للشك من بين سائر الافراد الا كونه أظهر افراد التردد وعدم الحجة. فلا وجه للتصرف في الظهور الأول ، بل يكتفي في التصرف في الظهور الثاني. مضافا إلى ان حمل الباء على الظرفية وكونها بمعنى : « في » في المقام يستلزم تقدير محذوف تتعلق به الباء ، إذ لا معنى لتعلق الظرفية بالشك ، فلا بد من تقدير مضاف كما لا يخفى.

الوجه الثالث : ان السائل كزرارة رحمه‌الله لو فهم من الإمام عليه‌السلام إرادة الصفة الوجدانية من اليقين في قوله : « ولكن تنقضه بيقين آخر » ، وان الناقض خصوص اليقين الوجداني ، لفهم بدوا منافاة هذا الحكم لجعل الأمارة والطريق واعتبارها في الموضوعات ـ الّذي هو مما لا إشكال فيه ـ ، لأن جميعها متيقنة العدم ، لأنها حادثة والحادث مسبوق بالعدم ، ولا يقين لنا بارتفاعه ، وانه ناسخ لدليل اعتبارها ، مع انا نجزم بعدم فهمه ذلك أصلا ـ وإلا لسأل الإمام عليه‌السلام عنه حينئذ ـ مما يكشف عن انه فهم كون النقض انما يكون بالحجة المعتبرة والطريق المجعول لا بخصوص اليقين. وان المراد من اليقين مطلق الحجة لا اليقين الوجداني.

الوجه الرابع : ان حجية اليقين مما لا شبهة فيها ولا إشكال ، كيف؟ وهي من المستقلات العقلية التي لا تنالها يد الجعل نفيا وإثباتا.

٤٢٠